مملكة الغرباء

الرواية: مملكة الغرباء – الكاتب: الياس خوري

الناشر: دار الآداب – الطبعة الأولى عام 1993 – الطبعة الثانية عام 2007

أزعم أنه لا يُمكن قراءة رواية الياس خوري (مملكة الغرباء) إلا دفعة واحدة فهي عبارة عن نص متكامل بلغة شعرية عالية، ولو سمحت لنفسي أن أضع لها عنواناً آخراً لكان (الحكاية). إذ تتكرر كلمة الحكاية مراراً في الرواية. تنتهي الرواية بسطرين: هل هذه الأرض التي اسمها فلسطين هي مُجرد حكاية تسحرنا بأسرارها وطلاسمها؟ ولماذا حين نستمع إلى هذه الحكاية لا ننام … بل نموت.

ليس هناك حبكة في الرواية أو شخصية رئيسية سوى فلسطين والحب والذكريات، والكاتب يكتب بدون خط واضح أو رئيس (كما الكثير من الروايات) بل يترك تداعي الذكريات يتدفق عفوياً في ذاكرته. يكتب منذ البداية (وأنا أشم رائحة الذكريات). يحكي عن الحب كأنه يحكي عن فلسطين، هو يحب امرأة التقاها وهو عائد من غور الأردن، (رائحتي مبلله بالتعب وعلى رأسي غبارُ من أرض فلسطين) وفي تلك الليلة روت له حبيبته الحكاية، أو يشك أنه هو الذي روى لها الحكاية، يقول (لا أعرف لماذا لا يتوقف العشاق عن رواية حكاياتهم التي يعرفونها، وأن الناس حين يروي بعضهم حكاياتهم لبعض، يحولون الماضي إلى حاضر، وأن القصص لا تكون إلا بوصفها ماضياً يحضر الآن).

ما كتبه الياس خوري عن الحب والمرأة والجنس ساحر: (كنتُ أعتقد أن المرأة تُؤخذ من خارجها إلى داخلها وأنك حين تنام مع امرأة فإنك تدخلها، أما هي فلم … كنا معاً دخلتها ولم أدخل كأنني لم أدخل، كنتُ إلى جانبها ومعها وبها. جاء الجنس وكأنه ماء يسيل، كأنه امتداد لجسمي وجسمها، كأنه لا دخول ولا خروج، كأنه منام) يتساءل الكاتب: عم أكتب؟ حكايتان أو ثلاثة، لست أدري كم عددها ولا أعرف لماذا تترابط حين أرويها، كل النساء يسميهم الياس خوري (مريم). يحكي الكاتب عن فوزي القاوقجي الذي كان قائد جيش الإنقاذ في السبعين من العمر التقاه الياس خوري في مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت وكانت زوجته ألمانية بيضاء وممتلئة، فوزي القاوقجي صدق الحكاية بأن (علي – شاب فلسطيني) كان يركض تحت القذائف في أزقة مخيم شاتيلا المُحاصر، هل كان علي يعرف أنه سيصير بطلاً وستصير حكايته حكاية؟ ويفترض الكاتب أن (علي) لو كان حياً كان ليقول: لنفترض أنني أقف ومعي مجموعة من الناس، في مركز الأبحاث الفلسطيني نفسه، الذي حولوه إلى مقبرة بعد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 حين نسفوه بسيارة مُفخخة فمات الكثيرون وبقيت أشلاء الموتى في شارع (كولومباني) ثلاثة أيام قبل أن يأتي عمال التنظيفات ويرشوا الحي بالماء والمبيدات. لنفرض أن علياً عاد كما كان ماذا سيروي؟ هل يجد متسعاً في الذاكرة ليميز بين معارك أيلول 1970 في الأردن، وبين حصار مخيم شاتيلا في بيروت عام 1985؟

سألته مريم: لماذا تصدقون؟ وأجاب: (لا أعرف نصدق لأننا نشعر بالهزيمة، المُنتصر معني بالحقيقة لأنه يريد أن يُسيطر على الماضي والمستقبل وأما نحن؟ سألت مريم: نحن ماذا؟ قال: لم ننهزم بعد سألته: وماذا تسمي ما يجري؟ قال: هزائم، لكنني لا أستطيع أن أصدق. مريم: لا تصدق لأنك مهزوم، تصدق حكاياتك وتنسى الحقيقة.

