أفكار منتصف النهار (36) التُهم الخُلبية

لا أحد يجرؤ في اللاذقية أن يحكي عن أكثر شخصيتين مؤثرتين من الناحية الإنسانية والاجتماعية ، هما أيقونات في العطاء بلا حدود والتضحية والمحبة بلا حدود أيضاً . وأنا إبنه اللاذقية أجد أنه من المُعيب ألا أحكي عن  الظلم الكبير الذي تعرضا له فالصمت عن الحق خيانة .

-الرجل الأول هو رامي راؤول فيتالي ( والده عالم هو أول من فك وقرأ الشيفرة الموسيقية في آثار أوغاريت ) إبنه رامي في أوائل الأربعينات من عمره ورث عن والده حب الموسيقى وهو مبدع في علم الرياضيات والفلسفة ومؤلف موسيقي ، وقد وهب حياته وكل ثروته واهتمامه لأطفال الشوارع . رامي شخصية أشبه بالمسيح جمع العديد من أطفال الشوارع ( المتسولين والمُدمنين على مادة الشعلة ( هي مادة تستعمل كلاصق للأحذية يؤدي استنشاقها إلى حالة من الخبل لأنها تُخرب خلايا الدماغ ) رامي كان يعرف أن معظم الأطفال المتسولين يدمنون على مادة الشعلة التي يمزجها لهم الأهل أو من يُشغلهم في مهنة التسول كي يبقوا لساعات في الطرقات يتسولون ( أنا رأيت الكثير من أطفال الشوارع يشربون من زجاجة يخبؤونها في ثيابهم تحتوي على مادة الشعلة ، قرر رامي جمع أكبر عدد من الأطفال المتسولين في بيته وتقديم الأكل الصحي لهم وإرسالهم إلى المدرسة وكان يُعطي أهالي هؤلاء الأطفال مبالغ مالية كل فترة حتى يسمحوا لأولادهم بالذهاب إلى المدرسة ، ملايين كثيرة صرفها رامي فيتالي على أطفال الشوارع حتى أن بعض الناس سخروا من تصرفاته واعتبروه ساذجاً ففي زمننا هذا لا أحد يصرف ملايين على أطفال الشوارع . وذات يوم اقتحم الأمن منزل رامي وأخذوه مباشرة إلى قبو التعذيب حيث تعرض لضرب مُبرح قبل أن يعرف ما تهمته . قلة من سكان اللاذقية تعاطفوا مع رامي ولم يجرؤوا أن يكتبوا أكثر من ( الله يحميك والله يفرجها يا رامي ) . أنا كتبت أربع مقالات عن رامي راؤول فيتالي الذي يحمل الجنسية البريطانية ونشرتها في القدس العربي وضفة ثالثة ، التهمة كانت أنه لا يحق له تحويل بيته إلى مكان لإيواء أطفال الشوارع وإرسالهم إلى المدارس دون إذن من الدولة ( لا أعرف أيه جهة ) استمر سجنه أسابيع خرج بعدها وهو يزداد تصميماً أن يُكمل مساعدته لأطفال الشوارع المتسولين . وقد كتب على صفحته على الفيس بوك أن القانون السوري يمنع تعذيب الأطفال في فروع الأمن وقام بنشر صورة طفل مات تحت التعذيب في أحد مراكز الشرطة في اللاذقية , هذا الخبر وهذه الكتابة أعادت رامي فيتالي إلى السجن حيث بقي لأشهر هذه المرة بتُهمة ( إهانة وزارة الداخلية !! ) تهمة عجيبة تُشبه تهمة مثل ( وهن الشعور القومي أو المس بهيبة الدولة ) ولا أعرف ما المقصود بتهمة ( إهانة وزارة الداخلية !!!) ترى رواتب الاحتقار التي لا تساوي شيئاً أليست إهانة لوزارة الداخلية ؟ قانون الجرائم الإلكترونية حيث يُمكن زج أي مواطن في السجن لمجرد كتابة على صفحته على فيس بوك ، الخوف لدرجة الذعر من التعبير عن الرأي أليس إهانة لوزارة الداخلية ، فرط الظلام والعتمة شبه التامة وشح الماء أليس إهانة لوزارة الداخلية ، انتشار القمل والجرب لدى الطلاب والأساتذة لعدم توفر الماء للاغتسال أليس إهانة لوزارة الداخلية !! ومع ذلك فقط هبطت تلك التُهمة الخُلبية على رامي فيتالي لأنه قال الحقيقة بأن القانون السوري يمنع تعذيب الأطفال في فروع الأمن ووثق كلامه بصورة الطفل الذي مات تحت التعذيب في أحد فروع الأمن في اللاذقية . خرج رامي من السجن وكتب أنه لن يُغادر اللاذقية رغم أنه يحمل الجنسية البريطانية وأن غايته في الحياة حماية الأطفال بكل ما يملك .

-الرجل الثاني في اللاذقية هو نبيل ديب هو أشهر من نار على علم وهو يحمل الجنسية الأمريكية لكنه يعشق اللاذقية وهو مدير أهم جمعية خيرية فيها ( أسرة الإخاء ) أيضاً أسس مركزاً ممتازاً لأطفال التوحد ، مركز يوازي أهم المراكز العالمية لأطفال التوحد وقد زرته مراراً وأدهشتني العناية بأطفال التوحد والطاقم من خيرة الشباب الذين يهتمون بأطفال التوحد . نبيل ديب رجل في الستينات طيب القلب وقد وهب حياته ووقته وكل الحب في جمعية أسرة الإخاء ، ولأن القانون لا يحمي المُغفلين فقد كان نبيل لا يجرؤ على رفض طلب مدير الشؤون الإجتماعية في اللاذقية الذي كان يطلب من نبيل كل مدة الكثير من المساعدات ( يُقال عنها سلة غذائية ) . ولأننا في سوريا نعيش رئيس ومرؤوس أو سيد وعبد فلا يجرؤ المواطن مخالفة طلب السيد ، وكان نبيل ديب بكل طيبة قلب ( ودون أن تخطر له أيه عواقب على تلبية طلبات سيده مدير الشؤون الإجتماعية يمتثل للأوامر ويخاف إن لم يمتثل لأوامر السيد أن تهبط عليه تُهمة خُلبية كالتي هبطت على رامي فيتالي ( إهانة وزارة الداخلية ) . هل هناك مواطن سوري يجرؤ أن يرفض طلب مديره خاصة إن كان بمنصب رفيع لا يُحاسب وفوق القانون .

تم سجن نبيل ديب بتهمة ( سرقة المساعدات الغذائية ) أما المذنب وسارق المساعدات الغذائية ( مدير الشؤون الإجتماعية فقد اختفى ، البعض قال أنه هرب !! والبعض قال أنه موجود لكنه مدعوم ولا يجرؤ القضاء على سجنه أو محاسبته ، استمر سجن نبيل ديب أشهراً طويلة إلى أن خرج بكفالة والقضية لم تُغلق بعد . المهزلة أن الواسطة التي أخرجته من السجن هو السيد ( مدير الشؤون الإجتماعية ) !!! قصة تصلح لمسلسل وثائقي على شاكلة مسلسل ( أولاد بديعة ) .

رامي فيتالي ونبيل ديب أيقونتا محبة وتضحية بشهادة كل أهل اللاذقية وغيرها ، وأظن أن تلك التُهم الخُلبية التي تم سجنهما بسببها لها غاية أساسية هي ترويع المواطنين وإخراسهم تماماً . وكما في رواية ( العمى لجوزية ساراماغو ) حيث أصاب العمى سكان المدينة ، فإن سجن رامي فيتالي ونبيل ديب المعروفان بفيض العطاء والتضحية والحب لسوريا ، هو درس غير مباشر ( أو مباشر ) لكل الناس كي يصمتوا كي يصيبهم داء الخرس .

أصبح الشعب السوري صامتاً خاصة في الساحل ، وأصبح هامش الحرية لديه يكاد يلتصق بالأرض ، هامش الحرية لدى السوري عبارة ( يا الله ما إلنا غيرك يا الله )

أخيراً مدير الشؤون الاجتماعية في اللاذقية حر طليق لم يهرب ولم يُسجن .

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

أفكار منتصف النهار (39): ضحايا السيستم

أصبح مفهوم (السيستم أو النظام) مفهوماً عالمياً في مجالات عديدة خاصة في الطب والحميات الغذائية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *