علم الآثار الكتابي في إسرائيل: حين يغمّس “إسرائيل فنكلشتين” خارج الصحن

يقال على سبيل العِظة؛ لا مكان، في هذا العالم المتغير، للأفكار الثابتة والمفاهيم الجامدة؛ أو التعميمات المطلقة. فمراجعة أفكارنا وما نحمله من تصورات وحقائق ذهنية -بصفتها عناصر سلوكية ونفسية- باتت ضرورة اجتماعية، وحاجة إنسانية وعقلية بسبب إسهامها في بناء الذات الإنسانية /الاجتماعية كحقيقة قائمة ضمن الوجود وليس خارجه.

في هذا الجزء من العالم -أي الشرق الأوسط عموماّ، وفلسطين خصوصاً- حيث يلتقي القديم والحديث في إطار خطاب سياسي مبتذل عن الفكرة ونقيضها، ينظر “إسرائيل فنكلشتين” إلى نفسه بكل ثقة كـ “حارس صهيونيّ وفيّ” ومحافظ شديد الإيمان بحق “الشعب اليهودي” في دولة ووطن في “أرض إسرائيل التاريخية”، رغم إصراره الشديد على التذكير بانتمائه ليسار السياسة الإسرائيلية. ولاينفكُّ يردّدُ “استعداده لمبادلة الأرض مقابل السلام مع الفلسطينيين”.

وباعتبار أن ذخيرة جهده تنصب في الدفاع عن “حق الوجود لدولة يهودية في أرض الكتاب المقدس… الوطن القديم للشعب القديم”، فمن الواضح أن أكثر ما يثير فزعه -عندما يجلس على أريكته في بيته- ما يعرضه التلفزيون من مشاهد وصور “مرعبة” عن الاضطرابات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (وليس ما يقوم الجيش الإسرائيلي في المناطق المحتلة على كل حال) وردود فعل العالم. ويزداد شعوره بالقلق حين يجد نفسه عاجزاً عن “تقديم العون” لهذه البقعة من الجغرافيا التي بات ينتمي إليها والتي تعج بالمخاطر (في الحقيقة لم يحدد كيف ومتى ومن سيساعد لو قيض له ذلك، لكنه لن يعدم وسيلة ليذكّرنا بأن تلك الاضطرابات تشعره بأن تراثه التاريخي مهدد).

إن مشروعاً تاريخياً-آثارياً لإعادة رسم مشهد فلسطين في حقب تاريخية قديمة سيكون بلا شك منشغلاً بالاهتمامات السياسيّة التي نعيشها الآن. وسوف ينطلق -مثل هذا المشروع- الآن؛ من الألفية الثالثة، لكتابة تاريخ منطقة صغيرة من هذا العالم بالعودة لأكثر من أربعة آلاف سنة تقريباً. لا شك أنها مهمّة صعبة للغاية، بيد أنها غير مستحيلة، فيما لو عزلنا الأجندات السياسية والتوجهات الإيديولوجية المرافقة والتي سوف تسيء -بلا ريب- لأي عمل بحثي مهما كانت براعة القائمين عليه وموضوعتيهم؛ سواء كان هذا التوجه دينياً (يهودي، مسيحي، إسلامي) أو قومياً\إثنياً (إسرائيلي، عربي).

وحين يلبس الماضي قالباً سياسياً بخلفيات معاصرة -كما هو الحال مع علم الآثار القومي الإسرائيلي- فسوف يتيح هذا تحويل أسماء وردت في نصوص كتابية إلى علامات تاريخية بوجود حقيقي “مفترض نصيّاً”. فاسم الكنعانيين، مثلاً، يُستحضر-في الكتاب المقدس- لشعب بقيم وهُوية وتراث معين، كما تصفهم نصوص العهد القديم. ومثل هذا الافتراض يجعل من السهولة بمكان لمحرر نصوص العهد القديم تحويل “المجاز الأدبي” إلى حقيقة ورسم “الإسرءيليين” و”الكنعانيين” كفرعي عائلة يتمتعان بوظيفة أدبية فعّالة وأساسيّة لمجاز ما يدعوه توماس طومسون “الشعوب الأصلية”، و”أصل كل شيء”، و”أسبقية شعب على شعب”، و”أحقيّة” شعب بالأرض على حساب شعب آخر. حيث يتم تعريف “الأرض الموعودة” كتابياً “أرض إسرءيل”.

فيقف الإسرءيليون في مواجهة سكان الأرض الأصليين الذين يتميز سلفهم كنعان بلعنة نوح القديمة، وحالما تصبح كنعان أرض إسرءيل، يُختزل الكنعانيون إلى شعب مطرود من الرحمة، بسبب لعنة الجد القديم المجهول والذي لا يعرف حتى مكان سكنه وإقامته. ويتم تقسيمهم جغرافياً وإثنياً وفقاً للأغراض السياسية لمحرر النص، ليصبح جزء منهم كنعانياً وجزء آخر “فلستياً” وجزء آرامياً أو مؤابياً أو أدومياً أو حتى “عابيرو”…وهكذا.

وسوف تطلق هذه الأجندة القومية الآثارية مجاز تعيين “ميراث الأرض” -أي فلسطين العصر الحديدي حسب التصور التقليدي لتاريخ فلسطين- على أنه إرث إسرءيلي وميراث العصر البرونزي على أنه إرث “فلسطيني” وتمييزهم بالتالي، كأناس ليس لهم إرث في “أرض إسرائيل” (التي هي هنا فلسطين العصر الحديدي!)، بل هم في الحقيقة ورثة كارثة إبادة جماعية وتأريخية بمباركة إلهية وأدبية!

ولن يفيد -والحال هذا- أي نقاش في أولوية الاسم (الشعب أو الأرض) سواء في اللغة أو الأدب أو النص الديني؛ وفي أي نقش ظهر؛ في عملية النقد البناء للأفكار المطروحة في هذا السياق والتي أصبحت منهجاً قائما منذ مئتي عام تقريباً. بحيث يصبح واقع الحال ملتبساً هنا.

فإذا كان “الكنعانيون” ليسوا أمة ولا شعباً، بل مجرد سكان عاشوا في بقعة معينة من الشرق القديم، فهذا يستلزم بالضرورة ألّا يكون هناك وجود تاريخي لمن هم “إسرءيليون” الذين لن يكونوا بالمقابل أكثر من مجرد قبائل شبه رعوية سكنت يوماً في مرتفعات فلسطين على تخوم الصحراء وحواف الحواضر الفلسطينية في العصر الحديدي نحو 1000 ق.م.

وإذن لا يمكن -عقلانياً-القبول بأنهم سيشكلون لاحقاً مملكة تعرف باسم يهوذا أو غيرها؛ وستكون جميع سلاسل النسب وقوائم الشعوب والكيانات السياسية المنبثقة عنها عبارة عن شكل أدبي له صفة العظة الدينية ليس إلّا.

كان، ولا يزال، فنكلشتين، وعلى مدى العقود الماضية من أهم المشتغلين بالدراسات والبعثات الآثارية الميدانية والأكاديمية في فلسطين المحتلة، مسترشداً بهدي ما يعرف بين أهل الاختصاص بـ “علم الآثار التوراتي أو الكتابي”. غير أن نشاطه يتسم بصبغة “تجديدية” تقف بصرامة إزاء المحاولات التي ترمي إلى اعتبار ما ورد في نصوص العهد القديم وثيقة تاريخية تتمتع بمصداقية وراهنية معرفية، وهو يجادل-بذكاء يحسد عليه حقاً- بأن التاريخ التقليدي للعديد من الاكتشافات واللقى الآثارية المتعلقة بالأحداث الكتابية إنما ترجع دراستها وتصنيفها وتأويلها إلى مدة لا تزيد عن قرنين فقط، ويرى أن مفتاح التعامل مع علم الآثار الكتابي وتاريخ نشأته بطريقة مناسبة يكمن في فهم ما يجري في كواليس الأبحاث الكتابية اليوم.

وهذا يعني أن الاطلاع على البحوث الآثارية الكتابية وقراءتها لاينبغي له أن يتم بالطريقة التي تقرأ فيها الجريدة، فمثل هذه النظرة السطحية تدل على عدم الاعتراف بتعقيد النص وعدم احترام الجهود المبذولة من قبل العلماء والباحثين، فضلاً عن أن مثل هذا النمط من القراءة، لا يأخذ بعين الاعتبار المسائل الإيديولوجية واللاهوتية التي رافقت نشأة هذا الفرع من علم الآثار.

ولكن هذا لايعني، في المقابل وكما يزعم فنكلشتين، الغوص عميقاً، حيث تكمن مخاطر الإفراط في التحليل والتأويل؛ فالبساطة هي دلالة الحقيقة كما يقال. وإذا كانت قصص الخروج من مصر والتيه وانشقاق البحر وغزو كنعان ليست وقائع تاريخية، فهي بالنسبة للمؤمنين إعجاز معطى من الرب لك -بصفتك باحثاً- أن تصدقه أو أن ترفضه، لكن لا يمكنك رفض إيمان من يؤمنون به كحقيقة، لأن الإيمان هنا يقع خارج نطاق وظيفة ومهمة علم الآثار، أو حتى علم التاريخ لإثبات أن هذا الأمر حدث فعلاً أو لم يحدث.

فإذا كنا مقتنعين بعدم وجود أسئلة غير مشروعة، بل يوجد فقط أجوبة غير مشروعة سواء عند المؤمن أم غيره، فليس من الأهمية بمكان، إذن، للباحث التمسك بالمفهوم الإيماني لتفسير “ظاهرة طبيعية” مثل الجفاف أو انشقاق البحر أو انهيار أسوار مدينة بشكل مفاجئ أو لماذا وعد الرب شخصاً بعينه وليس سواه بأرض ليست أرضه، ليس هذا فحسب بل سوف يرثها أحفاده ما بقيت الحياة على الأرض.. إلخ من المعطيات الإعجازية التي يتطرق إليها النص الديني.

وسوف يكون لعلم الآثار الدور الحاسم وربما النهائي في عملية بناء و/أو إعادة بناء السردية التاريخية عن إسرءيل القديمة، حيث يفترض من علم الآثار تقديم التأويل القريب إلى الصحة عن فترة تاريخية معينة أكثر من النص نفسه، نظراً لأن النص هو نتاج مرحلة تالية لتلك الفترة ويعكس التوجّه الإيديولوجي لصاحبه أو لكاتبه أو لمن طلب كتابته، في حين أن اللقى الآثارية يمكنها أن تعبر ذاتها دون تدخل خارجي.[إحدى الملاحظات المشروعة على استخدام تقنية الكربون المشع(1) لإثبات تاريخية خشبة ما استخدمت في سقف قصر أو معبد لا تعني تاريخ البناء بقدر ما تعني تاريخ قطع هذه الخشبة من الشجرة…]، غير أنه من الواضح أيضاً عدم قدرة علم الآثار على تقديم التصوّر والحكم النهائي على تلك السردية وذلك لأسباب عديدة تعود لبنية علم الآثار ذاته، لا سيما مقارباته المنهجية، وهنا يطرح فنكلشتين تساؤلاً هاماً، بالنسبة له، في سياق رؤيته للإسرءيليين عن السبب الذي يجعلهم يظهرون كمجموعة متميزة في كنعان:

هل كان ذلك بسبب التوحيد؟

ليجيب بالنفي؛ فالتوحيد أتى لاحقاً، ونصوص العهد القديم لا تنكر وجود آلهة أخرى إلى جانب إله الإسرءيليين، مما يعني أن هناك آلهة أكثر أهمية من غيرهم. ويعتقد فنكلشتين أنه لا يمكننا الحديث عن التوحيد حتى في حدود نهاية القرن السادس ق.م (586 ق.م، التاريخ المفترض لتدمير أورشليم)، ويمكن وصف ديانة المملكة الجنوبية “يهوذا” في ذلك الحين أنها توحيدية. فالتوحيد الذي نعرفه الآن هو نتاج الحقبة الفارسية، وإن شئنا الدقة أكثر هو نتاج الحقبة التي تلت، أي الهلنستية، فالتوحيد الإسرءيلي لم يحدث إلا في عصر الحشمونيين، كما يقول فنكلشتين. وحتى في مراحل لاحقة، تحديداً العصور المسيحية الأولى [مرحلة العهد الجديد] كان الناس يعبدون آلهة أخرى.

ألم يتهم المسيح بعض الإسرءيليين بعبادة البعل؟ كما أن الملك عُمري دعا، كما تخبرنا نصوص العهد القديم، إلى عبادة البعل (2) ويرى نص العهد القديم أن سليمان وعُمري عملا الشر في عيني الرب، وتشير العديد من الدراسات أن معبد سليمان تم بناؤه وفقاً لنموذج معبد عين دارا السوري\الحثي الذي كان مكرّساً لبعل وعشتار والذي يعود تاريخه إلى العام 1300 ق.م تقريباً.

ولذلك يمكن لقارئ النص الديني، أو من يؤمن به، تبني قراءة انتقائية تساعده على فهم وتأول النص، في حين يدلّنا بنيان المعبد وأسلوبه على نمط عيش الناس في الزمن الحقيقي وليس في الزمن المفترض، أي طريقة عيشهم كما هي فعلاً وليس كما هي موجودة في ذهن محرر النص، ولهذا أتى الإصحاح 11 من سفر الملوك الأول ليوضح السلوك الخاطئ لأنبياء عظام مثل داود وسليمان وما فعلوه من شرور في عيني الرب.