ثمة تماهي في رواية (مملكة الغرباء) بين الحب والموت والبطولة وفلسطين والشهداء، يتركون في النفس الإحساس نفسه والألم نفسه، ويحضر الموت بقوة الحياة، يصف الموت بأنه ذبول في العينين. فجأة تذبل العيون كما تذبل الزهور. العين زهرة الجسد، العين ملجأ الروح.

نيويورك 1981 :

كان الياس خوري في نيويورك يعد بحثاً أكاديمياً عن الحكايات الشعبية الفلسطينية ويبحث عن شخصية (جرجي الراهب) وفي نيويورك التقى (إميل آزاريف) هو أول رجل إسرائيلي التقاه في حياته. قدم (إميل آزاريف نفسه بوصفه طالباً إسرائيلياً يعيش في نيويورك ودعا الياس خوري لحضور فيلم قصير أخرجه أحد أصدقائه عن (كندا بارك) في القدس أي عن القرى الثلاث: عمواس، وبيت نويا ويالو، التي دمرها الإسرائيليون فور احتلالهم الضفة الغربية عام 1967وحولوها إلى (كندا بارك) من أجل توسيع مدينة القدس.

ولأن الرواية هي إعطاء كل الحرية للذاكرة أن تتنقل في المكان والزمان وسرد الحكايات، تعود ذاكرة الكاتب إلى عمان وعلى ضفة البحر الميت التقى صديقه (إيميل آزاريف) ومن عمان ذهبنا إلى الغور، إلى نهر الأردن، حيث بدأت معموديتنا بالماء والروح والدم. كان المسيح في كل مكان. يقف وسط المياه الضحلة التي حول الإسرائيليون مجاريها، فصار النهر كمجرى صغير موحل، وهناك في المجرى الصغير الموحل رأيت المسيح.

ما هي الحقيقة سألتني مريم؟ أجبت: الحقيقة هي لقاء كذبتين. هل تستطيع كذبتان أن تلتقيا فوق أرض واحدة لتعطياها حقيقتها؟ سألت مريم: أي كذبتين؟ قلت: إميل والراهب. ردت: وفيصل؟ أجاب: فيصل لا، إنه المنام، إنه الحكاية التي أحاول أن أرويها. مريم: لكنك تروي حكاية أخرى؟

ما حكاية المريمات؟

سبع مريمات أحطن بالمسيح في حياته القصيرة.

مريم أمه التي ولدته ملفوفاً بالكفن، ومات فخلع الكفن، ومريم أخت لعازر، ومريم المجدلية، ومريم أم يعقوب، ومريم كلوبا، ومريم أم يوحنا مرقص، ومريم الأخرى.

هل تعرف مريم ماذا تعني مريم؟

إنها تعتقد أن مريم اسم ككل الأسماء، وهو يُحيل على النساء اللواتي أحطن بالمسيح. لكن مريم شيء آخر، إنها إسم مليء بالمعاني، مريم تعني العاصي، إنها كلمة عبرية تعني العاصي. مريم الأولى عصت المسيح (تقول الحكاية) ومريم الثانية قبلته (تقول الحكاية)، لكن أين العصيان الحقيقي في الرفض أم في القبول؟

رائع ما كتبه الياس خوري عن أهمية الألحان البيزنطية، ونظريته في أن الكنيسة الشرقية لم تضمحل في العالم العربي بفضل الموسيقى، وأن الموسيقى البيزنطية تمتلك ميزة الخلود، لأنها تحمل إيحاء بأنها ليست من صنع بشري، إنها موسيقى تتداخل فيها بساطة الإنسان وعظمة الموت.

