(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل 1949-1960

ماعوز عزرياهو / أرنون غولان

ترجمة محمود الصباغ

استهلال

ظهرت هذه المقالة البحثية في العام 2001، لكل من البروفيسور موعاز عزرياهو أستاذ الجغرافيا الثقافية في جامعة حيفا؛ ومدير معهد هرتزل للدراسات الصهيونية في الجامعة. وأرنون جولان، أستاذ الجغرافيا التاريخية في قسم الجغرافيا والدراسات البيئية في جامعة حيفا.

والمقالة -بالأساس- مبحث عام في الأصول العملية لتطبيق مبادئ الجغرافيا السياسية حول كيفية استخدام تقنية إعادة التسمية كأداة للسيطرة على الفضاء المكاني ورمزيته القومية، لتشكيل وقائع سياسية وثقافية واجتماعية جديدة مغايرة للوقائع السابقة. ولذا؛ فهي تبحث منهجياً، بصورة معمقة، في عملية عبرنة أسماء الأماكن في [إسرائيل] من خلال تسمية و(إعادة تسمية) المواقع؛ والمشاهد المكانية والطوبوغرافية المختلفة. ويمثل هذا الجهد -في رأي عزرياهو وجولان- جزء من مشروع بناء الدولة والهُوية القومية الإسرائيلية بعد العام 1948؛ (كانت العبرنة في مرحلة ما قبل الدولة جهداً صهيونياً (غير حكومياً) يرتكز على الاستيطان وبناء هوية ثقافية قومية لتتحول بعد قيام الدولة إلى جهد بيروقراطي مؤسساتي وجزء من سياسات الدولة الرسمية لتعزيز الهوية الوطنية إسرائيلية).

وتركز المقالة بشكل خاص على دور الحركة الصهيونية في تحويل المشهد الجغرافي الفلسطيني إلى آخر صهيوني/ إسرائيلي. ولهذا عبّرت أسماء المستوطنات اليهودية التي وجدت في إطار الأنشطة الاستيطانية الصهيونية عن حالات رمزية ذات صدى قومي يهودي/صهيوني، فاتخذت مسار استعادة تسميات كتابية وتلمودية أو رموز وزعماء صهاينة وقادة سياسيين، من خلال لجنة خاصة أنشئت في تموز 1925 كان مهمتها التنظيم المركزي لهذه التسميات في إطار عملية الإحياء القومي والتجديد ودمج التاريخ اليهودي والذاكرة الصهيونية مع جغرافية الإحياء الصهيوني.

وهو العمل الذي قدره دافيد بن غوريون (في الواقع، كان بن غوريون مهندس المشروع) في رسالة وجهها إلى أعضاء اللجنة، أثنى على المشروع الثقافي والتاريخي الذي قامت به اللجنة، مشيراً إلى أنهم تخلصوا من عار سماع الأذن اليهودية لأسماء أجنبية ولغة غريبة تطلق على مواقع تمثل نصف مساحة أراضي إسرائيل… واعتبر أن عمل اللجنة أتى مكملاً لمهمة الجيش في تحرير النقب “من الحكم الأجنبي” وطالب اللجنة بالاستمرار في عملها “حتى تحرر كامل أرض إسرائيل من حكم اللغة الأجنبية”.

وسوف تكون الخطوة الأولى لمشروع “العبرنة”، إنتاج نص ثقافي مشترك يظهر بوضوح شديد على شكل خرائط رسمية، حيث يفهم من وراء التكوين المكاني للأسماء إعادة إنتاج التوزيع الجغرافي لهذه الأسماء / الأماكن عبر خارطة يراد لها أن تكون تمثيلاً موضوعياً ونهائياً للمشهد المكاني. وتبرز أهمية الأسماء الجغرافية ليس فقط كلغة جغرافية، بل أيضاً كشكل من أشكال الصراع السياسي والثقافي بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

وتعتبر المقالة أن استبدال الأسماء العربية بأسماء عبرية يمثل عملية “محو رمزية” للماضي العربي في نظر الفلسطينيين، بينما يراها الإسرائيليون استعادة لماضيهم اليهودي.

وتشير مقولة “عبرنة إسرائيل” في العادة إلى عملية [إحياء] اللغة العبرية، كمنجز للقومية “اليهودية” الحديثة، وكجزء من مشروع تجديدي اضطلعت به الصهيونية في بناء الدولة. وقد ابتدأ “تهويد” الخارطة الفلسطينية كنشاط مؤسساتي في العام 1949، من خلال عبرنة أسماء المواقع في صحراء النقب، وقد عبّر تشكيل الخارطة العبرية كمشروع “قومي صهيوني” عن تقارب اثنين من أبرز الانشغالات الصهيونية بوصفها إيديولوجية الإحياء القومي اليهودي

-معنى “أرض إسرائيل”؛ بصفتها وطناً للأمة اليهودية المستعادة التي قدمت القاعدة الإقليمية للإحياء القومي اليهودي بإعادة استيطانها.

-إعلاء شأن الثقافة العبرية- اللغة على وجه الخصوص- كجوهر للنهضة الثقافية اليهودية..

وسوف يشير هذان العاملان -ولو بشكل عرضي- على اعتبار عبرنة الخارطة، الجانب الأقل شهرة من عملية “عبرنة إسرائيل” ذاتها، باعتبارها أي (العبرنة) مشروع قومي هدفه “تهويد” الخارطة وإضافة الأسماء العبرية لجميع المعالم الجغرافية فيها. وبطبيعة الحال كان للأماكن الرسمية لفلسطين الانتدابية في الخارطة الرسمية التي أعدتها السلطات البريطانية في بداية الأربعينيات أسماء عربية و /أو أسماء ذات إرث مسيحي. وعلى هذا النحو، كانت هذه الأسماء أجنبية وغريبة من منظور القومية اليهودية ومن منظور التزامها الجوهري باللغة العبرية وبالجغرافيا التاريخية اليهودية للأرض. واعتبر أن تعيين أسماء عبرية مميزة للمواقع الجغرافية إنما هو طور مهم في تصور التاريخ المكاني لإسرائيل الحديثة.

فبعد النجاح الأولي في “عبرنة” النقب، بدأت المرحلة الثانية من مشروع عبرنة الخريطة الوطنية لإسرائيل، والتي استمرت من 1950 إلى 1960. في هذه المرحلة، تحول التركيز إلى إنشاء خريطة وطنية شاملة بمقياس 1:100,000 والتي تشمل بقية البلاد. كان الهدف هو استكمال المشروع عبر تسمية المعالم الجغرافية في جميع أنحاء إسرائيل بأسماء عبرية بدلاً من الأسماء العربية أو الأجنبية.

تمت متابعة العمل بإشراف ذات اللجنة الحكومية التي وضعت الأسس لهذا المشروع خلال عبرنة النقب. واستندت اللجنة في عملها على مجموعة من المبادئ التوجيهية التي شملت الأولوية للأسماء التاريخية، مثل الأسماء المذكورة في التوراة أو المصادر اليهودية الأخرى. وعندما لم يكن من الممكن استخدام هذه الأسماء، تمت ترجمة الأسماء العربية التي وصفت معالم جغرافية، أو منح الأسماء العبرية صيغة قريبة من الأسماء العربية بناءً على تشابه الصوت، أو استخدام أسماء رمزية جديدة.

في هذا السياق، اعتبرت اللجنة أن استعادة الأسماء التاريخية العبرية هو الخيار المثالي، ولكن بسبب نقص التقاليد التاريخية الموثوقة، كان من الصعب تحقيق ذلك. تمكنت اللجنة من استعادة 70 اسماً عبرياً “مستعاداً” للإشارة إلى خرائب قديمة وينابيع وآبار وأنهار ومستعمَرات. بالإضافة إطلاق أسماء عبرية قديمة -غير معروف موقعها الجغرافي بدقة- على الأنهار الجافة الكبيرة في النقب. كما وقع الاختيار على بعض أسماء الرموز الكتابية وأبطال من التاريخ اليهودي كمصدر للتسمية، مثلما هو الحال مع قلعة “مسادا”، حيث سميت المعالم الجغرافية هناك بأسماء أبطال المقاومة اليهودية ضد الحكم الروماني.

