لئن كانت في البدء الكلمة، فلقد كانت، بدئياً، ضدَ القمع، تناضل وتثابر في رفض الظلم، وللحب كانت في قلب الإنسان، تؤسس في فعل التغيير معناها، وتجود بالجميل يحتج على قبح العالم في نظم الاستبداد”
مهدي عامل
في الذكرى السنوية العشرين لاغتيال غسان كنفاني، احتفلت المؤسسات الثقافية الفلسطينية بهذه الذكرى، كما هي العادة في كل عام. عقدت الندوات وقدِمت الدراسات الأدبية، ونشرت الصحف والدوريات عددا من المواضيع التي تتعلق بالأديب الراحل.
كان لمؤسسة غسان كنفاني الجهد الأكبر في هذا المجال، كما يعود الفضل لها بجمع آثاره وطباعة القسم الأكبر منها، لتعريف القارئ العربي بإبداعات الراحل وأعماله الثقافية والفكرية المتعددة والمتنوعة.
وفي مناسبة الذكرى ذاتها (8 تموز 1992)، نشرت الأديبة غادة السمان كتابا يحتوي رسائل غسان اليها، واعتبرت ذلك تكريماً لغسان، وتعريفاً بأحد جوانب حياته، وإخراجاً لتلك الرسائل من حيزها الخاص لتكون ملكاً للقارئ العربي، ولتؤسس بذلك، أو تسهم في الإضافة إلى لون جديد في الأدب لم يترسخ بعد في بلادنا، هو أدب المراسلات، أدب” الاعتراف”، حسب مصطلح غادة، (الذي اعترضت عليه واستبدلت به” أدب البوح”، وهو ما ذكرته في دراستي عن الرسائل وأدب غسان، ونشرته في كتاب بعنوان: غسان كنفاني: تكامل الشخصية واختزالها. دراسة نقدية في جوانب من أدبه ورسائله. 1993).
جرَاء ذلك – نشر غادة لكتاب الرسائل، اعترضت مؤسسة غسان الثقافية على نشر غادة للرسائل، لناحيتين: الأولى أنه لا علم لها بموضوع النشر، والثانية رفضها أن يكون ريع الكتاب عائداً إليها حسب ما أشارت غادة في الكتاب.
لم تقف القضية عند هذا الحد الذي وضعته المؤسسة في بيانها، بل أخذت بعداً سجالياً نقدياً حامياً على صفحات الجرائد وفي المطبوعات الأدبية الدورية الصادرة في عواصم عربية مختلفة.
لقد برز في هذا المناخ السجالي النقدي، أدبياً وفكرياً، نسق من المقولات المتعلقة بقضايا :
” الأدب- السياسة- الحرية- المرأة – الحب- الحقيقة… الخ”. الأمر الذي أبرز دلالات مخاض عسير للثقافة في المجتمعات العربية، كما وأشَر إلى جوانب من أزمة الوعي الأيديولوجي العربي.
ومن شبه المؤكد أن اتساع السجال واحتدامه، ما كان ليحدث لو تم تجريد الموضوع عن الشخصين “غادة وغسان”.
الأول، غسان، رجل متزوج، ينتمي إلى قضية، ويناضل من أجلها بأشكال عدة، في مقدمتها الإبداع الأدبي والثقافة والفكر، فهي- القضية- استمدت من شخصيته معاني ومدلولات تتصل بالإنسان الفلسطيني عموماً، وبالمبدع خصوصا. وهو استمد منها قوة إرادة ونسغ حياة، يتحول فيها التعقيد البالغ لمجرياتها وتاريخها وآفاق حلها، إلى عامل يحفِز على تجاوز الواقع القائم، نحو حلم جديد بالتحرر والحرية.
الثاني ،غادة، كاتبة متمردة على المألوف والسائد، دأبت، في كتبها ومقالاتها ونصوصها الثقافية والأدبية، على نقد الواقع الاجتماعي والحقوقي والثقافي، منذ بواكير مؤلفاتها الأدبية، وهي بذلك ” غرَدت خارج السرب” المألوف، للكاتبات في تلك المرحلة،( الستينيات من القرن العشرين)، وتعرضت لانتقادات كثيرة من الوسط الثقافي العربي. وكان لنشرها رسائل غسان إليها أن تعرضت بسببها لحملة واسعة قام بها العدد الأكبر من الكتاب الذين اعترضوا على قيامها بنشر الرسائل.
في نقد نشر الرسائل، وضع، أكثر النقاد والكتاب، القضية نقيضاً للإنسان، وباسمها، وتحت شعار الحرص عليها، وعلى سمعة رموزها، تركَز اللوم على غادة، وصولاً إلى ادانتها، حيث تم الغمز من قناة الفائدة، التي تقدمها غادة بنشر تلك الرسائل، لأعداء القضية.
في الحملة التي شنها الكتاب والنقاد، على غادة السمان بعد نشرها للرسائل، برز الادعاء بتضامنهم مع غسان، وحبهم له، وحرصهم على مكانته الأدبية والنضالية. تنطوي تلك المواقف بتقديري على إدانة لغسان سواء بوعي أو بدونه، لأن اعتبار البوح بالرسائل من خلال نشرها، يمس شخصية غسان صاحب تلك الرسائل، قبل أن تكون إدانة لغادة التي دارت المعركة السجالية ضدها ظاهريا.
الغالبية ممن تناولوا موضوع الرسائل، ذهبوا بعيدا عن النصوص- الرسائل التي نشرتها غادة، وكانت حملتهم عليها بادعاء حرصهم على شخصية غسان وتضامنهم معه، وحبهم له. بينما في الحقيقة اعتبارهم البوح في الرسائل يمس شخصية غسان، هو إدانة لغسان قبل أن يكون إدانة لغادة التي دارت المعركة ضدها ظاهرياً.
من ناحية، لم ينف أحد وجود تلك العلاقة بينهما، أما محاولات التشكيك بصدق الرسائل لتبرئة غسان منها ومن موضوعها، فلقد بقيت محاولة مهلهلة ومتهافتة تفتقد أية دعائم، فلم يكن هناك إلا التفسيرات البوليسية التآمرية، التي تزيد الطين بلة على أصحابها.
أما إشارة بعض النقاد إلى لحظة ضعف لغسان، استغلتها غادة، لتبرئته من تلك” السقطة”،( يقصدون حبه لغادة)، فذلك إطباق للخناق أكثر على شخصيته كإنسان، وإن كانوا قد سوَغوا ذلك تحت يافطة إنقاذه، فزادوا بذلك من تشويه شخصيته، كما ونالوا من إنسانيته أيضاً.
الكثيرون ممن تناولوا موضوع الرسائل، ذهبوا بعيداً عن النص- نصوص الرسائل، وموضوعه، العلاقة مع غادة، فغاب عن معالجتهم التقييم الموضوعي للرسائل، تنوعها، براءة كاتبها وشفافيته، صدقه وجرأته، هفواته اللغوية المشحونة بالمشاعر، مشاعر اللحظة، حين تتوقف فيها اللغة عن كونها مباراة في الإنشاء الأدبي، وعن وظيفتها إزاء نفسها كلغة تنتج في عراك الكلمات مفردات جديدة، لتقدم ما هو أغنى من كل ما سبق والأكثر جمالاً. لغة الروح التي تتراجع أمامها كل قيمة، لأنها لغة الصدق.
يومها كتب ممدوح عدوان،( وهو واحد من قلائل، الذين ارتأوا بالرسائل قطعة أدبية هامة، ولا تتصل بكشف الأسرار الشخصية) تحت عنوان: قراءة جديدة في رسائله فقال:
” حين قرأت رسائل غسان كنفاني لم أحس للحظة واحدة أنني أتطفل على أسرار شخصية، بل على العكس أنني أقرأ أدباً رفيعاً، فغسان في رسائله شاعر، وتأتي شاعريته من لغته الرفيعة وأفكاره المتألقة وأسلوبه المتوهج، وهذا كله ينبع من عاطفته الحقيقية الصادقة التي كان يلاحق بها غادة”.
في المقال إيَاه لممدوح عدوان، ضمنَه نصاً من إحدى الرسائل ليؤكد فيه شاعرية غسان. جاء في إحدى رسائله إلى غادة :
” ها أنذا متروك هنا كشيء/ كيف تركتك تذهبين؟/ كيف لم تطبق كفاي عليك؟/ مثلما يطبق شراع في بحر التيه/ على حفنة ريح/ كيف لم أذوِبك في حبري/ كيف لم أجعل من لهاثنا معاً زورقنا الوحيد إلى نبض الحياة الحقيقي؟/ كيف مرت عيناك في عمري دون أن تتركا على وجهي بصماتها/ ياطليقة/ يامن من قبلك لم أكن وبعدك لست إلا العبث/ أيتها المرأة التي مثلك لم يُرى/ أيها الشعر الذي رف تحت جفني مثل جناحي عصفور ولد في رحم الريح/ كيف شلت مرساتك من عشبي/ وتركت بحري بعدك ليس إلا الخواء/ دونك لست إلا قطرة مطر ضائعة في سيل”.
غسان في رسائله، وبصفته فردا في مجتمع، ومناضلا في حركة تحرر شعبه، لا تتناقض، شخصيته في الرسائل، كما في إبداعاته الأدبية، مع ارتقاء ونهوض الشخصية العربية عموما، والشخصية الفلسطينية تحديدا، فهو يحفز تلك الشخصية الإنسانية، التي بدت للبعض متناقضة ظاهريا مع وطنيته.
إن تقييم الشخصية الإنسانية لغسان من كل وجوهها، وبكافة تلاووينها، على أسس عصرية وكونية، تستوعب التجربة التاريخية، هو السبيل لتجاوز فكرة “عدم تقديرنا له على النحو الذي يستحقه موضوعياً”، شأنه في ذلك شأن الكثير من الكتاب والمبدعين العالميين، حيث الموقف من المرأة وتعظيمها، ومن المرأة العشيقة والمحبوبة بالذات، شهد تعاظماً خلال المعركة المعادية للفاشية إبان الحرب العالمية الثانية. ( يمكن لمن يرغب مراجعة حوار أراغون مع فرنسيس كريمو، حول حبه لإلسا، مؤلفه العظيم ”مجنون إلسا”).
ثمة ظاهرة برزت خلال السجال في موضوع نشر غادة لرسائل غسان إليها، وهي الظاهرة الأشد إيلاماً، والأكثر مدعاة للحزن والأسى، حيث الاستلاب الذكوري لوعي المرأة” المثقفة”، وهو ما عبرت عنه إحدى الكاتبات العربيات، في صبها جام غضبها على غادة، واتهامها لها بالسعي للظهور من وراء نشر الرسائل. وكان لهذه الكاتبة أن استخفت بغسان، وهي تشن هجومها على غادة. فكتبت: ” كل فتاة تجد تحت نافذتها أو بابها رسائل تعبر عن وله تتوهم فيه ضعف رجل أمام امرأة، جثا كثير من الرجال عند أقدام كثير من النساء.. لكنهم في الحقيقة مارسوا أعمالهم، وقادوا واجباتهم بانتباه ولم يتخلفوا عن اجتماعاتهم أو عن معاركهم… ما أكثر ما سترت النساء الحكيمات ضعف المحبين وأخفينه في طيات السر غيرة على كرامة الإنسان وبمعرفة عاقلة أن الضعف طارئ يحتاج الرحمة والتجاهل.. وبالتالي لا يجوز في موضوع المراسلات أن تقوم المرأة بإفشاء السر”. وأضافت تلك الكاتبة عبارة من الموروث الشعبي في ذم النساء، لتنال من غادة، فنالت من غسان أيضاً حين كتبت: ” كل فولة مسوسة لها كيال أعور”. و لم يخل نقد الرسائل من الاستهانة بغسان وتصغيره، ولو في إطار التهجم على غادة، إذ ارتأت إحدى الكاتبات أيضاً “باستباحة غادة للرسائل قرصنة لئيمة كشفت كنفاني ضعيفاً ومرتبكاً”.
في هذا النسق الأيديولوجي، المستلب ذكورياً، الذي يرى الحب ضعفا، ويرى الرجل قويا بقدر ما يخلو من رهافة الأحاسيس وصدق المشاعر، تلتقي آراء الكتاب الذكوريين، مع آراء المرأة المستلبة للرجل. حتى أن المرأة ذاتها، في هذا النسق، باتت تقبل لنفسها دور عنصر المتعة- الإثارة- ستر العيوب-مع الالتزام بفكرة” استعينوا على قضاء حاجاتكم بالكتمان”.
إنَ اللعنات التي أنزلها العدد الأكبر من النقاد، على غادة بسبب نشرها للرسائل، والتوصيف الذي أطلقوه عليها في سيل من المفردات، يبرز حالة الوعي الثقافي المتخلف والمفوَت لمسألة المرأة، باحتجازها في بوتقة كائن ماكر، أناني، نرجسي، يخدم الأعداء، بل وربما يتحرك بإشارة منهم، ذلك التوصيف الاختزالي يطابق أشد المعتقدات بؤساً في الوعي الإنساني. وعي ” يشيطن المرأة” ويضع الرجل- غسان- في موضع السوبرمانية والتقديس. رجل لا يمكن أن يخطئ، وإن أخطأ،( رجل متزوج يقع في حب امرأة أخرى)، كما انطوت عليه كتابات بعض نقاد الرسائل، فيجب التستر عليه، حفظاً لمكانته ”النضالية” من التشوُه.
في هذا السياق، ذهب بعض نقاد نشر الرسائل، إلى التشكيك بصحتها، وآخرون أوغلوا أكثر لحشر غادة في خانة النرجسية والتلاعب، حين طرحوا بوجهها سؤالاً:
” لماذا لم تنشري رسائلك إليه”؟، واستدراكا منهم لسخافة السؤال وتهافته، أشاروا إلى أن غادة من عادتها حفظ نسخة احتياطية من كل ما تكتب ! “فلتخرجها من أدراجها إذاً”. علماً أن غادة طالبت في مقدمة كتاب الرسائل أن يكشف عنها كل من لديه نسخة من ملفات غسان الشخصية، حتى تقوم بنشرها. ولم يتطوع أحد من الأسرة أو من المؤسسة التي كان غسان يعمل بها ليعلن عنها. هل يعقل أن تحفظ امرأة نسخة” كوبي” عن رسائلها الخاصة لرجل أحبها؟.
إن مطالبة النقاد لغادة بالإفصاح عنها( رسائلها إلى غسان)، فيه تصنيف لغادة وكأنها تعمل على طريقة الاستخبارات، حتى في شؤونها الخاصة جداً والحميمية.
إن محاولات اختزال غسان، التي كشف عنها ما ورد في العدد الأكبر من كتابات نقاد الرسائل، بدأت قبل ما جرى من سجالات بفعل نشر غادة لكتابها عن رسائل غسان إليها.
لقد سبق وقدمت المنابر الثقافية والأدبية شخصية غسان ،الإبداعية من وجهة أحادية الجانب، ذلك للتماثل مع الوعي الجمعي السائد، باعتباره يتمحور حول القضية النضالية، وينطلق من حالة الصراع التي فرضها الغزو الاستيطاني الصهيوني لفلسطين. وتراكب ذلك مع فكرة” الفن والأدب الملتزم”. على هذه الخلفية” الأيديولوجية” في رؤية المبدع والإبداع، تأسست عملية الاختزال لغسان كنفاني، عبر طمس إبداعه غير” المستساغ” في أيديولوجيا المؤسسة كما في الوعي السائد بشكل عام. فالضجة السلبية التي أحيطت بها الرسائل لا تنفصل عن تأثيرات تلك الخلفية.
لقد كان غسان يستشعر خطورة هذه النظرة للإبداع والمبدعين، وله شخصياً، وهو ما عبر عنه في رسالة منه إلى غادة، ومنذ وقت مبكر، حين كتب لها في إحدى رسائله: ” أعرف أنه لن يتاح لي الوقت لأكون عند حسن ظن الناس، وأنني في كل الحالات سأعجز في أن أكون مثلما يتوقعون مني… يعطونني ما أريد مجاناً وفي كل مكان أذهب إليه أستقبل بحرارة تزيد شعوري ببرودة أطرافي ورأسي وقصر رحلتي إلى هؤلاء الناس وإلى نفسي”.
إنه ودون التقليل من أهمية الدور الذي قامت به مؤسسة غسان كنفاني الثقافية، بجمعها لآثار غسان وإصدارها بطبعات متعددة، وبما تقوم به من نشاطات لإحياء ذكراه السنوية، غير أن سقطة وقع بها المشرفون على إدارة أعمال المؤسسة وتنظيمها، عندما أقحموا وجهات نظر محددة في بعض النتاجات ، وكان من شأنها وضع القارئ أمام توجّسات من القيمة الأدبية لتلك الأعمال، وهو ما يستشف من صيغ التقديم، بوصف تلك الأعمال ” أنها ما دون- ما قبل- نضج الوعي الأدبي لغسان الملتزم( لاحظوا إخضاع الوعي الأدبي للالتزام)، وأنه تجاوزها في أدبه النضالي”. جاء ذلك في مقدمة الناشر لكل من مسرحية الباب- وجسر الى الأبد- والقبعة والنبي. وبوضوح شديد في مقدمة الطبعة الأولى لرواية” الشيء الآخر”.
إنه لأمر مؤسف، أن يتجاهل كبير النقاد العرب ”شيخهم” د. إحسان عباس، رحمه الله، في تقديمه الرائع لروايات غسان، وتخصيص مقطع لكل رواية، وتجاهل رواية (الشيء الآخر- من الذي قتل ليلى الحايك)، وعدم إتيانه حتى على ذكرها في تقديمه لمجلد الروايات، بما يبين إسقاط الوعي الأيديولوجي على الأعمال الإبداعية، ومحاولة تبخيسها وتخويف للقارئ من مضمونها. أو، بما يتصل بإحسان عباس، أنه ساير ميول المؤسسة الثقافية والسلطة السياسية للتنظيم الذي كان غسان عضوا فيه( الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين).
كان بمستطاع النقاد الأدبيين أن يدرسوا أدبه الموصوف” قبل النضج النضالي” ويضعوا عليه ملاحظاتهم، ويبينوا ” ضعفه بنيويا وفنياً”، لكنهم لم يفعلوا، اكتفوا باتخاذ قرار كمحاكم التفتيش، فنبذوا أعماله غير المنتمية” لأدب الالتزام”، وحاصروا غسان كمبدع في لون واحد من أعماله وهو اللون” النضالي الوطني”.
هنا تبدو ازدواجية التفكير، والابتعاد عن الموضوعية. فعندما تناول الكتاب والنقاد العرب أدب الكتاب والفنانين والمبدعين في الغرب، ثمنوا عاليا أدبهم ” غير الملتزم” أدبهم الإنساني، وحتى سلوكهم في علاقاتهم الاجتماعية خلال حياتهم، بما فيه من محطات لا يقبلها الوعي الشرقي- العربي، واعتبروها علامات إيجابية تسجل لأولئك المبدعين. لكن عندما أتوا على تجارب واقعنا الخاص، وهنا تحديدا تجربة غسان وغادة، وضعوها في مصاف سلبي وأدانوها واعتبروها هفوة للرجل” السوبرمان”، وشيطنوا المرأة غادة.
في مقدمة قصص غسان،( المجلد الثاني) التي كتبها المبدع الراحل يوسف ادريس، إنصاف حقيقي، عبر عنه إدريس بنص نابض بإرادة الحرية، ومتلاحم مع عظمة التنوع في الانتاج الإبداعي، تنوع لا يحتجزه مفهوم ”الالتزام” أو الأدب الملتزم”.
كتب يوسف ادريس في تقديمه لمجلد قصص غسان:
“أيها الناس
اقرأوا هذه القصص مرتين
مرة لتعرفوا أنكم موتى بلا قبور
ومرة أخرى لتعرفوا أن قبوركم تجهزونها وأنتم لا تدرون
قبور الثقافة بلا ثورة، وقبور الثورة بلا ثقافة، قبور الخوف على الحياة حتى تستحيل في النهاية إلى وجود حيواني خسيس
اقرأوا هذه القصص
فهي لرجل عاش
عاش كما لم يعش أحد
حتى بمقاييسكم البرجوازية
فقد نال من الحياة أقصى ما تستطيعه من نفع
نال متعة الشرف، متعة الحر
أما متع العبيد التي تلغون فيها فآه لو رأيتموها على حقيقتها يوماً
هذا رجل عاش
ومات
مات مفجراً منسوفاً
ولكن كل قطعة من جسده، كل خلية، ستحتل من الوجود حتى وجودكم أنتم، أضعاف أضعاف ما تحتله أفيالكم وسياراتكم ذلك أنه مات كي لا يموت. مات كي يعيش
أما أنتم فقد متم مرات خوفا من الموت
إن الرجل نبضة صدق وحرية
والنبض في كثير منكم توقف من زمن أمام الحرية… اقرأوا قصص غسان”.
إنه تقديم مفعم بصدق المشاعر وينطوي على فهم عميق للمبدع عموما، ولغسان تحديداً. ولا أظن أن غالبية نقاد الرسائل قد قرأوا قصص غسان بعمق، أو أنهم قرأوها وتجاهلوا محتواها الإنساني، فبإدانتهم للرسائل ”موضوعها ونصوصها ونبضها”، وبالتالي نشرها، وإدانة الناشر ”غادة”، كشفوا عن جهلهم بما أنتجه غسان، فهو انتاج غزير ومتنوع، لا يجوز اختزاله بأدب” القضية” والأدب” النضالي”.
أخيرا، عليَ أن أشير إلى أنَ ما حفزني للكتابة اليوم، عن هذا الموضوع، في الذكرى السنوية لاغتيال إسرائيل لغسان كنفاني، بعد مرور تسعة وأربعون عاما على تلك الجريمة، ما يشهده الواقع الثقافي والاجتماعي الفلسطيني، كما العربي من تهافت في الوعي ، يكشف عنه الفضاء العام، الذي تجتاحه القيم المتخلفة، التي تدل عليها مظاهر إعادة المرأة إلى ” بيت الطاعة” بالعنف والقمع وبالقتل بادعاء حماية الشرف. في غضون ذلك يتم طمس الشرف الحقيقي، شرف القضية الوطنية، وشرف الإنسان المتصل بحريته . والشرف العام لأبناء فلسطين في مواجهتهم للصهيونية وغزوها المتمادي للأرض.
إن القضايا في عمقها ومضمونها مترابطة، لا تنفصل، فالإنسان غير الحر لا يمكنه صنع تحرر بلده ومجتمعه. كان غسان حرا في أفكاره وإبداعاته ومواقفه وسلوكه. وبالتأكيد لم يكن غسان “ملاكاً”، فهو يخطئ ويصيب كبقية الناس، ولا تترفع نتاجاته عن النقد.
(ملاحظة أخيرة . هذا المقال هو إعادة صياغة لفقرات ومقاطع من كتابي: ” غسان كنفاني- تكامل الشخصية واختزالها- دراسة نقدية في جوانب من أدبه ورسائله. الصادر في العام 1993″)
المصدر: ملتقى فلسطين