ماذا أكتب؟ أين الخلل في هذه الحكاية؟

المفاجأة كانت أنني في بحثي داخل مكتبة جامعة كولومبيا في نيويورك عثرت في صحيفة كانت تدعى (القدس) على وصف لحادثة مقتل الراهب (جرجي خيري الدوماني) اللبناني وكتبت الصحيفة في عدد 17 أيار عام 1946أنه عثر على جثة الراهب قرب (باب العمود) في القدس وهي مصابة بعشر طلقات، إذا ما روته لي المرأة الفلسطينية لم يكن حكاية شعبية، كان حادثة حقيقية. هنا يُطرح السؤال: كيف أتعامل مع حكاية الراهب اللبناني؟ هل أعيد تنظيم رواية المرأة الفلسطينية بحسب اقتراح (فلاديمير بروب) بشأن الحكايات الشعبية، أم أبحث عن الحقيقة؟ وكانت مريم تسخر مني دائماً حين أخبرها أنني أبحث عن الحقيقة. كانت تعتقد أنني لا أبحث عن الحقيقة إلا من أجل

 كتابتها، وعندما نكتبها نخونها ونحولها إلى حكاية.

ومريم معها حق، لكن ماذا نفعل غير ذلك؟

أشياء كثيرة قيلت عن جرجي الراهب، لا أحد يدري هل صحيح كان يغتصب الفتيات هو وأفراد عصابته، أم كان رجلاً تقياً زاهداً؟ الحكاية تقول إنه وُجد مقتولاً قرب (باب العمود) ما عدا قصة موته فكل المعلومات المتوفرة عنه غير مؤكدة.

في الحقيقة جرجي الراهب لم يكن يعذب اليهود أو يقتلهم في غرفته الصغيرة التي استأجرها في (حي النصارى) في القدس وكان يُعامل لا بوصفه كاهناً بل مجنوناً. جنونه هو الذي جعل البعض يصدق حكاية تعذيب اليهودي أو حكايات الاغتصاب، وأما قيادته لعصابة تعمل في الجليل فهو أكثر الاحتمالات قرباً من التصديق.

كان جرجي الراهب يحمل صليباً كبيراً، ويمشي يوم الخميس العظيم في شوارع المدينة المُقدسة والصليب مُعلق على ظهره، وعلى الصليب كُتب بخط رديء هذه الجملة: (هذا صليب العرب الذي سيحملونه مئة سنة)

من أين جاء الخبر في الجريدة؟ وكيف تحول الراهب إلى حكاية؟ ومن أخبرني الجزء الآخر من الحكاية الذي لم تروه المرأة الفلسطينية. الحكاية كما روتها لي امرأة في مخيم (المية ومية) قرب صيدا. وصل الياس خوري إلى دوما ليبحث عن حقيقة الراهب اللبناني (جرجي الراهب) لكنه وجد حكايات أخرى، فقرر أن بداية الحكاية هي كتابتها، وأن القديس يوحنا حين بدأ إنجيله بعبارة (في البدء كان الكلمة) لم يكن يقصد بالكلمة (اللوغوس) اليوناني كما هو شائع، بل كان يقصد الكلمة المكتوبة، كان يقصد المسيح كونه كلمة مكتوبة على الصليب، لذلك حمل الراهب صليبه ليُبشر العرب بسنوات القهر المئة. مثل (كمال ناصر) الشاعر الفلسطيني الذي قتلوه في بيته في بيروت عام 1972وصلبوه على الأرض وأفرغوا الرصاص في فمه.

جرجي الراهب:

مع جرجي الراهب المسألة مُختلفة. نحن أمام خبر صغير في صحيفة. النص الخبري لا يقول الكثير. يقول فقط أن الرجل قُتل بالرصاص. كما أننا أمام حكاية شفهية روتها امرأة كهلة في مخيم ( المية ومية ) فماذا نختار ؟

احترت في الأمر كثيراً. من المؤكد أن جرجي الراهب لم يكن يقوم بخطف جندي يهودي ليلة الجمعة العظيمة. فمسألة خطف رجل يهودي في الأربعينيات، وفي مدينة القدس كانت مستحيلة عملياً. غير أن قصته بقيت في الذاكرة الشعبية بسبب هذا الافتراض. أي أن حياة قصة الراهب اللبناني مرتبطة بحدث لم يقم به. إنه مدين بحياته الحكائية للخيال الشعبي. ولذلك فإن حذف هذه الحادثة من القصة كي لا يتهمني السيد (إميل آزاريف) باللاسامية، سوف يبدو غير عادل بالنسبة للحكاية، بينما هو ضروري من أجل الحقيقة.

هل أحذف سبب بقاء الحكاية؟ أم أحذف الحقيقة؟ أم أحذف الحكاية بأسرها وأتخلى عن كتابتها؟ أم أكتبها ناقصة؟ ماذا إذن؟

لكن بعد لقاءاتي مع أناس كثيرين من أصول مقدسية أكدوا لي أن الراهب جرجي هرب من دير (مار سابا) وتحول إلى زعيم عصابة جمع حوله بعض الفتيان وأنشأ عصابة الجليل التي كانت تقوم بنهب قوافل المُهربين وتوزيع الغنائم على فقراء الجليل وجنوب لبنان، وصارت (عصابة الراهب) كما كانت تُدعى مرهوبة الجانب من الجميع، إلى درجة أن أحد زعماء المهربين وكان يُدعى أحمد الخواجة عقد صفقة مع الراهب صار يدفع بموجبها فدية عن كل قافلة، كي يأمن شرها. كان الراهب وجماعته يحملون السلاح ولكنهم لم يستخدموه مرة واحدة وكان جرجي الراهب بثوبه الرهباني الأسود وبندقيته الإنكليزية، يرى نفسه على صورة المسيح، حاملاً سوطه ليطرد التجار من الهيكل.

(البندقية هي سوط المسيح، هكذا كان يعتقد الراهب ولذلك لم يُطلق النار إلا في الهواء) ويوم الخميس العظيم حمل الراهب صليباً كبيراً ومشى في شوارع القدس وهو يصرخ بأنه يحمل صليب العرب، ووصل إلى أطراف الحي اليهودي في المدينة حيث رُجم بالحجارة، وبعد ثلاثة أيام على هذه الحادثة قُتل الراهب، وقيل إنه كان مجنوناً وإنه وإنه ….

لكن في الماضي كان هذا النوع من الحكايات يُنسى ويُترك للزمن. فيقوم الزمن بإعادة صياغتها وتحويلها إلى ما يُشبه الأسطورة، أو إلى حكاية شعبية على أقل تقدير. وفي الأسطورة تتجمع عناصر اللاوعي الفردي والجماعي، وأما في الحكاية الشعبية فإن هذه العناصر تتحول إلى رموز تخاطب اللاوعي، ومع الزمن تتحول إلى حكايات للأطفال.

لكننا اليوم نعيش في عصر التدوين. أي أننا ندون الحادثة فور وقوعها لذا نلغي احتمالات أسطوريتها.

رواية (مملكة الغرباء) للعظيم الياس خوري نثر شعري مؤثر مسكوب كأنه رسالة طويلة أو حكايات، ورغم المجازر والمآسي فإن الحب يشف خلف الكتابة، حب الوطن والمرأة والعدالة. وأختم بما بدأت به ومن كتابة الياس خوري على الغلاف الأخير للرواية:

هل هي مريم الجالسة على أطراف غور الأردن

ننتظر الغريب الذي يقتله الغريب؟ أم هي الحكاية؟

هل هذه الأرض التي اسمها فلسطين هي مجرد حكاية

تسحرنا بأسرارها وطلاسمها؟

ولماذا حين نسمع إلى هذه الحكاية لا ننام بل نموت؟

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …