أفكار منتصف النهار (3) :السوري VIP

منذ أسبوعين اتصلت بالسفارة السورية في باريس لتجديد جواز سفري الذي ستنتهي مدته بعد أيام ، بالكاد سمحت لي الموظفة أن أكمل كلامي قالت بلهجة قطعية : نحن منذ أشهر لا نقبل أيه طلبات . سألتها : وما السبب ؟ أجابت : لأنه ليس عندنا قرطاسية . عبارة جعلت قلبي يتوقف ثم تذكرت أن النساء لا يُصبن بالسكتة القلبية بالنسبة التي يُصاب بها الرجال . كبحت غضبي وسألتها : لو تشرحين لي هذا السبب اللامنطقي عدم وجود قرطاسية في السفارة السورية في باريس ؟ فقالت : أنا لا علاقة لي أصلاً دفاتر جوازات السفر السورية تُطبع في الهند . وجدت نفسي كأنني أهذي وأردد : الهند !!! قالت أجل جوازات السفر السورية تُطبع في الهند . سألتها : لكن أصدقاء سوريا الروس والإيرانيين لماذا لا يطبعون جوازات السفر للسوريين . غضبت وقالت أنها لا تملك أجوبة . وبدأت حملة اتصالات بكل المعارف السوريين في دول المنفى العديدة وأكدوا لي أن السفارة السورية في كل تلك الدول الأوروبية لا تقبل طلبات تجديد جواز سفر . وكي أحسم الأمر لجأت لاستشارة محامين في سوريا وخارجها أكدوا لي جميعاً أن أفضل حل والأكثر ضمانة إرسال جواز سفري إلى سوريا خاصة أنني أحد أقاربي كنت قد عملت له وكالة عني . تهللت فرحاً إذ ساعدني الحظ أن أرسل جواز سفري مع صديقة مسافرة إلى سوريا تكرمت بإيصال جواز سفري إلى الوكيل . وفي مبنى الجوازات في سوريا قال الموظف لصديقي : نجدد للسيدة ( أنا جواز سفرها على أن تدفع 800 دولار ) وتحصل عليه في نفس اليوم . صُعق صديقي من المبلغ وقال : 800 دولار ولمدة صلاحية سنتين فقط لجواز سفر سوري هذا كثير . رد الموظف في الجوازات ببرود : إذا ً لتدفع 300 دولار وتنتظر على الدور وقد تنتظر أشهراً لتحصل على دورها . فكرت أن الله أعلم ماذا ستحدث تغيرات في فترة الانتظار ووجدتني أمام الأمر الواقع أطلب من صديقي أن يدفع 800 دولار لتجديد جواز سفري لمدة عامين فقط .

فكرت بمئات الآلاف من السوريين الذين يعيشون في دول أوروبية ، خاصة هؤلاء الذين اضطروا أن يتركوا سوريا بعد الجحيم السوري وبعد أن تهدمت بيوتهم وسويت بالأرض ، كنت ألتقي الكثير منهم يعملون في مطاعم ( نادل ) أو في سوبرماركت يحاسبون المشترين عند الصندوق أو في أعمال بنية تحتية ( صيانه الشوارع وتزفيتها ) . والكثير من هؤلاء السوريين كانوا من فئة الشباب يدرسون ويعملون ويعيشون بالحد الأدنى ( خبزنا كفافنا ) يشترون ثيابهم من البالة وأكبر رفاهية لهم أن يشربوا فنجان قهوة في مقهى ، كان هؤلاء الطلبة السوريون ( غيرهم أيضاً من الطلبة العرب ) يموتون من التعب ليستطيعوا إرسال مئة يورو إلى أهلهم في الداخل السوري كي لا يموتوا من الجوع عارفين أن المئة يورو سوف يستلمها الأهل بثلث قيمتها حسب تسعيرة البنك المركزي السوري . السؤال الذي يطرح نفسه بقوة وصراخ هنا : هؤلاء الطلاب أو العمال السوريين لو أرادوا تجديد جواز سفرهم في سوريا حين يزورون الأهل والأحبة كيف سيؤمنون ( 800 ) دولار !!!خاصة أنهم مجبرين أن يحصلوا على جواز السفر سريعاً لأن زيارتهم للأحبة قصيرة أي يستحيل أن ينتظروا على الدور الذي – والله أعلم قد يطول لأشهر – هؤلاء الطلاب والعمال السوريون المعذبون في الأرض لا يعرفون أن الحكومة السورية المُبجلة تُقدرهم جداً وتنظر إليهم كمواطنين ( VIP) أي بمصاف رجال الأعمال الأغنياء . هي لا ترضى أبداً أن يكون تسعين بالمئة من الشعب السوري ( شعب الخبز الذي لا يؤكل ) تحت خط الفقر براتب لا يتجاوز عشرين دولاراً في الشهر . على المواطن السوري أن يحس أنه أمير وجيوبه منتفخة بالمال وأن يدفع ( 800 ) دولار لتجديد جواز سفره لمدة عامين ، أما كيف سيؤمن هذا المواطن ( 800 دولار ) فالله  خلق فلإنسان عقلاً ليفكر .

برأيي أصعب شعور في العالم هو الظلم ، إحساسك أن وطنك يذلك وهل من ذل أكبر أن تٌغلق بوجهك سفارات سوريا ( وطنك أنا سوري آه يا نيالي ) في كل العواصم الأوروبية بحجة أنه لا توجد قرطاسية !!! جواب أعتقد ـنه يمكن أن يُسبب جلطة قلبية أو دماغية ، وإذا عدت إلى حضن وطنك تشعر أنه يرفسك في صررك مُحطماً أضلاعك وهو يجبرك أن تدفع ( 800 ) دولار لتجديد جواز سفرك لمدة سنتين .

العديد من السوريين الموظفين براتب الخبز أرادوا الحصول على جواز سفر لهم ولأولادهم أعطوهم موعداً بعد ثلاث سنوات !!! يا سلام أية ثقة ربانية أن يتأكد المسؤولين في الجوازات أن هؤلاء المواطنين سيعيشون ثلاث سنوات ؟ ومن يدري ما التغيرات التي ستحصل طوال تلك السنوات !!!

الواقع الذي يضطرنا شرف الكلمة وشرف الحق أن نقوله أننا في قمة الفساد في سوريا فاقت في علوها قمم جبال الألب وجبل فوجي ، أن يحضر معظم السوريون أعراساً خيالية مفرطة البذخ لتجار حروب أعراس انتشرت فيديوهاتها في كل مواقع التواصل الاجتماعي أعراس كلفت مليارات الدولارات وفي أحدها غنى فيها السوبر سوبر ستار راغب علامة وفي بيروت ، عراس لتجار الحروب المدللين ، بينما أكثر من تسعين في المئة من الشعب السوري يعيش تحت خط الفقر والأهل لا يجدون مفراً إلى الهروب في قوارب الموت إلى أي مكان آمن عارفين إحتمال موتهم وأولادهم غرقاً لكنهم يقولون نحن أمواتاً في وطننا الذي لم يبقى نوع ذل وقهر إلا وتجرعناه .

لكن يبدو أن المواطن السوري جاحد ولا يُقدر احترام الدولة له وأنه مصرة أن تعامله أنه مواطن ؟ VIP  مواطن رفيع المستوى . فعلاً كانت الدموع السخية التي ذرفتها وأنا أحضر أفلا شامي كابور ودارا مندارا الهندية صادقة كأنها نبوءة لدموع كانت ستأتي بالتأكيد لاحقاً لأن جوازات السفر السورية تًطبع في الهند !! ولأنه لا توجد قرطاسية في السفارات السورية في دول أوروبا رهح. السوري كسر عن رأسه مواطن VIP (

أهو معتوه حتى يرفض هذا التقدير وأي مبلغ تافه ( 800 ) دولار . يدفعه للحصول على جواز سفر سوري مدته سنتين .

مرحباً بالجنون .

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

أفكار منتصف النهار (39): ضحايا السيستم

أصبح مفهوم (السيستم أو النظام) مفهوماً عالمياً في مجالات عديدة خاصة في الطب والحميات الغذائية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *