فلاديميـــــــــــــــــر باخموتســــــــــــــــــــكي
ترجمة: حســـــــــن سامي يوســـــــــف
” إنّ مجموعة الأعمال التي كتبها بلزاك – والكلام لفيكتور هوجو – تشكل كتاباً واحداً مليئا بالحياة والوضوح والعمق، ففي هذا الكتاب تتحرك وتتفاعل حضارتنا المعاصرة كلها”.
وهذه الفكرة لم تكن جديدة بالنسبة إلى بلزاك. الذي عبّر عن الأمر غير مرة بمثل هذا القول: إن فهم كل شخصية أو حادثة أو فكرة في أية قصة أو رواية من تأليفه، لن يكون متيسراً إلا للذي يعرف معرفة وثيقة ” الكوميديا الإنسانية ” كلها.
هل يعني هذا أنه لابد – لكي نفهم بلزاك – من قراءة جميع قصصه ورواياته التي يبلغ عددها ثمانياً وتسعين، والتي تشكل بمجموعها ” الكوميديا الإنسانية “، وأنه لا يجوز الحكم على كل رواية على حدة، كما لو أننا – على سبيل المثال – أمام رواية “الحرب والسلم” لتولستوي حيث لا يجوز إعطاء حكم نهائي على الرواية من مجرد قراءة أحد مجلداتها الكثيرة، أو كما لو أننا أمام أحد مجلدات رواية ” جان كريستوف ” للكاتب رومان رولان، حيث إننا في حالة كهذه لا نستطيع أن نتعرف أكثر من جانب واحد من الرواية فقط، ما دمنا أمام مجلد واحد؟. وهنا المفارقة: فــ ” الكوميديا الإنسانية ” ككل، غير معروفة إلا من قبل الاختصاصيين فقط، بينما بلزاك هو أحد الكتّاب الأكثر شعبية في العالم إلى يومنا الراهن، ولذا فإن من الضرورة أن نعترف بأن في الأمر التباساً ما. لكن، ولحسن الحظ، فالأمر ليس ميئوساً منه.
بلزاك نفسه كان يحب أن يقارن ملحمته الضخمة ببناء عملاق، ورواياته بأجزاء هذا البناء. من الواضح أن هذه الصورة كانت موضوعة من قبل دانتي في ” الكوميديا الإلهية “، حيث كان يحبُّ شاعر إيطاليا أن يقارن ملحمته الخالدة بفن العمارة، وبخاصة الكاتدرائيات في العصور الوسيطة. ومن الممكن القول أن دانتي قد انتهى من بنائه على أكمل وجه، بينما ظل بناء بلزال ناقصاً. أما لماذا الأمر كذلك، فليس لأنّ الموت قد اختطف الكاتب الكبير قبل انجاز عمله الضخم، فحتى لو أمهل الموتُ بلزاكَ إلى حين إنجاز جميع الروايات التي تدخل في مخطط ” الكوميديا الإنسانية ” حسبما تصورها، وكان يفترض أن يصل عددها إلى مئة وخمسين رواية، حتى لو كان الأمر كذلك وحتى لو عاش بلزاك مئة سنة إضافية لما استطاع أن ينتهي من تشييد بنائه الضخم. لماذا؟ لأن موضوع ” الكوميديا الإنسانية ” هو حياة المجتمع المعاصر، والحياة لا تتوقف ولا تكفُّ عن التطور ولا عن الحركة والتغير. وهنا يجب أن نقول إنّ بلزاك قد وضع أمام نفسه مهمّة في غاية الصعوبة والتعقيد، مهمّة لم يضعها لنفسه كاتب آخر في تاريخ الأدب العالمي.
صحيحٌ أنّ ” الكوميديا الإنسانية ” وحدة فنية متكاملة، ولكنّ الذي يجعلها كذلك ليس تكامل بنائها ( ولذا فمن غير الضروري قراءة جميع القصص والروايات التي تدخل في تشكيلتها )، وإنما معرفة مبدأ النظام الضابط لها بالإضافة إلى تركيبها الفني المحدد. ومن هنا نستطيع القول أن ” الكوميديا الإنسانية ” مبنيّة على النحو الذي يجعلنا نلاحظ بأن التركيب الفني لكل رواية على حدة مكتمل بصورة نهائية تماماً، مثلما كل خلية في بُنى المخلوقات الحيّة، تحمل في ذاتها خصائص البنية كلها. هذا لا يعني أنّ التعرّف إلى عملٍ واحد من أعمال بلزاك حتى لو كان عملاً مركزيا مثل رواية “الأب غوريو” يمكنه أن يعطي القارئ تصورا كاملا عن ” الكوميديا الإنسانية”.
ما زلنا بعيدين عن أمر كهذا. صحيح أن الكل عند بلزاك يعيش في الجزء، ولكن الصحيح أيضا أن الجزء لا يمكن أن يحلّ محلّ الكل، فالكلّ والجزء لا يتساويان. من البدهي أنه من أجل فهم ” الكوميديا الإنسانية” لابد لنا من تعرّف الأعمال الرئيسة التي تدخل في بنائها، ومع هذا الأمر فإنّ الأمر يبقى ناقصاً، فالكوميديا الإنسانية ليست عدداً من الروايات، بل نتاجٌ فنيٌ واحد.. وفي هذا التناقص تكمن العقبة الأساسية أمام فهم بلزاك.
فيمَ يكمن جوهر فكرة بلزاك، فكرة “الكوميديا الإنسانية” ؟
كان من عادة بلزاك أن يكتب لكل رواية مقدمة طويلة حيث كان يشرح أفكار وطرائق بناء عمله الضخم، وعندما نضجتْ لديه فكرة ملحمته بصورتها النهائية، كتب مقدمته المشهورة لـ ” الكوميديا الإنسانية” حيث حاول أن يحدد مبادئها الرئيسة.
لم تظهر فكرة ” الكوميديا الإنسانية” عند بلزاك مرّةً واحدة. حسب اعترافه الشخصي، فإن الفكرة قد جاءته في البداية على شكل “حلم” أو “أمل باطل”، ولم تأخذ صيغتها النهائية إلّا في وقت متأخر. هذه الفكرة تشكلت في نتيجة البحوث الطويلة التي قام بها حول مصير الفن ووظائفه ومتطلباته الجديدة، التي فرضتها على الكاتب الحياةُ نفسها.. حياة القرن التاسع عشر.
عندما دخل بلزاك عالَم الأدب كان يسيطر على فرنسا، وحتى على أوروبا كلها، تيار الأدب الرومنسي.
أشياءُ كثيرة جمعت بلزاك بالرومنسيين، وأشياءُ أكثر أبعدته عنهم. فهو مثل الرومنسيين كان يؤمن بالمهمة العظيمة للفنان الذي “يغيّر وجه العالم”، ” يغيّر ويشكل وجه الكرة الأرضية”، ومثل الرومنسيين أيضا كان يشعر بمأساوية المصير الذي ينتظر البشرية، وبخاصة في ظل المجتمع المعاصر.
” لم يحدث في أي وقت – قال بلزاك – أن الفنان لم يكن يعني إلا الشيء القليل”. “ولا في أي عصر لم يحصل الفنان على الحد الأدنى من الحماية”. لم يجرب الفنان من قبلُ أبدا مثل هذا الضغط القويّ الذي تفرضه المتطلبات الاجتماعية، ولم يحدث أبدا أن كانت هذه المتطلبات جاهلةً إلى هذا الحد.
” في قرننا التاسع عشر – صرخ بلزاك – وبشكل متواصل يتم إعادة بناء عرش الرجال الوسط”، ” البرجوازية الراهنة تفتقر إلى الرجولة والحزم، إنها تالفة وجاهلة أيضا”.
لكنّ هذا ليس إلّا وجهاً واحد للعملة، وبلزاك لا يفوته رؤيةُ الوجه الآخر.
