أفكار منتصف النهار (35) عيد المرأة

يُمكن أن تُكتب مقالات جميلة تطريزية في عيد المرأة ، لكن من خلال عملي كطبيبة اختصاصية في طب العيون لربع قرن في المشفى الوطني في اللاذقية ( مشفى حكومي ) توازياً مع عملي في الكتابة ، إذ أقول دوماً أن أنجح تزاوج كان بين الطب والكتابة . لذا سأحكي عن نساء سوريا اللواتي عملت معهن سنواتاً طويلة .

-بداية أول ما يخطر ببالي الممرضات ، نساء مكافحات صبورات معظمهن كن يسكن قُرى قريبة من اللاذقية ، يستيقظن فجراً ( الخامسة صباحاً ) كي يتمكن من تحضير الأولاد إلى المدرسة ثم ينتظرن ميكروباص أو إثنين ليصلن إلى المشفى الوطني  في اللاذقية الساعة السابعة تماماً حيث يبدأ الدوام من ( السابعة صباحاً حتى الثالثة عصراً ) بعضهن كن يحضرن أطفالهن ( أقل من سنتين إلى حضانة المشفى البائسة ) أمهات يجرجرن أطفالهن الصغار في ميكروباصات مهترئة . ثم يبدأ عملهن الشاق في تغيير ضماد المرضى وإعطاء الأدوية حسب تعليمات الطبيب ، وكن يتعرضن كثيراً لتنمر المريض أو أهله بأن الخدمات سيئة في المشفى وبأن أغطية السرير مهترئة وقذرة ، وعلى الممرضات امتصاص غضب وتنمر أهل المريض ، كان عملهن يبدأ قبل ثلاث ساعات من دوام الأطباء ، ثلاث ساعات من العمل المضني خاصة للمرضى الذين سيخضعون للجراحة ، وفي معظم الحالات كانت الممرضات هن من يساعدن الطبيب في العمليات ، ومن حين لآخر كان عليهن إيقاف عملهن لحضور اجتماع لساعتين أو ثلاثة ( اجتماع حزب البعث ) حيث ينتفخن من الشعارات . الساعة الثالثة ظهراً تعود النساء المكافحات برفقة أطفالهن ( سواء كن في حضانة المشفى البائسة أو المدرسة ) إلى البيت بانتظار وازدحام وقهر في زحمة ميكروباصات القرى ، يصلن البيت ليبدأن رحلة شقاء أخرى تحضير الطعام وتدريس الأطفال وتنظيف البيت ، معظمهن كان أزواجهن في الجيش السوري ، وأحياناً تمر أشهر دون أن يتمكن الأب ( المُجند من زيارة أسرته ) . وحين يُسمح له بالزيارة فواجب زوجته الاعتناء به وتدليله وغالباً تحمل نزقه ( بعضهن كن يعترفن لي أن الأب كان يضرب أطفاله لأنه لا يتحمل الضجيج وطلباتهم ) . لا يُمكنني أن أحصي العدد الكبير من الممرضات اللاتي صرن أرامل ومات الزوج الجندي السوري في الحرب ، الأسوأ كان الزوج الذي تسببت له الحرب السورية في إعاقة وخضع لعمليات جراحية كثيرة ، وكان ممنوعاً على الجندي المصاب وأهله أن يُسافر إلى بيروت مثلاً أو عمان لتلقي العلاج ( هو قرار يستحيل خرقه إذ أن إحتمال الانشقاق وارد ) . ويكفي أن أذكر أن المشفى العسكري في اللاذقية وهو مشفى كبير قد تحول إلى مشفى لتركيب الأطراف الاصطناعية للجنود المتأذين من الحرب ، يستحيل أن أنسى منظر شاحنه عملاقة مُحملة بأطنان من الأطراف الاصطناعية لدرجة تبدو للوهلة الأولى كأنها جثث مُقطعة . أحكي عن الممرضات في عيد المرأة لأنهن النساء العظيمات اللاتي عملت معهن ربع قرن وكنت أحياناً أشاركهن الفطور الفقير المؤلف من أرغفة خبز وبطاطا مسلوقة أو رغيف خبز موشح بزيت الزيتون مع رشة ملح ( أحكي عن فترة قبل عشر سنوات من 2024 ) .

ما حكيته عن الممرضات ينطبق على نساء مكافحات يعملن في مؤسسة التبغ حيث يتعرضن لاستنشاق غبار التبغ طوال الوقت ، كنت ألتقيهن في العيادة العينية في المشفى في أيديهن المشققة من الإهمال والتعب ورقة إحالة طبية ، الكثيرات كن يرفضن الاستراحة المرضية لأنها تؤدي إلى حسم جزء من الراتب . شابات سوريات ونساء جامعيات لم يتمكن من الحصول على وظيفة رغم هزالة الراتب ، كن يحلمن كل مدة بتقديم طلب توظيف لكن يتم رفضهن وقبول الشباب ( الذكور ) لأن الرجل يُعيل الأسرة !!! هذا تمييز مخزي ضد المرأة .

وضع المرأة في عالمنا العربي سيئ وفي تراجع ، شهدنا الكثير من جرائم الشرف ، من شبان في حالة هستيريا ذبحن الحبيبة لأنها رفضت الزواج من الرجل الذي يستحيل أن يُرفض . ومجتمعاتنا العربية فتية ومشكلة العنوسة والكبت الجنسي خطيرة جداً وكما يقول جاك لندن في إحدى رواياته ( الكبت الجنسي يجعل الإنسان دون مستوى الحيوان ) الفصل بين الجنسين حيث يُصبح الشاب ينظر للفتاة ككائن جنسي فقط ، كذلك حال الفتاة ، وتنشأ زيجات هي في أساسها تحايل على القوانين والأعراف لتفريغ الكبت الجنسي الذي غالباً هو سبب جرائم الاغتصاب والتحرش . وحتى اليوم كثير من الدول العربية تعالج مشكلة الاغتصاب بتزويج المُغتصبة للرجل الذي اغتصبها . وأحب أن أذكر حادثة مُروعة كنت شاهدة عليها ، هي قصة فتاة فقيرة تعيش في منزل غير آمن حيث الشجار والعنف دوماً بين الأم والأب ، عمرها 16 سنة لا أحد يهتم بها ، يصطادها شاب – هو جار لهم – يوهمها أنه يحبها وسيتزوجها تحبه بكل طاقة خيباتها وجهلها وتستسلم له في شقة يملكها ، وبعد شهر من ممارستها الجنس معه ( هو يقنعها أنه يعشقها ) أصبح يُحضر رفاقه لمضاجعة الصبية ، ستة شباب تناوبوا على ممارسة الجنس والاغتصاب للشابة التي صارت مشلولة الإرادة تماماً . أخيراً كُشفت القصة وتم سجن الشباب السبعة ، وصارت سمعة الفتاة في الحضيض لدرجة أن والدها صار يناديها : يا قحبة إلى أن قبل أحد الشبان الذين تناوبوا على اغتصاب  القاصر بالزواج منها . فكان حكم المحكمة إصدار قرار الإفراج عن الشبان الستة الذين اغتصبوها. من أروع الروايات التي حللت بعمق الكبت الجنسي هي رواية ( السراب ) للعظيم نجيب محفوظ . كذلك رواية ( الخبز الحافي ) لمحمد شكري والتي رفض العالم العربي طباعتها قبل أن تُطبع باللغة الإنكليزية ، ولا أنسى كم المقالات التي اعتبرت الرواية عاراً وإساءة لمجتمعنا العربي المؤمن الخلوق . لأن لا أحد يريد رؤية قاع المدينة وزيف الأخلاق والازدواجية في السلوك بين القول والفعل .

أخيراً أحب أن أتعرض للتنمر الفظيع على المرأة حين تكبر ، كأن العمر يُقلل من أسهم المرأة في سوق الزواج ، كأن المرأة تصبح كائناً لا جنسياً حين إنقطاع الدورة الشهرية ، وكم نجد مئات المواقع وأفلام على يوتيوب كلها تهزأ من شكل نساء ( مشهورات غالباً ممثلات ، مبدعات ، الخ ) كيف أصبحن مع تقدم العمر ، تنمر وسخرية ووقاحة ، كأن الرجل لا يكبر . وهو مرغوب في أي عمر طالما هو قادر على الإنجاب ( الكل يتجاهل مشكلة العجز الجنسي ) خطورة ترويج أفكار أن الغريزة الجنسية للرجل أٌقوى بكثير من الغريزة الجنسية للمرأة . مع أن الطب أثبت أنهما متساويتان . ومن أروع الكتب التي عالجت هذا الموضوع كتاب ( أزمة منتصف العمر الرائعة ) للكاتبة الأمريكية : إيدا لوشان . حين كتبت روايتي ( قبو العباسيين ) وهي رواية واقعية تدور أحداثها في قبو في دمشق يلتقي فيه عشاق ولكل منهم حياة فوق الأرض وحياة في القبو ، يومها روعني الزيف والنفاق وحالة التقوى واحترام عقلية المجتمع المحافظة وبين تلك الممارسات المنفلتة من أي رقيب وتحليق للغرائز والشهوات في القبو ، وعلاقات حب أيضاً في السر . يومها كتبت عبارة : تعيش الفتاة العربية في ثالوث الرعب ( السمعة ، العفة ، العذرية ) ولا يخفى على الجميع الارتفاع الكبير في عمليات إعادة العذرية أو غشاء البكارة صناعة الصين . للأسف مجتمعاتنا لا تعترف بأمراضها ، فالشرف والأخلاق والدين عندنا والفجور والانحلال والإلحاد في الغرب الذي يستميت الشباب العربي للعيش فيه معرضاً حياته للخطر والغرق في البحر .

في عيد المرأة لا يُمكنني إلا أن أنحني تقديراً للنساء الفلسطينيات أيقونات عصرنا . ما يتحملنه يفوق قدرة عقل بشري على التحمل ، أذكر عبارة للمبدع الياس خوري في أحد مقالاته عن العصفورية قال ( جننوا المجانين ) . أؤمن بهذه العبارة لأن ما يحصل في غزة تعجز لغة عن وصفه ويعجز قلب عن تحمله ، وعقل عن استيعابه .

أخيراً أتمنى أن تحصل المرأة في عالمنا العربي خاصة على حقوقها ومساواتها التامة مع الرجل وأن يتوقف التنمر عليها بسبب تقدمها في العمر ( مم يضطر الكثيرات للجوء لعمليات التجميل كي يبقين مرغوبات عند الرجل ) .

أعود إلى الصديقات الحبيبات الممرضات اللاتي كان لي الشرف أن أعمل معهن ربع قرن في المشفى الوطني في اللاذقية تمنياتي لهن براحة البال .

في فرنسا زادت الحكومة الفرنسية راتب الممرضة فقط  دون كل الموظفين 200 يورو .

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

أفكار منتصف النهار (40): أرملة الساحل السوري

جميع السوريين (خاصة سكان اللاذقية) التي كانت تستحق بجدارة لقب (عروس الساحل السوري) مُروعين ومصدومين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *