قد يمكننا القول إن ثمة أدباً تبلور في سوريا في العقود الماضية وحقق تسميته “أدب السجون” عبر أجناس أدبية عدة، وصار له خصوصيته وسماته.. لكن هل يمكننا أن نطلق على ما كُتب ويُكتب عن الأحداث في سوريا تسمية ” أدب الحرب”، وهل حقق تلك التسمية فعلاً وله سماته وماهيّاته وتقاطعاته الخاصة في السرد والبناء والمرجعيات؟
بالرجوع إلى أمثلة مواتية، وليست “انتقائية”، ومع احترامنا لكل تاريخيّة الكتاب وخبراتهم وتراكمات انتاجهم وعطاءهم .. يمكننا أن نلاحظ أن هناك من دمج بين أدب السجون وأدب الحرب، كما فعل غسان جباعي في روايته ” قمل العانة”، وهناك من كتب مبكراً عن الحرب عامة، وتابع الأحداث الأخيرة في سوريا خاصة، وأصر على تسميتها “بالزلزال”، كما فعل ومازال يفعل الروائي نبيل سليمان.. وهناك من يرى أن الروائي خالد خليفة قد تنبأ في ” مديح الكراهية ” بوقوع هذه الحرب في سوريا، وقالوا إنها تحكي بكل تفاصيلها عما جرى عام 2013.
هل يمكننا فعلاً أن نطلق على الأعمال الأدبية عامة، والروائية والقصصية خاصة، التي تناولت ما حدث ويحدث في سوريا ب ” أدب الحرب” ؟ وهل هي حقاً قد عبّرت عن هذه المرحلة بكل موضوعية وإبداعية في آن، وارتقت إلى تحقيق هذه التسمية؟
مديح الكراهية
ربما هذا العنوان اللافت والموحي بتناقضاته، يشكل ثيمة أو خاصية للتعبير عما حدث ويحدث في سوريا، والرواية التي يجمع الكثيرون على أنها تنبأت بالحرب، وأحداثها تتشابه إلى حد كبير مع ما يجري اليوم في سوريا، وسبب هذا التشابه هو أن النظام السوري تعامل مع الأحداث منذ عام 2011 بنفس الطريقة التي تعامل بها في فترة الثمانينات.. ولذلك نشعر عند قراءة “مديح الكراهية” كأنها كتبت عام 2013. لكن من قرأ الرواية سيجد أن الروائي خالد خليفة قد تعامل بحيادية واضحة مع كل أطراف الصراع، أشار إليها، لكنه لم يحدد موقفاً منها، وتعامل بحذر شديد حتى في اختياره لأسماء الشخوص، وكانت طبيعة الاماكن فقط للإشارة إلى الطوائف المتصارعة.. فهل إدانة كل الاطراف، أو إرضاء كل الأطراف حيادية.. ولماذا هذه الحيادية، وهل هي تقاطعات عامة تشكل ملمحاً من ملامح “أدب الحرب” في سوريا؟
يبدو أن ثمة مواقف متناقضة من هذه الحرب، لا تظهر في التعبير عنها وعن المسؤول عنها وعن تداعياته وحسب، بل حتى في تسميتها ( حرب، ثورة، انتفاضة، هبّة، زلزال..) لكن ثمة حيادية “عامة” في إدانة المسببين لها ولاستمرارها، تتفاوت بين حيادية من يدين كل الأطراف بتحفظ، وحيادية الخائف.. حيادية الضائع أوغير المصدق أو المدرك لما حدث ويحدث، أو حيادية العارف.
في رواية “أوراق برلين” لنهاد سيريس التي يستعيد ويستحضر عبرها التاريخ البعيد في ألمانيا، منذ الحرب العالمية الأولى والثانية، والتاريخ القريب في سوريا منذ بداية حربها ويرصد تداعيات هذه الحرب عبر الصور والشخوص، وبحيادية العارف يحمّل كل الأطراف أسباب هذا الدمار، ويكون سبب هروب بطله “صبري” خارج سوريا، لأنه لا يريد أن يظل في الجيش ويستمر بقصف المدنيين بدبابته، ولا يريد أن ينضم إلى الجيش الحر.. وبحيادية العارف يتحدث عن يوميات الحرب من خلال صوره: صور مرعبة لأجزاء من حلب القديمة المدمرة.. صور لمقاتلين ملتحين وغير ملتحين يلبسون الثياب المدنية ويعصبون رؤوسهم بالكوفيّات.. وإعلانات ّ تحذر من خطر قنّاص الجيش النظامي وبراميل رُسم عليها علم الثورة ذو النجوم الحمر ليمشي المارة في محاذاتها.. كما ويتابع أخبار الحرب في سوريا من وسائل الاعلام، ومن شخوص جاؤوا إلى ألمانيا بسببها، “قالا: إن الجيش استعمل أمس الغازات السامة مرة أخرى.”. دون أن يدين حتى على لسان شخوص روايته أي طرف من أطراف هذه الحرب المدمرة.
في روايتها ” تانغو الغرام” تتخذ شادية الاتاسي موقفاً رمادياً في تقاطع الأحداث أو في آراء شخوصها، فهي ضد الحرب لكنها تفصّل في عنف جيش النظام على الحواجز، وفي الوقت نفسه تذكر قصة قتل مسلحي المعارضة لزوج صديقتها ومصادرة مزرعتها.. وفي نهاية الرواية تقول على لسان إحدى شخوصها: “لو كنا نعيش حياة كريمة في بلدنا، أكان حدث ما حدث؟ أكان العالم تكالب علينا؟” وبذلك تحمّل النظام مسؤولية الحرب، وتتبنى تبريره للحرب كمؤامرة عالمية.
وقد يلجأ البعض إلى الغموض حتى في الأحداث التي تدين هذه الحرب، أو في الايحاء لمرجعيات الأطراف المسببة لها، كما مسحة الغموض في مجموعة “قومي يامريم” لرباب هلال التي تضفي على اللغة بعداً شعرياً ومجازياً .. إلا أنها تكون للمواربة والتّقية أيضاً، وخاصة في الكتابة عن الواقع وانزلاقاته، وهذه المسحة قد تكون بالحبكة وبالشخصيات، وربما في القصة ككل، ويأتي ذلك برمزية تارة وبوضوح تارة أخرى، كاللباس الأسود الكامل للشيخ في قصة ” الضيوف” ولباس “نمر” في قصة “عند الفجر”، وكالهتافات غير المكتملة في قصة” قرصة برد”.. وفي أغلب القصص النهايات المفتوحة يكتنفها الغموض كي تحقق حياديتها، وحرصها الابتعاد عن الأيديولوجيا والسياسة، والمناطقية والطائفية .. وإن أشارت إلى أصل شخصية ما، فيكون الغموض في عدم ربط هذا الأصل بموقفه من الحرب، وحتى في حديث شخوصها عامة، جميعهم يدينون كل أطراف الصراع المسببة للحرب.
بين الغموض والمجاز
لم يتوقف الغموض على المواقف من الحرب، بل هذا الزلزال الكبير، جعل الكثير من الكتاب يلجؤون إلى الغموض والمجاز حتى في السرد والبناء ..
في حوار لي مع الروائي نبيل سليمان حول المكان، وكيف كان واضحاً في رواية أغلب رواياته، ثم صار ضبابياً أو مجازياً في (تاريخ العيون المطفأة).. قال سليمان: ” أما المكان فقد كنت من المبكرين إلى ما أدعوه (استراتيجية اللاتعيين) ومن رواية (السجن) عام 1972 إلى رواية (سمر الليالي) عام 2000 إلى رواية (تاريخ العيون المطفأة) عام 2019، جرى اشتغال تلك الاستراتيجية أو تلك المجازية، ليس تقيةً كما يستسهل بعضهم القول أو يحلو لهم. على الأقل ليس تقية فقط، بل لما تتيحه هذه (اللعبة) من مراحٍ للتخييل. وبالقدر نفسه، بالنسبة لي، هو الرهان على المكان، ولكن ليس بتحويل الرواية إلى كاميرا، بل بأن تنبض الصورة الروائية بالحياة، أن تكون للمكان الروائي رائحته التي تشمّها، فتعرفك من جديد على ما تعرف، أو تجذّرك فيما لا تعرف. عبر كل ذلك كان ما كان من التنوع أو التأزم في الهوية السردية”.
في ” أوراق برلين” يحاول الروائي نهاد سيريس في شغله على شخصية “صبري” أن يمنحها بعداً (هذيانياً) دون التأكيد على إدانته كمتعاط للمخدرات أو الحشيش .. وربما يقبل القارئ هذه النقلة النوعية في السرد والبناء على انه حديث “معنن” أي على لسان صبري، وفي إطار هواجسه وحكاياته ضمن تداع يصب في تعميم علاقة الجن بالأنس، وفي التعبير عن هول الحرب ونتائجها المفزعة والمدمرة.. ولكن أي منطق يقنع القارئ الآخر بوجود “جنية” تنقذ صبري ومن معه من الموت عدة مرات وبطرق مختلفة؟ وليس هذا وحسب، بل تحبه وتمارس معه الجنس، ويفض بكارتها.. وأخيراً تنقذه وتحمله إلى خارج الحدود السورية بمساعدة الجن الأحمر.. وحتى لو اعتبرنا أن هذا “مجاز” يدل على استحالة الحياة ضمن هذا الموت المحقق في الحرب السورية دون مساعدة قوة خارقة، إلا أن “الجان” موجود في القرآن وفي السير الشعبية وفي قناعات المسلمين، وهذا ما سيقودنا إلى مرجعيات دينية إشكالية ويثير أسئلة محيرة عن تداعيات الحرب.
ثمة روايات في ” أدب الحرب” يتداخل الروي بين الراوي وشخوصه والكتابة كفعل والكتابة كتخييل في “فنتازيا” غرائبية للسرد والبناء قد تأخذك إلى تأثيرات تلك الحرب العقلية على ضحاياها، أو إلى تساؤلات عن ماهية هذه الأجناس الكتابية الجديدة.. ففي رواية “قمل العانة” لغسان جباعي، التي تجمع بين أدبي الحرب والسجون، حكايات وحكايات متداخلة ضمن رو متناوب لكن بزمن واقعي متسلسل ؟! وإذا اتفقنا على أن الحكاية حاملة لما سيقوله الكاتب، فهل يمكن لهذا القول أن يكون متناً لكل الحكايات المفككة، أو خيطاً زمنياً لبناء وسرد.. القول يُعنى بوضوح بالأحداث التي حصلت في سوريا، من حرب ودمار وموت واعتقالا وسجون …إلخ، بيد أن الكاتب اتكئ على تبادل الروي وفعل الكتابة، بينه وبين المرأة التي سيكتبها وتكتب الرواية.. ليتابعا معاً حكاياتهما عن شخوص يبدون وكأنهم عابرون بأحداث مستقلة ومنفصلة.. ولكن في زمن الحرب، فهل يمكن لهذا الزمن أن يجمع عدة حكايات في رواية؟ هل تكون هذه (الفنتازيا) من سرد وبناء معبرة عن حالة حقيقية ولدتها تلك الحرب ؟؟
وإن كان غسان جباعي قد أخرج شخصية من روايته وبنى معها علاقة روحية وجسدية، وكتب لها وكتبت له، وكتبا معاً روايتهما.. فإن شادية الاتاسي في “تانغو الغرام” تبدأ روايتها بخروج روائي تحب أعماله من روايته، أكان في أحلامها أو كوابيسها.. وفي ظلال الحرب وتداعياتها وصولاً إلى مغادرة سوريا والعيش في ألمانيا وطقوس اللجوء فيها.. تفصّل الأتاسي في انعكاسات الحرب على أسرتها ومحيطها وآثارها المباشرة وغير المباشرة على المكان وعلى دواخل الإنسان أيضاً.. وتتحول علاقة بطلة الرواية بالروائي رويداً رويداً من استحضاره في الأحلام والتخييل إلى استحضاره في الحقيقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لكنهما لا يلتقيان في الواقع..
يمكننا القول إن ثمة من عايش الحرب وعاشها، وثمة من كتب فيها وعنها، ومن كتب عن تداعياتها وظلالها.. ومن كتب بتأثيرها عليه، ومن رصد هذا التأثير.. لكن في الوقت ذاته ثمن من كتب عن هذه الحرب من بعيد، وثمة من استحضرها ليكتب عنها.. كما في مجموعة “زوجة تنين أخضر” للقاصة روعة سنبل، وفي عدة قصص من هذه المجموعة، منها ” حكاية رجل سعيد” التي تكون الفكرة الرئيسية فيها هي سعي آذن مدرسة لشراء الحشيش ليحقق سعادته، وفي زمن الحرب يضحك عليه أحد الاساتذة، ويكتب له رسالة لبريد وهمي يطلب فيها الحشيش، ليس لكونه خروفاً بل لكونه انسان يريد تعاطي الحشيش.. في هذه الأجواء الغرائبية والفكرة الأكثر غرابة، تنتهي القصة باستدعاء قذيفة من الحرب تدمر بيت الآذن وتقتل من فيه، لكنه يشاهد بين الركام شريطاً من الدواء “الحشيش” يلتهمه مع رغيف الخبز، ويصير سعيداً حد البلاهة.