الورقة الأولى
نفخ الطفل أنفاسه على راحتيه، وتابع السير فوق ألواح جليدية، يحاذر الانزلاق فوقها، فهو إن أبطأ سيتأخر عن موعد قرع جرس المدرسة الصباحي. وإن أسرع سيسقط أرضا وعلى كتفه كتب الدراسة ودفاتر الكتابة، المعبأة في “حقيبة”، هكذا يسمونها أطفال الفقراء وهي عبارة عن كيس من القماش، أو الخيش، تخطنه الأمهات ويضعن له حمالات قماشية أيضا، وبعضها تكون حمالات الحقيبة عبارة عن حبال توصل بالكيس، طويلة أحيانا لتوضع على الظهر، أو قصيرة لتمسكها أياديهم الغضة وهي ترتجف من البرد والصقيع، خاصة في شهري كانون الأول وكانون الثاني.
كانت رؤوسنا هي الأكثر عرضة للريح، ولحمايتها من الصقيع الذي لا يرحم طفولتنا، كنا نرتدي أنواع من الطاقيات، قطنية أو صوفية، نشبه تلك التي صرنا نشاهدها في الأفلام البوليسية، على رؤوس الشقاة، أو في الأزياء الخاصة بالمجموعات الإرهابية، فلا يظهر من الرأس سوى العينين، وهو ما كان يساعد على اكتساب بعض الدفء لوجوهنا من أنفاسنا الصاعدة من أنوفنا، المحتجزة خلف قماش الطواقي.
بعضنا كان يملك قفازات لليدين، تصنعها الأمهات أو الجدات، من أقمشة استهلكت،وأعدن تدويرها، لتخفف من برودة راحتينا، فنحن سنحتاج أصابعنا لمسك القلم، مع بدء الدرس الأول، في الحصة الصباحية الأولى.
كنت أخشى من درس الحساب، وهو غالبا ماكان في الحصة الأولى، وأي خطأ سيعرض الراحتين للضرب القاسي ” بالخيزرانة”، أو بقضيب رمان، فتكون الآلام مضاعفة إذا لم تكن الراحتان دافئتين الى حد ما، وهو مايفسر نفخ التلاميذ أنفاسهم على راحاتهم، خلال انتظارهم لسؤال الأستاذ، أو برهة تسمرهم بجانبه، قبالة السبورة، لحل تمرين حسابي ما.
للتحايل على ألم الراحات الغضة الصغيرة، تداول التلاميذ، المتقدمون في الصفوف ، أن اليدين لا تعودان تحسان بالألم، الذي تصنعه العقوبة القاسية من معلمي المدرسة، إذا تم مسحهما بدم” الحردون”، صدقنا تلك ” الفكرة” وشرعنا، حين ارتقينا الى الصف الثالث، نبحث بين دروب البساتين عن الحرادين، لنذبحها ونمسح ايدينا بدمها المسفوح. ذلك الوهم عن ممانعة الألم بمسح راحاتنا بدم الحردون، هو على الغالب تأسس على الشبه بين قوام جسد الحردون وجسد التمساح، فالفكرة المغروسة في عقولنا الصغيرة عن تحمل التمساح للصدمات، جعلتنا نتوهم بان الحردون مجرد تمساح صغير، فمضينا لقتله ومسح أيدينا بنقاط دم قليلة تسيل منه عند الذبح.
عالمي اليومي، خلال تلك المرحلة، الأول إبتدائي وحتى نهاية الصف الثاني، كان الطريق من البيت الموجود بين بساتين المزة، وبين المدرسة الابتدائية، التي أطلقت عليها وكالة غوث اللاجئين اسم قرية أهلي في فلسطين ( بلد الشيخ)، فالنسبة الأكبر من الفلسطينيين في المزة ينحدرون من قريتنا. ولم أكن أستوعب ذلك إلا بعد مضي عامين وأكثر على ذهابي إلى المدرسة.
قبل دخولي الى المدرسة كنت أرافق أبي أو جدي، إلى السوق الصغير في بلدة المزة القديمة، وعندما يكون الفصل شتاء كنت التزم البيت. ولا تخلو تلك الأيام من تسلل خارج البيت في غفلة من أمي، لأشارك من هم في عمري، أو أكبر بسنة وسنتين، للعب في الدروب والشوارع الداخلية الصغيرة.
ذات يوم، وكان يوم جمعة، مضيت مع أولاد الجيران، وهم مثلي أبناء لاجئين، إلى مشوار اعتادوا هم عليه مرة في الأسبوع، وعندما يعودون كنت الاحظ أن بين أيديهم نقوداً معدنية صغيرة،أكثر مما يمكن أن يحصلوا عليه من آبائهم، فالفرنك ( خمسة القروش) أو نصف الفرنك ( قرشان ونصف) هو ما يصل لأيديهم من آبائهم، وإن تكرم الآباء فعشرة القروش، لطفل لم يكمل الخمس سنوات من عمره، كانت تعد امتيازا وثروة نعتز بها. وفهمت منهم أن الوفرة بين ايديهم، من النقود المعدنية، في أيام الجمعة من كل أسبوع، يأخذونها من الجامع.
ذات جمعة انتظرتهم، ورافقتهم، وسألتهم كيف تأتون بالنقود؟ فأجابني أحدهم ، وهو الأكبر سناَ، أن علي أن أفعل كما يفعلون.
وصلنا الى باب الجامع، وبتوقيت مدروس منهم، قبل انتهاء صلاة الجمعة بدقائق، وفعلت مثلهم، فتحت يدي ومددتها مثل ما فعلوا. وماهي الا دقائق حتى بدأ المصلون يخرجون من باب المسجد. عندما رأيت الرجال يمدون ايديهم الى جيوب سراويلهم أو قنابيزهم، يخرجون القطع النقدية وثم يسقطونها في راحاتنا الممدودة، انتابني شعور مختلط من فرح وخوف، غير أن رنة النقود في يدي أبعدتني عن هواجسي ومخاوفي. وما هي الا دقائق انتهى فيها المصلون من مغادرة المسجد، فمضينا معاَ الى الدكان، اشترينا بجزء مما ” تسولناه”، كعك وقضامة، ورجعنا الى البيت، وفي يدي ما لا يزيد على نصف الليرة، من قطع نقدية صغيرة، فرنكات وأنصاف الفرنكات، وأذكر انني كنت قابضا عليها بقوة، خوفا من سقوطها من راحتي. كنت مسرورا، وأجهل معنى ماقمت به، فدخلت بوابة الحوش الذي كنا أكثر من عائلة نسكن به، وقبل أن تسألني أمي: وين كنت؟ فتحت كفي ومددتها لتأخذ ماتسولته في تلك الجمعة الموصوفة، وكل ظني أنها ستبتهج بحصولي على ذلك المبلغ، وبعد أن أخبرتها بقصة الوقوف باب المسجد ومد اليد، قدح الشرر من عينيها، وشاهدت دمعة تتحرك فيهما.
قالت لي أمي ضعهم هنا” على حافة الشباك” وأبت أن تتناولهم بيدها، وكان يوما لا ينسى. صفعتني، وسحبتني من يدي، ثم أخرجت دبوساَ مشكوكا أعلى ثوبها، وقبضت على يدي وهي تسألني ” رحت تشحد يامصطفى” ؟ لحظنها فهمت ان ما فعلته مع رفقائي يسمى ” شحادة”. ونفر الدم من وخزات الدبوس العنيفة على ظهر كفي، وكانت قد سألتني أي يد مددتها وانت تقف بباب المسجد؟ كانت اليد اليمنى، فحرثتها بوخزات قوية وكنت أتألم وأبكي، ثم انهمرت دموعها، وأدارت لي ظهرها، وهي تطلب مني أن أقذف النقود في الشارع.
كان يوما مفصليا في حياتي، حتى أنني صرت أرفض استلام العيدية من أقاربي عندما يأتون لزيارتنا، أو نذهب نحن للقيام بواجب المعايدة. ومرة إثر أخرى صرت أقبل أخذ العيدية بموافقة أمي ، وتوضيحاتها أن هؤلاء أقاربنا، وفي العيد الجميع يفعل ذلك. وهي أمر مشروع ويحبه الأطفال، لكنه ارتبط في وعيي بأنه تسول أيضاَ.
عزة النفس وحفظ الكرامة والعصامية، كانت طبيعة أمي رحمها الله. فبعد حادثة” الشحادة”، وربما قبلها بقليل، وبعد زيارة رافقتها فيها عند إحدى جاراتنا، وهي زوجة صاحب الدكان في الحي، قدمت لنا المرأة ضيافة: سكاكر وفستق وقضامة مغطسة بالسكَر، لم أتجرأ أن أمد يدي لتناول شيئ منها إلا عندما أصرت أن تناولني صاحبة البيت، مضيفتنا ، فأخذت. وعادت المرأة تخاطبني أن أتناول من جديد، وبإلحاح، فتناولت حبة ” ملبس اللوز” المعروف بيض الحمام، ولونها زهري، فلاحظت غضبا في عيني أمي. ولما عدنا الى البيت أنبتني، وبيديها راحت تضرب ظهر يدي، وتنبهني أنه لا يجوز أن أمد يدي على مواد الضيافة، حتى لو أصرت مضيفتنا.
أولاَ بأول بدأت أعرف هويتي المفقودة.
“أنت فلسطيني؟”. لم أرد الجواب على بائع الخبز الافرنجي( الصمون)، وكم كنت أشتهيه لشكله ورائحته ومذاقه، والفرنك، خرجيتي، عندما استلم خرجية من أبي، غالبا ما أنفقها للفوز برغيف الصمون.
سألت أمي بعد وصولي إلى البيت: ” يما شو يعني فلسطيني؟” فبدأت سرديتها من ذلك التاريخ1954) حتى لحظة رحيلها في سنة 2014، وكأنها كانت تقاوم الموت لتكمل روايتها، وعلى كل حال كان سردها متجددا، لم يتوقف عند تراجيديا أيام مغادرة البلدة في فلسطين، ففي كل حدث تعيد تأسيس مقطع كبير، أو صغير، يتصل بمطلع الرواية الفلسطينية كما عاشتها، وكما تشكلت أحداثها في وعيها. (ولقد تعلمت من سردها وحكاياتها، خارطة حيفا وأحياءها، والطريق اليها من بلد الشيخ باتجاه الشمال الغربي، مسافة أربع كيلومترات). وعندما قرأت أول رواية لإميل حبيبي” سداسية الأيام الستة, سعيد أبي النحس المتشائل”، بعد مايقرب عقدين تقريبا، تخيلت أنني أعرف المكان الذي بنى فيه حبيبي أكثر أحداث عالمه الروائي، هو لي وليس للرواية وكاتبها، فما سمعته من حكايات بصوت أمي، وضعني في قلب تلك الأمكنة، أقله أنني لم أكن بحاجة للسؤال: ماهي علاقة ” حواسة” ببلد الشيخ ، وموقع مصفاة النفط منها، وجسرشركة” شل” الهولندية من أراضي بلدتنا، أين يقع وادي النسناس، أو كيف نصل إلى شارع الكنائس، ولا كم يبعد عن ساحة الجرينة، وكيف نصل إلى مستشفى حمزة، أشهر المشافي في حيفا حينذاك، أو عن الطريق إلى جامع الاستقلال.
لم تقل لي أمي عن موقع مكتبي المحاميين “هنري كتن وحنا عصفور”، في حيفا، لكنني عرفت منها أنهما أشهر من دافع عن المعتقلين من الثوار والسياسيين الذين ألقت القبض عليهم السلطات البريطانية، منذ الثلاثينيات وحتى النكبة 1948. الفضل يعود لأبي في إثارة أسئلتي مع أمي عن هنري كتن وحنا عصفور. فهو كان يشبَهها بهما عندما “يتناقر معها بالمشادات الكلامية” فيقول لها: ( والله انك أقوى من هنري كتن وحنا عصفور) دلالة على عجزه عن إثبات أن الحق إلى جانبه، وحقيقة لم يكن الحق إلى جانبه في أكثر المشادات.
من وحي تلك المشادات، كتبت قصة قصيرة في العام 1995، بعد أوسلو( اتفاق قيادة المنظمة مع اسحق رابين)، وسمحت لي شخصية أمي وذاكرتها، بتوسيع مخيلتي في حبكة القصة، غير أن أمرين أساسيين أعطيا للكتابة القصصية قيمة وجمالا. الأمر الأول هو تكرار اسم المحاميين( حنا عصفور وهنري كتن) على لسان أبي خلال” الشجار مع أمي”, والأمر الثاني “كواشين”- أوراق- ملكية أرض جدي في بلد الشيخ.
منذ وقت مبكر وضع جدي الأوراق بحوزة أمي،ربما عندما غادرت أمي بلد الشيخ، قبله وقبل أبي، وهي تحضنني، وتمسك بيد أختي خديجة، لتصعد بنا الى ” التركتور” الذي جمع عددا من النساء والأطفال، من أسر القرية.
“عارة وعرعرة”، مفردتان سمعتهما منها منذ الصغر، وبقي وقع موسيقى المفردتين، يرن في أذني. إنهما القريتان اللتان عبر اللاجئون منهما إلى الضفة الغربية، إلى جنين تحديداً.
في رحلة العبور هذه، طالب عدد من النسوة أمي، أن تلقي بي في العراء، ليتابعن رحيلهم بأمان، فصراخي، من جوع أو ألم أو أي شيء آخر، كان باعتقاد النسوة سببا يمكن أن يهدد حياتهن جميعاً، اعتقادا منهن أن الصوت سيلفت انتباه المستوطنين اليهود،حيث بعض المستوطنات اليهودية تطل على الطريق، الذين سيفتكون بهم قبل العبور من عارة وعرعرة !
كان رد أمي على النساء والعجائز: لو متم كلكم لن أضحي بمصطفى، لن أتركه للذئاب والوحوش في البراري. فكتبت لي الحياة، ولو أن أمي استجابت لطلبهن، لتوقفت حياتي عند شهرين فقط لاغير، هما كل عمري في تلك الرحلة،( وهو عمر أكبر من عمر دولة إسرائيل) وما كان لها، مثل أي أم أن تلبي طلبهن بإلقائي في البراري الموحشة بين عارة وعرعرة.
” عارة وعرعرة”، طالما ترددا ، على لسان أمي وعلى مسامعي، وهي تعاتب القريبات من العائلة لأنهن تأخرن عن زيارتها، وهي تعلم أنهن يرحن ويجئن كثيرا، وإلى أماكن قصية أكثر من سكنانا، فتقول لهن: ” بتكرفوا عارة وعرعرة” ولعندي “ما بتيجوا”!. فتخيلت وكأن عارة وعرعرة في الربع الخالي، لأعرف لاحقا أنهما تقعان مسافة بضعة كيلو مترات في الطريق بين حيفا وجنين. ومع وعيي المتقدم رحت أحلل سبب ترداد أمي، وربما نساء أخريات، هذه العبارة: “بتكرفوا” عارة وعرعرة.. فأحلت التفسير، ليس إلى نأيهما عن المكان المقصود في الرحيل، وإنما لطبيعة الزمن- زمن” الهجيج” الهروب نحو الشرق، بعيدا عن حيفا، تجنبا لخطر المنظمات الصهيونية المسلحة، ذلك الخطر المضخم والمبالغ به في وعي الناس تلك الأيام. وستخبرني أمي أن الرعب من خطر المستوطنين عليهم وهم في رحلة اللجوء الغامضة، كان بغير مكانه، وحتى أنها- أمي، أخبرتني ان انطباعها عن مشاعر النساء اليهوديات في المستوطنات التي عبروا بمحاذاتها، كانت مشاعر أقرب إلى الحزن والشفقة.
” عارة وعرعرة”، مسافة خيالية، ودرب شاقة وخطرة ، هكذا كان القصد من العبارة.
احتفظت أمي في رحلة اللجوء، حسب ذاكرتي، بأشياء قليلة جداً، أهمها أوراق ملكية أرض جدي لأبي، وعقد زواجها من أبي، وشرشف سريري مع لحاف..صوف صغير، غطاؤه القطني مطرز يدويا، وهو اللحاف الذي تدفأ به أخوتي جميعهم الذين ولدوا بعدي، خلال سنوات أعمارهم الأولى،بالتسلسل، حتى بلوغهم الثلاث سنوات. وتشاء الحياة ، بفعل حرص أمي، أن يستمر ذلك اللحاف على قيد ” الصلاحية للاستعمال” حتى قدوم مولودي الأول نسرين أواخر 1974.
الهاغاناه، تلك المفردة، طالما وردت في روايتها، لم تفارق وعيها، حتى وهي في لاوعيها، من قاع “زهايمرها” كانت تسمع دوي القذائف حولنا وقربنا في داريا، وتصغي وهي شاخصة العينيين، ثم تردد بتوتر، دلت عليه سرعة رشقها للكلمات، ( اجو الهاغاناة… الله يجور عليهم.. تطلعوش لبرا..)، وكانت تلك أيام الهجوم على أحياء وبلدات دمشق من قوات بشار. ولداريا، حيث بيتنا، حصة وفيرة من القصف، مع حصة أوفر من حقد الأدوات المهاجمة للمدينة، وبمختلف الأسلحة. وعندما بدأت طائرات الهيلوكبتر القصف، هزَ صوت “جعيرها” أمي، لكنها بقيت في معركتها المفتوحة مع الهاغناة، وكانت تعلق: (صار عندهم طيارات الله يكسرهم).
مؤهلات أمي التعليمية تقف عند الصف الرابع الابتدائي، وقياسا ببنات جيلها تلك الايام( أربعينيات القرن العشرين) والمستوى الجيد للتعليم في فلسطين في عهد الانتداب، كانت محسودة على تحصيلها العلمي. ولأنها تتمتع بذكاء حاد، وبديهة متحفزة دائما، بدت في حضورها وكأنها وصلت إلى الصف السابع أو الثامن، فكانت تفهم الكثير من العبارات والمفردات باللغة الانجليزية، وتكتب بخط جميل بالعربية، وتصوغ الرسائل للقريبات، وتقرأ مايصل إليهم من أقارب في عمان أو الكويت أو بلدان الشتات الأخرى. ربما أن نشأتها الأولى في حيفا حيث كان جدي لأمي قد نشأ في تلك المدينة( هو من طيرة حيفا بالأصل، مات أبوه وأمه شابة وجميلة، فداهمتها عيون الرجال لاقتناصها تحت راية الزواج، فحملت أولادها واستقرت في حيفا) قد ساهمت بتفتح وعيها ونمو ذكائها، والى جانب دخولها للمدرسة، سمح لها جدي بالتمرين على خياطة الثياب، عند سيدة في مدينة حيفا. وسوف تكون معرفتها في الخياطة سلاحا للحياة أيام اللجوء إلى سوريا، زيادة على خياطة ثيابنا وترقيع ما يهترئ منها، فالدخل الذي يحصل عليه والدي لم يكن كافيا، خاصة وأعداد ألأبناء راح يتزايد.
زد على ذلك، أن نشأة أمي في مدينة حيفا فتحت عينيها على وعي أولي لما يجري في فلسطين. لم تكن تماهي بين الهاغاناة واليهود. كانت حيفا مدينة مختلطة الأديان والأعراق، وفيها تعرفت امي على عائلات يهودية.
كانت أمي ترافق جدتها لأبيها(هناء زيدان) في مشاوير التسوق في حيفا، وفي إحداها توتر الوضع بين المسلحين اليهود” الهاغاناة” وبين الشبان العرب، وكانت امي وجدتها قريبتان من الحي اليهودي، فهرعت امراة يهودية، تدعى حنة، وأخذتهما لبيتها لإبعاد الأذى عنهما، وجدة أمي بالمقابل كانت تفعل ذلك عندما يتوتر الوضع وتكون حنة قريبة من الحي العربي في وادي النسناس. ولم تنس أمي الوقوف عند كلام كانت تردده حنة، وهي تعلق على أحداث المواجهات بين الهاغاناة والشباب العرب. كانت حنة تلقي اللائمة على القادمين الجدد من اليهود إلى فلسطين، وتقذفهم بأقسى الأوصاف. من سرديتها عن مشاهداتها للصراع في فلسطين، يبدو أنها كانت تريد القول:” ليس كل اليهود أعداءنا، فمنهم من لا يؤيد الصهيونية”.
هذه الفكرة، التي تميز بين اليهودي والصهيوني، كانت شبه غائبة عن الوعي العام للإنسان الفلسطيني، وكذلك عن الوعي العربي، إلا ماندر. بالنسبة لي يعود الفضل في إدراكي للفكرة تلك، لسرديات أمي في البداية، لكنها تبلورت عندي بعد أن أتيح لي الاطلاع على الفكر النظري الماركسي، وكنت قد بلغت السابعة عشر من العمر تقريبا.
في مرحلة سبقت ذهابي الى مدرسة بلد الشيخ في المزة، عشقت السباحة طفلا، فروع كثيرة من نهر بردى تخترق أراضي وبساتين القرية، أشهرها فرع”الديراني”، وفيه نزلت الماء أول مرة، كنت أتسلل من البيت دون انتباه من أمي وجدي، (فأبي دائما في عمله بتفتيت الصخر في جبال المعضمية، عدا يوم الجمعة، عطلته الأسبوعية) ومرات قبل أن أنزل الماء أسمع نداء جدي: “إطلع ياعكروت إسا بتوخدك المي تحت حجار الطاحون” ويلوح بقضيب يحمله بيده الوحيدة، وهي اليسرى، فاليد اليمنى، شقيقة اليسرى، طوحت بها قذيفة انجليزية في حرب “السفر برلك”.
رحمها الله وعوضها الجنة.
كلٌ منا له قصة ومعاناة.
من أروع وأوجع ماقرأت ..خالة أم مصطفى أمامي في كل مشهد وعبارة بابتسامتها العميقة ودفأها الفريد..سبحتها في يدها وشالها يغطي كتفيها ..وعيونها تغزل أحاديثا ممتعة ..رحمك الله يا غالية..كنت أما لكل الفلسطينين في المهايني وماحولها