الكاتب يملك الفكرة، والفكرة قوة عظيمة، وهي لم تحصل على مثل هذا الجبروت كما في القرن التاسع عشر. وفي القرن التاسع عشر تغيّر الدور الذي يجب على الفنان أن يلعبه كما تبدّلت إمكانياته ومسؤولياته. لقد أخذ الكاتب على عاتقه المسؤوليةَ ذاتها التي كانت ملقاةً على عاتق الواعظين والمبشّرين. لكنّ صوت الكاتب ليس محصوراً بين جدران الدير، بل إنه حرٌّ قادر على أن يرعد ويهدر في جميع أرجاء المعمورة. ” ليس المصلّون رعية الكاتب، بل البشرية كلها”. و ” إنّ صفحة من الورق سلاح الفكرة الخالدة القادرة على تغيير وجه العالم”.
الفن – قوة اجتماعية وأخلاقية جبارة، وهذا يفرض على الكاتب التزاماتٍ خاصّة:
“تحسين الأخلاق. هذا هو الهدف، الذي ينبغي على كل كاتب أن يضعه نصب عينيه إذا كان لا يريد أن يبقى مجرد مهرجٍ للجماهير”. ومن أجل تحقيق هذه المَهمّة فإنّ الفن، حسب رأي بلزاك، يجب ألا يبقى محصورا في الأجواء المثالية للرومانسيين، ففي مجتمعنا المعاصر ” القصيدة المستحيلة ” و ” لم يبق شيءٌ آخرُ يستحقُّ العناء مثل وصف الأمراض الاجتماعية “. ” أن تضع الإصبع على الجرح “. ” أن تدلّ المجتمع على مكان النزف” – في هذا يرى بلزاك القيمة العظيمة للكلمة، مقتدياً بِ دانتي الذي أخذ على عاتقه محاكمة العالم في ملحمته “الكوميديا الإلهية”.
هذا الحماس البلزاكيّ لنقد ومعالجة الأخلاق إنمّا يشكل جانباً هاماً في “الكوميديا الإنسانية”، ومع هذا فإن فتوحات بلزاك الفنيّة ليست هنا بعد. لأنّ الحماس السابق إيّاه لم يكن متعارضاً مع النظريات الجمالية للرومانسيين، حتى إننا نعثر في قلب الرومانسية على بعض الاتجاهات أو الظواهر المفرطة في حماسها لحب النقد ( في كثير من قصائد بايرون – شاعر إنكليزي من القرن التاسع عشر، المترجم – وحكايات هوفمان – كاتب ألماني معاصر لبايرون، المترجم – على سبيل المثال لا الحصر). لكن، بالنسبة إلى الرومانسيين فإن مصادر الإبداع كانت دائما فوقية، كانت في عالم المثاليات. ومن قمة تلك المثاليات كانوا ينظرون إلى الواقع، إلى نواقصه وشروره وأخيرا إلى سيطرة النثر الحياتي ” البغيض “.
وفي الاختلاف مع الرومانسيين، فإنّ بلزاك لا ينظر إلى الواقع من فوق إلى تحت، بل إنه قد وجد لنفسه المكان المناسب للمراقبة، إنه مع الواقع في مستوىً واحد. وقد كان يحبُّ أن يقارن جهده وعمله بجهد وعمل العلماء. هذا التقارب بين الإبداع الفني و بين العلم كان يشكّل نقطة الاختلاف الداخلية في العلاقة مع نظريات الجمال الرومانسية. الرومانسيون الألمان، وبخاصةٍ إرنست هوفمان، وضعوا الشاعر فوق العالِم بما لا يقاس، أما بلزاك فكان يقول عن نفسه وبكثير من الفخر: “أنا دكتور في العلوم الاجتماعية”، كما كان يضع لقب عالِم فوق لقب روائي.
يكمن الاختلاف بين العالِم والشاعر، من وجهة نظر بلزاك، في علاقة كلٍ منهما بالعالَم المحيط، في المُدخَل المختلف إلى فهم الواقع. الفنان يعرض الواقع للتقييم الجمالي ويقوم بعملية انتقاء صارمة، أما بالنسبة إلى العالِم فإن جميع الظواهر، وكذلك جميع الحقائق متقاربة من حيث درجة اهتمامه بها، فهو يدرسها جميعها كما أنه لا يملك الحق في ازدراء أيٍّ منها.
من الطبيعي أن بلزاك لا يحذو حذو العالِم ولا يتهرب من عملية الانتقاء الضرورية للعمل الأدبي، كما لا يتهرب من التقييم الأخلاقي أو الجمالي، ولو فعل ذلك لما كان فناناً عظيماَ. لكن، وحسب قناعته، فإن هذا التقييم لا يستطيع تحديد انتقاء المادة الحياتية. فهو يرى أن إحدى أصعب المهام في “الكوميديا الإنسانية” تكمن في تصوير الواقع المعاصر بكل الصدق الممكن وكذلك بكل الدقة والكمال.
مشاهد عن الأخلاق – الجزء الرئيس من “الكوميديا الإنسانية” – يضم لوحات عن الحياة الباريسية الريفية، السياسية والخاصة، الحربية والزراعية. باريس والريف أو المدينة والقرية، أصحاب المصانع الكبيرة، وأصحاب الدكاكين الصغيرة، الوسطاء والعملاء، الإقطاعيين والفلاحين، الضباط والرهبان، المحكومين بالأشغال الشاقة ورجال البوليس، سيدات المجتمع الراقي ونساء الحضيض، البورجوازيين الصغار والرسامين والكتاب و الموسيقيين والصحفيين – باختصار: الحياة الفرنسية كلها خلال القرن التاسع عشر تقفز من روايات بلزاك.
هذ السِعةُ المذهلة إنما تفرضها المهمة الفنية التي وضعها الكاتب نفسُه، ومن هنا يصحّ القول بأن بلزاك لم يكن شاعر فرنسا القرن التاسع عشر فحسب، بل كان مؤرخها أيضا. وربما كان مؤرخ فرنسا الأول قبل أن يكون شاعرها الأول.
في مقدمته لـ “الكوميديا الإنسانية”، كتب بلزاك يقول: “بعد أن وضعت وصفا للرذائل والفضائل وبعد أن جمعت أحداثا ووقائع واضحة حول الرغبات البشرية وبعد أن رسمت طبائع مختلفة وقمت بانتقاء الحوادث الرئيسة من حياة المجتمع، وبعد أن خلقت طرزاً وخصائصَ متباينة، ربما بعد هذا كله أمكنني كتابة التاريخ، التاريخ المنسيّ من قبل جميع المؤرخين، ربما أمكنني في نهاية الكتاب عن فرنسا القرن التاسع عشر وضع كتاب آخر حول ما نتشكّى منه جميعا، حول تاريخ الأخلاق، هكذا نوع من التاريخ الذي لم تتركه لنا أية واحدة من حضارات روما أو أثينا أو صور أو ممفيس أو الهند”.
لكنّ “الكوميديا الإنسانية” ليست مؤلفا في التاريخ، وهذا يجبرنا على النظر إلى تأريخ بلزاك من منطلق خصوصية النوعية الجمالية، أو كأحد عناصر نظامه الفني.
إنّ جمع الشعر والتاريخ في تركيبٍ واحد أمرٌ له تقاليدُه، فقد احتلّت هذه المسألة مكانة هامة في الفكرة الجمالية للقرن الثامن عشر. التنويريون مثلا اعتمدوا على ” فن الشعر” لأرسطو، لكنهم أعطوا لطروحات الفيلسوف الإغريقي فكرة جديدة مختلفة. أرسطو وضع شكلين من محاكاة الطبيعة: الأول خاص بالشاعر أو مميز له، والثاني خاص بالمؤرخ. وحسب أرسطو فالمؤرخ يتحدث عما حصل في الواقع فعلا، أما الشاعر فيتحدث عما كان يمكن أن يحدث، وهكذا فإن القصيدة تفترض وجود الفانتازيا، الإبداع، الفكرة، أما التاريخ فيتحتم عليه المراقبة الدقيقة والوصف الدقيق للحياة الواقعية. غير أن الاختلاف بين المؤرخ والشاعر من وجهة نظر أرسطو لا يكمن في مادة الخلق (الشاعر يستطيع أيضا أن يصور أحداثا واقعية)، وإنما في العلاقة مع الشيء المخلوق نفسه، وكذلك في تباين فهم الحقيقة بين الاثنين. فحقيقة المؤرخ تكمن في تطابق مؤلَّفه مع واقعية الأحداث وحياتيتها. أما الحقيقة الشعرية فهي أكثر شموليةً وفلسفية. ومقياسها ليس التطابق مع ما كان عليه الأمر في الواقع، وإنما الحاجة إلى أن يكتمل كل شيء. ” بتطابقٍ مع الممكن والمحتمل”.
إذا كان أرسطو قد حاول الفصل بين الشعر والتاريخ بوضع حدود واضحة بين كل منهما، فإن كتّاب القرن الثامن عشر قد سعوا وراء أشكال في التعبير حيث يتطابق الاثنان ولا ينقض وجودُ أحدهما وجودَ الآخر. وفي هذا المجال نجد كتابات ممتعة للكاتب الفرنسي ديدرو- فيلسوف من القرن الثامن عشر، المترجم.
لقد قسم ديدرو القصة إلى ثلاثة أجناس: القصة العجائبية، كما لدى هوميروس وفيرجيل وتاسو، ثم القصة الممتعة كما لدى (لافونتين) و (فيرجي) و (أرسطو)، ثم القصة التاريخية. والمعنى الذي يُضمنّه ديدرو تحت هذا العنوان الأخير لا يحمل الشيء الكثير من التاريخ بالمعنى المباشر لهذه اللفظة. وإلى هذا النوع من القصص تنتمي أعمال (سرفانتس)، (سكارون)، (مارمونت)، وذلك بالرغم من غياب حقائق التاريخ الحياتية والسياسية في أعمالهم. وأكثر من ذلك فإن شخوص أدبيات هؤلاء الكتّاب هي بالأساس من نسج الخيال.
ولكي نفهم السبب الذي جعل ديدرو يطلق على مثل هذه الأدبيات اسم القصة التاريخية في نظريات علم الجمال عند ديدرو هي ذلك الأدب المتناقض تماما مع (العجائبي)، والملحمة الشعرية حيث “الطبيعة مضخّمة كثيرا وحيث الحقيقة افتراضية”. فعند قراءتنا هذه القصص فإننا ندخل في العالم الخاص للفكرة الشعرية دون أن – ولو لثانية واحدة – يتولد لدينا أي وهم بأن هذا العالم الذي نقرأه قد كان موجوداً ذات مرة. في هذه الأعمال الأدبية تسيطر الحقيقة الشعرية وتغيب الحقيقة التاريخية نهائيا.
“القصة العجائبية” شأنها شأن جميع الفنون القديمة، تعتمد بالدرجة الأولى على الأسطورة، والأسطورة تتحدث عن العام وليس عن الفرد، عن المحتمل وليس عن الواقع، عن الضرورة وليس عن الحدث، وهذا ما يتطلبه الشعر.
وأما “القصة التاريخية” فإنها تملك علاقة بالواقع المحيط بنا، هذا الواقع الذي يشكّل الجوَّ ليس بالنسبة إلى الشعر بل بالنسبة إلى التاريخ.
وفي قناعة ديدرو الجمالية فإن القصة التاريخية ليست مناقضة للملاحم الأسطورية فحسب، بل وللفن الكلاسيكي في فرنسا. غالبا ما اعتمدت التراجيديات الكلاسيكية على الموضوعات التاريخية، وغالبا ما كان أبطال تلك التراجيديات صانعي التاريخ الرسمي - ملوك، أمراء، نبلاء، ضباط قادة. وفي أدب القرن الثامن عشر حصل تغييرٌ في البطل، ففي مركز القصص التاريخية التي كتبها ديدرو، اختفى صانعو التاريخ إلى غير ما رجعة، وحلّ محلّهم شخوص لا وزن لهم في الحياة السياسية العامّة لأنهم حسب تعبير (ميرسي): “يعيشون في الظلمة”، منغلقون في عالم حياتهم الشخصية الضيّق، وحين أطلق ديدرو اسم القصة التاريخية على أمثال هذه التي أبطالها من العامّة فإنه قد أكد على أهمية الموضوعة الجديدة: فلتكن السياسة والشؤون الحكومية في قبضات القلّة التي تتربع فوق، ولكن الأدوار قد تتغير فجأة، والإنسان العادي قد يصبح بطلاً ليس بالمعنى الأدبي للّفظة فحسب، بل وفي الواقع السياسي نفسه.
إن مجادلات ديدرو مع الكلاسيكيين لم تقتصر على اختيار البطل بل امتدّت لتشمل الموضوع وتركيب العمل الشعريّ. الموضوع التاريخي عند الكلاسيكيين كان بمثابة فكرة شعرية أو مثل شيء أسطوري، الأمر الذي جعلهم يرمون جانباً كل ما هو على علاقة بالموضوع التاريخي أو كل ما لهُ علاقة بالخصائص المحليّة مثل البيئة وغيرها مع الاحتفاظ بكل ما هو عامٌّ وكل ما هو راسخ ومشترك بين البشر أجمعين. أما ديدرو فكان يطالب بأن تحمل فكرة العمل الانطباع الواقعي، والحقائق الحياتية، حيث كما لو أنّ الشاعر لا يعود خالقا للعمل يقدر ما يتحول إلى ناسخ لأحداث معينة، أو مؤرخ لها.
إن مهمةَ كاتب القصة – يقول ديدرو – خداعُ القارئ”. والخداع حسب رأي ديدرو يتم بأن يجعل الكاتبُ القارئَ مقتنعا بأن هذه الأحداث والشخوص ليست من نسج الخيال بل إنّها قد جرت في الواقع فعلاً، وإنّ الذي بين أيدينا ليس الفن بل الحياة نفسها. وحسب أرسطو فإنّ الشِعر يتحدث عن العام، والتاريخ عن كل حالة على انفراد، أما ديدرو فكان يحلم بخلق نظام للتطابق بين العام والخاص أو بين الشعر وبين التاريخ. لقد كان ديدرو مقتنعاً بأن الحقيقة الشعرية ( إظهار الحتميّات الحياتية بصورة عامة ) والأوهام التي يخلقها العمل الفني الذي يتناول الخاص بدلاً من العام يجب أن لا تلغي واحدةٌ منهما الأخرى. “لاشيءَ – يقول ديدرو – يبدو للوهلة الأولى مناقضاً للوهم مثلُ الشعر”. لكن، هذا فقط، “للوهلة الأولى”. أما في حقيقة الأمر فإن من الممكن جدا مطابقة هذه مع تلك. وفي هذه الحال فإنّ كاتب القصة التاريخية سوف يكون.. ” في رضىً عميق لتطابق شروط كل من الشعر والتاريخ. هذان النوعان اللذان يبدو أحدهما مناقضا للآخر. وهنا يتحول الكاتب إلى مؤرخ وشاعر في آن معا، يتحول إلى إنسان صادق ومخادع في الوقت نفسه”.
ولكنّ التركيب النهائي للشعر والتاريخ في أدب القرن الثامن عشر ظل ناقصا حتى عند التنويريين الذين حاولوا الولوج إلى قلب الأشياء والغوص في جوهر الظواهر المختلفة، فوجدوا أنفسهم في نهاية الأمر في عالم المثاليات المجردة. وهنا يظهر التناقض المركزي للتنويرية. وهذا التناقض إنما يقبع في تشتتهم بين “المثالية الإنسانية العامة” وبين الأساس المادي أو الأساس الواقعي في نظرتهم للمجتمع البورجوازي. لقد شعر التنويريون بصعوبة المهادنة أو المصالحة بين المثاليّ والواقعيّ، أو بين الشعر والتاريخ. وفي هذا الصدد نجد قولا معبرا للكاتب الألماني ليسنغ – فيلسوف من القرن الثامن عشر، المترجم: ” إنهم يدرسون الإنسان إما كظاهرة فردية، أو كإنسان بشكل عام. أما معرفة الإنسان كفرد فقط فإلى ماذا يقود هذا العمل؟ إنك لن تتعرف إلا الحمقى والسفلة. أما أن تدرس الإنسان بشكلٍ عام فهذا أمر مختلف تماما.. ففي الإنسان بصفته إنساناً، تختبيء أصول عظيمة أو حتى إلهية”.
لكن، وقبل أن ينقضي القرن الثامن عشر جاء الرومانسيون وحسموا المسألة فقد رأوا أن الحقيقة الكلّية (الشعر) لا تتوافق أو تتطابق مع وضوح التعبير (التاريخ) ففي رأي الرومنسيين أن الكل لا يمكن الوصول إليه بواسطة العقل، لأنه لا يأتي كنتيجة طبيعية لتأمل ومراقبة الجزئيات المبعثرة من ظواهر الحياة. وإنما يأتي فورا وفجأة وعلى نحو وجدانيّ أو حدسيّ أو بواسطة الشعور الداخلي العميق أو النظرة الروحانية، فالشاعر يعثر على الكل في روحه هو، وليس في أي مكان آخر. وانطلاقا من وجهة النظر هذه فإن الرومانسيين قد انتقدوا وبشدّة الواقعيين والواقعية في القرن الثامن عشر، موجهين إليهم الاتهام بأنهم يؤطرون الإمكانيات العظيمة للفن بواسطة تبديدها في الإعادة الدقيقة لخلق الأشكال الخارجية للأشياء، الأمر الذي يجعلهم قاصرين عن الوصول إلى الكلّ “المطلق”، حيث لا يمكن للأشياء بجزئياتها المختلفة أن تتواجد على نحو مستقل وإنما تكون مندمجة في تيار الحياة الإنسانية الواحدة.
لقد ظهرت الرومانسية في زمن ما بعد الثورة الفرنسية. والمجادلة بين الرومانسيين والواقعيين تملك أساساً عميقاً في علاقة الرومانسيين بالواقع البورجوازي. لم يستطع الرومانسيون أن يسامحوا الواقعيين على سقوطهم في شَرَك النثر اليومي. والرومانسيون لم يستطيعوا أن يستوعبوا النثر فحسب، بل لقد تعمدوا – وبكل وعيٍ منهم – الهروب من النثر ومن وقائع الحياة اليومية. لقد هربوا إلى الماضي وألبسوا أبطالهم ثياب عصر الكاردينال (ريشيل) والملك (فرانشيسكو)، كما فعل على سبيل المثال الفرنسي فيكتور هوجو في كتاباته المتفرقة، أو أنهم عمدوا إلى نقل أبطالهم إلى عوالم مبرقشة كما هي الحال في بلاد الشرق والجنوب حيث لم تدحر البورجوازية الطبائعَ والحريات المختلفة بعد. كما فعل ( بايرون ) على سبيل المثال، أو هربوا إلى الفانتازيا، كما فعل الألماني الحزين (هوفمان).. وفي هذا كله إنما يكمن احتجاج على تحويل الإنسان بطبيعته وجوهره وشموليته إلى حلة فردية في المجتمع البورجوازي، إلى حالة مغمورة بتفاصيل وتفاهات الحياة اليومية، إلى حالة لا همَّ لها سوى الاهتمامات الأنانية. إن الإنسان الرومانسي المولود في عصر الثورة إنما كان يشعر بنفسه إنسانا كلّياً مطلقاً، إنساناً شاملاً وليس حالة فردية، ولكنه لم يشعر بنفسه على هذا النحو إلا في عالمه الداخلي فقط، أما في الحياة الواقعية فقد كان يحيط به و من جميع الاتجاهات النثر البورجوازي اليومي. لقد اختنق بذلك النثر الذي كان يتنفسه مرغماً، لكنه أبدا لم يدخل معه في مصالحة أو حتى في مهادنة فانغلق على نفسه باحثاً في الشعر عن انعتاق الروح. وهكذا فإنّ الاحتجاج الرومانسي كان يضمر في ذاته، وعن دون وعي، أفكاراً رجعية النزعة. لقد رفض الرومانسيون رؤية الارتقاء التاريخي ذا الطابع الحتمي لإنسان عصرهم وكذا لمجتمعاتهم الناهضة. وهناك حيث راحوا يفتشون عن أرضية تاريخية لأفكارهم المثالية، كانوا مضطرين لخلق تلك الأرضية خلقاً في مجتمع الإقطاع الأوروبي البائد.
لقد امتلك رفض الرومانسيين للنثر البورجوازي اليومي سببا آخر على درجة من الأهمية، لقد أحسوا مقدار الضرر الذي يمكن أن يحدث للفن إذا ما وقع هذا الأخير تحت سلطة قوانين الحياة اليومية المحكومة بمبادئ المنفعة، وحب المال والمصالح الشخصية. لقد كانوا على استعداد للحفاظ على نقاء الفن وطهره مهما كلّفهم ذلك من أثمان. وأحد هذه الأثمان الخروج من الحياة ذاتها إلى عالم منغلق على نفسه، بعيد عن الواقع اليومي وفقدان الصلة مع الجمهور – القرّاء. لقد أدرك الرمانسيون حجم الخسارة المتمثلة بفقدان الصلة مع القارئ منذ بداية نشوء الحركة الرومانسية. إلا أنهم فضلوا البقاء في الأبراج على النزورل إلى الشارع لأن “الشارع لن يفهمنا”. ولهذا السبب سعى الرومانسيون إلى خلق فن إنساني شامل، عام، غير فردي، محاولين في ذلك أن يكونوا بالنسبة إلى عصرهم كما كان لعصره كلٌ من هوميروس ودانتي وشكسبير مع ضرورة التنويه إلى أنهم فشلوا في المهمة التي استطاع أن يحلها فيما بعد الواقعيون – واقعيو القرن التاسع عشر، وفي مقدمتهم بلزاك مؤلف “الكوميديا الإنسانية”.
مما لا شك فيه أن بلزاك أفاد إفادةً جلّى من الرواية الواقعية في القرن الثامن عشر. “إنني – يقول بلزاك – أعطي لمظاهر الحياة الشخصية، لأسبابها، لبداياتها، اهتماماً يساوي ذلك الاهتمام الذي يبديه المؤرخ عند دراسة الأحداث التاريخية الكبيرة في حياة شعب من الشعوب”. من الواضح أن ديدرو وفيلينغ ( كاتب إنكليزي من القرن الثامن عشر، المترجم ) على استعداد للمصادقة على هذا الرأي البلزاكي، لأنهما سبق وأبديا اهتماما خاصا بوقائع حياة أبطال رواياتهما ومسرحياتهما المختلفة. ومع هذا فإنّ تصويرَ الواقع الحياتي الشخصي عند بلزاك، وكذلك عند واقعيي القرن التاسع عشر مختلفٌ كثيرا عن ديدرو وأترابه. ففي “الكوميديا الإنسانية” تكفُّ الحياة الشخصية للبطل عن كونها عالَماً مغلقاً وتجد نفسها مشدودة بعدد كبير من الخيوط إلى حياة المجتمع الفرنسي بأسره، إنّ فضيلة بلزاك الكبرى لا تكمن في النظرة الجديدة إلى إنسان عصره، بل تكمن في المُدخَل المتنوع دائما في تناول ذلك الإنسان بالدرس والتمحيص. أما من أين جاءت فكرة الكوميديا الإنسانية، فلنستمع إلى ما يقوله بلزاك نفسه: ” لقد ولدت الفكرة من عملية مقارنة البشرية بعالم الحيوان”، وبلزاك يعترف أيضا: ” يَخلق البناء الاجتماعي من الإنسان عدداً من الأشكال والطبائع يعادل عدد المهن الموجودة في المجتمع. وفي النتيجة فإنه يخلق غنىً عن التنوع القائم في عالم الحيوان”.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن على الكاتب من أجل تصوير الإنسان بكل تنوعه وغناه أن يرسم ليس (الفرد) كما فعل التنويريون أو واقعيو القرن الثامن عشر، بل أن يرسم المجتمع بأسره. وهذا ما فعله بلزاك أو ما سعى إلى فعله عن وعيٍ وتصميم كما قال صديقه فيليكس دافين في المقدمة التي كتبها لـ “مشاهد اجتماعية” عام 1835، ولكنْ من أجل تنفيذ مهمة كهذه ينبغي “كتابة درامة بثلاثة أو أربعة آلاف شخصية”. أو كتابة مسلسلة طويلة جدا من القصص والروايات. وضرورة كتابة هذه الدرامة أو المسلسلة يمليها سببٌ آخرُ أكثرُ وجاهةً. صحيح أن بلزاك استفاد من مقارنة المجتمع بعالم الحيوان، لكنه لم يغفل عن رؤية ما بين هذين العالمين من اختلافٍ أيضا. والاختلاف الجوهري بينهما من وجهة نظر بلزاك يكمن في أن المجتمع يملك تاريخه، لأن “الحيوانات متشابهة في جميع الأزمنة والأمكنة، أما الإنسان فلابد من دراسته مجدداً عند كل درجةٍ من درجات الحضارة”.
ومن هنا تنبع المَهمّة الرئيسة لـ “الكوميديا الإنسانية” – رسمُ لوحة شاملة للمجتمع المعاصر في جميع تلوناته التاريخية. والإنسان يختلف عن الحيوان بشيء آخر طبعا، السعي إلى وضع قوانين أخلاقية وحياتية وفكرية تنظم وجود علاقاته، ولهذا فإنّ “على المؤلف العمل على أن يعالج ثلاثة عناصر أساسية – الرجل والمرأة والأشياء المحيطة بهما. وبتعبير آخر الإنسان والحياة”. وقد سعى بلزاك إلى هذا الأمر عن درايةٍ تامّة، كما سعى إلى إبراز “الشكل الخاص المميز للمعيشة الفرنسية”. لقد كان يأمل أنه بفضل أعماله سوف يعرف الناس في عام (1850) كيف كانت تبدو باريس في زمن الإمبراطورية.
عندما يطلق بلزاك على نفسه لقب “مؤرخ” فإنه يُضمّن هذه الكلمة عدة معانٍ، وأبرز تلك المعاني هو فهم ديدرو وأرسطو للفظة: أن تكون مؤرخا يعني أن تسجل وتثبت أخلاق ووقائع حياة معاصريك وأن تخلق بالمقابل الوهم لدى القارئ بأن هذا الذي يقرأه ليس من بنات الخيال بل من تصميم الواقع. ومن هنا نفهم أنه ليس عبثا أن أطلق بلزاك على نفسه لقبا آخر هو: “سكرتير المجتمع الفرنسي”.
والمسألة لا تنتهي عند هذا الحد، فالمجتمع بالنسبة إلى بلزاك ليس مجموعة أفراد، بل “كلٌّ موحَّد”، ولذا لا يكفي أن يكون الكاتب “مجرد خالق لطبائعَ إنسانية، أو مجرد قاصٍ لدرامات الحياة المنزلية، أو موثق للواقع الاجتماعي، أو عدّاد للمهن القائمة، أو مصور للخير والشر، بل يجب أيضا دراسة الأسس أو الأساس الواحد العام الذي تقوم عليه الظواهر الاجتماعية المختلفة. يجب الإمساكُ بالفكرة الخفية الدافعة لهذا الحشد الهائل من الشخصيات، يجب الإمساك بالرغائب والشرور والآلام والوقائع والأحداث التي يعيشها أيضا. يجب العثور على “المحرك الاجتماعي”. وبكلمات أخرى: المَهمّة ليست مجرد رسم المجتمع رسماً ظاهريا وإنما إعادة خلق تركيبته الداخلية بحيث ” يحمل المجتمع المخلوق حركته الخاصة به في داخله”. ولهذا يجب على الكاتب أن لا يقنع بمجرد تثبيت الصورة الخارجية لمظهر الواقع، بل عليه رسم الطبائع والمظاهر التي لا حصر لها في الحياة اليومية، أن يُظهِر وحدة المجتمع في كل تفصيل من تفاصيل عمله الأدبي، عليه أن يلتقط “روح العصر”. وفي هذا الحال فقط يصير المؤرخُ شاعراً والشاعرُ مؤرخاً.
لابد من الاعتراف هنا بأن بلزاك، ومن أجل حل هذه المَهمّة الفنية المعقدة، قد أفاد إفادةً عظيمة من الكاتب والتر سكوت الذي استطاع ببراعة أن يؤلف بين الشعر والتاريخ، ولكن ليس على أرضية الرواية المعاصرة وإنما الرواية التاريخية. كما لابد من الاعتراف أيضا بأن والتر سكوت هو الأب الروحي للرواية التاريخية بوجه عام. إن جميع الأحداث والوقائع التاريخية في روايات والتر سكوت نجد ما يبررها في صور الحياة اليومية وأناسها. العالم عند سكوت مبنيٌّ على مبدأ، (الكل موجود في الجزء)، والتفاصيل الدرامية تاريخية وواقعية في آنٍ معاً.
إن أهم اكتشاف فني لوالتر سكوت هو ربط علائق الحياة الشخصية للناس بالأحداث التاريخية الجِسام للمجتمع بأسره، وبهذا يكون سكوت قد ” حزرَ الوثبة الروحية للعصر”، حسب تعبير ستندال.
إن اسم الكاتب السكتلندي ( والتر سكوت) غالباً ما يتردد في المقالات والرسائل التي كتبها بلزاك نفسُه. لقد دهش بلزاك من الصدق التعبيري الرائع، الحقيقي، الحياتي، في روايات سكوت التاريخية. إن أكثر ما لفت انتباه بلزاك في أعمال سكوت هو تلك القدرة الخارقة على تصور ذلك الجانب من التاريخ الذي لم يفطن إليه المؤرخون، “الغوص في عمق جوهر المجتمع” و “تصور روح وأخلاق العصر”، أو بتعبير آخر، ذلك الجانب من التاريخ الذي تجاهله مؤرخو الماضي فلم يتركوا لنا بالتالي سوى “الحقائق الجافة”، والتعبير لبلزاك.
لقد رأى بلزاك في أعمال سكوت وحدةً ومزجاً رائعين لأشياءَ كان يبدو من المستحيل توحيدها ومزجها، الرواية والتاريخ، والشعر والعلم، السياسة والواقع المعاش، الحياة الخاصة للناس والأحداث التاريخية العِظام. كما رأى شيئا آخرَ على درجة من الأهمية، قدرة الخاص على أن يكون اختصارا للعام، على أن يكون رمزا له أو ” موديلاً “. إنّ الأزمنة والأمكنة عند سكوت مهما قلّتْ أو صغرتْ تظل قادرة على حمل روح العصر كله وعلى عكس ذلك الروح.
لقد درس بلزاك بأناة البناء الفني لروايات سكوت بحثا عن القوانين التي تحكم ذلك البناء وبخاصة أن سكوت نفسه يعترف بعدم وجود أية قوانين أو نظم موضوعة من قِبَله سلفاً. ولكن لابد من وجود قوانين ما، وسكوت يقول: “لقد ظهرتْ في غبار العمل”.
القوانين الفنية عند والتر سكوت إنما تظهر من المادة الحياتية المصوّرَة. وهذا ما لا يناسب بلزاك. أما لماذا؟ فلأن بلزاك لا ينوي الكتابة عن التاريخ بل عن المجتمع المعاصر، ولهذا يجب ألا تظهر القوانين لديه ” في غبار العمل” بل يجب أن تكون موجودةً سلفا وعن وعي كامل.. كانت الثورة الفرنسية والحروب والمعارك التي لحقتها قد حملت شعوب أوروبا إلى تيار الحركة التاريخية الصاخب. ففي غضون جيل واحد من الناس وعلى مرأى ومسمع الجميع حدثت تغيّرات تاريخية جذرية، وذهب، إلى غير ما رجعة، نظامٌ سياسي واجتماعي ساد حياة الشعوب لأكثر من ألف سنة. كان التاريخ بعد الثورة يقف للناس في الطرقات العامّة، وأكثر من هذا: كان يدق أبواب بيوتهم. لقد حدث شرخ كبير في حياة البشر. ولهذا كله كان بلزاك يفتش لنفسه عن القوانين الفنية الواعية.
إذن، ما الذي أخذه بلزاك من سكوت؟
يقول الكاتب الإيطالي (شيزار كانتي) في مذكراته إنّ بلزاك قال مرةً في صالون الأميرة (ماغي) في مدينة ميلانو: إنه وجد عند والتر سكوت سر فن تصوير الأخلاق، وإنّ كل الذي فعله هو تحويل أبطال العصر الوسيط إلى: موظفين، مرابين، صيارفة، مخبرين، علماء، طبّاخين، رجال بوليس، إلخ….
لابد من الاعتراف بأن بلزاك قد نقل مبادئ الرواية التاريخية المكتشَفة عن سكوت إلى الرواية المعاصرة. ولكن هذا النقل بذاته يحمل فضلاً عظيماً على الرواية العالمية لا يقل عن ذلك الذي جاء به سكوت. إنّ الموضوعة التاريخية في الأدب ليست اختراعا ” سكوتياَ “، فغالباً ما نرى مواضيعَ تاريخية في أعمال كتّاب عصر النهضة وكذلك لدى الكتّاب الكلاسيكيين. إلا أن هؤلاء جميعا لا يرون في التاريخ سوى شيءٍ ما “أبدي” على النقيض مما جاء به سكوت في معالجته للتاريخ حيث استطاع أن يصور بدقة التلون القومي والتاريخي للأحداث والشخصيات والمجتمعات. عند قراءة روايات سكوت في القرن التاسع عشر من أحداث تدور في عصر الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد، أو في عصر ملكة اسكوتلندا ماري ستيوارت، فإن إنسان القرن التاسع عشر لم يكن يبحث عن التجانس بين تلك العصور وبين عصره، بل وبفضل البون الشاسع بين العصرين كان يشعر على نحوٍ حاد بخصوصية العصر الذي يعيش فيه، تلك الخصوصية المميزة له والمتميزة بذاتها، أو تلك الخصوصية غير المكرورة أبدا. وفي هذا المعنى فإن الرواية التاريخية التي تستمدّ موضوعها من المجتمع المعاصر والتي وضعها كل من ستندال و بلزاك، ما كان لها أن ترى النور لولا أن مهّد أمامها الطريق والتر سكوت برواياته التاريخية المختلفة. ومع هذا فإن التحول إلى تصوير الحياة المعاصرة وخلق نوع من التجانس على أساسها بين الشعر والتاريخ _ مايزال مهمة على درجة عالية من التعقيد.
قبل كل شيء، النثر الحياتي الذي يستخدمه سكوت ليس نثراً بالمعنى الكامل للفظة. أو هو نثر الزمن الشعري، الزمن الذي كانت فيه العلاقات بين الإنسان ومحيطه بسيطة ومباشرة. ما يزال مندمجا في محيطه، ومن هنا جاء الشعر أو النثر الشعري. ونثرٌ كهذا بعيد كل البعد عن نثر الحضارة البورجوازية الصاعدة، وهو ذات النثر الذي كان يمثل حجر عثرة بالنسبة إلى الفن الرومانسي. ثم إن سكوت – باستخدامه الشعر – كان يعكس روح العصر “الماضي”، “المكتمل”، “البعيد”. ولكن، كيف يمكن استخدام الشعر بالنسبة إلى زمن “حاضر”، “متغيّر” باستمرار و “غير مكتمل”؟ وكيف يمكن التعبير بالشعر عن زمن لا علاقة له بالشعر أساسا؟ أو عن زمن هرب منه الرومانسيون بسبب ما فيه من ” فظاظة النثر اليومي” إلى عوالم الشعر الغامضة أو هل سيساعد الشعر على الغوص في أعماق المجتمع بحركته وتغيراته اليومية أم سيكتفي برصد الظواهر رصداً خارجياً فقط؟!
لقد لاحظ بلزاك بوضوح الاختلاف الجوهري بين المجتمع المعاصر وبين المجتمعات التي كتب عنها والتر سكوت، ولهذا كان لابد من تغيير الأشكال الفنية التي استخدمها سكوت، وهي ذات الأشكال التي وضعت الكاتب الكبير في عداد “الرومانسيين” إلى حد ما، وربما إلى حد بعيد. أما “الكوميديا الإنسانية” فقد أظهرت نفسها كدرجة جديدة في سُلَّم الأدب العالمي. ولم يستطع بلزاك إلا أن يحس بالحدّ الفاصل بين فنّه وفن والتر سكوت، مع أنه يؤكد وقوفه مع سكوت تحت لواء واحد – لواء “الأدب الاصطفائي”..
العصران مختلفان ولذا لابد من وجود وسائل مختلفة في التعبير. هذا هو الفارق الأساس بين الكاتبين العظيمين. لقد كتب بلزاك عن فرنسا مابعد الثورة، عن زمنٍ يمكن فيه أن تكون “زوجةُ التاجر زوجةَ الجنرال، وزوجةُ الأمير تستحق أن تكون زوجة فنان”. لقد كتب عن زمن يعتمد فيه شكل الفرد “على الفرد نفسه”، عن زمن يعتمد فيه الوضع الاجتماعي “على الصدفة”. كتب عن زمن تكون فيه الحياة الخاصّة للفرد مظهراً عاماً للمجتمع. ومن أجل خلق “المحرك الاجتماعي” أو منهل الحركة الاجتماعية لابد من إيجاد نظامٍ فني أكثر تعقيدا وشمولية من ذلك الذي استخدمه والتر سكوت.
إن فكرة “الكوميديا الإنسانية” وبناءها ليست إلا محاولة بلزاك تذليل العقبات التي تحول دون رؤية المجتمع والناس بطبائعهم الشخصية المُميزة لهم وعلاقاتهم المختلفة في “كلٍ واحد.. وفي هذا المجال لابد أن نقول إنّ بلزاك قد أفاد مرة ثانية من والتر سكوت. قال بلزاك: ” لا يكفي أن تكون إنساناً. ينبغي أن تكون نظاماً. والتر سكوت كان فكرة. لقد ترك لنا عددا من الصخور بديعة النقش.. وكل صخرة منها رائعة بذاتها، ففيها يتنفس العصر كله.. ولكن، أين التمثال؟ “. وفي مقدمته لـ “الكوميديا الإنسانية” كتب يقول: “لقد شمخ سكوت إلى درجة خلق رواية الفلسفة والتاريخ، ذلك النوع من الأدب الذي لا يظهر إلا كل مئة سنة مرةً واحدة، والذي يزين كما الأحجار الكريمة الأصول الشعرية العظيمة لتلك الدول حيث يشع منه الكلمة. ولكنه – أي سكوت – لم يخلق نظاماً فنياً محددا بقدر ما وجد طريقته الخاصة في غبار العمل، أو بفضل المنطق العفوي الذي استوجبته تلك الأعمال. إنه لم يفكر بربط قصصه الواحدة بالأخرى”. لقد رأى بلزاك في غياب الربط بين قصص سكوت ونَظْمها في مسلسلة واحدة، نقيصةً كبرى من وجهة نظر تاريخية، وبما أنه قد رأى الأمر كذلك، فقد كان يتعين عليه ألا يكرر الخطأ نفسه، فعمدَ بالتالي إلى خلق مسلسلته الشهيرة “الكوميديا الإنسانية”، حيث كل رواية أو قصة منهية بذاتها، ولكنها في الوقت نفسه مرتبطة بما سبقها وما سوف يلحق بها، ولذا أعطى بلزاك لكل رواية على حدة اسم “مقطع” أو “مظهر” من المظاهر الكثيرة للحياة التاريخية في المجتمع ككل.
كتب بلزاك في وقت متأخر يقول: “هذه المقاطع عبارة عن أجزاء في لوحة من الفسيفساء”. والمقارنة بالفسيفساء ليست صدفة، لقد أحب بلزاك مقارنة “الكوميديا الإنسانية” بـ “ألف ليلة وليلة”، كما أحب مقارنة نفسه بـ “شهرزاد”، التي تروي عدداً كبيراً من الحكايات المختلفة المحكومة بنظام صارم. البطل عند بلزاك ليس بطلاً إلّا لرواية واحدة وليس للمسلسلة كلها. إذن ليست المراحل المختلفة من حياة أحد الأبطال هي ما يوحد الروايات جميعاً في وحدةٍ واحدة. الكل هو المجتمع. من الممكن طبعا أن نحاول محورة روايات بلزاك حول شخصية واحدة ولتكن شخصية “راستنياك”، التي نصادفها في اثنتين وعشرين رواية، فلنحاول ذلك وسرعان ما سيُسقط في أيدينا لأن راستنياك بطل رئيسٌ في رواية واحدة فقط هي “الأب غوريو”، أما فيما تبقى فهو ليس إلا شخصية ثانوية.
وهكذا فإنّ محاولة كهذه سوف تعيقنا عن فهم “الكوميديا الإنسانية” ككل، ولهذا يجب التسليم بأن كل رواية في هذه المسلسلة ليست إلا مقطعا في “رواية ضخمة عن المجتمع”.
ليس صدفةً أنّ بلزاك يكتب هاتين الكلمتين “الكوميديا الإنسانية” بالحرف الكبير. فـ “الكوميديا الإنسانية” هي صورة المجتمع الذي يحمله بلزاك “في رأسه، المجتمع كما يراه هو، ويعكسه. المجتمع في زمنٍ كل شيء فيه يتحرك. “هذا العصر – يقول بلزاك – ليس مرئياً من قِبل جميع من يساهم في صنعه. إنّ المجتمع عاجز عن رؤية المنظر المرعب. عاجز عن رؤية عمل الآلة العملاقة التي يحركونها بأنفسهم. ولكن، سوف يأتي يوم يكون فيه عالمنا الراهن جزءا من الماضي، وسوف تكون الإحاطة بالمنظر أمرا يسيرا للشاعر والمؤرخ والفيلسوف وحتى الصحفي”. ولكنّ الإحاطة بهذا الأمر الذي يعجز المجتمع عنه متيسر بالنسبة إلى عبقرية بلزاك. لقد لاحظ بلزاك كل شيء. لاحظ وفهم أن كل شيء قد دخل في الحركة وأن من المستحيل إيقافه. وهذه الحركة ترعب بلزاك أيّما رعب.
” لو كان الحظ سيبتسم للفنان، لو كان الفنان قادرا على تصوير الواقع بشكل صادق متكامل، فإن الفكرة الوحيدة لأعماله الإبداعية ستكون ذلك الشيء العظيم الذي يتحرك حولنا، ففي بعض اللوحات يستحيل فصل الفكرة عن الشكل “…
لماذا اتخذ بلزاك من المجتمع الفرنسي موضوعا لأعماله؟ هل بسبب الواجب الوطني؟ أو “الحماس القومي”؟ لا، أبدا. ولكن لأنه رأى في المجتمع الفرنسي تربةً خصبة لفن الرواية. في انجلترا يسيطر الواجب، وإيطاليا تفتقر إلى الحرية، أما في ألمانيا فلم يتوضح شيء بعد، وفي روسيا يسيطر الإقطاع المقيت ويفرض أخلاقه.
” فرنسا وحدَها مؤهلةٌ لتطور فن الرواية. الأخلاق الفرنسية تبزُّ أخلاق الشعوب الأخرى من حيث تنوع النماذج والطبائع المختلفة. الصدامات الدرامية أكثر حدّةً في فرنسا وأكثر حياتية. هنا في فرنسا يتحدثون عن كل شيء، يفكرون بكل شيء”. هذا لا يعني بالضرورة أن الأخلاق الفرنسية في منأى عن النقد البلزاكي. الإيجابي عند بلزاك في تماس مع السلبي، وكذلك الخير مع الشر والظلمة مع النور، والتعمير مع التخريب، والشِعر مع النثر.
“في الحياة – حسب رأي بلزاك – يسيطر قانون التضاد”. وهو أمسك بهذا القانون وعثر عليه في كل شيء حوله – في الطبيعة، المجتمع، الفن: الروح والمادة، الحياة و الموت، الشِعر والنثر، الرسم والتدرّج اللوني، الانسجام والنغمة، أدب الأفكار وأدب الصور، إلخ… وهو يسعى دائما إلى تركيب المتناقضات أو إلى خلق وحدتها الكليّة. والتركيب عند بلزاك ليس مصالحة الأضداد وإنما خلق شكلها الذي يجعل من الممكن تحريكها في وحدة واحدة. لم يسعَ بلزاك إلى خلق المطابقة بين الشِعر والنثر. النثر هو النثر، ولكنه مضمّن في التيار العام لحركة الحياة والتاريخ، ولهذا السبب يصعب فصله عن الشعر. النثر هو القشرة، والشعر هو النواة. هنا توجد فجوةٌ ما، وبلزاك يشعر بوجود هذه الفجوة على نحو حاد. إنه لا يذيب الشِعر في النثر ولا النثر في الشعر، ولكنه يرى العلاقة بينهما. النثر ليس سوى الشكل الذي تتحرك وتتطور فيه الحياة. الشعر يجب أن يكون محمولا في النثر إذا كان يريد الحفاظ على نفسه – وهذه نقطة افتراق رئيسية بين بلزاك والرومانسيين – وإذا كان لا يودّ أن يفقد حياتيته وحركيته وخصائصه المميزة فيجب أن يرضى بهذا المصير.
نجد لدى بلزاك هذه الكلمات: ” واحدٌ ضد الضرورة – الضرورة تتحول إلى، ربّة بيت، إيجار شقة، غسالة، إلخ…” فلنفكر بهذه المقولة: ” واحد ضد الضرورة “- أليست هذه هي الموضوعة العظيمة للفن العالمي بأسره منذ أخيل هوميروس وحتى ” قابيل” بايرون؟ ولكن، في المجتمع المعاصر، يريد بلزاك أن يقول لقد أخذَتِ الضرورةُ أقصى أشكال النثر تطرفاً، تحولت إلى إيجار شقة أو غسالة، أي إلى أدنى تفاصيل المعاش اليومي. الضورة التي كانت سابقا تراجيديا تحولت في هذا العصر إلى نوع من (الفارْس – شكلٌ من الكوميديا الخفيفة، المترجم). وعلينا ملاحظة أن بلزاك يطلق على مجمل أعماله كلمة (الكوميديا الإنسانية). وبالمناسبة، من الخطأ قراءة المقولة السابقة في اتجاه واحد فحسب بل يتوجب قراءتها في الاتجاهين من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين، وهذا يعني أنّ الشعر قد تحول إلى نثر والنثر يحمل الشعر في داخله أيضا. وبكلامٍ آخر، لقد وجد بلزاك في النثر القوانين العظيمة الخالدة في حياة البشر. وبملابس النثر يمكن لعب تراجيديا عظيمة مساويةٍ بقوتها وحجمها لجميع التراجيديات السابقة. فالدرامة التي تدور في بيت غراندي – نسبةً لرواية بلزاك: أوجين غراندي، المترجم ” أكثر وحشية من جميع الدرامات التي تمت في عائلة ماكبث النبيلة”.
عندما نقرأ في “كوزين بونس” – إحدى روايات بلزاك، المترج – هذه الكلمات: “أن تمتلك دخلاً أم لا تملك، تلك هي المسألة، هكذا قال شكسبير” – فإننا نشعر بحدّة حجم التغيرات الحاصلة في المجتمعات الأوروبية خلال مئتين من الأعوام، نشعر ببعد المسافة بين السؤال العظيم الذي كان يؤرق هاملت، “أن تكون أو لا تكون” وبين نثر رجل الشارع في فرنسا بلزاك. وإذا كان بلزاك يسخر من الأخلاق الجديدة السائدة فإنه يثّبت، في الوقت نفسه، أن هذه الأخلاق هي الطابع المميز للعصر بمجمله.
لقد وجدت الحضارة البورجوازية في بلزاك ليس ناقدها فحسب بل وشاعرها أيضا، هذا بالطبع إذا كانت قد امتلكت شاعراً في وقت من الأوقات.
إن مسألة تركيب الشِعر والنثر تمتلك جانباً آخرَ في غاية الأهمية.. الحقيقة الشعرية أو الحقيقة الفنية لا يمكن أن تتطابق مع الحقيقة التاريخية أو الحقيقة الحياتية..
“لن أملّ من تكرار القول – والحديث لبلزاك – بأن الحقيقة الطبيعية (من الطبيعة، المترجم) لا يمكن أن تكون أبدا حقيقة فنية. أما إذا حصل تطابق ما في عمل فني ما بين الفن والطبيعة فهذا يعني أن الأمر قد تم بالصدفة الخالصة أو بسبب عنصر “الفجاءة” الذي تزخر به الطبيعة”. وفي مكان آخر يقول: “بغض النظر عن النوع أو الجنس الذي كتبتُ فيه العمل الفني فإنه يعيش في ذاكرة الناس في حالة واحدة فقط، أن يكون خاضعا لقوانين المثال و الشكل”.
لقد أكّد بلزاك في مراتٍ كثيرة على ضرورة مراقبة الحياة برويّة ودراستها بأناة “عبقرية الملاحظة – يقول بلزاك – هي العبقرية الإنسانية كلها”. إنه يفهمُ على نحو جيد أن لوحة الفنان أشدُّ فقرا من لوحة الطبيعة وأنه ليس ثمة وسيلةٌ لدى الفنان لنسخ الحياة بكل تنوعها. ولذا فإنه لا يجب أن يضع نصب عينيه مهمة مستحيلة كهذه.
“الكوميديا الإنسانية” ليست نسخة عن المجتمع بل هي اختصار له، موديل، نموذج – ” إنها درامة تلعبها أربعة أو خمسة آلاف شخصية”. “عملي – يقول بلزاك – يملك جغرافية، سلالة، عائلة، أمكنة، مواقف، شخوصاً وحقائق، أصحاب شعارات، أقطاعا بورجوازية، صناعة، سياسيين، جيشا، وبكلمة واحدة: عالَماً”.
في ملحمته العظيمة يحاول بلزاك إعطاءنا القانون الرئيس المتحكم ببناء المجتمع حيث المظاهر – مهما تباينتْ – مربوطة ببعضها ومشدودة إلى أساسها الواحد المشترك. وفي الفن يجب أن يكون الأمر كما في الحياة، كل شيء مرتبط بما حوله بقانون السببية. ولكنْ هنا بالذات تكمن الصعوبة الرئيسة. ففي الحياة ثمة أفعالٌ وأحداث تقع لا نملك أن نقول في حقها سوى إنها غير ممكنة. ماذا يعني هذا؟ إنها تبدو كذلك بسبب عجزنا عن رؤية الجذر الحياتي الذي خرجت منه هذه الأفعال، أو بسبب عجزنا عن ربط هذه الوقائع بتصوراتنا المحدودة عن العالَم. إذن، العيب فينا وليس في الحياة، فالحياة تملك قوانينها وينبغي علينا نحن أن نملك القدرة على الرؤية، أن نملك “عبقرية الملاحظة”، علينا أن نوسّع مداركنا الناقصة. ومهما كان الأمر ففي الفن يبقى الوضع مختلفا إلى حد ما. على الفنان أن يقنعنا بواقعية الشخوص وحياتية الأحداث التي يخلقها، ولهذا يبدو كل شيء مقلوباً، فمن أجل تصديق الظواهر المختلفة والاقتناع بحياتيتها علينا أولا أن نفهمها. “الطبيعة – يقول بلزاك – لا تحتاج إلى كتب تفسّرها. الحقائق الطبيعية مفسَّرة بوجودها ذاته. أما عملية نقل الأحداث من الحياة إلى الأدب فعلى الكاتب أن يرينا الجذر الذي خرجت منه تلك الأحداث”. لذا فإن “الواقعي” و “الحياتي” عند بلزاك هو ذلك الشيء الذي يمكن تفسيره.
في روايات بلزاك نجد أن كل شخصية وكل تفصيل يعكس ليس نفسه فحسب بل والعالم الذي يحيط به أيضا.
ولكنَّ الفنَّ يخلق علاقاته السببية المميزة له عن الواقع. إنه يشيّد بناءه الخاص. وهنا فإن كل حقيقة منقولة عن الحياة إلى الفن إنما تغيّر ثوبها الأول لتدخل بانسجام في البناء العام للعمل الفني كعنصرٍ من العناصر المشكّلة لبنائه. ولهذا لا يمكن في الفن أن يكون شيءٌ ما موجوداً بالصدفة، كل شيء هنا يصبح ضروريا، حتميا ومبرمجا. ولكن، ألا يخالف هذا القول مقولة بلزاك الشهيرة: “الصدفة أهمُّ رواية في العالم”؟ إنها مقولة هامة جدا، وعلينا أن نفهمها على نحو صحيح. لو تحدثنا بشيء من التجهم لقّلنا: إن عالم الصدفة بالنسبة إلى بلزاك غير موجود. الصدفة المجرّدة غير موجودة. ما هو موجود هو رؤيتنا للأمر على أنه صدفة. يقول بلزاك: “مهمة العبقرية هي إظهار مافي الصدفة من إقناع”. في عالم بلزاك تتحول الصدفة إلى مظهر للحتمية. الصدفة ليست مجرد قيمة ذاتية، إنها مرتبطة بالحتمية من كل بد، و “الكوميديا الإنسانية” تكشف الغطاء عن هذه العلاقة. ولكن من الخطأ أن نفهم الأمر على أنه تطابق بين الصدفة وبين الحتمية. الحياة بالنسبة إلى بلزاك تقول الشيء الكثير، والصدفة عنده تأخذ مظهر “وسيلة للتعبير” عن هذا الغنى والتناقض غير المحدودين في الحياة.
لا تكتفي “الكوميديا الإنسانية” بتحويل الصدفة إلى حتمية بل وتعمل أيضا على تحويل الحتمية إلى صدفة. ففي إطار رواية “الأب غوريو”، يبدو لنا مصير راستينياك حتمية تاريخية لتطور المجتمع، ولكن إذا نظرنا إلى الشخصية ذاتها في إطار “الكوميديا الإنسانية” ككل، فإنها لن تظهر لنا إلا على أنها جزء من خاص بحادثة عابرة أو عرَضية، لن تظهر أمامنا إلا على أنها شكل من واحد من الأشكال الكثيرة التي تزخر بها الملحمة.
وهناك سبب آخر يجعل بلزاك مولعا بالصدفة، فالحياة بالنسبة إليه هي الأساس الديناميكي، الإبداعي، المتغير باستمرار. والصدفة في هذا المجال هي تنامي المستقبل، هي الجديد، هي الأشكال التي لم تكتمل من قبل والباعثة دائما للأشكال الحياتية الجديدة المتغيرة، هي مقولة الحياة الناقصة بعد. وبما أن مهمة “الكوميديا الإنسانية” هي خلق صورة كاملة للعالم المتطور المتحرك أبدا فإن واجبها الإمساك بتلك المقولة. بلزاك لا ينسخ الواقع فحسب بل يتسابق معه أيضا. فعلى الكاتب – من وجهة نظر بلزاك – أن يستكمل ذلك النقص الحاصل في المقولة.