وفي سياق النزاع اليهودي (الإسرائيلي)/ العربي (الفلسطيني) على الأرض، فسوف يتم استثمار السؤال عن ماهية اللغة الأصلية للمشهد المكاني بشحنة عاطفية وبدلالات سياسية استثنائية. وتستند وجهة النظر الإسرائيلية السائدة على أساس المعرفة العلمية التقليدية، وهي تعبّر عن وجهة نظر مبالغ فيها وغير متمايزة حين ترى أن “(جميع) الأسماء العربية هي تشوهات عن الأصل العبري”. (في الواقع منهج العبرنة الإسرائيلي لا يقول إن المسلمين قاموا بتعريب الطوبوغرافيا الفلسطينية. بل يقول إن العرب المسلمين قاموا “بتشويه الاسم العبري”…..).

أسهمت لجنة الأسماء الحكومية في تعيين آلاف الأسماء العبرية على الخريطة القومية الإسرائيلية، مما كان له دور أساسي في تعزيز الرؤية الصهيونية للأرض والخطوات العملية والآليات المستخدمة لتغيير معالم الأرض الفلسطينية المحتلة، ليس فقط مادياً فقط ولكن رمزياً وثقافياً.

ومن هنا؛ تمثل هذه المقالة -للقارىء العربي- نافذة مهمة بناء فهم أعمق لطبيعة الصراع الجغرافي-الثقافي وبالتالي التاريخي، في فلسطين، مع التأكيد على الأبعاد السياسية والرمزية وأهمية اللغة القومية والذاكرة الجغرافية والهُوية في سياق النزاع الدائر منذ أكثر من قرن الساعي -في أحد ملامحه- إلى طمس التاريخ العربي الفلسطيني، وتعزيز السيطرة الإسرائيلية على الذاكرة الجغرافية للمنطقة.

بإيجاز؛ نحن أمام دراسة حالة عن تداخل الجغرافيا والسياسة والثقافة في سياق الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وتحليل عمليات بناء الدولة والهوية الوطنية عبر أدوات جغرافية ورمزية. كما تلقي الضوء على جانب مهم من الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، أي تهويد الخريطة الجغرافية لفلسطين بعد عام 1948 وجهود لجنة الأسماء الحكومية الإسرائيلية في تغيير الأسماء العربية للمدن والقرى والمواقع الطبيعية إلى أسماء عبرية، في خطوة تهدف إلى محو الهوية العربية الفلسطينية من الجغرافيا والذاكرة واستبدالها برواية صهيونية جديدة تتناسب مع مشروع الدولة الإسرائيلية. واستخدام تقنية تغيير الأسماء كأداة سياسية لفرض الهيمنة الإسرائيلية على الأرض وتكريس السيطرة الثقافية والرمزية.

لا يجد القارىء الفلسطيني في هذه المقالة ما هو “جديد” فهو منذ أن وعى وهو يرى أو يسمع أو يقرأ أو يتلى عليه جزء أو أجزاء من هذا الموضوع الذي يلامس بعمق تجربته الوجودية التي شهدت تهجير سكان القرى والبلدات الفلسطينية وتدميرها، إلى جانب محاولات محو آثار وجودها من الخرائط الرسمية والذاكرة العالمية.

فهل تموت الذاكرة؟

لا يَعِد الوجود الحي بذلك، ليس من واقع “جرح نرجسي” بل من واقع أن قوة الذاكرة الفلسطينية (اللغوية والثقافية على وجه الخصوص) واستمرار استخدام الأسماء العربية الأصلية في الحياة اليومية يعكس التمسك الفلسطيني بالأرض والتاريخ، ويؤكد أن المحاولات الإسرائيلية لطمس الهوية لن ولم تُسكت الرواية الفلسطينية.

…….

(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل 1949-1960

سعت الحركة الصهيونية، عقب قيام إسرائيل، إلى تشكيل خارطة عبرية للبلاد، من خلال إجراء مؤسسي من إجراءات الهندسة الثقافية، بأسلوب وملمح صهيونيين شديدي الوضوح من أساليب بناء الأمة لاستعادة الطبوغرافيا العبرية للأرض. ومثّلت تدابير عبرنة المشهد المكاني الجانب الجغرافي من صيرورة إحياء اللغة العبرية التي هيمنت على الإيديولوجية والمخيلة الصهيونيتين؛ فحلّتْ الأسماء العبرية التي كانت قد تثبتت على المعالم الجغرافية محلّ الأسماء العربية -للمتحدثين بالعبرية على الأقل، والأجنبية من منظور صهيوني-. ومن ثم أتى تشكيل الخارطة القومية العبرية لإسرائيل ليؤكد على الهوية اليهوديّة للدولة بمزج بين الجوانب الثقافية ولإقليمية للسيادة اليهودية.

يرتكز العمود الفقري للمقالة على تأسيس لجنة الأسماء الحكومية وطريقة عملها في خمسينيات القرن الماضي، وهي التي كانت مسؤولة عن عبرنة الخارطة القومية. ومما له أهمية خاصة هنا، الافتراضات والأسس الإيديولوجية التي شرعنت وسهّلت عمل اللجنة. وسوف نقوّم -في نهاية المقالة- مدى نجاح مشروع العبرنة؛ وتوضيح آثاره في سياق الصرّاع اليهودي العربي الحالي على الوطن المشترك المتنازع عليه.

مقدمة

تُعد “عبرنة إسرائيل” إنجازًا كبيراً للقومية اليهودية الحديثة، وعادةً ما يُشار إلى هذه العملية بجهود إحياء اللغة العبرية، التي تبنتها الصهيونية وارتبطت بها كجزء من مشروع استعادة بناء الأمة (1). وثمة جانب أقل شهرة من “عبرنة إسرائيل”؛ ونقصد به “عبرنة الخريطة”، بصفته مشروعاً قومياً تدعمه الدولة، هدفه “تهويد [كذا] خريطة إسرائيل وتثبيت الأسماء العبرية على معالم الخريطة الجغرافية كافة”، التي اكتسبت، أي الأسماء، الصفة الرسمية عند رسم خارطة بمقياس 1:100000 كانت قد أعدتها -سابقاً- حكومة الانتداب البريطاني في مطلع الأربعينيات، وكانت أسماء الأماكن الرسمية في فلسطين آنذاك عربية في أغلبها؛ أو تكرس تقاليد مسيحية، اعتبرت أسماء أجنبية وغريبة من وجهة النظر القومية اليهودية ومن منظور التزامها الأساسي باللغة العبرية وبالجغرافيا التاريخية اليهودية للأرض.

وكانت “عبرنة” الخريطة وإنتاج أسماء عبرية مميزة للمواقع الجغرافية خطوة مهمة في تصوّر التاريخ المكاني لإسرائيل الحديثة وشرعنة الخارطة العبرية القومية كإجراء استعادي، التي بدأت كنشاط مؤسسي في العام 1949 أثناء الشروع في عبرنة طبوغرافيا صحراء النقب. وقد عبّرت آليات تشكيل وصياغة الخارطة العبرية لإسرائيل -بصفتها مشروعاً قومياً- عن تلاقي اثنين من أبرز الانشغالات الصهيونية باعتبارها إيديولوجية نهضة وإحياء قومي يهودي. وعبّر الانشغال الأول عن أرض إسرائيل بحد ذاتها (بالعبرية: إيرتس يسرئيل Eretz Israel)، كوطن للأمة اليهودية المستعادة، حيث تتضمن الخريطة نسخاً إنكليزياً لأسماء الأماكن العربية واليهودية، بالإضافة إلى البصمة العبرية التي تشمل أسماء المستوطنات اليهودية الجديدة التي أُنشئت منذ العام 1948. حيث وفّرت إعادة الاستيطان الأساس الجغرافي لإحياء الأمة اليهودية القومية. بينما انصب الانشغال الثاني على تعزيز الثقافة العبرية والإعلاء من شأنها، لا سيما على صعيد اللغة، بصفتها جوهر عملية النهضة الثقافية اليهودية.

سوف نستعرض في هذا المقال الآليات التي أدت إلى إضفاء الطابع المؤسساتي على المنهج المستخدم في عبرنة خارطة إسرائيل كتوجيه لغوي وتدبير بيروقراطي لبناء الأمة في سياق إطار “عبرنة إسرائيل”.

وهناك دراسات أخرى عدة تركزت حول أسماء المواقع الجغرافية الإسرائيلية (toponymy) أكثر من تركيزها على الخصائص الإيديولوجية والتصنيف حسب الموضوع thematic classifications لأسماء المستوطنات اليهودية(2) [أي تصنيف أو تنظيم الأشياء بناءً على موضوعاتها؛ أو سماتها المشتركة المتعلقة بالطبيعة، أو التاريخ، أو الدين، أو شخصيات معينة، أو أحداث تاريخية… إلخ. مما يساعد في فهم الدوافع والمعاني وراء اختيار الأسماء وكيفية ارتباطها بالسياق الثقافي أو الإيديولوجي-المترجم].

وسوف نركز هنا على اللغة العبرية كسمة أساسية ومشتركة لأسماء الأماكن في إسرائيل؛ ونتناول، على وجه الخصوص، إعادة اختراع الخريطة القومية والمشهد المكاني الإسرائيلي كنص عبري متداول ومعتمد.

وعلى هذا سندرس بالتفصيل معنى مشروع عبرنة الخريطة الإسرائيلية كأحد إجراءات وملامح الهندسة الثقافية الساعية إلى تخصيص العبرية وتكيّفها كلغة للمشهد المكاني الإسرائيلي.

وسوف نتحرى أيضاً، على وجه التحديد، بنية مشروع العبرنة وتطوره بدءً من مرحلته التأسيسية في الخمسينيات، عندما كانت تجري عملية عبرنة الخريطة بصورة مكثفة، لا سيما فيما يتعلق بمجمل الأنشطة المنسقة وتأثيرها على تشكيل الخريطة العبرية. كما سنحاول، تأسيساً على المواد الأرشيفية، توضيح السياق التاريخي والثقافي للمشروع؛ لتسليط الضوء على السمات الدينامية لمجموعة من المبادئ المنهجية والإجراءات الإدارية لعملية عبرنة المشهد المكاني، وتقويم نجاحها بين الناطقين بالعبرية؛ وكذلك تداعياتها في سياق الصراع اليهودي الإسرائيلي/ العربي الفلسطيني.

النزعة القومية واللغة وسياسة أسماء الأماكن

يشرح جوشوا فيشمان الأهمية المعطاة للغة في السياقات القومية ودورها في تعزيز الوحدة والأصالة بشكليهما الأوسع والأعظم (3) من خلال التأكيد على أن النزعة القومية هي “إيديولوجيا تعنى بالوحدة والأصالة”.

وعندما يتم تفسير اللغة القومية بمصطلحات التراث التاريخي والهوية الثقافية، يشكّل  عامل الأصالة، على وجه الخصوص -باعتباره إجراء نهضوي ثقافي- وسيلةً قويةً في توجّه البناء القومي، فضلاً عن انغماس المسألة اللغوية في بنى النزعات القومية ما بعد الكولونيالية على الصعيدين الإثني والإقليمي. وما ينظر له فيشمان على أنه “السعي المنظّم لحل مشاكل اللغة” (4)، ليس سوى شكل من أشكال التوجيه اللغوي الذي يتخذه تكوين لغة قومية ما. ويكون الهدف التالي من التخطيط القومي للغة تعزيزها كـأداة للوحدة والأصالة. كما يركز تعزيز الأصالة أيضا على “تنقية” اللغة القومية من التأثيرات الخارجية، التي ينظر لها “كشوائب” وبالتالي، عناصر غير مرغوب فيها (5).

يُعدّ إعادة تشكيل أسماء المواقع الجغرافية (الطوبونوميا) في سياق قومي مثالاً مهماً على الإجراءات المتبعة للتوجيه اللغوي.

يعرف قاموس ويبستر كلمة toponymy بأنها “اسم مكان لمنطقة أو لغة”، مما يبرز مدى اندماج أسماء المكان في اللغة والجغرافيا. حيث يبرز دور أسماء الأماكن في المعمار الثقافي للفضاء المكاني والجغرافي؛ إذ لا يُعثر عليها في القواميس، بل في الخرائط والموسوعات التي تدل على أماكن محددة جديرة بالذكر.

وتشكل دراسة الطوبونوميا، بصفتها تسمية نوعية خاصة، فرعاً من فروع المعرفة. كما أنها تنتمي إلى حقل الجغرافيا الشعبية المتأصلة في لغة عادية مألوفة في المعيش اليومي، بخلاف التسميات المدرجة في تخصصات أخرى مثل العلوم النباتية والحيوانية والفلكية، وغيرها من التسميات ذات الطابع التخصصي.

وسوف تنتج هذه الطوبونوميا (أسماء المواقع والأماكن الجغرافية) نصاً ثقافياً مشتركاً، ولكن هذه المرة بصفتها منظومة شاملة للأسماء. ويظهر هذا النص أكثر ما يظهر في صنع الخرائط “حيث يسعى التوزيع المكاني للأسماء إلى إعادة إنتاج التوزيع الجغرافي للأماكن.

وترمي الخرائط إلى أن تكون تمثيلاً موضوعياً ونهائياً للمشهد المكاني، فتتجلى هيمنتها بصلتها في إضفاء طابع مادي على أسماء الأماكن كأحد مظاهر المشهد، كما تبدو كأنها استحضار، بالأحرى استدعاء لشرعية أسماء مواقع محددة.

وبصفتها نصاً؛ عند النظر إليها كنص، تُعد الطوبونيميا نظام مزوج الدلالة. ففي على المستوى الأول -وهو المستوى الفوري المباشر- يشير كل اسم مكان إلى موقع جغرافي. ولكن، على المستوى الآخر، تدل على الإيديولوجية الكامنة وراء استعمالها؛ وتشرّعها كنظام تسمية مناسب nomenclature.

ويمكن القول، تبعاً لأمبيرتو إيكو، إن أسماء المواقع تدل على الأماكن ذاتها، وتشي بإيديولوجية ما تتعلق باستخدام هذه الأسماء وطبيعة تلك الأماكن (6).

وتتداخل قراءة أسماء الأماكن مع قراءة المشاهد المكانية والخرائط كممارسة اجتماعية وإجراء دلالي (سيميائي) ضمن سياقات ثقافية محددة. وقد لاحظ جيمس ونانسي دنكان كيف يمكن فهم قراءة المشاهد المكانية التي تحدث بصورة مغفلة وغير متأنية ضمن تأويل معين ذي طابع إيديولوجي/ ثقافي، باعتبارها مشاهد “ملموسة ومألوفة وغير موضع تساؤل” مما يساعد في تطبيع العلاقات الاجتماعية المدرج فيها أو جعلها طبيعية (7).

وفي سياق مماثل، تجسد القراءة غير المتأنية لأسماء الأماكن، الأفكار الإيديولوجية /الثقافية التي تقف خلف النص الخفي لأي اسم؛ أو نظام تسمية طوبونومي مفترض. ولا تقتصر الإشارة إلى الأماكن بأسماء معينة -في سياق قومي- التعرف عليها كجزء من العالم المادي والواقع الاجتماعي وحسب، بل تعكس أيضاً افتراضات وحجج قومية. فأسماء الأماكن تنتمي، أيضاً، إلى اللغة القومية، وتشكل جزء منها؛ لاسيما عندما تتنافس أنظمة التسمية المختلفة والمتعايشة على الاعتراف بها كتسميات شرعية ونهائية، كما هو الحال في مناطق النزاع على الهُوية القومية أو الإثنية، حيث يكون وجود واستخدام تسميات معينة (ورفض أخرى) سمة من سمات الصراع. فعلى سبيل المثال، يعبّر تعيين اسم مكان مثل يارزوم Yarzum (في اللغة الإسبانية) أو أويارتزون Oiartzun (بلغة إقليم الباسك) عن حالة سياسية واضحة في سياق النضال الباسكي من أجل الاستقلال (8).

ويظهر أحد التجليات الواضحة في تسمية وإعادة تسمية المشهد المكاني ومعالمه المادية والطبيعية في موضوع قراءة هذه الأسماء وفك رموزها الثقافية ورسائلها الإيديولوجيّة، والتي تبدو بمنزلة قضية قائمة بذاتها.

ولكن ثمة مسألة أخرى لا تقل أهمية تتعلق بكتابة وإعادة كتابة الأسماء الجغرافية.

وغالباً ما يعبّر فعل التسمية عن سلطة تنطوي على معاني الاستيلاء والمصادرة، بغض النظر عن كونه مقياساً تصنيفياً. فالتسمية ليست مجرد إيماءة ألسنية أو تلميح أو لفتة لغوية، بل هي، في أحيانٍ كثيرةٍ، تأكيد لعلاقات قوة محددة. فتسمية الأماكن، فضلاً عن كونها ملمحاً من ملامح الاستكشاف(9)، إلا أنها تشير أيضاً إلى الأنشطة المتعلقة بـ (إعادة) التوطن والاستيطان.

وهذا ما تلمح له بعض الأمثلة مثل تسمية “مونتانا” [في الولايات المتحدة الأمريكية] إثر بناء السكك الحديدية في العام 1908، “فالسكة الحديدية في مونتانا تنطلق بحرية كأنها تخترع الأرض التي تحل بها وتمضي فيها مثل مسيرة يوليوس قيصر في بلاد الغال. وكان هذا الجزء من المنطقة قد أطلق عليه اسم منذ أمد بعيد -تماماً مثل بلاد الغال-من قبل الهنود والجيش الأمريكي ورعاة الماشية [….]. ولكنها، أي السكة الحديدية، تجاهلت الأسماء الموجودة، مفضلة تطريز المشهد المكاني بكلمات وأسماء جديدة مستحدثة مشرقة تخصها وحدها. لقد طافت، عملية التسمية، على المديرين وكبار الموظفين للتعرف على الأسماء التي أعطوها لبناتهم…”(10).

وكما هو الحال، غالباً ما يصل فعل التسمية إلى حد إعادة التسمية في كثير من الأحيان. ويقدّم لنا تشكيل وإعادة تشكيل الأسماء الطبوغرافية مثالاً على العلاقة بين العمليات السياسية والثقافية التي تؤثر مباشرة على الإجراءات السيميائية. كما هو الحال في إعادة تسمية الشوارع إثر حدوث تغيرات جذرية راديكالية في النظام السياسي (11).

كان ينظر للبنية المنهجية للأسماء الطبوغرافية “القومية” في القرنين التاسع عشر والعشرين على أنها من جوانب بناء الأمة وتكوين الدولة. وكان الاستخدام الحصري للغة القومية من متطلبات المرحلة القومية الحديثة، حيث كان موضوع “النهضة القومية” عنواناً بارزاً لإعادة تسمية المشهد المكاني الذي ترافق مع حالات تشكيل الدولة. فكان هذا هو الحال في اليونان بعد العام 1830، حيث تمت “هلينة” الأسماء التركية والإيطالية والسلافية؛ والأمر ذاته حصل في هنغاريا بعد العام 1867، وكذلك الحال في الدول الجديدة التي تأسست في وسط وشرق أوروبا بعد العام 1918. وبعد احتلال الرايخ الألماني لبولونيا في العام 1939، تمت “جرمنة ” الأسماء البولونية في المناطق التي ضمتها ألمانيا. في حين أنه ترافق مع طرد السكان الألمان بعد العام 1945 استبدال التسميات الطبوغرافية التقليدية الألمانية بأسماء روسية أو بولندية أو تشيكية في المناطق التي خضعت للتطهير الإثني.

وكمثال على ذلك، ومن منظور مقارن، نورد مناقشة موجزة عن “التسمية البولونية” للمناطق الألمانية في المناطق الواقعة شرق نهر أودر- نيسي Oder-Neisse بعد الحرب العالمية الثانية.