فهل المقصود هنا السلوك اتجاه يهوه إله بني إسرائيل أم توجيه نقد لاذع لحياة الترف والبذخ التي تصورها النصوص لداود وسليمان على حد سواء، ويستمر النقد وصولاً لعهد عُمري وأخاب، مع الأخذ بالاعتبار التأويل السياسي هنا، أي وجهة نظر محرر النص اليهوذي الجنوبي وموقفه من ملوك المملكة الشمالية “الإسرءيليين”.

يحاول فنكلشتين التأكيد على “تاريخية” التسمية، أي إسرءيل، من خلال تأويله لما ورد في نصب مرنبتاح الذي اكتشفه السير ويليم بيتري في العام 1896، فيقول بأن هذا النصب يشير إلى جماعة تدعى إسرءيل، عاشت في كنعان في أواخر القرن الثالث عشر ق.م. وفي الواقع، لا يقدم النصب معلومات حقيقية عن حجم هذه الجماعة وموقعها، مما جعل البعض من أهل الاختصاص يضعها في مكان ما من شرق الأردن، بينما اختار البعض الآخر مكاناً لها في مرتفعات غرب الأردن.

وبالتالي، سوف يكون السؤال الكبير الذي ينبغي الإجابة عليه، كما يردد فنكلشتين.

كيف تطورت هذه الجماعة لاحقاً وأعطت اسمها لمملكة إسرءيل [أي للمملكة الشمالية]، التي ظهرت في أواخر القرن العاشر ق.م؟ أي، بعد نحو 250 عاماً من حملة مرنبتاح. يضاف لهذا التساؤل عدم وجود نصوص ذات صلة خلال الزمن الفاصل بين الحملة العسكرية المصرية وظهور المملكة الشمالية.

يستطيع فنكلشتين الاعتماد على علم الآثار لتقديم الإجابات المطلوبة والتفسيرات المقنعة، بمعنى أنه يجب البحث عن “إسرءيل مرنبتاح” بين المجموعات التي استقرت في الهضاب الغربية والشرقية من وادي الأردن ابتداء من أواخر القرن الثالث عشر ق.م. لأن هذه الجماعات هي التي ستشكل لاحقاً الممالك الجهوية خلال العصر الحديدي، ومن بينها “إسرءيل” الكتابية على حد قوله، ويطرح هنا مثالاً واضحاً على تلك القراءة الانتقائية لنصوص العهد القديم بالطريقة التي تم فيها تفسير لقى موقع “خربة قيافة” والتي كانت موضع نقاش حاد بين المختصين.

فما تم تقديمه من تفسير أصولي لاكتشافات خربة قيافة ليس سوى عملية إحياء لمنهج أولبرايت الذي لم يعد يصلح لتفسير نصوص العهد القديم، نظراً لأن علم الآثار قدّم إسهامات حاسمة في الكشف عن خطأ المقاربة الأولبرايتية لتاريخ ونصوص ونقوش الشرق القديم التي تربطها بالعهد القديم وقصص أنبياء وملوك وآباء بني إسرائيل، والتي أتت ربما ردّاً على فرضية يوليوس فلهاوزن (3) في نقده لمصادر نصوص العهد القديم.

وما هجوم أولبرايت على فلهاوزن إلّا نموذج من نماذج عديدة عن حرف البحوث الآثارية والكتابية والتاريخية عن مسارها الصحيح. وقد ظهر هذا الاتجاه بأشكال مختلفة، وإن بشكل متقطع في السنوات الأخيرة باستخدام علم الآثار كسلاح لقمع تطور البحوث النقدية.

يرى البعض أن النقد الموجه لـ “أصول إسرءيل” هو نقد جدلي صامت رغم انحيازه ومقاربة تشوبها عيوب كثيرة رغم “الرصانة الأكاديمية لمعتنقيها”، إذ يرى هؤلاء أن الإشارة إلى غياب أدلة أثرية مادية تدعم الحدث الكتابي بالسؤال عن مدى صحة “الأوامر المقدسة” يعني استخدام منهجية “مشكوك فيها”؛ بمعنى “عدم وجود الأدلة لايعني أن هذا دليل على عدم وقوع الحدث”، ويستمرون في هذا المنطق الدائري من خلال تسويغ “عقلاني” أو “تفسيري” لغياب مثل هذه الأدلة. ويطلق فنكلشتين على غياب الأدلة أو البقايا الأثرية تعبير “الأدلة السلبية” (يشير إلى ذلك في سياق حديثه عن مناطق معينة في موقع التنقيب في تل الفارعة، فبدلاً Bottom of Form

من العثور على بقايا واضحة، لم يتم العثور على أي آثار تشير إلى وجود نشاط أو استيطان خلال هذه المدة في بعض الحقول التي تم التنقيب فيها).

ويفهم من مصطلح الأدلة السلبية غياب الدليل أو الطبقات الأثرية المتوقعة في هذه المناطق التي كانت تتوقع الفرق الأثرية العثور على آثار فيها. هذا الغياب يُعتبر دليلاً بحد ذاته، إذ يمكن أن يشير إلى أن التوطن خلال هذه المدة كان محدوداً في نطاق جغرافي ضيق من الموقع، أو أن الموقع كان صغيراً ومأهولاً بشكل متفرق بحيث لم يترك آثاراً كافية في المناطق التي تم التنقيب فيها.

وهنا، لا تنقص فنكلشتين الجرأة والرصانة -ولا حدة الذكاء-حين يقرر بأن علم الآثار هو الشاهد الحقيقي الوحيد زمنياً على أحداث تم وصفها في “النص الكتابي”، لا سيما تلك المتعلقة بالأطوار التكوينية لتاريخ “إسرءيل” المبكر، لأن المعلومات التي يذكرها الكتاب المقدس العبري (4) عن ذلك العصر تخضع لهيمنة المواضيع اللاهوتية والإيديولوجية للمؤلفين وعصورهم، وبالتالي ليس أمامنا سوى مساءلة الثقافة المادية للاستدلال على تلك النصوص.

ويستشهد بثلاثة أمثلة لمساهمة علم الآثار في البحث عن إسرءيل التاريخية في عصورها الأولى: أولاً بالدليل الأثري حول أهمية “شِيلُوة” في نهاية القرن الحادي عشر ق.م وبداية القرن العاشر ق.م واضمحلالها عقب العصر الحديد الثاني، وثانياً الأدلة على وجود مجتمع توطن في أزمنة العصر الحديدي الأول عاشت فيه جماعات مهاجرة كانت تجول على تخوم المناطق الحضرية النامية؛ في حين أن هذه المناطق ذاتها تمتعت في حقبة العصر الحديدي الثاني بكثافة سكانية عالية ترافقت مع اختفاء تلك الجماعات المهاجرة. وثالثاً يستحضر معطيات الثقافة المادية التي توثق بروز المدينة الفلستية “غَتْ” (موقع تل الصافي) في القرن التاسع ق.م أو قبل ذلك، ثم اختفائها عن مسرح الأحداث في سياق القرنين التاليين.

ليستنتج من كل ما سبق ما يؤكد على “أقدمية” أجزاء محددة من بعض قصص العهد القديم عن هذه الأمثلة الثلاثة؛ الأمر الذي يتيح له تعميم صياغة لاحقة حُفظت في التقاليد الكتابية لأساطير أقدم وحكايات وذكريات كانت بمكانة نواة القصص التي دونت من قبل مؤلفي “الكتاب المقدس العبري أو التناخ” التي تعكس طبقات متعددة ووقائع متعددة عن ماضٍ أبكر، وهي بدورها دُمجت جيداً وفي أزمنة مختلفة بإيديولوجية المؤلفين الكتابيين اللاحقين لتبدو معزولة بأي وسيلة مجدية.

ولذلك يقترح تبني مقاربة بدئية بضرورة قراءة التاريخ الكتابي بما يرشح من نقطة الالتقاء، والتي هي برأيه زمن جمع النص الكتابي في المرحلة المتأخرة من الحقبة الملكية، وعلى الأرجح في عهد الملك “يوشيا” وليس الفترات المتأخرة الفارسية أو الهلنستية كما يقترح التصحيحيون  Minimalist، أو أوائل القرن العاشر كما تشير إلى ذلك تقليدياً المدرسة الأنكلو-أمريكية؛ نظراً لأن الأدلة الآثارية -بزعمه- تشير إلى أن هذه الحقبة، أي فترة الملك “يوشيا”، تمثل عصر نمو وازدهار يهوذا المثير نحو إقامة دولة كاملة “تامة”، وانتشار القراءة والكتابة، وبالتالي يمكنها تزويدنا بمعلومات وافرة عن الحياة الاجتماعية والتاريخية بما يتيح إعادة كتابة التاريخ المبكر لسوريا بصورة عامة، وفلسطين بصورة خاصة.

غير أن مقاربة “غياب الدليل لايعني عدم وقوع الحدث” هي بحد ذاتها مثال كلاسيكي على طبيعة الجدل الصامت. وهذا يعني أنه “على الرغم من عدم عثورنا على أدلة مادية أثرية تدعم حقيقة المرويات الكتابية بوقوع الحدث فعلاً، علينا الاستمرار في الاعتقاد بوقوعها”، ويفوت هؤلاء -وفنكلشتين واحد منهم على كل حال بطريقة ما- أن ما يصلح “منطقيا” لشيء فإنه يصلح لشيء متعارض له حتى لو كان يشبهه ظاهرياً، وإذن، يمكن لأي شخص يريد طهي إوزة؛ استخدام الصلصة التي يستخدمها فنكلشتين ليطهو فيها دجاجة، فكلاهما يعلمان أن اختلاف المنقار في الإوزة أو الدجاجة لا يمنع من استخدام ذات الصلصة. بمعنى لا يمكن لأي منهما الزعم بأن المنقار صنع خصيصاً للإوزة أو للدجاجة.

لعل هذا ما يمكن استخلاصه حين نرى تمسك فنكلشتين ليس بقضية واحدة، بل بجملة قضايا يراها صحيحة لمجرد أنها تستهويه ويعتنقها ويتبناها وتتحكم إلى درجة كبيرة ليس في آرائه فحسب، بل في رؤيته للعالم أيضاً، وهو يرى أنه يمكن الدفاع عن فكرة ما واعتبارها صحيحة لو أثبتت هذه الفكرة صلاحيتها في شروط تجريبية مختلفة؛ وهذه مغالطة منطقية أخرى تعبر عن سطحية وسذاجة وعدم دراية حتى في المنهج التجريبي ذاته حين يسعى فنكلشتين لتبنيه.

فمثلاً… كلمة “ك م ش” التي ترد في نصوص العهد القديم عدة مرات، يعتبرها فنكلشتين الإله “كموش”؛ بإضافة حرف الواو للتصويت كما يستخدمه الآثاريون عند قراءة النقوش والنصوص الأثرية، بينما يرى د. كمال صليبي أن “كمش” هي اسم مكان يقع في اليمن (يعتقد صليبي أن التوراة أتت من جزيرة العرب)، بينما يرى البعض الآخر من المتخصصين أن “ك م ش” ليس اسماً، بل فعل عادة ما يأتي بعده حرف الجر الباء الذي يفيد الالتصاق. ومن خلال اتساق الجملة سيظهر المعنى بشكل أوضح، حيث ترد مثلاً “كمش ب أرضه” و “كمش ب حرمتو” وهي هنا تفيد معنى الإمساك والقبض باليد أو مجازاً على شيء ما، ولم يكلف قارىء نقش ميشع نفسه عناء البحث حينما ترجم كلمة “قر” و “كمس” الواردتين في النقش، حين اعتبر “قر” على أنها (قرية)، بينما “كمس” تشير إلى “كموش” إله مؤاب… وهكذا حذا حذوهم فنكلشتين، رغم أن “قر” و “كمس” تظهران في مواضع أخرى من النقش على أنهما اسمان لبلدتين أو قريتين متجاورتين في مؤاب. وعند البحث عن هذين الاسمين في البيئة الحقيقية لمملكة مؤاب الحجازية سرعان ما يتبين أنهما قريتان قريبتان من “الهدبة” في مرتفعات الطائف الأولى اسمها اليوم “القر” من “قر” والثانية اسمها “قماشة” من “قمش” على ما يذكر كمال الصليبي.

فماذا لو قيض لأحدنا أن يطل على المشهد الفلسطيني في القرن العاشر ق.م؟

ماذا ومن سيشاهد؟ من هم السكان هناك؟ ما هي المدن الكبرى، وما هي العاصمة أو العواصم؟ كيف كان حال طرق التجارة وأنماط الزراعة والرعي وأشهر المحاصيل والموانئ؟ كيف هو شكل وثقافة العبادة وطقوسها؟

أي إله أو آلهة كانوا يعبدون؟

وهل كان دين القرية يختلف عن دين المدينة؟

وأخيراً… هل لعلم الآثار سبيل لتقديم إجابات “مشروعة” عن تلك الأسئلة “المشروعة”؟

يرى فنكلشتين بأن الإجابة أو الإجابات لا تكمن في النص؛ أو بمعنى أدق، ليس في النص وحده على الأقل، نظراً لأن هذه مهمة المؤرخ الذي يقع على عاتقه فرز ما هو تاريخ وما هو غير ذلك. بل يمضي بعيداً حين يرى، كآثاري، بضرورة الحفر عميقاً تحت كل صخرة، وفي جوف كل واد، وفي قمة كل تلة، وبين أنقاض كل خربة؛ لنعرف ما إذا كان “الإسرءيليون” قد خرجوا من مصر فعلاً وتاهوا في سيناء ثم غزوا كنعان وفتحوها وهدموا أسوار أريحا وأقاموا مملكتهم. على أن يعزل ما عدا ذلك في نطاق الفرضيات مثل الزعم بأن رعمسيس الثاني هو “فرعون الخروج” والربط بين الهكسوس والإسرءيليون، كما فعل المؤرخ اليهودي القديم يوسيفوس فلافيوس استناداً إلى نصوص مانيتو.

والأسلم هنا-بالنسبة لفنكلشتين- القول بأن تقاليد الخروج تمثل تراكماً لإرث وذكريات موغلة في القدم تم تضمينها في “الكتاب المقدس العبري” لخلق سردية رئيسة يلتف حولها الشعب، ومن الممكن لهذه السردية القديمة الاستناد إلى جزئية طرد الكنعانيين من دلتا النيل في القرن السادس عشر ق.م، حتى بوجود طبقات أخرى لاحقة، حيث يمثّل الوصف الجغرافي لمنطقة دلتا النيل على سبيل المثال-كما يظهر في النص- معرفة المؤلفين لوقائع القرنين السابع والسادس ق.م (فترة حكم الأسرة الصاويّة في مصر).

لكن السؤال لا يبدو حقيقياً من حيث الجوهر، أي واقع تواجد جماعة أو قبائل تدعى “عابيرو أو شاسو” أطلق قسم منهم على نفسه اسم “إسرءيل”. إنما السؤال يأخذ منحىً أو مظهراً إقليمياً أوسع، بمعنى حقيقة وجود كيان سياسي يسمي نفسه إسرءيل ويرى سكان هذا الكيان أنفسهم على أنهم إسرءيليين وأن إلههم هو يهوه، كما هو مدوّن في قصص التاريخ التثنوي (5)

يقرّ فنكلشتين بعدم القدرة على إثبات تاريخيّة ما سبق، غير أن هذا لا يجعله يمضي إلى ما هو أبعد من ذلك، كأن يقول علناً، وعلى سبيل المثال، في محاضراته بعدم الوجود التاريخي لأشخاص مثل يوشع أو إبراهيم أو موسى أو داود أو سليمان.. إلخ، بل هو يرى فيهم (وفي سواهم) رموزاً قوميّة له ولشعبه. رموزٌ تأتي من عمق الماضي ويتم استحضارها لدواعٍ مختلفة، ليس دينية فقط، كلّما دعت الحاجة، أي نداء وظيفي على هيئة بروباغاندة قومية\دينية تؤدي أدواراً سياسيّة وإيديولوجيّة ولاهوتيّة بآن معاً.

وبناء على ذلك، يرى فنكلشتين نفسه بعيداً عن النظر أو البت في المسائل الإيمانية اللاهوتية، لأن هذا، بطريقة ما، شأن الأفراد وليس شأن “الأكاديميا”، حتى لو حاول هذا الآثاري أو ذاك لعب دور القابلة، فلن يقدر على تقديم إجابات مقنعة تعكس حقائق أو وقائع عصر مضى عليه آلاف السنين، فحتى مقارنة أسماء الأشخاص والأماكن لا يمكنها أن تمدّنا بفهم واضح عن شخصية محدّدة بعينها مثل إبراهيم عاشت أو عاصرت الأحداث المذكورة في نصوص العهد القديم.

من ناحية أخرى، يظهر تقليد الخروج بالفعل في نبوءات القرن الثامن ق.م عند بعض أنبياء العهد القديم؛ مثل هوشع وعاموس، مما يزيد من تعقيد تحديد الإطار التاريخي للحدث. وكما يرى دونالد ردفورد، تشكّلت الطلائع الأولى من الإسرءيليين [ثمة إصرار عجيب وغير مبرّر من الجميع على اعتبار وجود “تاريخي” لهؤلاء القوم] من بدو الشاسو في جنوب كنعان، وعابيرو العصر الحديدي الأول الذين استقروا في المرتفعات عقب انهيار حضارات العصر البرونزي في كنعان وانسحاب مصر من بلاد الشام بصورة عامة.

واختلط مع مجاميع العابيرو والشاسو بقايا المزارعين الذين اضطروا لهجرة أوديتهم الخصبة بسبب الجفاف أو الغزو (شعوب البحر؟) والتمركز في الهضاب الآمنة نسبياً. وثمة نصوص تشير إلى وجود إله باسم يهوه في أرض الشاسو، مما يوحي، عرضاً، بتواصل ما مع مناطق جنوب كنعان.

ويرد ذكر الإله يهوه هذا بعض النصوص التي تعود لأوائل القرن الثامن ق.م التي عثر عليها في كونتيلة عجرود ويعرف باسم “يهوه تيمان”، أي يهوه الجنوبي أو الجنوب، كما أن العديد من الملوك الكتابيين “سواء من المملكة الشمالية أو الجنوبية” حملوا أسماء ترتبط بالإله يهوه ابتداءّ من القرن التاسع ق.م. ويرد ذكر يهوه في نصوص مصرية تعود للقرن الثالث عشر ق.م. وهذا يعني -بحسب فنكلشتين- أنه كان ضمن مجمع آلهة، ولم يصبح الإله الوحيد الحقيقي إلّا بعد العام 586 ق.م “تاريخ سقوط أورشليم” لاعتبارات أخرى غير دينية قطعاً.

وإذن لا يبدو فنكلشتين-من موقعه هذا- مغالياً في تأويل حرفية النص الكتابي لتتبع التاريخ القديم لإسرءيل من الأقدم للأحدث لترتيب معطيات الحدث الكتابي كما هو حال العديد من الآثاريين الكتابيين من أتباع مدرسة أولبرايت الذين يطلق علهم في الحقل الأكاديمي تسمية الأصوليين maximalists ولا هو أيضاً من جماعة الاتجاه التصحيحي minimalists  المقابل للأصوليين الذين يميلون لإنكار “تاريخية” الكتاب المقدس بشكل عام، ويرفضون الإملاءات النظرية التي تمهد لهذا، كما هو حال أبحاث نيلز بيتر لامكه وتوماس تومسون ممن يعرفون بـ “جماعة كوبنهاغن” أو فيليب ديفز وكيث ويتلام الذين يبدون شكوكاً قاطعة فما يتعلق بـ “الإرث الكتابي”، على الرغم من مساهمة كلا الاتجاهين في تقديم الدراسات والبحوث الأكاديمية الآثارية والتاريخية في إطار ما يعرف بمجال “الدراسات الكتابية”.

ويرى أن الجانب الذي ينتمي له بات له الآن أنصارٌ كثر، ولديهم رؤية ينبغي أن تحظى بذات القدر من الدراسة والاهتمام، فالحديث عن اليمين واليسار هنا كتصنيف يقود إلى ترتيب نتائج تأويل النص الكتابي (ويشمل هذا بطبيعة الحال “تاريخ إسرءيل”) حيث يتبع الأصوليون في تأويلهم وصف الكتاب المقدس لتاريخ إسرءيل القديمة من منطلق إيمانهم بحدود هذا النص كما يعبّر عن ذلك عالم الآثار الفرنسي، الأب رولاند دوفو: “إذا لم يكن الإيمان التاريخي بإسرءيل موجوداً في التاريخ، فهذا الإيمان خاطئ، أي أن عقيدتنا خطأ أيضاً”.

وفي الحقيقة، تدين رؤية فنكلشتين حول “علم الآثار الكتابي” كثيراً لرؤية الأب دوفو في المبالغة على الطابع الإثني المركز لدور إسرءيل، فيهمل إلى حد كبير، مثل دوفو، وجود “بنية مستديمة غير إسرءيلية” في فلسطين خلال العصر الحديدي (6)، حتى عندما يسلّم، على سبيل المثال بوجود توجّه فينيقي لفلسطين الساحليّة (من عكا حتى دور\ الطنطورة) وبوجود روابط ثقافية آرامية للجليل والأغوار الشمالية، بما في ذلك بيسان\بيتشان وتل العريمة\ قنريت وتل القاضي \ تل دان والكثير من مواقع شمال شرق الأردن.

وغنيٌّ عن القول الإشارة إلى تمتع فنكلشتين بذكاء حاد وإمكانات بحثية هائلة وقدرات سجالية لافتة للنظر، فضلاً عن خيال واسع ضروري -لا ريب- لعمله حتى يبدو كأنه خُلقَ ليكون باحثاً آثارياً ولا شيء سواه. فيستخدم لغة بسيطة لطرح سرديته وأفكاره عن “ممالك العهد القديم” بأسلوب واضح وسهولة الانتقال بين الأفكار والموضوعات بعيداً قدر الإمكان عن التعابير والمصطلحات المعقدة، إلا ما ندر وللضرورة. فيحصر النسق المدروس افتراضياً “وهو هنا تاريخ فلسطين القديم” وبالتالي توصيف هذا النسق بطريقة صورية أي بالطريقة التي تجعل الباحث قادراً على إعادة تشكيله كلما عجز عن البرهان على صحته أو واقعيته أو “تاريخيته”. ولعل هذا، أيضاً، هو الأساس الذي بنى عليه المؤرخون والآثاريون فهمهم وتصورهم لمملكة “إسرءيل القديمة” حين تخيلوها دولة “قومية ” تشبه دولهم الحديثة بحدود طبيعية أو جمركية، يرتبط سكانها فيما بينهم برموز مشتركة مختلفة مثل اللغة والدين و التاريخ السردي” التاريخي و الأسطوري” والمركز الديني أو القومي الاقتصادي المقدس، كما أوضحته ناديا أبو الحاج بتركيزها على الطابع الاستعماري “لإسرائيل المعاصرة”و تحليلها لأهمية علم الآثار في الدولة والمجتمع الإسرائيليين والدور الذي اضطلع به في إثبات المزاعم الصهيونية بخصوص “ملكية الأرض” عبر صياغة وتشكيل المخيال القومي إبان نهوض القومية الأوروبية ومشتقاتها الاستعمارية والتاريخية. حيث وُلدت الحركة الصهيونية ضمن شروط ومنطق القومية الأوروبية (7).

ولتعميم الصورة بشكل أوضح؛ يجادل ألبرت غلوك بأنه لا يمكننا دراسة تاريخ فلسطين “القديم” بصورة وافية ما لم يتم تحرير علم الآثار في الشرق الأوسط من “الأسطورة الكتابية”(8).

ويستنتج بأن العديد من القصص الكتابية هي محض قصص خيالية، فلم يحدث أن خرجت جماعة بشرية تسمى إسرءيل من مصر ولا يوجد ثمة دليل على أن شخصاً يدعى يوشع حاصر و\ أو احتل مدينة أريحا، ناهيك عن سقوط أسوارها بالطريقة التي يصفها العهد القديم، ولم يوجد في أي مرحلة أو عصر ملك عظيم اسمه داود فتح أورشليم (9) وجعلها عاصمته وأورث حكمها من بعده لابن له يدعى سليمان الذي قام بدوره ببناء معبد\هيكل للرب على تلك الرابية في أورشليم.

وليس هناك ما يجزم بوجود هذين الملكين، فضلاً عن مملكتهما الموحّدة التي كانت عاصمتها “أورشليم” في كنعان في القرن العاشر ق.م حيث وصلت حدودها إلى مشارف حماة وميناء عصيون جابر الذي كان يضاهي موانئ العالم القديم اتساعاً ونشاطاً كصيدا وصور.

وفي أحسن الأحوال لم تكن شخصيات مثل داود وسليمان -إن وجدا- أكثر من شيوخ قبيلة صغيرة رعوية تتجول في السهول الصحراوية أو على حواف الصحراء وتخوم الحواضر، فنصوص العهد القديم -كما يراه فنكلشتين- مجرد ذاكرة تضخمت وتأسطرت في القرن السابع ق.م لتخدم أجندات سياسية وعسكرية معينة.

إذ لا يمكن، في الواقع، لعلم الآثار إعادة خلق تلك الرموز البطريركية المؤسِّسَة؛ أو غيرها من الرموز الدينية (أقصى ما يمكن فعله في هذا الصدد تأويل مروياتهم، وحتى هذا يبقى موضع خلاف) التي يختلط فيها التاريخي بالأسطوري، بيد أنه في الوقت ذاته لا يمكنه، أي علم الآثار، إنكار بصورة قطعيّة عدم تاريخيّة تلك الشخصيات، وأنها عاشت في عصور موغلة في القدم، غير أنه من غير المتوقع العثور على لقى تعود أو تنتمي لها.

وإذن لا يمكننا -على سبيل المثال- الجزم بما يمكن إرجاعه إلى إبراهيم بصورة شخصية، فهذا ضرب من المحال والخيال سواء بسواء. فحتى النص الديني، بصورته الحالية النهاية التي وصلتنا، والذي يحظى بمصداقية وإجماع عند المؤمنين لا يمكنه تقديم معلومات وافية وصلبة عن جماعة تدعى “إسرءيل” عاشت في حدود الألفية الثانية ق.م في مكان ما من الشرق القديم، جنوب بلاد الشام.

فما يقدمّه النص الديني ليس سوى شذرات مبتسرة وذاكرة واهية غير واضحة المعالم ولا تحظى بدعم من خارج النص الذي يعكس، أساساً وقائع عصره لحظة تدوينه كتعبير منطقي عن احتياجات الأفراد المعاصرين للنص. أما التوصيفات المعنيّة بأحداث أقدم فهي مطمورة، في واقع الحال، بين ثنايا النص الأحدث.

وفي الحقيقة لا توجد طريقة يمكنها التوفيق بين صورة “إسرءيل الكتابية” والماضي الحقيقي الموضوعي (الوقائع التاريخية) للمنطقة كما يؤكد ذلك نيلز بيتر لامكة.

فالطريقة التي يجادل بها المختصون في علم الآثار الكتابي وعلم الآثار القومي الإسرائيلي تتسم بإشكالية حادة بسبب الاستخدام السياسي والإيديولوجي للماضي وتحويله إلى “ماضٍ قومي”؛ وهذا بحد ذاته يُشكّل -في الأساس- إحدى الإخفاقات الأساسية لكلا التخصصين حين تتحول الدراسة الآثارية إلى مطية لسرديات تعكس أحكاماً مسبقة عن الأرض [المقدسة] بوصفها دولة قومية، عتيقة وخالدة، لمنح الشرعية لوجود دولة قومية باسم إسرائيل في عصرنا الحالي، ويراد لها أن تصير خالدة حتى قيام “مملكة الرب”.

وسوف يكون القرن العاشر ق.م. منطلق هذه الرؤية التحقيبية.

وإذا كان فنكلشتين نفسه لا يملُّ من تكرار رفضه لمزاعم الآخرين في تفسير الأحداث بالرجوع إلى عصور سابقة، فهو لا يمانع من زلق ماض عصر العمارنة (القرن الرابع عشر ق.م) إلى حاضر العصر الحديدي ( القرن العاشر ق.م)، فيخلق “كيانات سياسية” يستلّها من قائمة المدن التي استهدفتها حملة ملك مصر شيشنق الأول تمهيداً لظهور تلك المملكة المنسية في الهضاب الغربية الشمالية لفلسطين، ولا يتورع في سبيل هدفه، عن تقديم أو تأخير زمن حملة الملك المصري باستخدام تقنيات مخبرية علمية (تحليل العينات الصخرية والعينات العضوية بتقنية الكربون المشع على سبيل المثال).

ليس هذا فحسب، بل هو على استعداد، لو اقتضى الأمر أن يوافق على طروحات الباحثين “التقليديين (الذين يحاربهم طوال الوقت). متناسياً في الوقت ذاته؛ أو بالأحرى متجاهلاً تنقيبات كاثلين كينون ومارغريت شتاينر (10) في مدينة القدس والتي لم تكن في ذلك العصر المفترضة سوى قرية على تلة لا يزيد سكانها في أقصى اتساع لها في ذلك الحين 4 آلاف نسمة. وحين يسبغ اسم “إسرءيل” على الإقليم والكيان السياسي؛ فهو يقوم بذلك وفقاً لتأويله للكلمة الواردة في لوح مرنبتاح باعتبارها تشير إلى جماعة تدعى إسرءيل، عاشت في أرض كنعان في أواخر القرن الثالث عشر ق.م (رغم أن اللوح لا يذكر أي تفاصيل عن هذه الجماعة أو القبيلة، أو أنه يقصد فعلاً مثل هذه الجماعة).

يجوب فنكلشتين، أثناء بحثه عن “مملكة إسرءيل”، أرض فلسطين، سهولها وهضابها ووديانها طولاً وعرضاً ويقلب كل حجر بحثاً عن “الدلائل” غير الكتابية للملكة الكتابية “المنسية” كما يسميها. ويستعرض مواقع العصر الحديدي في “القرن التاسع ق.م”؛ في فلسطين والأردن، ويصفها بلغة عالية الدقة والتخصص كآثاري، ويحدد لهذه المواقع سمات مشتركة يربطها مباشرة بالظهور التأسيسي لإسرءيل الشمالية على يد الأسرة العُمْرية، وعاصمتهم السامرة “سبسطية”، وإن كان يقر بين الحين والآخر بالتضارب في معلومات النص الكتابي عن تلك الفترة، (يفسر ذلك في المقام الأول بالبعد بين زمن الحدث وزمن تدوينه مما تسبب في تشويه الذاكرة الجمعية عن الحدث، فضلاً عن أنه يغمز من قناة مؤلف النص الكتابي” اليهوذي” بتحامله على المملكة الشمالية وحكامها).

كما ينظر إلى الولاءات السياسية التي غلبت على الكيانات الإقليمية في تلك الفترة بعين رجل سياسة صهيوني معاصر (هو لا يقول ذلك صراحة، ولكن ليس صعباً استنتاج ذلك). فحين يصف أن أحد أهم أهداف الأسرة العُمْرية للسيطرة الاجتماعية وسعيهم الحثيث لإثبات شرعيتهم يتمثل في” التغلب على السكان المحليين وحتى الإفراط في تخويفهم” تظن أن من يتحدث أحد قادة مجلس المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وليس “عالم” آثار شهير تفتح له بوابات الأكاديميا على اتساعها أينما حل.

وفي واقع الأمر تعبّر النتائج المستخلصة من مادة هذا الكتاب عن المأزق المنهجي الذي يواجهه المشتغلون في حقل الآثار الفلسطيني، أي الدوافع السياسية و “القومية” لإنتاجهم المعرفي. حين يبدأ المؤلف بإعداد مسرح الأحداث، مثل مخرج سينمائي محترف، ويضع، منذ البداية، نصب عينيه “التخلص” من الحجج والأدلة التي “تعيق” تصوره لظهور “مملكة إسرءيل”، رغم عدم تصريحه بصورة مباشرة، وإنما يظهر ذلك من خلال رغبته وإصراره على بناء سردٍ “موازٍ” لسير وتطور الأحداث في شمال فلسطين وإلى الجنوب قليلاً حيث تقع المرتفعات الوسطى “قلب وروح العهد القديم”، ويستخدم مقاربة تمزج بين علم الآثار والتأويل النصي، لتفسير وجود أو غياب لقى “إسرءيلية” في وسط وشمال فلسطين للاستدلال على وجود كيانات سياسية يمكن وصفها بأنها “إسرءيلية”، تتشابه في تكوينها وظهورها وأنشطتها العسكرية مع ما حصل سابقا في عصر العمارنة في القرن الرابع عشر ق.م أو ما سوف يحصل لاحقاً مع ظاهر العمر في القرن الثامن عشر م., وفخر الدين المعني في أوائل القرن السابع عشر م. فيركّز على المشهد المكاني لفلسطين دون غيره، خلال أطوار العصر الحديدي المختلفة [على كل حال هذا العصر حسب التحقيب التقليدي على غاية في الأهمية لمن يعرف كيف تتم صياغة التأويلات الكتابية لجهة احتكار الحدث لجماعة معينة ولكيان معين].

ولكن الصعوبات ستبرز مع مرور الوقت من خلال التأويل النصي المتحيز للقى الآثارية. فالآثاري لا يتعامل مع النص كبنية أثرية، بل إن جلّ ما يهمّه الثقافة المادية المندثرة التي سوف تتجسد لاحقاً، ربما، في نص مدوّن أحدث، ووفقاً لهذا يمكننا إعادة بناء “المادة التاريخية” عن مدنٍ مثل حَاصُور ولَخِيش وجَزَرْ ومَجِدّو وغيرها، بعيداً عن التفسيرات الإيديولوجيّة القوميّة المحافظة  -مثل تفسيرات يغال يادين-والتي ترى، على سبيل المثال، أن تدمير حَاصُور يعود إلى “فترة الغزو التوراتي” (افتراضياً حوالي 1225 ق.م) حسب الإصحاح 11 من سفر يشوع “10 ثُمَّ رَجَعَ يَشُوعُ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ وَأَخَذَ حَاصُورَ وَضَرَبَ مَلِكَهَا بِالسَّيْفِ، لأَنَّ حَاصُورَ كَانَتْ قَبْلًا رَأْسَ جَمِيعِ تِلْكَ الْمَمَالِك”.

بينما يميل الباحثون اليوم إلى فهم “الغزو” المذكور في سفر يشوع على أنه بناء إيديولوجي يعود لعصر الملك “يوشيا” ويراد منه العِظَة ليس إلّا. وبالتالي لم يعد بالإمكان النظر أحداث سفر يشوع كتوصيف تاريخي حقيقي، أو على الأقل كتوصيف لحقيقة ما حدث فعلاً في حَاصُور، ويمكن القول هنا أن سقوط المركز الحضارية الكنعانية كانت عملية طويلة، ولم تحدث فجأة بين ليلة وضحاها، بل استغرقت نحو قرن ونصف كما تشير الدلائل الآثارية المتوفرة في مواقع حَاصُور ومَجِدّو ولَخِيش وغيرها من المدن الكنعانية، ابتداءً من دمار حَاصُور في منتصف القرن الثالث عشر ق.م، وصولاً إلى تدمير لَخِيش ومَجِدّو في حدود 1130 ق.م. وهذا ما تؤكده السجلات التاريخية والنصوص غير الكتابية. ويتفق أهل الاختصاص على أن دمار حَاصُور يقع ضمن سلسلة أحداث شملت الساحل الشرقي للمتوسط بأكمله في نهاية العصر البرونزي.

وحتى لو أبدينا بعض التفاؤل في القول بأن الجماعات السكانية المسؤولة عن هذا الدمار استقرت لاحقاً في هضاب ومرتفعات فلسطين الوسطى، بهدف عقد الصلة بين حَاصُور وطلائع الإسرءيليين، فلن يكون هذا سوى تصوّر باهت يزخرفه المخيال الديني القومي.

فلا يوجد، بين أيدينا، ما يؤكد على وجود جيش بالحجم الذي تذكره النصوص الكتابية تحت إمرة قائد واحد استطاع أن “يفتح كنعان” ويدمّر المدن المحصّنة، وهو من عانى قبل ذلك تيهاً في صحراء قاحلة لمدة تقل عن نصف قرن بقليل، فضلاً عن معاناته قبل وصوله لمشارف كنعان وموت نبيّه وملهمه الأول هناك!

وللتخلص من هذا المأزق، يلجأ البعض، ومنهم يادين نفسه، إلى المنطق الدائري (11) على قاعدة أن “غياب الأثر أو الدليل لايعني غياب الحدث”، فاليهود، على سبيل المثال، يحرمون أكل لحم الخنزير، ولذلك حين يتم العثور على عظام خنزير سوف يكون من الصواب القول إنها موجودة في موقع غير إسرءيلي\ يهوذي.

فماذا لو عثرنا على عظام خنزير في مكان يعتقد أنه إسرءيلي؟ هنا يتم التأويل الدائري، كما فعل يادين بالضبط، حين عثر على عظم خنزير في الموقع المفترض أنه قلعة مسعدة “مسادا” فتم اعتبارها أضحيات قدّمها الرومان المسيطرون على المنطقة، وحين عثر من بين اللقى على عظام شخص مدفون بطريقة طقسية، تم الاسترشاد بما ذكره يوسيفوس في “حروب اليهود” كدليل على تاريخية الحدث، وهذا في الحقيقة ليس سوى تفكير مرغوب فيه يسقط ما هو موجود في النص على ما هو موجود في الحقل على ما هو موجود في الذهن والخيال.

وذات الشيء يمكن أن يقال عند مطالعتنا تاريخ مدينة مجدّو، التي كانت تعتبر أكبر المواقع المحصنّة في العصر البرونزي بمساحة تصل إلى حوالي 60 هكتاراً، (يعود تاريخ المدينة في الواقع إلى حدود الألفية الرابعة ق.م).

من ناحية أخرى يشير فنكلشتين إلى الأدلة غير المباشرة بمصطلح “الأدلة الظرفية” وهي ما يمكن للباحث الاستنتاج منها أو الافتراض وفقاً للسياق أو الظروف المحيطة، بدلاً من الأدلة المباشرة أو الصريحة. وفي العلوم الإنسانية، مثل علم الآثار، تشير الأدلة الظرفية إلى المعلومات التي توفر إشارات أو دلائل على شيء لم يُكتشف بشكل مباشر، ولكن يمكن استنتاجه بناءً على ما هو موجود أو من خلال تحليل سياق معين.

ويستفيد فنكلشتين من هذا المعنى أثناء حديثه عن الأدلة الظرفية المتعلقة بتقويم طبيعة موقع شيلوة بناءً على المعلومات المتاحة حول المواقع المحيطة، أنماط البناء، والتحليلات التاريخية، عوضاً عن وجود دليل مباشر مثل هيكل معبد واضح أو نقوش توضح الاستخدام الطقسي للموقع.

يستند فنكلشتين أيضاً إلى نقش ميشع لتوضيح وجهة نظره في مؤاب في القرن التاسع ق.م والتي كانت تعيش حالة صراع وتنافس مع بيت عُمْري\إسرءيل وآراميي دمشق ومَجِدّو وتْعَنِّك للسيطرة على سهول الجليل \يَزْرَعِيل. وكانت هذه المناطق موضع نزاع في تلك الفترة، ولكن من الصعوبة بمكان القول إنها كانت إسرءيلية. ورغم ذلك يزعم فنكلشتين وبعبارات لا لبس فيها عن عظمة إسرءيل التي لا مثيل لها (12)، حين يعتقد بإمكانية تفسير توسع أورشليم نحو التلال الغربية في وقت ما من القرن السابع ق.م، عن طريق استقراء حدوث هجرة جماعية للاجئين من السامرة المحاصرة آنذاك والتي سرعان ما سقطت في الربع الأخير من القرن الثامن ق.م.

يتابع فنكلشتين بحثه عن “أصول إسرءيل” وهو لا يكترث- على الأقل هنا- للنقد الموجه لمثل هذا النوع من الأبحاث، سواء كان أثرياً أم تاريخياً فبعد الفشل في العثور ولو على شقفة فخار واحدة تدعم ما يقوله عن “مملكة شمالية” و “مملكة جنوبية” يصر على أن بعض السويات الأثرية “حاصور VI–V، ودان III–II على سبيل المثال” تمثل ثقافة “مادية إسرءيلية” بل يرى أن دان أصبحت إسرءيلية في النصف الأول من القرن الثامن؛ بدليل أن نصب تل دان الذي أقامه حزائيل ملك “آرام دمشق” تم تحطيمه!

يزعم إسرائيل فينكلشتين (وكذلك يفعل الآثاري الكتابي الأمريكي وليم ديفر) أنه يتبع مبدأ النأي بالنفس عما يعرف بـ “علم الآثار الكتابي” الذي وضع لبناته الأولى الباحث الأمريكي ويليم أولبرايت. وأيا كان التقدم الذي أحرزه علم الآثار منذ أن نشر أولبرايت أولى مساهماته قبل نحو قرن؛ فإننا بالكاد نلحظ ابتعاد فنكلشتين المنهجي “المزعوم” لوجهات نظره بخصوص “علم الآثار الكتابي” حين نرى أن جهوده المتمثلة بربط علم الآثار الفلسطيني مع المرويات الكتابية لا تعكس أساليب أولبرايت فحسب، بل تخلق أيضاً عدم اتساق ذي منحى سياسي.

ومنذ مطلع الألفية الحالية نشر فنكلشتين العديد من المؤلفات ذات الصلة المباشرة بآثار وتاريخ فلسطين القديم. فيستخدم -بوصفه آثاري-الحجج الأثرية بالدرجة الأولى كمحاولة لحل مشاكل التأويل الكتابي.

ولا محيص من الاعتراف بأن مقاربة فنكلشتين يشوبها قصور ما عند تطرقه لرموز كتابية مهمة مثل سليمان ويوشيا وسواهما من ناحية ومناقشة “آثاريات المشهد المكاني” وتصنيف المواقع، من ناحية أخرى. حيث يضع إسرائيل فنكلشتين معول الآثاري ليلتقط قلم المؤرخ ويبدأ بما يتمتع به من خيال خصب في “إعادة” كتابة تاريخ إسرءيل القديمة كما تصوره الإيديولوجية “اليهوذية” في القرن الثامن ق.م، وهو وإن كان ينطلق من “افتراضات” آثاريه ونصية وتاريخية إلا أنه يقر بأن وراء “ظهور” فكرة “عموم إسرءيل” أو “بني إسرءيل” إنما تقف أساطير قومية مؤسسة لتلك الفكرة، أهمها، برأيه سلسلة قصص يعقوب المبكرة في سفر التكوين والتقاليد المتعلقة بخروج أو نزوح كبير لجماعة مع تيه صحراوي في وقت ما يعود ربما لنهايات الألفية الثانية ق.م.

غير أن مثل هذا الاستنباط يضعنا أمام عدة تساؤلات -عندما نضع في الحسبان الضغط الذي يمارسه فنكلشتين بلا كلل على هذا الزعم ذي التوجه الكتابي- لماذا كان على أولئك اللاجئين -إن وجدوا حقاً- السعي للبحث عن الأمان في أحضان من هم أكثر غدراً بهم من بين أعدائهم؟، لا يمكننا هنا-كرمى لعيون فنكلشتين وغيره- غض النظر عن التناقض العميق والمثير للشفقة والسخرية بآن معاً، الذي رسمه فنكلشتين وسيلبرمان في كتابهما الشهير [التوراة مكشوفة على حقيقتها، العنوان حسب الترجمة العربية] بين الأدلة الأثرية التاريخية المحددة لمملكة يهوذية قبل القرن الثامن ق.م والقصة الكتابية للمملكة المتحدة لداود وسليمان.

ويتوجب علينا، ربما، الإشارة إلى أن سردية سفري الملوك، التي أطلقت القصة التراجيدية عن جنون سليمان، إنما تكمن خطوط حبكتها الأساسية في إطار ثيمة معروفة في تراث وأساطير الشعوب القديمة، أي: الوحدة والانقسام كما قرأها توماس طومسون (13). إن جزئية العظمة -سواء للمملكة أم لملوكها أم لشعبها- لا تشكّل محلاً هندسياً قابلاً للسحب مع قصة داود مثلما هو الحال في القصة المأساوية لصعود سليمان وسقوطه. وتتطرق قصة داود إلى ما هو أبعد من مسار وثيمات الاستيلاء على السلطة كما هي في سفري الملوك، لا سيما الجزئية التي تعزز “عذاب الماضي” كصورة نمطية يعثر عليها في ثيمة “شهادة الملك الطيب” و “المستبد العادل”.

ويوحي، كل هذا، بالتناقض مع ما يشغل فكر فنكلشتين عند مقارنته بأدلة التوطن المحدودة في مرتفعات “يهوذا” خلال القرن العاشر ق.م وأوائل القرن التاسع ق.م، مع التوطن الواسع في الهضاب التي دعمت في وقت مبكر حاضرة بيت عُمْري.

ويجادل التصحيحيون، في المقابل، بأن معظم أو جميع المواد الكتابية هي من إنتاج الحقبة الفارسية أو الهلنستية (القرنين الرابع والثالث ق.م)، ولا علاقة لها بما يمكن أن يكون “تاريخاً حقيقي لإسرءيل المبكرة”، وبالتالي ليس لهذا النص قيمة تاريخية لفهم تاريخ إسرءيل في العصر الحديدي. وبين هذا وذاك يحشر فنكلشتين أنفه في مكان حيث لا يضع الراقي أنفه، -لا يرى نفسه وحيداً هناك على كل حال- فيقول إن مادة النص كانت مكتوبة في المراحل المتأخرة من “الحقبة الملكية للإسرءيليين القدماء” لتعكس، بذلك، حقائق ذلك العصر المتأخر (أي القرن السابع وربما الثامن ق.م)، يتخللّها نصوص تعبّر عن ذكريات وتقاليد تعود لفترات سابقة تسرّيت إلى النص.

ووفقاً لهذا الرأي، فإن أقرب نص مدون من الكتاب المقدس العبري لابد أن يكون قد وضع في النصف الأول من القرن الثامن ق.م، وحدثت ذروة “الإسقاط” للنصوص الكتابية [في يهوذا في أواخر العصر الملكي وبعد تدمير أورشليم] ربما بشكل رئيس في بابل، كما أن هناك العديد من النصوص التي تنتمي فعلياً لوقائع القرن الثاني ق.م.

وكما أثبتت العديد من الحفريات- ولكن ليس جميعها- أن تأويل النص إيمانياً ومعول الآثاري كلاهما يشيران إلى اتجاهات مختلفة في طريق إعادة بناء الماضي وبالتالي إعادة بناء وكتابة التاريخ، والتمييز بين ما هو “تاريخي” وبين ما هو حكايات وأساطير شعبية متواترة ذات مغزى وقصص ديني تحمل طابع العظة. وحتى لا يكون الكلام منحازاً، فإن إعادة التفكير في النصوص الدينية استناداً للمعطيات الآثارية لايعني بطبيعة الحال نهاية الإيمان، بل ربما يعني أن الإيمان بات أكثر نضجاً.

وإذا كان المؤرخون لا يقولون الحقيقة دائماً، فعلماء الآثار يمتازون عنهم، بالإضافة إلى ذلك، بالخيال الخصب الذي يسمح للواحد منهم بسرد قصة رومنسية كما يحلو له وهو يتأمل قطعة فخارية وأن ينطق الحجر قبل البشر على طريقته الخاصة؟

ويرى فنكلشتين أن اعتماد تقنية الكربون المشع لتأريخ البقايا العضوية في المواقع الأثرية سيكون له دور حاسم في تقديم مصدر مستقل عن المصدر الكتابي أو غير الكتابي فيما يتعلق في السجال التاريخي السائد في الوسط الأكاديمي، في سياق فرز ما هو “تاريخي” وما هو “غير تاريخي” من نصوص الكتاب المقدس.

وليس خربة قيافة إلّا مثال حديث لجهة الرغبة في هزيمة هذه الاتجاهات النقدية الحديثة عن طريق البحث عن كشف أثري إعجازي، فالموقع مثير للاهتمام حقاً من نواحٍ كثيرةٍ، نظراً للرغبة العميقة لأصحاب المنهج الأصولي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من إرث الآثاريات الكتابية بخصوص تاريخ إسرءيل القديمة.

ويشير مخطط الموقع إلى أن أصل السكان يعود لمنطقة الهضاب الوسطى، إلا أن هذا لايعني الإشارة بالضرورة إلى توسع يهوذا في بداية ظهورها. وتشير بعض اللقى إلى إمكانية ربط الموقع بالمرتفعات الشمالية. بعبارة أخرى، المكتشفات، وليس النص، هي ما يمكنها أن تلقي مزيداً من الضوء عل التكوين الإقليمي للمرتفعات الشمالية في القرن العاشر ق.م أكثر من علاقة هذا التكوين بيهوذا في زمن تكوين السلالة في القرن التاسع ق.م.

ويرى الآثاري الإسرائيلي غارفينكل، الذي قاد عمليات الحفر في الموقع، إن ما عثر عليه هناك هو قصر الملك داود، ووفقاً لتقديراته فقد بلغت مساحته نحو 1000 م2. غير أن فنكلشتين يشكك بهذا ويشير، بصورة غير مباشرة، إلى الباحثة الإسرائيلية إيلات مزار التي زعمت قبل عدة سنوات أنها وجدت قصر الملك داود في القدس: “هذا يذكرني بخرافة الفتاة الصغيرة التي صرخت تستنجد من الذئب. فيوم أمس وجدوا قصر الملك داود في القدس، واليوم في قيافة، وغداً سوف تجد أنه… من يدري أين. هذه البيانات تسترعي انتباه الجمهور”. وربما ستكون الخطوة التالية إذن الزعم بانتماء الملك داود للمدينة، طالما هناك قصر فيها، وبالتالي، فمن الواضح [لغارفينكل] أن ” الملك داود نام هنا عندما جاء لزيارة هذه التلال”.

غير أن ما هو أكثر إثارة هنا يتمثّل في عثور بعثة غارفينكل على عدة كسر فخارية عليها نقوش أثارت أحدها نقاشاً حاداً، فالنقش مكتوب بلغة ما قبل كنعانية التي تطورت منها الأبجدية الفينيقية. وتشير عدة مقالات إلى أن النقش قد يكون من أقدم النقوش “العبرية”، ويمثل المرحلة التي سبقت تحوّل النص ما قبل الكنعاني إلى نص فينيقي نموذجي كما يقترح ذلك غارفينكل في محاولة منه لتحديد لغة سكان خربة قيافة “العبرية” القديمة. في حين يرى فنكلشتين أن النقش لم يكتب بلغة عبرية من أي نوع، ويؤكد أن جميع النقوش ما قبل الكنعانية المتأخرة عثر عليها تقريباً في السهول الساحلية الجنوبية، لا سيما قرب مدينة “غات” الفلستية. كما تم العثور على نقوش هيراطيقية مصرية تعود لحقبة العصر البرونزي المتأخر الثالث في المنطقة عينها، وبصورة خاصة حول مدينة لخيش.

ونظراً لأن المنطقة كانت مركز الإدارة المصرية في كنعان في العصر البرونزي المتأخر، فقد عكست النقوش ما قل الكنعانية المتأخرة أثر التقاليد الإدارية والثقافية القديمة.

مثال آخر: إن وجود مدينة بحجم مَجِدّو كما يصفها علم الآثار الكتابي وعلم الآثار القومي الإسرائيلي يستلزم وجود عدد لا بأس به من السكان للقيام بالمهام المتنوعة، بالإضافة إلى تصريف معيشهم اليوم، إذ لا يعقل أن يقوم 400 أو 500 شخص مثلاً ببناء صروحها، وعلى هذا لابد أن مَجِدّو كانت تتمتع بصلات قويّة مع الريف المحيط بها والقريب منها، بل وحتى الهيمنة عليه وجلب العمّال المهرة للقيام بأعمال التحصينات والصيانة والدفاع عن المدينة عند الزوم.

وتدل المعطيات الأثرية أن المدينة ازدهرت في العصر البرونزي المتأخر (1550-1150 ق.م)، فيما يصطلح عليه “مَجِدّو الكنعانية”، ثم تعرضت للدمار في القرن الثاني عشر ق.م، ولايمكن الجزم بهوية من دمرّ المدينة، هل شعوب البحر؟ هل بفعل جيش كنعاني آخر؟ أم بسبب غزو أتى من بعيد أو من مملكة مجاورة؟ ومهما كانت الإجابة، ففي الأغلب لن يكونوا الإسرءيليون القدماء هم الفاعلون، إذا لا يمكن الجزم بوجودهم في ذلك الوقت أو حتى التعرف عليهم كجماعة سكانية، سواء بمطابقتهم مع العابيرو أو الشاسو أو أيّا يكن من سكان القرن الثاني عشر ق.م.

فإذا كان هذا هو الحال، فينبغي علينا أن نتخلى عن أمل إعادة بناء تاريخ الحقبة ما قبل الهلنستية في فلسطين على أساس مرويات العهد القديم فقط. لأن أي تاريخ يتم كتابته وفقاً لذلك سيكون تاريخاً مختلقاً يتم اختراعه بعدد قليل من الإشارات المعزولة عن سياقها التي تتحدث عن “أشياء” ما ربما حدثت حقا أو كانت موجودة، وربما لا.

يستند فنكلشتين في تصوره للتاريخ إلى مقاربة مدرسة “الحوليات Annales” الفرنسية(14) التي تهتم بالجوانب المتعددة للأنشطة الإنسانية -وليس السياسية والدبلوماسية فحسب- وجعلها الموضوع الرئيس للأبحاث التاريخية وضمن هذا السياق النظري يضع فنكلشتين بذرة نشوء إسرءيل القديمة عبر التاريخ وهو يكرر ما ورد في الفصول السابقة عن نشوء دول وكيانات سياسية لا تتمتع بعاصمة مركزية قوية بما يشبه الحالة الإسرءيلية ويستشهد بظهور لابايو حاكم شكيم في عصر العمارنة (أواخر العصر البرونزي) والكيان السياسي في منطقة جبعون\جبعة الذي كان هدفا لحملة شيشنق الأول وكلاهما هزما من قبل إمبراطورية قوية -مثلما هو حال دولة ضاهر العمر التي هزمتها في نهاية المطاف الدولة العثمانية- .

وهو -في اعتقادي- حين ينظر إلى مصير دولة إسرائيل المعاصرة من حيث ظروف نشأتها (ضعف الدولة العثمانية وانهيارها مما مهد السبيل للدول الاستعمارية الغربية في احتلال المشرق وظهور إسرائيل على مسرح الأحداث كنتاج للإمبريالية البريطانية) يلتفت خلفه ليرى مآل كل من إسرءيل ويهوذا “القديمتين” وارتباط ظهورهما بضعف أو تراجع التأثير المصري والآشوري وكان لعودة صعود تلك القوى الإمبريالية من جديد السبب المباشر في انهيار المملكتين الكتابيتين. فكان ظهور المملكة الشمالية “عملية مزدوجة من تطورات طويلة الأمد في منطقة الهضاب في وقت ما من العصر البرونزي المتأخر أدت لاحقاً (القرن التاسع وأوائل القرن الثامن ق.م) إلى صعود قوة إقليمية قوية تحكم مناطق واسعة ذات سكان متنوعين مما جعل من ظهورها حدثاً فريداً من نوعه في تاريخ جنوب بلاد الشام وتكاد تكون حسب رأيه الظاهرة الوحيدة في التاريخ المسجل التي كُتب لها النجاح بوصفها وكيلاً أو قاعدة لدولة أو إمبراطورية أقوى، أو في ظل غياب قوة قوية.

وكان هذا هو الحال في الأيام الأولى من المملكة الشمالية، ربما تحت مظلة مصر، في أواخر القرن العاشر ق.م، والدولة الحشمونية التي نشأت نتيجة للمناورات الناجحة بين القوى الهلنستية المتصارعة من وقتها.”

وفي ظل هذه التناقضات -بين نفي وإثبات- يفضّل فنكلشتين وضع، أو تصنيف، نفسه كعالم آثار، ضمن معسكر الوسط، في خضم الجدل الدائر بين أوساط الباحثين الكتابيين، فيقول: “اعتبر نفسي باحثاً يقف في مكان ما في الوسط بين معسكر المحافظين والمعسكر النقدي، لا شك أنه عملٌ صعبٌ للغاية أن تكون في الوسط، في المركز. فأينما كنت تقف، على أحد الجوانب، فسوف تتم مهاجمتك من هذا الجانب فقط، ولكن إن كنت في المركز، فأنت عرضة للهجوم من جميع الجوانب.. في بعض الأحيان يتهمني بعض الأصدقاء من الجانب الأكثر تحفظاً بأنني أنتمي إلى مقاربة أكثر عدمية (أو إلى النهج النقدي) الذي ينكر وجود المملكة المتحدة. ولكن الأمور ليست بهذه البساطة، فأنا-لأسبابٍ كثيرةٍ- لا أنفي وجود داود وسليمان (قد يكون نقش تل دان أحد هذه الأسباب)”(15).

ويتابع:” ثمة معطيات على شكل ذاكرة كانت موجودة بالفعل في القرن التاسع ق.م ترى بأن مؤسس السلالة [الملكيّة] في عاصمة يهوذا كان يدعى داود. أنا لا أنكر وجود داود وسليمان في التاريخ، ينبغي أن يكون كلامي هذا واضحاً [هنا]، بيد أنه لدي، التأكيد، وجهة نظر مختلفة حول مدى وطبيعة الكيان الذي كان محوره مدينة أورشليم في القرن العاشر ق.م، لنقل، كان ثمة شيئاً هناك في تلك الفترة، ولكن ما هو هذا الشيء بالضبط؟ هنا يكمن السؤال الكبير، ولكي نجيب عليه، يتوجب علينا العودة إلى مسألة التحقيب التاريخي لمدينة القدس ذاتها”(16)

وإذا كان الماضي غير قابل للاستعادة، كما يقول فوكو، فإننا على الأقل نستطيع تمثله، وهذا يعني، من بين أشياء عدة، فشل آخر تعاني منه البحوث الكتابية التي خلقت وهماً اسمه ” إسرءيل القديمة”، فواقع المجتمع الفلسطيني القديم الذي يمكن التعرف عليه من مصادر مختلفة غير كتابية لا يتلاءم بأي حال مع الصورة الكتابية لـ “إسرءيل القديمة”.

ومن وجهة نظر المؤرخ الموضوعي، سوف تكون هذه الإسرءيل “مخلوقاً” شاذاً؛ “شيئاً” انبثق من خيال مدرسة “النقد التاريخي” وانتشر كانتشار النار في الهشيم بين مؤرخيها الكتابيين وخلفياتهم الحديثة، خلال المئتي سنة الماضية. وخلقت هذه الأوهام إشكاليات عدة واجهها الفكر الكتابي وتالياً الصهيوني/الإسرائيلي، لعل أبرزها تمثل في الإصرار على تغييب الفلسطيني عن “المكان” أي الأرض… فالأرض بوصفها مقدسة كانت المدخل والمخرج لكافة التعابير الاستشراقية التي يتعامل فيها المثقفون الإسرائيليون يميناً ويساراً مع الفلسطينيين (17).

إن ما يشكل جوهر كتابة التاريخ “الجديد” هو هذا الهوس، بالأحرى السعار المحموم، لإعادة كتابة التاريخ الفلسطيني (الذي بدأ يستحوذ في الوقت الحاضر على عقول الكثيرين) “بدءً من إسرءيل القديمة”.

لقد فشل المشروع الآثاري الكتابي في فلسطين، لأن باحث الكتاب المقدس لا ينتمي إلى فئة علماء الآثار. “إن استخدام الإرث الكتابي كمصدر أساسي لتاريخ أصل إسرءيل، أشبه بتكريس وضع يائس للمؤرخ الذي يريد أن يكتب تاريخاً نقدياً، وليس تاريخاً عفا عليه الزمن”(18).

وفي الحقيقة لا توجد طريقة يمكنها التوفيق بين صورة إسرءيل الكتابية والماضي التاريخي (الحقيقي) للمنطقة كما يؤكد ذلك نيلز بيتر لامكه. فإذا كان هذا هو الحال، فينبغي على علم الآثار الكتابي أن يتخلى عن الأمل المخادع في أن يتمكن من إعادة بناء التاريخ للحقبة ما قبل الهلنستية على أساس مرويات العهد القديم. لأن أي تاريخ يتم كتابته وفقاً لذلك سوف يكون تاريخاً مختلقاً مخترعاً لعدد قليل من الإشارات المعزولة عن سياقها تتحدث عن ” أشياء” ما ربما حدثت حقاً أو كانت موجودة. أو ربما لم تحدث، ولم تكن موجودة أصلاً، فـ “إسرءيل القديمة”، من وجهة نظر المؤرخ الموضوعي “مخلوق” شاذ، “شيء” انبثق من خيال مدرسة ” النقد التاريخي” وانتشر كالنار في الهشيم بين مؤرخيها الكتابيين وخلفياتهم الحديثة، خلال المئتي سنة الماضية.

…..

ملاحظات

-اخترنا رسم كلمة “إسرءيل” بهذا الشكل تماشياً مع مقترح الباحث الفلسطيني الراحل د. زياد منى، ونقصد بها تجمعاً قبلياً من “العرب البائدة” لم يعد لهم وجود اليوم مثلهم مثل قبائل عاد وثمود وجديس وغيرهم.. ولأغراض هذه الترجمة سوف تشير كلمة “إسرءيل” إلى الكيان أو المملكة القديمة التي يصفها العهد القديم، ويرى أنها كانت قائمة في فلسطين في وقت ما من القرن العاشر ق.م، وتم اختيار إسرءيل من الرسم “القرآني” في الكتابة لتجنب الخلط” المقصود أحياناً” بينها وبين الكيان السياسي القائم حالياً في فلسطين، الذي يسمي نفسه إسرائيل وهو “خليط” استعماري من أقوام لا رابط قومي أو عرقي أو إثني يجمعهم بـ إسرءيل التي نقصدها. علماً أن اللغات الأوروبية تميز بين كلا الكيانين في الكتابة، بعكس النشاط التأليفي العربي الذي لا يفرق بين الكلمتين والمعنيين. والشيء بالشيء يذكر، سوف يلاحظ القارىء أيضاً استخدامنا للكلمة “يهوذ” يهوذيين” بالذال المعجمة، بالتوافق مع ما ذكره د. زياد منى في هذا الصدد أيضاً، وسوف يستخدم هنا للدلالة على سكان مملكة يهوذا الكتابية كمقابل للإسرءيليين Israelite سكان مملكة إسرءيل، والأصل في يهوذا هو الكلمة الكنعانية (يهوده) ويظهر تطور الكلمة أنها مشتقة من سبط “يهوذا” أكبر أبناء يعقوب، وهي لا تعني قطعاً “يهود” أو يهوديين” بالدال المهملة.. ومن الضرورة بمكان التمييز بين “يهوذ” و”يهود” كي لا يحدث خلط بين القوم اليهوذيين والدين اليهودي كما هو حاصل الآن في التصور الغربي لليهود بوصفهم “دين وقومية”.

-نستخدم كلمة “كتاب” و”كتابي” وما يشتق منهما؛ للمقابل الإنكليزي The Bible.. Biblical بدلاً من كلمة “توراة”… “توراتي” وما يشتق منهما، نظراً لأن كلمة توراة وأخواتها لا تقابل قطعاً، المقابل الأكاديمي The Bible لا من حيث المعنى ولا من حيث المحتوى. فالمقصود بالكتاب هو ما يعرف بمجموع العهدين القديم والجديد.. أما التوراة فهي جزء من العهد القديم وليس جميعه (الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم، وتعرف أيضاً أسفار موسى وهي: التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، التثنية)، ولا تشمل بأي حال العهد الجديد. وسوف يتعرف القارىء على تعبير آخر يستخدمه الباحث وهو “الكتاب العبري” أي التناخ؛ ويقصد منه التمييز عن تعبير “الكتاب” المتداول في اللاهوت المسيحي. ويحتوي “الكتاب العبري” على الأسفار التي يعترف بها اليهود والتي كتبت بالأصل بالأرامية و”العبرية” وهذا يعني عدم احتوائها على النصوص المقدسة المسيحية. (انظر الهامش (4) أدناه)

-نفرق في هذه الترجمة بين “أورشليم” و”القدس”.. ونستخدم الأولى للدلالة على موقع آثاري تم تعريفه بهذا الاسم، أما القدس فالمقصود بها المدينة الحالية عاصمة فلسطين، وهي لا تعني بأي حال “أورشليم” أو الإحالات السياسية أو الدينية لهذه الكلمة الأخيرة. وقد نذكر أورشليم تبادلياً مع القدس حسب مقتضيات السياق

….

هوامش

  1. استخدام الكربون المشع في تحديد عمر قطعة أثرية: يوحد عنصر الكربون في المواد العضوية فقط أي المواد والمتعضيات سواء كانت حية أو ميتة، ولا يوجد في المواد غير العضوية كالمعادن والحجارة.. والكربون 14 هو نوع من الكربون غير مستقر ومشع. ونسبته في الجو ثابتة تقريباً (مقابل 98.89% من الكربون 12 و1.108% من الكربون 13) لأن الكربون 14 ينتج من اصطدام قذائف من الجسيمات الكونية بنوى ذرات الكربون 12 الموجود في طبقة الستراتوسفير المنخفضة من الجو. وهذه القذائف متوافرة باستمرار وتأتي من أعماق الكون. وتحتوي المادة العضوية (أثناء حياتها) على أنواع الكربون الثلاثة. يقدر نصف العمر المتبقي من الكربون 14 المشع 5568 سنة. فإذا علمنا أن النبات طالما هو حي فهو يعمل على امتصاص الكربون من الهواء، حيث تكون نسبة الكربون المشع فيه 1,9 %. وتبدأ كمية هذا الكربون المشع في التناقص بعد موت النبات، بينما تبقى كمية الكربون العادي ثابتة. ومع مرور الوقت تتغير نسبة الكربون المشع C14 إلى العادي C12 بسبب انخفاض كمية الكربون المشع وثبات كمية الكربون العادي. وهذا التغير هو المفتاح لمعرفة عمر القطعة.. ولتحديد عمر قطعة أثرية عن طريق الكربون المشع يشترط أن تحتوي على مادة عضوية؛ مما يعني وجود نوعي الكربون المذكورين؛ وحيث إننا نعرف أن الكربون المشع بعد 5568 سنة يفقد نصف كميته. فيمكن بعد تحليل المادة العضوية على القطعة الأثرية التوصل إلى معرفة نسبة الكربون المشع إلى العادي. ومن هذه النسبة ومعرفة نصف العمر نتوصل إلى معرفة عمر القطعة، على افتراض أن المادة العضوية عليها قد ماتت حين صنعت. وبدأ الكربون المشع بالتناقص.

ثمة مصطلح آخر مستخدم لوصف منحنى معايرة الكربون المشع؛ وهو “هضبة هالشتات”Hallstatt Plateau. ويشير إلى زمن معين يحدث فيه تسطح في منحنى المعايرة بين النتائج الناتجة عن الكربون المشع والتواريخ الحقيقية الزمنية. هذه الظاهرة تتسبب في صعوبة تحديد التواريخ بدقة خلال هذه المدة باستخدام تقنيات الكربون المشع.

تحدث “هضبة هالشتات” تحديداً ما بين 800 400 ق.م وقد تمت تسميتها نسبةً إلى ثقافة هالشتات في وسط أوروبا التي ازدهرت خلال العصر الحديدي المبكرة.

ويعود سبب الصعوبة إلى تركيز الكربون المشع (C-14) في الغلاف الجوي الذي كان ثابتاً نسبياً أو متقلباً بطريقة تجعل من الصعب حساب العمر الدقيق للعينات الأثرية. لذلك، لا يستطيع علماء الآثار بسهولة ربط القيم الناتجة عن تحليل الكربون المشع بالتواريخ الزمنية الحقيقية في هذه الفترة.

ويعود أصل التسمية -هضبة هالشتات” إلى بلدة نمساوية صغيرة تقع على ضفاف بحيرة هالشتات في جبال الألب، وقد اشتهرت البلدة اشتهرت بمقابرها القديمة والمواقع الأثرية التي تحتوي على أدوات وأسلحة وكنوز والتي تعود إلى العصر الحديدي المبكر (حوالي 800-400 ق.م)، حيث تم اكتشاف آلاف المدافن.

  1. وضع يوليوس فلهاوزن (1844 – 1918م) في الربع الأخير من القرن التاسع عشر ما يعرف بالفرضية الوثائقية في مؤلفه المعروف “المقدمة النقدية لتاريخ إسرءيل القديمة” Prolegomena to the history of Israel” 1878. وتنص الفرضية على أن البنيان الأدبي للأسفار الموسوية (التناخ أو الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم) يتكون من أربعة مصادر مختلفة تعود لعصور مختلفة، وكان يرى في اليهودية -كدين خلقته المؤسسة الكهنوتية في زمن الهيكل الثاني- منظومة عقائدية مؤلفة من وصايا وطقوس، وهي، برأيه، مرحلة متدنية من دين “الإسرءيليين القدماء واليهوذيين والملكية (الدولة)”.

يرفض فلهاوزن الفرضية التي تقول بوجود مؤلف واحد للتوراة (الأسفار الموسوية) وتقع الفرضية الوثائقية ضمن مقاربة “النقد النصي العالي”. ويقسم فيه فلهاوزن “مادة” الأسفار الموسوية في العهد القديم إلى أربعة مصادر مختلفة كما يلي:

أ‌) المصدر اليهووي Yahwistic ويرمز له بالحرف J ويرى فلهاوزن أن محرر redactor المصدر اليهووي شخص عاش في يهوذا ما بين 850-950 ق.م، وكان يهدف من عمله تمجيد الملك داود ورفع مكانة أورشليم ومركزيتها وأطلق فلهاوزن تعبير “يهووي” على هذا المصدر لأن نصوصه تظهر الإله “يهوه” وهو يتكلم مباشرة مع عباده.

ب) المصدر الإيلوهيمي Elohistic ويرمز له بالحرفE، وحرر هذا المصدر، بزعم فلهاوزن، شخص من السامرة ما بين 750-850 ق.م، ولا يركز هذه المصدر على مركزية معبد أورشليم، ويظهر في هذا القسم الإشارات المتعددة للإيلوهيم وعلاقته مع عباده غير مباشرة بل بواسطة الرؤيا أو الملائكة، ويذكر مثال عليه استجابته لإيليا حين بعث إليه نار من السماء.

ج) المصدر التثنوي Deuteronomy ويرمز له بالحرف D، ومحرر هذا النص عاش في عصر الملك يوشيا (623 ق.م)، وأطلق عليه فلهاوزن هذا الاسم نظراً للتشابه بين مصطلحات يوشيا، كما يضيف فلهاوزن إلى هذا المصدر أسفار يشوع والقضاة وصموئيل.

د) المصدر الكهنوتي Priestly ويرمز له بالحرف P ويرى فلهاوزن أن حزقيال النبي (450-500 ق.م)، الذي يعود بنسبه إلى هارون، هو محرر هذا المصدر أثناء السبي.

ويرى فلهاوزن أن هذه المصادر دمجت على يد غزرا الكاتب حوالي 400 ق.م لتظهر لنا الأسفار بشكلها الذي نعرفه اليوم، ويعتقد فلهاوزن أن شكل وتطور المصادر الأدبية للنص الكتابي ارتبط منذ البداية بالتطور الديني الإسرءيليين من دين بسيط ومتغير وطبيعي إلى دين رسمي وكهنوتي مستقر. للمزيد انظر، Wellhausen, Julius (2013 [1878]) Prolegomena to the History of Ancient Israel (New York: Cambridge University Press)

  1. انظر الإصحاح 11 من سفر الملوك الأول الذي يشير أيضاً إلى بناء سليمان مذبحاً لكمّوش إله مؤاب شرقي أورشليم: “33 لأَنَّهُمْ تَرَكُونِي وَسَجَدُوا لِعَشْتُورَثَ إِلهَةِ الصِّيدُونِيِّينَ، وَلِكَمُوشَ إِلهِ الْمُوآبِيِّينَ، وَلِمَلْكُومَ إِلهِ بَنِي عَمُّونَ، وَلَمْ يَسْلُكُوا فِي طُرُقِي لِيَعْمَلُوا الْمُسْتَقِيمَ فِي عَيْنَيَّ وَفَرَائِضِي وَأَحْكَامِي كَدَاوُدَ أَبِيهِ.34 وَلاَ آخُذُ كُلَّ الْمَمْلَكَةِ مِنْ يَدِهِ، بَلْ أُصَيِّرُهُ رَئِيسًا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ لأَجْلِ دَاوُدَ عَبْدِي الَّذِي اخْتَرْتُهُ الَّذِي حَفِظَ وَصَايَايَ وَفَرَائِضِي.”)
  2. 4. يستخدم فنكلشتين تعبير “الكتاب المقدس العبري” وهو ما يعني حرفياً كتاب “التناخ” وهو مصطلح يهودي للإشارة إلى مجمل الكتاب المقدس لدى اليهود فقط، ويتوافق مع ما يعرف بالعهد القديم في التراث المسيحي. ويتكون من ثلاثة أجزاء رئيسة:

-التوراة” توره” Torah وتضم الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم (التكوين، الخروج، اللاويين، عدد، التثنية)، وتعرف أيضاً بأسفار موسى أو الأسفار الحمسة “الخماسيةPentateuch وهو مصطلح إغريقي

-الأنبياء “نبييم” Nevi’im وتضم أسفار الأنبياء؛ مثل يشوع، والقضاة، وصموئيل، والملوك، وأشعياء، وإرميا، وحزقيال، والأنبياء الصغار.

-المكتوبات “كتوبيم” Ketuvim وتضم مجموعة من الكتب الأخرى مثل المزامير، والأمثال، وأستير، وأيوب، وغيرهم.

وتكون كلمة تناخ تمثل الأحرف الأولى من أسماء الأجزاء الثلاثة للكتاب المقدس العبري المكون الأساسي للتراث الديني والثقافي اليهوديTop of Form

، ويضم قوانين وتشريعات، وقصصاً وملاحم وأساطير وتاريخاً ونبوات، وأدب الحكة والشعر… وغيرها.

ومن المهم أن ذكر استشهاد فنكلشتين في بعض المواضع بإحدى النسخ السبعينية للكتاب المقدس (الترجمة اليونانية للعهد القديم) ويشير لها فنكلشتين باسم نسخة لوقيان (Lucianic version)، وهي واحدة من العديد من النسخ المختلفة لهذه الترجمة، وتنسب إلى القديس لوسيان الأنطاكي Lucian of Antioch الذي عاش في القرن الثالث الميلادي، وتعرضت النسخة للتنقيح في القرن الرابع، ولاقت رواجاً في أوساط المسيحيين في المشرق، ويعتقد أهل الاختصاص أن الهدف من النسخة اللوقيانية تحسين وضوح النص ودقته مقارنة بالنسخ السابقة. وتعد جزءً من الموروث النصي المسيحي الإغريقي للكتاب المقدس، وهي تختلف بعض الشيء عن النصوص السبعينية الأخرى من حيث الصياغة والمحتوى، وإن كانت الفروقات صغيرة نسبياً.

  1. التاريخ التثنوي تعبير اصطلاحي يشير إلى “المادة التاريخية” المبثوثة في أسفار التثنية ويوشع والقضاة وسفري صموئيل وسفري الملوك.
  2. يتردد صدى مشاعر دو فو عند ويليام أولبرايت، عميد علم الآثار الكتابي، الذي يصر على أن “الصورة في سفر التكوين هي صورة تاريخية بشكل عام، وليس هناك أي سبب يدعو للشك، عموماً، في صحة تفاصيل السيرة الذاتية التاريخية”. ومن الواضح أنه من غير الممكن قراءة مرويات “الآباء والخروج والغزو” التي تصف التاريخ التكويني لـ “شعب إسرءيل” باعتبارها، أي المرويات، وصفاً تاريخياً مباشراً وسرداً تسلسلياً من الأقدم للأحدث، إنما يجب فهمها من منظور الحقبة التي دونت فيها. ويجادل كل من جون فان سيترس وتوماس طومسون، بأن اختيار وترتيب القصص يعبر عن رسالة واضحة من قبل محرري الكتاب أثناء جمعه أكثر من كونه يحفظ وصفاً تاريخياً موثوقاً للأزمنة المبكرة، حتى لو كانت النصوص المتأخرة تحتوي على بعض التقاليد المبكرة.

ومن المحتمل أن العديد من هذه القصص تحفظ ذكريات قديمة، وحكايات فلكلورية، وأساطير وحكايات سببية. وتبدو هذه المرويات كأنها إطار جامع للقصص الكتابية التي تصف ظهور المملكة الداوودية والسليمانية (سرديات الآباء والخروج، التي اندمجت بسرديات السبي وما بعده). علاوة على ذلك، تفضح الطريقة التي تم فيها تجميع هذه السرديات هدفها في خدمة الأهداف الإيديولوجية لمؤلفيها في العصر الحديدي الثاني المتأخر. ولعل هذا ما دفع الآثارية الألمانية هيلغا زيدن إلى القول: “في كل مرة نتحدث فيها عن فلسطين يرفعون في وجهنا توراتهم.. إن علم الآثار التوراتي سبّب الكثير من الدمار والضرر في دراسة تاريخ المنطقة العربية، وكل إسرائيل قائمة على التوراة، ويكررون دون ملل أنهم جاؤوا إلى فلسطين لأن التوراة قالت ذلك، وهذا غير ممكن ولا يمكن القيام بذلك تحت أية ذريعة أو توهم”.

  1. للمزيد انظر، Facts on the Ground: Archaeological Practice and Territorial Self-Fashioning in Israeli Society (2001)
  2. 8. انظر، Glock, A. 1995 Cultural Bias in the Archaeology of Palestine. Journal of Palestine Studies, 24(2): pp.55. شكل اغتيال الدكتور ألبرت غلوك، المفجع، صدمة لكل دعاة التوجه العقلاني لجعل تاريخ فلسطين الآثاري تاريخاً مستقلاً عن الهيمنة الكتابية والمفاهيم التوراتية السائدة. كما عبّر -اغتياله بتلك الصورة الفظة والسهلة بآن معاً- عن عدم تحلّيه بالحنكة السياسية وافتقاره للوصول للمعنى الحقيقي الكامن في فعالية البحوث الأثرية والمخاطر الناجمة عنها.

لقد فهم غلوك، وهو على حق، أن المضامين السياسية لعلم الآثار؛ لاسيما نزعته القومية، تشكّل عواقب خطيرة من شأنها تحطيم بنيانه كتخصص يراد له ومنه تأويل الماضي. وتكاد تنحصر التحيزات المعرفية هذه في معالجة الصلات التي تربط آلية عمل البحوث الأثرية ومناهج البرامج السياسية والدينية المتمركزة إثنياً. ولعل ما يحدث في فلسطين هو أكبر مثال على معنى هذا الاضطراب الديني\القومي بشكله السياسي، والذي يتم التعبير عنه من خلال النقاشات المتكررة بشأن الأثر القوي للبحوث الأثرية؛ وكان لغياب علم آثار “إسلامي” موازٍ لعلم الآثار الكتابي دور في تشكيل أحد المداخل المهمة لهيمنة رؤية واحدة على آثاريات المنطقة. ونظرا لعدم وجود بحوث آثارية تحاول إثبات التفسيرات الحرفية للقرآن، فإن المقاربات الآثارية التي قدمها غلوك (كما هو مبين في مقالته المشار إليها أعلاه) طوال مدة إقامته في فلسطين وحتى موته تسعى لتلبية مثل هذه الاحتياجات؛ وعلى وجه الخصوص لمجتمع الفلاحين الفلسطينيين المهمشين. ورغم ذلك؛ تستنسخ تجربة الدكتور غلوك -في تعاطيه مع المآزق الفكرية لعلم الآثار الكتابي- تقاليده المعرفية من مفاهيم عنصرية تتمثل في الاستبعاد والتحيز وتدمير الطبقات الإثنية الآثارية غير المرغوب فيه كانت بلا شك تجربة محكوم عليها بالفشل.

  1. يصف النص الكتابي كيف استولى الملك داود على حصن صهيون الصغير حيث كان يقيم اليبوسيين وحوّله إلى عاصمة دولته وهي المكانة التي ظل فيها هذا الحصن محتفظاً بها طيلة زمن المملكة المتحدة الكتابية، أي القرن العاشر ق.م تقريباً، وبعد وفاته ارتقى سليمان “ابنه وخليفته” إلى العرش، فبنى، والكلام على ذمة العهد القديم، عدة قصور ومعبد فخم، ويستمر النص في وصف المدينة بالقول إنها كانت جميلة وعاصمة إمبراطورية عظيمة وغنية جعلت ملكة مثل بلقيس تحبس أنفاسها عند زيارتها ومشاهدة غنى وثراء سليمان..

ولكن ماذا تقول اللقى الآثارية؟ في الواقع، لم يعثر في المدينة الحالية، القدس، أورشليم المفترضة، على أي من المباني الموصوفة، فلا قصور ولا هيكل ولا بيت مستدير كما يذكر محرر سفر صموئيل الثاني في الإصحاح الخامس: ” 9 وَأَقَامَ دَاوُدُ فِي الْحِصْنِ وَسَمَّاهُ «مَدِينَةَ دَاوُدَ». وَبَنَى دَاوُدُ مُسْتَدِيرًا مِنَ الْقَلْعَةِ فَدَاخِلًا”. على الرغم من إعلان بعض علماء الآثار بين حين وآخر العثور على بعض المباني، ثم يضيفون أن هذا لا يعني عدم وجود مدينة قديمة، فربما اختفى كل شيء وتآكل، وربما هي في مكان آخر غير المكان الذي يبحثون فيه دعنها. وفي الحقيقة؛ قد لا نجد مدينة العهد القديم الفخمة التي تعود للقرن العاشر ق.م، وذلك لأنها ببساطة لم تكن موجودة قط. أو ربما كانت مدينة أكثر تواضعاً بكثير مما يصفه النص، فما عثر عليه من لقى تعود لتلك الحقبة هي عبارة عن مبانٍ عامة وتحصينات فقط. كانت القدس مجرد بلدة صغيرة، ربما لا تزيد مساحتها عن 12 هكتاراً، ولم يكن يسكنها أكثر من 2000 نسمة فقط، ناهيك عن “تاريخية” و”صحة” اسمها المفترض “أورشليم” الذي هو بحث آخر بحد ذاته. للمزيد انظر، Margreet L. Steiner 2009 The “Palace of David” Reconsidered in the Light of Earlier Excavations,2009. http://www.bibleinterp.com/articles/palace_2468.shtml

  1. عن مارغريت شتاينر انظر، القدس في العصر الحديدي “1300 – 700 ق.م”. ترجمة: بطرس رزق الله، تحقيق د. زياد منى. قدمس للنشر والتوزيع (2006)
  2. المنطق الدائري أو الاستدلال الدائري: عبارة عن مغالطة منطقية تقوم على وضع المتلقي ضمن افتراض مغلق يعتمد على خلق سبب يتم من خلاله الوصول إلى نتيجة، ثم يتم الانطلاق من هذه النتيجة لبناء دليل على صحة السبب الذي تم افتراضه سابقاً، علماً أن النتيجة ما زال ينقصها ما يبرهن على صحتها، وأن الوصول إليها إنما تم عن طريق سبب مفترض غير مؤكد
  3. يقول فنكلشتين حول الفصل بين البحث والتقاليد والمعتقد أي الإيمان: “أنا مؤمن بدرجة كبيرة في الفصل التام بين التقاليد والبحوث، وأحتفظ -شخصياً- ببقعة دافئة في قلبي للكتاب [المقدس] وقصصه الرائعة. ولا تستمع ابنتاي؛ اللتان تبلغان الحادية عشر والسابعة من عمرهما، خلال عيد الفصح Pesach seder أي كلمة عن عدم وجود خروج من مصر، وعندما يصلان إلى سن الخامسة والعشرين سنقول لهما قصة مختلفة. الاعتقاد والتقاليد والبحوث هي ثلاثة خطوط متوازية يمكنها أن تتواجد في وقت واحد. ولا أرى في ذلك تناقضاً فادحاً”. يؤمن فنكلشتين أن قصة الملك داود المذكورة في نصوص العهد القديم، على سبيل المثال، تمثل بالنسبة لليهود “معنى السيادة الإقليمية على الأرض، مثلما تمثل أسطورة الإمبراطورية بالنسبة للمسيحين، فضلاً أن داود بالنسبة للمسلمين نبي صالح جاء قبل محمد ويرتبط ارتباطاً مباشراً بيسوع والمسيحية، وبالتالي فقصة هذا الملك العبراني ليست هي الأهم في الكتاب المقدس فحسب، بل هي الأهم في “ثقافتنا”. للمزيد انظر، الملحق (2) وكذلك Lori, Aviva (2005) ‘The Greatest Spin in History’، Haaretz.co.il (26 February). English version [‘Grounds for Disbelief’] available at http://www.haaretz.com/grounds-for-disbelief-1.10757.
  4. انظر، Thompson (1974) , 57;” A Testimony of the Good King: Reading the Mesha Stele”، Ahab Agonistes: The Rise and Fall of the Omri Dynasty, ed. Lester L. Grabbe (London: T&T Clark 2007) , 236-292; Biblical Narrative and Palestine’s History: Changing Perspectives 2 (Sheffield: Equinox 2013)
  5. ظهرت المدرسة الحولية الفرنسية كبديل للمدرسة الوضعية التقليدية “الوثائقية -لا تاريخ دون وثيقة-” في الكتابة التاريخية والتي كان يمثلها آنذاك الأكاديميات السائدة بين أوساط المؤرخين في جامعة السوربون وجامعة برلين، وابتدأت بالمقالات النقدية لكل من مارك بلوخ ولوسيان فيفر في مجلة حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي Annales d’histoire économique et sociale، منذ نشأتها عام 1929 بما يفتح آفاقاً جديدةً لكتابة تاريخ اقتصادي- اجتماعي يتجاوز المقاربات التي تركز على العوامل السياسية و الدبلوماسية و العسكرية والمعاهدات و الوثائق الضيقة الأفق والاهتمام بكل ما له علاقة بالإنسان كوحدة اجتماعية وليس كفرد (يتحكم بأحداث التاريخ) بصورة عامة والانفتاح على جميع الحقول والميادين ذات الصلة “المدى الطويل للتاريخ”. وكان فرناند بروديل قد حدد الزمن الذي تهتم به مدرسة الحوليات وقسمه إلى ثلاثة مستويات:

– الزمن الجغرافي (le temps géographie): وهو زمن المدد الطويلـة وزمن البنيات يتميز بتغيره البطيء.

-الزمن الاجتماعي (le temps social): وهو زمن الظرفيات، وزمـن المدد المتوسطة، مثل تاريخ تطور الاقتصاد والمجتمع.

-الزمن الفردي (le temps individuel): ويطابق زمن الوقائع، والأحداث السياسية كالحروب والمعاهدات وحكم الملوك.

حفظ الذكريات القديمة عبر قرون من النقل الشفوي أمر مثير للاهتمام في دراسة التاريخ. وثمة على ذلك أساطير هوميروس (الإلياذة والأوذيسة) التي تناقلتها الأجيال شفوياً عبر القرون قبل تدوينها في نصوص معروفة؛ ويظهر حفظها الشفوي ونقلها عبر الزمن عن قدرة الرواية الشفوية الاحتفاظ بالدقة والصحة.

  1. للمزيد انظر، https://www.academia.edu/18994343/The_key_role_of_Biblical_Archaeology_in_Exegesis_An_Interview_with_Professor_Israel_Finkelstein
  2. المرجع السابق وكذلك، http://individual.utoronto.ca/mfkolarcik/jesuit/finkelstein.html
  3. يحضرني هنا شريط فيديو للإسرائيلي إيتمار يوباني بعنوان “القبة أو السرادق” تم عرضه في معرض “العبرانيون الجدد: قرن من الفن في إسرائيل The New Hebrews. A Century of Art in Israel “. في ألمانيا في العام 2005. وقد عُرض الفيلم على جدار واسع من درج الصعود إلى المعرض. وتم تصويره من طائرة هليكوبتر، والعرض يرتحل على طول التلال والكهوف والأودية ضمن عوالم المشهد المكاني الصحراوي الفلسطيني، وينقضُّ على “قلعة مصعدة” أو مسّادة التي تقع أعلى الجبل، عبر مباني دير مار سابا –لتظهر بقايا مساكن الإنسان القديم، والمواقع الأثرية. اللافت في الأمر أن هذه الأماكن والمواقع تظهر خالية من أي وجود بشري. وينطلق التصوير الأرضي من مكان ما من الكنيس الذي يشبه القبة والواقع أسفل القلعة. وليس خفياً دور قلعة مسعدة في صياغة جزء من “الأساطير المؤسسة لإسرائيل” عبر الأدب والتعليم ورحلات “الحجيج” والسياحة حيث اتخذت أهميتها بوصفها حدثاً رمزياً قوياً يعكس “إحياء الأمة” في كهوف “يهوذا” وأمسى طقس تنصيب الجنود الإسرائيليين في مسعدة الذي بدأ في العام 1969 يعبر عن تجربة الانتماء البدئي للتاريخ القديم. يروي المعرض، حسب الكتالوغ “قصة الثقافة الإسرائيلية الحديثة منذ نشأتها قبل نحو قرن حتى اليوم عبر رؤى لهُوية ثقافية جديدة نشأت ضمن تقاليد الشتات اليهودي؛ دون أن تتطابق معه بالضرورة رغم ارتباطها بالماضي اليهودي البعيد”. ضم المعرض أعمالاً فنيةً عكست التعبيرات الفنية المتنوعة والتأثيرات داخل المجتمع الإسرائيلي من خلال242 صورة توضيحية. أقيم المعرض بمبادرة من الإسرائيلية دوريت لوفيت هارتن؛ مؤرخة الفن والمقيمة في برلين بالتعاون والشراكة مع المؤرخ والناقد الفني وأمين متحف إسرائيل في القدس ييغال زلمونا؛ بهدف “تعريف الجمهور الألماني بالثقافة العبرية التي تطورت (نمت) في إسرائيل بصفتها “دولة علمانية جديدة [لكن] جذورها كانت تنغرس في حركة أوروبية تعود لقرن خلى”. وأصرت إدارة المهرجان وصالة مارتن غروبيوس باو Martin-Gropius-Bau التي استضافت المعرض على حضور شخصية تنتمي للمؤسسة الفنية الإسرائيلية نظراً لـ “حساسية الموضوع”. للمزيد انظر هنا https://www.imj.org.il/en/exhibitions/new-hebrews-century-art-israel
  4. انظر، Thompson, T. L. 1987: The Origin Tradition of Ancient Israel. Journal for the Study of the Old Testament. Supplement Series 55. Sheffield Academic Press, Sheffield

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

“اختراع الشعب اليهودي”/ شلومو ساند: قراءة انطباعية

نقرأ بين الحين والآخر في الصحف الإسرائيلية  مقالات تعرب عن أسفها من موقف “المؤرخين الفلسطينيين” …