أذكر حين كنت أدرس في إعدادية المنصورة في مخيم اليرموك, جنوب دمشق, سألتني أستاذة اللغة العربية -حينها- إيمان عسقول عن معنىاسم عائلتي, ثم استدركت هل من المعقول أن يكون مشتقاً من “النداء” و برجة أقرب من المنادى؟
في الحقيقة, لم أكن أعرف معنى لقب عائلتي, كما لم تتح لي وسيلة أو طريقة ,في ذلك الوقت, للتعرف على معنى الاسم “منّاد”, و كلّ ما كنت أعرفه, نقلاً عن أبي, أن الاسم جزائري صرف, لا يمتّ للشرق بصلة.
أنا نيروز منّاد التي تنتمي لفلسطين لاعتبارات عدة, ليس من اختياري بطبيعة الحال, عادةّ ما كان يسبق تعريفي كهوية, كلمة” مغربية, كما ينطقها الفلسطينيون بضمّ الميم, وهو نطق أجده غريب و مميز لهم و إن كنت لا اشعر ببغض نحوه, ومثل هذه الضمة على الميم تجعل المستمع يدرك أنني فلسطينية من أصول جزائرية. هذه الصفة “مُغربية” ستبقى لصيقة معي, وقد وُلدت في سوريا وعشت طفولتي ويفاعتي وشبابي في مخيم اليرموك في شارع أو حارة تعرف اسم “حارة المغاربة” وكان يعرف في السجلات الإدارية بشارع مصفى بن بولعيد أحد أشهر رجالات الثورة لجزائرية الحديثة, ثم صار اسمه شارع أبو القاسم الشابي احتفاءً بالشاعر التونسي المعروف, ولم يأت اختيار أياً من الاسمين بمحض الصدفة’ فمعظم سكان ذلك الشارع أو الحارة هم ممن يعرفون باسم المغاربة, أي الذي يعودون بأصولهم إلى منطقة المغرب العربي, وإن كانت النسبة الأكبر منهم تعد لأصول جزائرية.
ويبدو أن نزوح أجداء هؤلاء يعود إلى بدايات الاحتلال الفرنسي للجزائر في العام 1830م. وطبعا لم يسكت الجزائريون, بل بدؤوا صراعاً مسلحاً مع السلطات الاستعمارية الفرنسية في فترو مبكرة من العام 1832, و بعد ذلك بعدة سنوات خاض الأمير عبد القادر الجزائري صراعاً مع فرنسا انتهى باستسلامه ليتم نقله إلى باريس في العام 1847م.و أدع في السجن نحو خمس سنوات ليتم الإفراج عنه في العام 1852 و يتم ترحيله إلى مدينة بورصة التركية في الأناضول, فمكث هناك حوالي ثلاث سنوات و انتقل بعدها إلى دمشق في العام 1855, و قد ساعد وجوده في دمشق الشام على تسهيل حركة انتقال مواطنيه الجزائريين إلى مناطق الدولة العثمانية’ و تظهر السجلات التاريخية توثيق أربع موجات هجرة للجزائريين استقروا فيها في مناطق دمشق و غوطتها و سهل حوران جنوب البلاد, و البعض الآخر اختار التوغل جنوباً في قرى الجليل و حول بحيرة طبرية في بلدات سمخ و شعرى و معذر و كفر سبت, وبعضهم اتجه غرباً ليستقر في هوشة قرب حيفا.
وما إن حلّ العام 1860 حتى انطلقت موجة هجرة جديدة من الجزائر يعود معظمهم لقبائل أولاد سيدي خال و أولاد سيدي عيسى والعميرات , واستقرت هذه الموجه من المهاجرين في قرى عولم و سمخ و معذر في الجليل الأعلى الفلسطيني, ويبدو أن السبب وراء استقرار هؤلاء في الجليل يعود لتشجيع السلطات العثمانية لهم بعيداً عن دمشق, المدينة الهامة في السلطنة آنذاك, إذ تذكر سجلات الدولة العثمانية محاولات عديدة للأمير عبد القادر, الذي كان لا يزال حيّاً, التدخل في مجريات أحداث العام 1860 والشأن العام في المدينة,
عولم, قرية جليلية فلسطينية سكانها “مغاربة”
كانت تدعى في العصر الروماني ” أولاما”, وأولاما هذه هي مجموع الخرائب التي قامت عليها عولم الحالية. أطلق الصليبيون على أولاما اسم هوليم, و بعد طردهم من المنطقة دعاها العرب باسمها الحالي عولم, وهي قرية صغير تقع ضمن التقسيم الإداري لطبرية و تبعد عنها 15 كم إلى الجنوب الغربي منها , بلغ عدد سكانها في العام 1948 لا يزيد عن 835 نسمة فقط , وتعد علم رابع قرية في قضاء طبرية بمساحة تصل إلى 18548 دونم, امتلك اليهود منها نحو 41% , وتشتهر عولم بكثرة مياهها و ينابيعها مثل عين عولم شمال القرية و نبعي وادي التينة و عين الشيخ ضحوة جنوبها وعين وادي البيضة إلى الجنوب الشرقي من البلدة و عين طبقة الحدي التي تقع إلى جهة الشمال الشرقي لعولم.
ونظراً لكثرة المياه و العيون فقد اشتغل الأهالي في زراعة الأشجار المثمرة مثل التين و العنب و الرمان, كما خصص الأهالي حوالي 410 دونمات لزراعة الزيتون بدءً من العام 1940 أثمرت منها أشجار حوالي 200 دونم, وكان أهالي القرية يؤدون ضرائبهم للسلطة العثمانية من ريع غلالهم من قمح و شعير وهي من أهم مصادر الدخل للسكان فضلاً عن اشتهارهم بتربية خلايا النحل.
ضمّت القرية مدرسة ابتدائية واحدة شُيّدت في العهد العثماني, وقامت السطات البريطانية بإغلاقها لاحقاً أثناء انتدابها على فلسطين , وسكن الناس في بيوت طينية مسقوفة بالخشب والقصب و البوص مثل معظم قرى فلسطين في تلك الفترة , والقليل من بيوت القرية كان من الخرسانة و الحجارة, كما يوجد بها كنيسة أثرية قديمة.
بعد العام 1948 أنشأ الاحتلال الإسرائيلي مستمرة كفار كيش في العام 1949, ويذكر الحاج محمد صالح, ابن مختار القرية, أن سكان عولم من عائلات يونس( وهي عائلته) و العريب والمهناوي وادريس والنوايل وهذه العائلات تعود بأصولها لمهاجرين مغاربة من الجزائر, كما وفدت على القرية عائلات بدوية قصدوها بهدف العمل ثم استقروا فيها, ومنهم عرب المويلحات والطفوري والمحاحي والمشارقة. ولابد أن نذكر أن عولم كانت إحدى القرى التي توجّه إليها الجزائريون و جزء منهم استقر فيها بعد قدومهم للمشرق مع الأمير سعيد الجزائري على ما يذكر الحاج محمد صالح أن الأمير سعيد كان هو المسؤول عن حال العائلات الجزائرية التي اندمج افرادها مع الفلسطينيين مع مرور الوقت وتعايشوا تماماً مع أهل القرية الأصليين دون أي إحساس بالغربة أو عدم الاستقرار.
ومع اندلاع الثورة العربية الكبرى في العام في العام 1935-1936 , شارك المغاربة سكان الجليل إلى جانب الفلسطينيين في الثورة ة سقط منهم العدد من الشهداء, ومن بين الأسماء التي شاركت في الثورة أحمد بن حمد بن عيسى الذي يعد بأصوله إلى مدينة البويرة الجزائرية, وكان أحمد هذا قائد فصيل طبرية, بالإضافة إلى وَحَش آرغيس من قرية هوشة قائد فصيل حيفا وأصوله تعود إلى سيدي آرغيس من بلدة أ البواقي في شرق الجزائر.
تم تهجير أهالي قرية عولم في نيسان\ أبريل من العام 1948 , فانتشر الأهالي فيلا البلدان المجاورة و استقر معظمهم في دمشق , ثم في مخيم اليرموك في المنطقة المعروفة باسم حارة المغاربة التي سبق الإشارة إليها هنا, (علماً أن جزء من مغاربة دمشق مازالوا يقطنون في حي السويقة أحد حارات حي الميدان عند مدخل باب المصلى الشمالي جنوب العاصمة, وهم في معظمهم من أصول تونسية وجزائرية , وثمة خان هناك يعرف باسم خان المغاربة, مازال قائماً حتى الآن, كان بمثابة فندق أو استراحة يستقر فيها القادمين الجدد بصورة مؤقتة, وفي منطقة ركن الدين على سفح قاسيون حيث سقع ضريح الإمام محي الدين ابن عربي هناك شارع يتفرع من المقام يعرف باسم شارع المغاربة.
غادر جدي الطيب عزيز منّاد عولم في العام 1948 رفقة إخوته و أولاده و استقر في البداية في منطقة المسلخ في دمشق القريبة من حي الشاغور’ ثم انتقل بعد ذلك إلى مخيم اليرموك و استقر فيه حتى وفاته في حارة المغاربة قرب مقبرة الشهداء حيث ولد أبي وولدنا نحن أحفاد الطيب عزيز منّاد.
جدي الذي أورثنا ذكرياتٍ عن القرية التي ولد فيها وعمل وتزوج وأنجب أولاده فيها ولم يبقَ من ماضيه القريب عن الجزائر سوى الاسم “منّاد” الذي يعني بلغة الأمازيغ ” المقاتل”.
مناد مراد من الغرب الجزائري شكرا على المعلومات