أولاًـ مدخل:
ابتداءً، ينبغي التأكيد على أن القيمة هي مركز التجربة البشرية، أو القطب الذي تدور عليه حياة الناس في كل زمان ومكان. ولعل في ميسور الألباء أن يسمعوا نداءها وهو يتصادى في جميع الكائنات. أما حد القيمة فهو أنها “الكاشف الضروري الأول الذي يكشف لنا العالم.”[1] كما أنها ” كل ما يعلي من قوة الضمير.” [2]وهذا يعني أنها صلة بين الذات والأشياء، أو أساس يؤسس النفس في الوجود. ولكنها لا معيار لها سوى الشغف، أو شدة الولاء والالتزام. وبما أنها ذاتية إلى هذا الحد، فإنها لا تقل عن كونها سراً ونداءً وجواً خاصاً يحيط بالشيء القيم. ولهذا، فإنها تغلغل في جميع أفعالنا، مما يجعل منها الحد المثالي الأخير الذي لا يسع جهودنا أن تتخطاه.
ولما كانت القيمة كل ما يعزز روح الإنسان، فإنها تجنبه التردي في حمأة الامتهان والابتذال، أي في هاوية التشيؤ والدونية وخسران الكرامة وامحاء الماهية. ولا ريب في أن الذهن البشري دائم التساؤل عن القيمة، وذلك بحكم كونه قوة معيارية بالدرجة الأولى. فما قيمة الوجود؟ وما قيمة الحياة؟ وما قيمة هذه الشمس التي تشع النور والحرارة على الجلادين والضحايا دونما تمييز؟ وما قيمة الرواية بخاصة؟ وأخيراً، ما قيمة الرواية التاريخية منسوبة إلى الجنس الروائي بوجه عام؟
ثانياًـ أصول الرواية التاريخية:
ربما جاز الظن بأن الرواية التاريخية فن أدبي تحدر عن أصول أدبية عريقة في الزمان. ولعل أقدم تلك الأصول أن تكون ملحمة ” الإلياذة ” المنسوبة إلى هومير، وكذلك ملحمة ” الإنياذة ” التي كتبها فرجيل في القرن الأول قبل الميلاد. ومما هو معلوم أن العالم العربي قد عرف الكثير من الروايات الشعبية ذات الطابع التاريخي، مثل “سيف بن ذي يزن” و” الزير سالم” و” الظاهر بيبرس ” وتغريبة بني هلال” وما إلى ذلك من منجزات أدبية شعبية كانت واسعة الانتشار قبل مئات السنين.
أما في أوروبا، فقد ظهرت أعمال أدبية كثيرة كان من شأنها أن مهدت السبيل ابتغاء ظهور الرواية التاريخية في العصر الحديث. وفي القرن السادس عشر، الذي كان يعج بالروايات الخاصة بالفروسية، ظهرت إنجازات شعرية وثيقة الصلة بالرواية التاريخية، ومن أهمها ملحمة نشرها أريوستو الإيطالي سنة 1532، وعنوانها ” أورلاندو فيوريوستو”، ومدارها على الصراع بين العرب والغربيين من أجل السيطرة على أوروبا. وهنالك ملحمة أخرى للشاعر الإيطالي تاسو، وعنوانها “القدس المحررة”، أما موضوعها فهو حملة صليبية خيالية هدفها استرداد القدس من العرب. وقد جاءت “دون كيشوت” بعد ذلك في الشطر الأول من القرن السابع عشر لتؤثر في عدد كبير من الروائيين، ولا سيما الروائيين الإنجليز في القرن الثامن عشر. أما سر المزية في هذا الإنجاز فيتلخص في أننا “نعلم أن الحياة ليست سوى ظل زائل وحلم، ولكننا نعيشها وكأنها ليست كذلك.”[3] فربما أصاب شلنغ حين رأى في ذلك العمل الأدبي صورة للواقع وهو “ينازل المثل الأعلى.”[4]
ثالثاًـ إشكالات الرواية التاريخية:
يجمع المؤرخون الأدبيون على أن السير ولتر سكوت، الكاتب الاسكتلندي المشهور، هو المؤسس الفعلي للرواية التاريخية. ولقد أكد بلزاك المتأثر بذلك الرائد على أن الرجل قد رفع “الرواية إلى مصاف القيمة الفلسفية للتاريخ.”[5] ولكن فورستر الذي اعترف لسكت scott بأن شهرته ترتكز على أساس حقيقي مفاده أنه يعرف كيف يسرد قصة ممتعة، قد فنّد ذلك الكاتب ودحضه حين صرّح بأن “له عقلاً تافهاً وأسلوباً ثقيلاً.” ثم أضاف بأنه لا يجيد البناء، كما أنه “ليس لديه استقلال فني ولا عواطف. وكيف يمكن لكاتب خلو من هذين الشيئين أن يخلق شخصيات يسعها أن تحركنا بعمق.” [6]
وفي الحق أن روايات سكت نفسها تختلف إحداها عن الأخرى اختلافاً بيناً. فبينما يتيسر للمرء أن يرى في “أيفنهو” رواية تاريخية فعلاً، لأنها صورة لصراع بين قوتين سياسيتين متناقضتين تهدف كل منهما إلى الفوز بالسلطة بعد الانتصار على القوة الأخرى، فإن رواية “قلب مدلوثين”، التي هي أفضل من “أيفنهو” بكثير، لأنها تنطوي على تحليل عميق لشخصية جني دينز، وهي واحدة من نخبة الشخصيات الروائية كلها، لا يجوز النظر إليها على أنها رواية تاريخية، وذلك لانعدام الصلة بينها وبين مسار التاريخ، أي لا صلة لها بالسياسة من قريب أو من بعيد. وكل ما في أمرها أنها جرت في الماضي وحسب. وهي بالضبط رواية أخلاقية ليس إلا. ففي ميسور المرء أن يرى قابلية “قلب مدلوثين” لإعادة الصوغ بحيث تدور أحداثها في القرن الحادي والعشرين الراهن. وهذا يعني أن الرواية لا تكون تاريخية إلا إذا استمدت بنيتها من المسار الكلي للتاريخ. أما ” أيفنهو” فهي نص أدبي تدور أحداثه في القرن الثاني عشر، ولا يتيسر لأحد البتة أن ينقله إلى أي زمان آخر، ولا إلى أي مكان خارج انجلترا حصراً.
ولعل الإشكال أن يقبل التلخيص في السؤال التالي: هل يكفي أن تدور أحداث الرواية في أي من الأزمنة الغابرة كي تعد رواية تاريخية؟ أما كاتب هذه السطور فيجيب بأن ذلك لا يكفي، ولا بد من أن تكون الرواية التاريخية وثيقة الصلة بالأحداث السياسية الكبرى للعصر الذي تدور فيه. ومن الأمثلة على ذلك رواية “شجرة الدر” لجرجي زيدان و”الحرب، والسلام” لتولستوي، و”سلمبو” لبلزاك. أما إذا كانت أحداث الرواية تجري في الماضي دون أن تتأثر بالتاريخ، أي بالسياسة والحرب الخاصين بزمن معين، ومثال ذلك رواية “ماريس الإبقوري” لولتر باتر، فضلاً عن “قلب مدلوثين” الآنفة الذكر، فهي ليست رواية تاريخية، بل صنف خاص من أصناف الرواية يسعك أن تطلق عليه اسم رواية من الماضي.
وقد يلاحظ المهتم بالروايات التاريخية أن بعضها مختلف عن بعض تمام الاختلاف. فإذا قارنت “أيفنهو”، مثلاً، برواية ” الحرب والسلام”، فإنك سوف تجد الفرق بين الطرفين شاسعاً جداً. فربما جاز الزعم بأن الرواية الأولى لا تزيد عن كونها تسلية وحسب. أما الثانية فهي درة قل نظيرها بين جميع الروايات التاريخية وغير التاريخية. وذلك لأن وظيفتها تتلخص في الكشف عن ماهية مجتمع معين خلال طور تاريخي معين هو الآخر. وههنا يتبدى واضحاً ما فحواه أن القيمة تلتغم في الوظيفة، أو قل إن الوظيفة والقيمة يؤسسهما التماهي الكامل، بحيث يجوز القول بأن الوظيفة هي القيمة والقيمة هي الوظيفة سواء بسواء.
رابعاًـ وظيفة الرواية التاريخية:
والآن، ما الذي يسوغ الرواية التاريخية؟
إنه قدرتها على تصوير روح التاريخ التي قد يعجز المؤرخ الموضوعي عن أن يلامسها بسبب التزامه بالموضوعية التي من شأنها أن تطرد الذاتية، أي أن تنجز الجوهر الذي يسعى الأدب كله كي يجعله يتجلى في شكل فني. وهذا يعني أن الرواية التاريخية متخصصة بالوجه الذاتي للتاريخ، وفي هذا الموضع بالضبط تكمن قيمتها وأهميتها. فهي تبحث في ذلك العنصر الأثيري الذي يند عن الذهن الموضوعي، فلا يذعن لإرادة المؤرخ وحنكته، وربما كان مما لا ينضوي في اختصاص فيلسوف التاريخ، ولا في اختصاص أي فيلسوف مهما يكن نوعه. وهذا يعني أن الروائي ليس مؤرخاً بتاتاً، ولكن قد يكون أسمى من المؤرخ في بعض الأحيان، وذلك لأن «علوم الأكابر ذوقية» [7]، كما يقول ابن عربي في المجلد الثاني من «الفتوحات المكية». وههنا قد يتذكر المرء ذلك الرأي المشهور الذي قدمه أرسطو في “فن الشعر” وهو القائل بأن “الشعر أرقى من التاريخ.” [8]
ويصب في هذا الاتجاه رأي للشاعر الألماني هاينه اقتبسه جورج لوكاتش في كتاب له عنوانه “الرواية التاريخية”. يقول هاينه: “غريبة هي نزوة الناس! إنهم يطلبون تاريخهم من يد الشاعر، وليس من يد المؤرخ. إنهم يطلبون، لا تقريراً أميناً عن حقائق مجردة، بل تلك الحقائق التي انحلت عائدة إلى الشعر الأصلي الذي جاءت منه.” [9]وهذا يعني أن غالبية الناس تفضل الفنون على العلوم، وذلك لما تتمتع به الفنون من جمال ورونق وجاذبية وخلب. فالصلة التي تشد النفس إلى الجمال هي حقيقة لا تخفى على أحد، والأهم من ذلك أنها مدهشة لأنها بغير مردود نفعي.
إنه عنصر أثيري ذاك الذي تحاول كل رواية أن تستحضره في مناخها الخاص. وبما أنه كذلك، فهو لا يدخل في النسق الكلي ذي السمة العامة. فلئن كانت توترات الواقع الجمعي هي مادة علم التاريخ، فإن توترات النفس المتفاعلة مع بيئتها هي مادة الأدب بأسره. وبقول آخر، إن الأدب حساسية تتحسس الحياة. وتكمن في هذا الفعل النفيس أعمق استجابة لأصالة الشرط البشري.
وبما أن استحضار روح التاريخ، أي روح الحياة، وليس التاريخ نفسه، هو الوظيفة الكبرى والغاية النهائية للرواية التاريخية، فلا بد لها، إذن، من أن تحيل التاريخ إلى فن، أي أن تنقله من دائرة العلم الذهني إلى دائرة الشعور الوجداني، أو قل إلى دائرة الذوق والزكانة أو الحدس، فالأدب هو الوجد أو الوجدان الناشئ من الذائقة ذات الماهية الحدسية. ولا تملك الرواية أن تنجز هذه الغاية إلا إذا استطاعت أن ترسم شخصيات روائية قادرة على أن تحمل روح التاريخ وتجسده للعيان. فالمهم هو كيفية انعكاس التاريخ على أرواح الناس. إن الأدب لا يدرس النفس (الداخل) ولا التاريخ (الخارج)، وإنما يدرس الصلة القائمة بين الداخل والخارج، أي بين النفس وبين محيطها. فالعلاقة هي الموضوعة الكبرى، إن لم تكن الوحيدة للأدب، بل إن العلاقة هي أس الأدب أو ينبوعه الذي يتخارج منه على الدوام.
خامساً ـ اندماج العنصرين:
لن تكون لأية رواية تاريخية قيمة متميزة إلا إذا استطاعت أن تحيل التاريخ إلى فن، أي إلا إذا جاءت الشخصيات المفعمة بالحيوية ممثلة لعصرها، حاملة لخصوصيته على نحو ماهوي، أقصد أن تكون سمات الشخصيات هي سمات العصر الذي عاشت فيه. ومما هو جد منطقي أن الرواية التاريخية لا مسوغ لها البتة إلا إذا استطاعت أن تكون صورة فنية أو أدبية عن زمان ومكان محددين أخذت على عاتقها أن تجسدهما و أن تقترب منهما اقتراباً ذوقياً يعتمد الحساسية وليس الوصف الموضوعي. وما لم تتمكن الشخصيات من أن تجيء حية ومتمثلة لطبيعة زمنها، فإنها سوف تكون قد أخفقت في البلوغ إلى الشأو المرجو.
بيد أن أهم ما في أمر الرواية التاريخية هو أن تجمع الشخصيات بين العنصر التاريخي المأخوذ من زمن الحدث وبين السمات الإنسانية النبيلة والوضيعة التي من دونها لن يكون هنالك فن روائي على الإطلاق. ثم إن مما هو شديد الأهمية أن تجيء الشخصيات، ولا سيما المحورية منها، ممثلة لزمن الحدث، وليس لزمن الكتابة، أو زمن الروائي. فقد بين جورج لوكاتش أن شخصية “سلمبو” التي صاغها الكاتب الفرنسي فلوبير أقرب إلى نساء الطبقة الوسطى الفرنسية المعاصرة للروائي نفسه منها إلى شخصية امرأة فينيقية من مدينة قرطاجة.[10]
أما أن يقدم الروائي شخصية تاريخية من غير أبعاد فنية أو إنسانية، فإن هذا لا يقل عن كونه تزويراً للفن والتاريخ في آن واحد. وتتلخص الغاية النهائية من ذلك كله في أن لا يتحول الروائي إلى مؤرخ، إذ ينبغي أن يكون فناناً إلى أبعد حد ممكن. فالنص سوف يخسر قيمته خسراناً نهائياً إذا ما استحال إلى تاريخ. ولهذا، أملك أن أزعم بأن الرواية التاريخية إنجاز عسير جداً، ولا يقوى عليه سوى الأقوياء، من أمثال تولستوي وسكت.
وثمة مثال جيد على التاريخ الذي لم يستطع أن يصير رواية. وهو نص عنوانه “نابليون في مصر وسوريا”، للكاتب الفرنسي جاك بنوارمشن. إن هذا النص مسرد تفصيلي لحملة نابليون على مصر وفلسطين، وليس فيه من الرواية أي عنصر مهما يك نوعه. والكاتب شديد الإعجاب بالقائد الفرنسي الذي لا يقدم أيّما سبب لإثارة الإعجاب، بل العكس هو الصواب. فمما قد لا يخفى على أي إنسان متوسط الذكاء أن تلك المغامرة مآلها إلى الإخفاق المحتوم، وذلك لأن الإنجليز ضد نابليون، وكذلك الأتراك، ثم الناس في مصر والشام، بل في العالم العربي كله. فكيف يتأتى لشيء أن يحضر دون أن تحضر شروطه؟
ثم إن من حق المرء أن يرتاب في صحة الأخبار المسرودة. يقول النص عن معركة الأهرام التي جرت في تموز سنة 1798، بين جيش نابليون وجيش المماليك: “سقطت نخبة فرسان مراد قتلى. ألفا مملوك وعدد كبير من قادتهم. كانت خسائر الفرنسيين تافهة نسبة لخسائر الجانب الآخر، قدرت للحظتها بأربعين قتيلاً ومائتين وستين جريحاً.” [11]ويبدو أن الفرنسيين كانوا يطلقون رصاصاً حقيقياً، أما المماليك فقد راحوا يطلقون ألعاباً نارية من ذلك الصنف الذي يتسلى به الأطفال.
ومن حسن الحظ أن عبد الرحمن الجبرتي (1754-1822)، المؤرخ المشهور، وهو من احتقر الفرنسيين وأظهر تخلفهم ونوّه بالوسخ الذي يلازمهم دائماً، قد عاصر تلك الأحداث ووصفها بالتفصيل. ولا يذكر الجبرتي عدد قتلى المماليك مع أنه ينوه بأن عدد قتلاهم لم يكن طفيفاً. ولكنه يقول شيئاً مهماً، وهذا هو: “فاستمر القتال نحو ثلاثة أرباع الساعة…” [12]وما دام الأمر كذلك، فإن عدد القتلى ينبغي بالضرورة أن يكون طفيفاً في الجانبين، لأن هذا الوقت الطفيف لا يسمح بوقوع الكثير من الإصابات حتى بأسلحة عصرنا الراهن. فمما لا يجهله كبار العسكريين أن القيادات العسكرية ترسل قطعة من جنودها ابتغاء الاحتكاك بالعدو في صدام صغير هدفه جس نبض العدو والتعرف على مستوى قوته. وأغلب الظن أن ما سمي بمعركة الأهرام لم يكن سوى صدام من هذا القبيل، وقد ضخمها خيال المنتصرين جرياً على عادة البشر في أن يصنعوا من الحبة قبة، كما يقول أحد أمثالنا الشعبية.
وعلى أية حال، فإن أهم ما في الأمر أن “نابليون في مصر وسوريا” ليست رواية تاريخية ولا غير تاريخية، وإنما هي مسرد مبسط لأحداث الحملة الفرنسية على مصر وفلسطين منذ انطلاقها من مدينة طولون سنة 1798 وحتى عودتها إلى تلك المدينة نفسها في أيلول سنة 1801. إنها تاريخ وليست رواية، وذلك نظراً لافتقارها إلى جميع المقومات الفنية التي ينبغي أن تؤلف بنية النص الروائي، ولا سيما عنصر الانفعال الجمالي الذي لا أدب من دونه قط، والذي لا بد لغيابه من أن يترك عالماً فاتراً خاثراً لا يخلب ولا يجذب. ولهذا، فإن ذلك النص بغير قيمة أدبية أو فنية بتاتاً وقد تكون له قيمة بسبب اختزانها لكمية كبيرة من المعلومات التاريخية، إذ ليس لأي عمل أية قيمة جلى إلا إذا أسهم في تعزيز الضمير البشري، أو في إيقاظ الإنسان على إنسانيته، الأمر الذي يتضمن تخليصه من همجيته وتحويله إلى كائن يتدرج على الدرب المؤدي إلى الكمال.
سادساً ـ التاريخ مرة أخرى:
ثمة نص كتبه باللغة الفرنسية كاتب من أصل عربي اسمه أمين المعلوف، وعنوانه «الحروب الصليبية كما رآها العرب» ومن الغرائب أن يزعم ذلك الكاتب بأنه لا يقدم تاريخاً، بل رواية. يقول: “والحق أن ما أردنا أن نقدمه ليس كتاب تاريخ آخر بقدر ما هو، انطلاقاً من وجهة نظر أُهملت حتى الآن، “رواية حقيقية” عن الحروب الصليبية…” [13]وإن لك أن تستهجن هذا الزعم حقاً بعدما تنتهي من قراءة الكتاب، وذلك لأنه مسرد تاريخي وجيز لمائتي سنة من الصراع بين الشرق والغرب، وليس فيه من الرواية أيما عنصر بتاتاً. والطريف أنه عرض شامل جداً ومبسط جداً وموجز جداً في آن معاً. فمن لا يعرف شيئاً عن الحروب الصليبية يملك أن يتعرف عليها خلال يومين أو أقل. وفي الحق أن النص السابق، أعني ” نابليون في مصر وسوريا “، أقرب إلى الرواية من هذا النص الآخر، وذلك لأن الأول له بطل محوري هو نابليون نفسه، أما هذا النص الثاني فتدخل فيه جميع الشخصيات التاريخية التي ظهرت خلال تلك الحروب التي سماها الغربيون باسم الحروب الصليبية.
ثم إن هذا الكتاب لا يخلو من أغلاط في المعلومات. وهنالك غلط كبير لابد من التنبيه عليه عسى أن يصار إلى تداركه في أية طبعة قادمة. يقول النص: ” ترى، من قتل حاكم الموصل عشية الاستعداد للهجوم على الفرنج؟” [14]وهو يعني بذلك أن مودود، أمير الموصل الذي جاء سنة 1113م إلى فلسطين وعبر نهر الأردن فوق جسر الصنبرة، وخاض معركة الاقحوانة ضد الإفرنج وربحها، إن مودود هذا اغتيل عشية الهجوم على الإفرنج وليس بعد ذلك الهجوم. والحقيقة أن العكس هو الصواب، إذ لقد اغتيل مودود، أمير الموصل في الجامع الأموي بدمشق بعد عودته ظافراً من جوار مدينة طبريا. ولا لزوم للاستنجاد بعدد كبير من المصادر التراثية التي تجمع على هذا الحدث، إذ يكفي مصدر واحد هو ” ذيل تاريخ دمشق ” لابن القلانسي الذي كان يعيش في العاصمة السورية نفسها يومئذ. يقول في حوادث سنة 506هـ: ” فمنح الله الكريم، وله الحمد، المسلمين النصر على المشركين، بعد ثلاث كرات، فقتل فيها من الإفرنج تقدير ألفي رجل من الأعيان.” [15]ولا لزوم لمتابعة التفاصيل إذ إن في ميسور المهتم أن يعود إلى ذلك الكتاب ليتأكد بنفسه من حكاية مودود كلها. ولكن أهم ما في الأمر أن علم التاريخ قد حل محل الرواية مرة أخرى. وبذلك خسر النص قيمته الفنية ولم تعد له أية مزية ذات شأن. وربما جاز الزعم بأن العبث بفن الرواية على هذا النحو هو علامة من علائم انحطاط هذا الفن الشديد القدرة على تخريج الماهية الإنسانية ضمن بنية سردية.
ومما هو جدير بالذكر في هذا الموضع أن أمين المعلوف له نص آخر عنوانه “سمرقند”. وهو يزعم بأنه رواية أيضاً، مع أنه شيء لا يشبه سوى المخلوطة المتنافرة العناصر، والنائية عن الفن الروائي إلى حد بعيد. فأحداث هذا النص تدور في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، ثم في القرنين التاسع عشر والعشرين. وهو يكتظ بمجموعة ضخمة من أسماء العلم التي ترهق الذاكرة وتجعل النص شتاتاً، وفي أمس الحاجة إلى نقطة ازدلاف، أو إلى مركز تؤوب إليه جميع التفاصيل. تقول إحدى الشخصيات الثانوية: “نحن في أموك، في فرتشا، في خمين”[16] ، ترى ماذا عساها أن تعني أسماء الأماكن هذه لأي قارئ. وفي الحق أن أمثالها شديدة الانتشار في هذا النص. أليس من شأنها أن تثير في النفس شعوراً بالسأم والنفور بدلاً من أن يخلبها النص ويجذبها إليه بقوة التأثير؟
في النصف الأول من “سمرقند” يتحدث الكاتب بإسهاب عن حركة الحشاشين التي أسسها الحسن الصباح، ولا سيما عن قلعة ألموت وأناسها الذين يحترفون الاغتيال. كما يتحدث عن عمر الخيام وعن مخطوط له يحتوي على رباعياته المشهورة. أما في النصف الثاني فيتمحور النص حول أمريكي من أصل فرنسي اسمه لوساج، ينفق زمناً طويلاً في السعي وراء المخطوط الآنف الذكر. ويشاهد لوساج هذا ثورة أو اضطراباً سياسياً عاشته مدينة تبريز الإيرانية. ولا يدري المرء كيف يتيسر له أن يلحم الشطرين المتباينين أشد التباين في بنية متجانسة واحدة.
وللعقل أن يتساءل: هل يجوز لهذا النص أن يحشر في الروايات وأن تكون له قيمة فنية؟ فمع أن الكاتب مطلع على أدق التفاصيل التاريخية ذات الصلة بموضوعه، فإن حبكة نصه مكتظة ومتشعبة دون جدوى. وربما جاز القول بأن تلك التفاصيل قد أثقلت النص بأعبائها فأحالته إلى ركام يجهل الالتحام. والأهم من ذلك كله أن “سمرقند” نص ليس له جذب أو قيمة لأنه سطح بغير عمق، ولأنه يجهل حقيقة الأدب نفسه، إذ الأدب العظيم أدب جحيمي، أو أدب مكابدة واغتراب، وبحث عن القيم التي من شأنها أن تفعم الروح البشري بماهيته، ولكنه بحث يتم في عالم بغير قيم، على وجه التقريب. وبسبب إشباع الكاتب لنصه بالتفاصيل التاريخية، فإنه لم يعد يتمتع بالحيوية التي لا بد منها لكل أدب عظيم.
وخلاصة الأمر أن الذوق المعافى لا يرضى بأن يدرج هذين النصين في أية فصيلة من فصائل الفن الروائي، مهما يك نوعها.
سابعاً ـ آيفنهو:
لعل رواية “آيفنهو” أن تكون أشهر الروايات التاريخية التي تركها ولتر سكت، مع أنها ليست أفضل رواية بين تلك الروايات. ولقد عملت جملة من المزايا على انتشارها في العالم كله، وكذلك على وصولها إلى السينما. فلقد برهن كاتبها على أنه متمكن من فن الرواية المختصة بالمغامرات الخطيرة التي تتطلب القوة والشجاعة الاستثنائية. ومما هو معلوم أن المغامرات لها جاذبية كالمغناطيس وتأثير إيجابي قوي على نفوس المراهقين والشبان. ففيها جملة من الأفعال الكبرى المؤثرة جداً، ولا سيما المبارزة التي دارت في أشبي، وكذلك إنقاذ ربكا الفاتنة من مختطفيها الأنذال. ولهذا، فقد جاءت الرواية نصاً مشوقاً له كثير من السحر والخلب. وفضلاً عن ذلك، فإنها تنطوي على غرام صادق ونبيل يكنه البطل آيفنهو للآنسة روينا ذات الجمال الأخاذ. وإذ ينتصر الخير في نهاية المطاف، فإن النص يستجيب للغريزة المثالية الراسخة في ضمائر البشر، أو غالبيتهم العظمى. ثم إن الشخصيات التي رسمها الكاتب قد جاءت زاهية، مشرقة، حية، وبعضها مترع بالنبل الإنساني النفيس.
ولكن، وعلى الرغم من جميع هذه المناقب، فإن “آيفنهو” رواية لا تخلو من المثالب. فهنالك ثلاثة مآخذ لا تملك أن تفلت من قبضة الخبير بالفن الروائي:
أولاً ـ إن الحبكة معقدة ومكتظة بالأحداث والشخوص على نحو مر بك. ثم إنها حبكة تعتمد على الصدفة إلى حد بعيد، الأمر الذي لا يسوّغه الذوق المعافى بتاتاً.
ثانياً ـ جاءت الشخصيات أحادية الجانب، حتى لكأن العالم في نظر كل منها ليس له سوى لون واحد فقط.
ثالثاً ـ كثيراً ما يكون الأسلوب متحذلقاً أو متقعراً، مما يخلق شيئاً من النفور في حساسية القارئ.
ولكن ما هو لافت للانتباه كثيراً أن سكت شديد القدرة على رسم الشخصيات النسائية، بل إن الآداب الأوروبية، منذ دانتي وحتى أوائل القرن العشرين، تحسن مثل هذا الإنجاز على نحو شديد النصوع. وللحق أن سكت قد أجاد في رسم شخصية ربكا (أو رفقه) بنت اسحق، المرابي اليهودي، الذي هو واحد من شخصيات هذه الرواية الكبار. ولقد أسرف الكاتب في وصف جمال “تلك الحورية الشرقية”. [17] وربكا ليست خلابة الجمال وحسب، بل هي قوية وحاضرة على نحو استثنائي. فحين يشكو إليها والدها الاضطهاد الذي يتعرض له أبناء ملتها، فإنها تقول: “إننا كالعشب الذي يزداد ازدهاره كلما وطئته الأقدام.” [18]ومع أنه ما من عشب في الدنيا له هذه الصفة، بل مع أن هذه الفكرة زائفة تماماً إلا أنها تضمر حضوراً وعزيمةً ومضاء وقوة في الشخصية ورصانة في البنيان الداخلي.
ولكن بعض النقاد الإنجليز قد اختلفوا بشأن سكت. فلقد أسرف ولتر آلن، الذي هو فعلاً ناقد رواية متميز، في مدحه للرجل، ولاسيما حين قال: ” استوعب سكت، كما لم يفعل أي روائي آخر، تلك العلاقات التي تربط الإنسان بالإنسان، والإنسان بالمكان والإنسان بالمجتمع، والإنسان بالماضي، الماضي التاريخي اللاشخصي.”[19] ولكن فورستر، كما أسلفت عليك، له رأي مخالف لهذا الرأي تماماً. وكثر هم النقاد الذين ساندوا هذا الأخير، كما أن هنالك من النقاد من اتخذ موقفاً وسطاً فحدد قيمة سكت من حيث هو كاتب له ما له وعليه ما عليه.
بيد أن الإنسان الناضج غير ملزم بأي من هذه الآراء المتباينة، إذ إن له أن يقرأ الرجل بمعيار خاص. وربما جاز القول بأن رواية ” آيفنهو ” حصراً هي عمل متوسط القيمة، ليس إلا، وذلك لافتقارها إلى العمق الذي لا تتمتع به معظم الروايات التاريخية، أو قل كمية كبيرة جداً من الروايات جملة.
ثامناً ـ شجرة الدر:
ليس في ميسور أحد أن يؤكد ما فحواه أن جرجي زيدان قد استطاع أن يكون روائياً حقيقياً، مع أنه ترك عدداً كبيراً من الروايات التاريخية أنجزه خلال عمر قصير (1861ـ1914)، ومع أنه، في مجال اللغة العربية، قد كان الرائد الأول لهذا الصنف من أصناف الرواية حصراً. فإذا ما قرأ المرء رواياته وجدها بغير عمق كاف، فضلاً عن أنها لا تتمتع بالقدرة على الجذب والخلب. أما أسلوبها فيكاد يخلو من الانزياح الشاعري أو الفني، الأمر الذي من شأنه أن يجعله أقرب إلى أسلوب الصحافة منه إلى أسلوب الأدب العظيم. وقد لا يخفى على المهتم أن رواياته تشبه بعض قصص ” ألف ليلة وليلة ” أقصد ذلك الجزء الخالي من الخوارق ومن الجان وما إلى ذلك، ولكنها أقل جاذبية أو قدرة على التشويق.
ولنأخذ، على سبيل المثال، رواية “شجرة الدر ” التي تتنقل أحداثها بين مصر والعراق. فشخصياتها الأحادية الاتجاه لا تعرف أي تحول تقريباً. والأهم من ذلك أنها، باستثناء شوكار، لا تترك في المرء أيما أثر عميق، بل سرعان ما ينساها القارئ بسبب نقص في محتوياتها الأصلية. ولكن الكاتب قد برهن على أنه لا يخلو من النفاسة الروحية حين ابتكر شخصية شوكار العاشقة الصادقة ذات المحتوى الأهيف النبيل. فمتى قرأ المرء تلك الرواية، فإنه لا يملك إلا أن يعشق تلك العاشقة نفسها، وعلى نحو فوري، بل إن صورتها سوف تترسب في ذاكرته طوال مدة ليست بالقصيرة. تقول الفتاة الطيبة: “ليست السعادة في قربي من الخلفاء، ولا بالتزوج من أمير أو شريف، وإنما هي في الحب المتبادل.” [20]
وهذا قول تعيده فتاة أخرى اسمها لمياء في رواية ثانية لزيدان عنوانها ” فتاة القيروان ” تقول لمياء: ليست السعادة بالمال ولا في الجاه، وإنما هي في الحب…. ما أجمل الحب وأحلاه.” [21] ولكن لمياء هذه لا تتمتع بأصالة شوكار، إذ إن الاصطناع ظاهر على شخصيتها بكل وضوح. كما أن هذه الرواية الأخرى تحمل جميع المثالب التي تحملها رواية “شجرة الدر ” ولا سيما الحاجة إلى العمق والاعتماد على الصدفة التي لا تدل إلا على وهن مؤكد في بنية النص الروائي.
وأياً ما كان جوهر الشأن، فإن ما تقوله شوكار هو بيت القصيد في الحياة البشرية. ليس في ميسور السلطة أن تصنع للمرء أية سعادة. ويصدق الرأي نفسه على المال والجاه والنفوذ. أما الحب المتبادل، حتى لو لم يأت بشيء سوى الشقاء، فإنه الكاشف الأول لأصالة الروح، أو لوجود الإنسان على الحقيقة في هذه الحياة الدنيا. ففي تلك القصور التي تدور فيها ” حرب الكل ضد الكل ” والتي تفتقر إلى أي دفء عاطفي مهما يك نوعه، يستهجن المرء إذ يصادف فتاة من هذا الصنف الغرامي الطيب السريرة، بل المترع بطهارة الوجدان. أفي ذلك العمار الخراب يحاول الحب الصادق النظيف أن يبني له عشاً يحتوي على الهناء وهدأة البال ؟.
ومما هو جلي أن الحبكة متماسكة ومنطقية ومتسلسلة مع أنها تعتمد كثيراً على الصدفة التي من شأنها أن تحط من قيمة السرد. وفضلاً عن ذلك، فإنها أقرب إلى التاريخ منها إلى الرواية. فهي مسرد أحداث طويل ينأى كثيراً عن تحليل الشخصيات، بل عن كل ما هو عميق. ولعل أهم ما تفتقر إليه تلك الشخصيات، باستثناء شوكار، هو التفرد الذي من شأنه أن يضفي شيئاً من الخصوصية على كل منها. ولا ريب في أن صياغة كل شخصية بناء على مبدأ التخصيص هي مزية من أهم المزايا الصانعة لقيمة أي نص روائي، سواء أكان تاريخياً أم غير تاريخي.
تاسعاًـ الحرب والسلام:
تكمن الأهمية الاستثنائية لرواية ” الحرب والسلام ” التي هي واحدة من خيرة روايات تولستوي، في أنها استطاعت أن تجعل من الرواية ملحمة تملك أن تدمج العناصر المسرودة بتحليل الشخصيات أو بالتعرف على السرائر العميقة من خلال فهم حدسي للنفس البشرية. فهي تمزج الداخل بالخارج، أو النفس بالمجتمع والتاريخ على نحو لم يعرف له مثيل من قبل. ولعل أهم ما في أمر هذه الرواية أن يكون ذلك الجهد الصادق المبذول من أجل معالجة المعضلات الجسيمة المزمنة والمستعصية على جميع الحلول، ولا سيما معضلة الشر ومعضلة الأنانية التي ينبع منها الشر. ولهذا فقد وصفه أحد النقاد بأنه ” مزيج من الذكاء والخيال وسمو الهدف الجاد، وحدة الفكر والعواطف فتستهوي روايته العقل والقلب معاً…”[22]
وليس ثمة سوى وجه شبه واحد بين رواية ” الحرب والسلام ” وبين الإلياذة أو الإنياذة، وهو أن هذه الأعمال الثلاثة هي من فصيلة الأدب الملحمي. بيد أن رواية تولستوي أقوى بكثير من أي من الملحمتين الأخريين، وذلك نظراً لنزعتها الإنسانية الشاملة، بينما تبقى الإلياذة والإنياذة مكرستين لما هو قومي أو محلي. فلعل مما هو ناصع تمام النصوع أن السمو الروحي هو الموضوع المركزي لهذه الرواية العظيمة. أما المثنوية الكبرى التي تحكمها فهي مثنوية الأثرة والإيثار، أو الأنانية والغيرية.
ولعل في وسع المرء أن يلاحظ بيسر كم بذل الأمير أندريه من جهد في سبيل البلوغ إلى فحوى الحياة وقيمتها، وما تدخره من محتوى نفيس يماهيه الكاتب مع الحب الذي يراه نقيض الحرب بل جوهر الوجود البشري بأسره. وبهذه القيم الأخلاقية النبيلة تميزت هذه الرواية وصارت أفضل من جميع الروايات التاريخية الأخرى دونما استثناء. ومما هو مؤكد أنها بنية شاسعة أو شديدة الاندماج، وأن صورة المكان هي الأطغى على مجمل مساحتها العملاقة، ومع ذلك فإنها عمل أدبي أخلاقي بالدرجة الأولى. فمما قد لا يرفضه أحد أن سعتها النادرة، وكذلك حضور المكان فيها على نحو مهيمن، من شأنهما أن يسهما في إضفاء القيمة والمزية على هذه الرواية الرائعة. ولكن عامل المزية الأول هو المحتوى الأخلاقي الذي ينسجها سداة ولحمة، إذ تتلخص الفكرة التي يعرضها النص برمته في أن مناقب الأخلاق هي التي انتصرت على الشر الذي يسمى نابليون.
ليس بالصدفة أن يظهر القائد الفرنسي في هذه الرواية بوصفه كائناً أنانياً لا يفكر إلا في أن تكون له المكانة الأرفع خلال حياته، وإلا في أن ينال الخلود بعد مماته. فمما هو واضح أن تولستوي لم ينظر إلى نابليون بإعجاب، كما فعل كثير من المثقفين الأوربيين عهد ذاك، ولا سيما هيغل الذي رآه بوصفه ” الفكرة، أو روح العالم، وهي تركب حصاناً ” [23] إن نابليون عند ذلك الكاتب الروسي الفذ هو التجسيد المرئي لقوة الشر المزمنة. ولهذا فقد عدّ انتصار الشعب الروسي على نابليون سنة 1812 انتصاراً للخير على الشر وللعدالة على الظلم. وهذا يعني أن صاحب ” الحرب والسلام ” يتحسس التاريخ والحياة معاً، وما من أدب ذي قيمة إلا حيثما راح الإنسان يتحسس تجربته الشاملة أو جملة وجوده الحي. فإما أن يجيء الأدب من الحساسية العميقة السليمة، وإما ألا يجيء من أي ينبوع آخر بتاتاً.
ثم إن تولستوي ذا الرؤيا الشاسعة والعميقة في آن واحد قد أومأ إلى أن ذلك النصر هو الإنجاز الكبير الذي أنجزته البنية الأخلاقية للشعب الروسي. ولقد بلغت تلك الرواية أوجها عندما انتصر الروس على الغازي الضيق الأفق الذي يتنطع لمهمات لا يملك أن ينهض بها قط. وكأن تولستوي يريد أن يقول بأن من شأن الحكمة أن تغلب التهور والطيش. ولا يخفى البتة أن موقف تولستوي من نابليون هو النقيض التام لموقف كل من هيغل وبنواـ مشن الآنف الذكر.
ولهذا كله، فإن مما يقبله الكثيرون دون تحفظ أن رواية ” الحرب والسلام ” هي إنجاز من أعظم الإنجازات التي حققها الذكاء البشري بوصفه حساسية وحضوراً نبيهاً في عالم يتوتر باستمرار، فشخصياتها متغيرة دون توقف، وهذا يعني أنها تجسيد للصيرورة والدينامية، بل قل إنها منسوجة من جوهر الحركة نفسها. ومع أنها كائنات قلقة مضطربة وملهوفة واستطلاعية، فإنها مرنة إلى حد بعيد. وتتبدى هذه المرونة حين تنتقل تلك الكائنات الروائية من الموقف إلى ضده عندما يتبين لها أنها ليست على صواب. ولعل مما هو واضح أنها تحيا على هذا النحو الموار بسبب الاضطرابات التي تعاني منها في سرائرها العميقة. فكم أصاب تشيرنيشيفسكي، الناقد الروسي الثوري، حين رأى أن “الصفة الأصلية لتولستوي تكمن في قدرته على الكشف عن ديالكتيك الروح.”[24]
إذن، يحق للمرء أن يزعم بأن شخصيات هذه الرواية من شأنها أن تترسخ في الذاكرة متى دخلت إليها، ولا سيما شخصياتها الثلاث الكبرى: الأمير أندريه وبيير وناتاشا. فالأمير مهموم باكتشاف معنى الحياة، وكذلك بالتنقيب عن غاية ترنو إليها البشرية على الدوام. وبيير معنيّ بأن يجد لنفسه وظيفة ترخم وراء غرائز الجسد. وبفضل قلقه هذا، فإنه ينمو دون أي توقف. أما ناتاشا التي هي الحيوية والحركة ما ثلة للعيان، بل قل الحراك الذي يتوق إلى السكون، ما دامت تحن إلى الأمومة، فإنها الشخصية المركزية في رواية “الحرب والسلام”. والأهم من ذلك حقاً أنها التجسيد المثالي للإنسان في سعيه وراء المثل الأعلى. ولهذا، فإن كل من اقترب من ناتاشا يكسب شيئاً من الدفء الروحي الصادر عن ينبوع سري يتدفق من سريرتها الخصيبة الطاهرة. وبفضل حيويتها وصدقها وغناها الروحي وانسجامها الباطني، فإنها تملك أن تؤثر في الآخرين تأثيراً لا يملك أن يمارسه أي إنسان آخر.
فمن البديهي، إذن، أن يؤكد المرء على أن هذه المزايا مجتمعة هي التي جعلت من “الحرب والسلام” رواية تاريخية متميزة جداً، أو ذات قيمة عظيمة ومقدار جليل. ففي الحق أن سمات القوة التي تتمتع بها لم تتوفر لأية رواية تاريخية أخرى، بل إن من النادر أن تجد رواية تضاهي هذه التحفة العظيمة، ناهيك بأن تبذها. ولقد أصاب الدكتور سامي الدروبي، مترجم تولستوي، حين وصف هذه الرواية النفيسة بأنها “نشيد يتغنى بالحياة، وما من كتاب يزيد عليها اضطراماً بالحيوية، ففيها تنبض روسيا البطولة الهادئة، في معارك ومشاهد عائلية، في آلام وأغان. إنها إلياذة وأوديسة روسيا.” [25]
وبإيجاز، إن هذه الرواية الباذخة هي نتاج حي لحساسية حية عارمة، أو لا هدف لها سوى العلو أو نظافة الروح ونبل مقاصدها. وما من أدب متميز إلا وهو نتاج لحساسية أصلية ومعافاة في آن واحد. ولقد أدرك شكلوفسكي لباب أدب تولستوي، بل نواة ذلك الأدب عندما قال: “عظمة تولستوي هي في تبيانه أن ما هو إنساني بصورة حقيقية لا يدخل ضمن مشاغل اليوم الاعتيادي.” [26]
عاشراً ـ خاتمة:
ما أود التأكيد عليه قبل الانتهاء من هذه العجالة هو جملة من المبادئ لعلها أن تقبل التلخيص على النحو التالي:
أولاً ـ لا يكفي أن تجري أحداث الرواية في الماضي كي تعد رواية تاريخية، لأن الرواية التاريخية لا بد لها من أن تكون متينة الصلة بسياسة عصرها وحروبه وثوراته، أو توتراته الاجتماعية. ولعل في الميسور أن تأخذ رواية “الحرف القرمزي” لهورثون كمثال على هذا المذهب. فالأحداث التي يسردها الكاتب يفترض أنها قد جرت قبل زمن الكتابة بمائتي سنة أو زهاء ذلك. ومع هذا فإن ذلك النص الأدبي المتميز ليس رواية تاريخية بأي حال من الأحوال، لأنها لا تتعرض للسياسة ولا للحرب، وشخصياتها ليست شخصيات سياسية أو عسكرية، أي هي ليست شخصيات تاريخية قط.
ثانياً ـ لا يجوز للروائي أن يسرد وقائع تاريخية خالصة وأن يزعم بأن الذي يقدمه هو رواية تاريخية، مثلما فعل بنوار مشن في “نابليون في مصر وسوريا”، ومثلما فعل أمين المعلوف في “الحروب الصليبية كما رآها العرب”، وذلك لأن إحلال التاريخ محل الفن الروائي هو فعل لا يتمتع بأية قيمة بتاتاً.
ثالثاً ـ لا بد للرواية التاريخية من شخصيات مبنية بناء فنياً، أي شخصيات لها أعماق نفسية لا تقاس إلا حدساً وحسب. ومن دون ذلك فلا قيمة للنص الروائي بتاتاً، إ إن العمق في الأدب هو القيمة، بل هو كل شيء على الإطلاق. جزماً، إن الجوهر والعمق هما اسمان لشيء واحد بعينه.
رابعاً ـ ما من مسوّغ يسوّغ الرواية التاريخية، أو يمنحها القيمة العالية، إلا إذا استطاعت الشخصيات أن تتمثل روح زمانها ومكانها تمام التمثل، وأن تحافظ في الوقت نفسه على هويتها الإنسانية الكلية، أي أن تلحم الآني والديمومي في ملغمة واحدة. إن هذه الفكرة هي بيت القصيد في كل رواية تاريخية تبتغي أن تكون لها قيمة كبيرة ومقدار جليل.
لقد نجت رواية “الحرب والسلام” من أن تكون مسرداً تاريخياً وحسب، كما أن شخصياتها عميقة الأغوار وشديدة القدرة على أن تملي احترامها على القارئ. وهي تتمثل روح زمانها ومكانها وتجسده، كما أنها تشع ماهيتها الإنسانية على مناخ النص كله. ولهذا فإنها تتمتع بقيمة جلّى، بينما لا تتعدى بقية الروايات التاريخية المرتبة الوسطى، بل هي قلما تصلح لشيء سوى التسلية أو تزجية الوقت. فالضحالة هي الداء الأكبر الذي تعاني منه الآداب منذ فجر التاريخ حتى اليوم. وبسبب ضحالة تلك الروايات فإنها تخلق في المرء شعوراً فحواه أنه يتجول على سطوح الأشياء وليس في أغوارها، أو أنه يقتات باللحاء بدلاً من اللباب. وكل أدب من هذا الفصيل لا يتمتع البتة بأية قيمة عظمى.
ولهذا ينبغي التأكيد على أن من واجب الرواية التاريخية، إذا أرادت أن تحوز على قيمة باذخة، أن تعمد إلى تصوير هذا الجحيم الجاحم الذي يسمى التاريخ بوصفه مذبحة ديمومية مستمرة منذ آلاف السنين وحتى يوم الناس هذا. فالتاريخ، تماماً كما صوره شكسبير، هو فجيعة أو مأساة ما زالت تصنعها الأمم اللاحمة حين تفترس الأمم المغلوبة على أمرها. وهي تفعل ذلك دون أي شعور بالحياء، بل هي تفعله وتفتخر بأنها قوة شرسة أ و مفترسة، كالوحوش سواء بسواء.
وفي الحق أن العالم اليوم قد تطرف في الاتضاع والتسفل بحيث صار حظيرة مواشٍ لا تصلح لاستضافة روح الإنسان، بل هو لا يصلح لغير القراصنة والمجرمين؛ ولهذا فإن من واجب الأدب أن يتحمل مسؤولية إيقاظ الإنسان من سباته وانتزاعه من حياده، وذلك ابتغاء دفعه نحو الانحياز إلى الخير ضد الشر، ولكن بعد إنضاج وعي البؤس والشقاء في وجدانه وضميره، ثم تنمية الإحساس بالعار، أو الشعور بالخجل من هذا الوضع البشري الزريّ الخسيس.
وتندرج في هذا المذهب فكرة خلاصتها أن على الرواية التاريخية، إذا ما ابتغت العلو، أن تهتم أشد الاهتمام بتصوير الإنسان المكتسح الذي تجتاحه القوى الهاتكة الفاتكة التي، إذا عربدت، لا يشكمها شيء قط، بل لا تملك أية قوة أن تحول بينها وبين الاندلاع فالاجتياح. كما أن عليها أن تستهجن تحمل الإنسان لتاريخه البائس الكئيب. كيف استطاع البشر أن يطيقوا وجودهم في جوف هذه الملحمة الضارية الدامية؟ ترى، هل يجوز الزعم بأن الإنسان ما وجد إلا ليتحمل ويطيق؟ هل يفضل الشقاء الجهنمي على الانقراض أو على الذوبان في العدم؟ إن إحالة التاريخ إلى فلسفة عن الإنسان هي الوظيفة الكبرى للرواية التاريخية، كما أنها أحسن الوسائل لإضفاء القيمة على هذا الصنف الروائي نفسه. ومما هو جلّي أن هذه الفلسفة وهذه الأسئلة الوجودية المنبثقة من أسّ الكينونة، لا تدخل البتة في اختصاص المؤرخ الموضوعي النزوع والدائم التملص من الميول الذاتية، ولكنها تربض في مركز اختصاص الإنسان الحساس، الذي هو وحده الإنسان على الأصالة، والذي يؤمن جازماً بأن الفن أسمى من العلم بما لا يقاس.
[1] ـ عادل العوّا، “القيمة الأخلاقية”، الشركة العربية للطباعة والنشر، دمشق، 1965، ص44.
[2] ـ نفسه ، ص 69.
[3] ـ مجموعة من المؤلفين، “تاريخ الآداب الأوروبية”، ترجمة صياح الجهيّم، وزارة الثقافة، دمشق، 2002، الجزء الثاني، ص191.
[4] ـ نفسه ، ص192.
[5] ـ البيريس، “تاريخ الرواية الحديثة”، ترجمة جورج سالم، منشورات عويدات، بيروت، الطبعة الثانية، 1982، ص43.
[6] انظر, E. M. Forster, “Aspects of the novel”, Pelican, London, 1971, P.38.
[7] ـ ابن عربي، “الفتوحات المكية”، المجلد الثاني، دار صادر، بيروت، بلا تاريخ، ص48.
[8] ـ فيرنون هول، “موجز تاريخ النقد الأدبي”، ترجمة محمود مصطفى وعبد الرحيم جبر، دار النجاح، بيروت، 1971، ص20.
[9] ـ جورج لوكاتش، “الرواية التاريخية”، ترجمة الدكتور صالح جواد الكاظم، وزارة الثقافة والفنون، بغداد، 1978، ص68.
[10] ـ نفسه ، ص274.
[11] ـ جاك بنوا ـ ميشن، “نابليون في مصر وسورية”، ترجمة ميشيل خوري، دار ورد، دمشق، 2002، ص53.
[12] ـ عبد الرحمن الجبرتي، “يوميات الجبرتي”، الجزء الأول، دار المعارف بمصر، بلا تاريخ، ص52.
[13] ـ أمين معلوف، “الحروب الصليبية كما رآها العرب”، ترجمة الدكتور عفيف دمشقية، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الثانية، 1993، ص9.
[14] ـ نفسه ، ص120.
[15] ـ ابن القلانسي، “ذيل تاريخ دمشق”، تحقيق الدكتور سهيل زكار، دمشق، 1983، الطبعة الأولى، ص295.
[16] ـ أمين معلوف، “سمرقند”، ترجمة الدكتور عفيف دمشقية، دار الفارابي، بيروت، بلا تاريخ، ص 295.
[17] ـ ولتر سكت، “آيفنهو”، ترجمة نخبة من الأساتذة، دار أسامة، دمشق، 1998، ص72.
[18] ـ نفسه ، ص98.
[19] انظر, ـWalter Alan, “The English Novel”, Pelican, London, 1970, P.120.
[20] ـ جرجي زيدان، “شجرة الدر”، دار الجيل، بيروت، بلا تاريخ، ص146.
[21] ـ جرجي زيدان، “فتاة القيروان”، دار الجيل، بيروت، بلا تاريخ، ص38.
[22] ـ ر. ف. كريستيان، “تولستوي، مقدمة نقدية”، ترجمة عبد الحميد الحسن، وزارة الثقافة، دمشق، 1983، ص149ـ150.
[23] ـ عبد الرحمن بدوي، “حياة هيغل”، المؤسسة العربية، بيروت، 1980، ص62. وراجع أيضاً فرانسوا شاتليه، “هيغل”، الطبعة الثانية، وزارة الثقافة، دمشق، 1976، ص31.
[24] ـ ف. ع. أدينكوف، “فن الأدب الروائي عند تولستوي”، الألف كتاب الثاني، ترجمة الدكتور محمد يونس، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، بالاشتراك مع دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1986، ص151.
[25] ـ سامي الدروبي، “الرواية في الأدب الروسي”، دار الكرمل، دمشق،1982،ص85.
[26] ـ ف. ع. أدينكوف، “فن الأدب الروائي عند تولستوي”، مرجع سابق، ص208.