حدث اختيار أسماء بولونية بديلة للأسماء الألمانية السابقة بالتنسيق مع وكالة خاصة دعيت “لجنة تحديد أسماء الأماكن والمعالم الطبوغرافية” التي تأسست في العام 1946 (12). وسار التخطيط اللغوي وإضفاء الأسماء البولندية على الخارطة وفقاً لمبادئ توجيهية واضحة. فكان الخيار المفضل، التأكيد على أسماء بولونية موجودة بالفعل ومنحها الصفة الرسمية والشرعية، أو إحياء أسماء بولونية كانت موجودة في العصور الوسطى. وعندما لم تكن هناك بدائل متاحة، لجأوا إلى الخيارات الأربعة التالية:

أ) اعتماد التسمية الألمانية بتهجئة بولونية

ب) ترجمة الاسم الألماني إلى البولونية

ج) وضع اسم بولوني على غرار الاسم الألماني

د) إنشاء اسم بولوني جديد تماماً.

إحياء اللغة العبرية: السياق العام

هيمن الارتباط بأرض إسرائيل Eretz Israel المحفوظ في الكتب المقدسة والشعائر والطقوس والتراتيل الدينية على المخيلة اليهودية، وقدّم لليهود في أماكن شتاتهم وطن رمزي لم يكن متطابقاً مع الأنماط الفعلية لأماكن الاستقرار اليهودي. وكانت الفجوة بين موطن اليهودي الفعلي وأرض إسرائيل مصدراً لشحنة مسيانية كبيرة تشكلت -قبل مرحلة ظهور الصهيونية السياسية- بعبارات دينية وأفكار مسيانية.

حمل الجانب التجديدي الاستعادي للصهيونية الحديثة مغزى يحتلّ مكانة عالية بصفته إيديولوجية الإحياء القومي للوطن القديم. وبرز إحياء اللغة العبرية كعلامة مميزة في هذه العملية. وكانت مجمل الأفكار في الثلاثينيات ترى أنه “مهما بدت عملية إعادة إحياء اللغة العبرية كلغة حيّة ومحكيّة، عملية عادية؛ إلا أنها حقيقة لا جدال فيها ولا يمكن نكرانها” (13).

ومثّلت اللغة العبرية، بصفتها لغة العهد القديم، اختياراً تاريخياً ثقافياً أصيلاً يقدم أيضاً قدر كبير من الوحدة، آخذين بعين الاعتبار التنوع اللغوي الذي ميّز الحياة اليهودية في الشتات. وسعى مشروع إحياء اللغة العبرية إلى خلق هوية عبريّة من خلال تركيزه على اللغة.

ويتضح هذا أيضاً في أن مصطلح “عبري” لم يكن يدل على اللغة بحد ذاتها فقط بل أيضاً على المتكلمين بها، الأمر الذي من شأنه تعزيز تمايز المجتمع الصهيوني في فلسطين الانتدابية كمجتمع ثقافي واضح المعالم. فمن خلال التفكير في اللغة العبرية -وبها- يصبح كل ما يمكن القيام به؛ أو تأسيسه عبرياً أيضاً: المستوطنات “العبرية” والاقتصاد “العبري” والمواصلات “العبرية” والأدب “العبري” والتعليم “العبري” (14).

وباتت واضحةً أهمية اللغة والثقافة العبريتين في إطار إحياء الأمة ونهوضها القومي بالتشديد على نقاء اللغة وصيرورة تدابير “العبرنة” التي شملت إدخال التسميات العبرية في مختلف مجالات المعارف العلمية مثل النبات أو الحيوان. كما كان لعبرنة أسماء وألقاب المهاجرين اليهود مظهراً سياسياً خاصاً وعواقبَ شخصية ذات أهمية قصوى وبعيدة المدى؛ بهدف بناء هوية عبرية جديدة (15). وقد استخدم الأب المؤسس للدولة الحديثة [دافيد] بن غوريون سلطته -عشية سنوات الاستقلال الأولى- للترويج للأسماء العبرية، وقرر، بصفته وزيراً للدفاع، إلزامية عبرنة أسماء وكُنى الموظفين الإسرائيليين الذين يخدمون في مناصب تمثيلية كالضباط من ذوي الرتب العليا والدبلوماسيين.

إنشاء الخريطة العبرية: ما قبل الدولة

مثّلت أسماء المستوطنات اليهودية التي تأسست ضمن الأنشطة الاستيطانية الصهيونية حالات رمزية تحمل صدىً كبيراً بتجسيدها خطاب قومي تجديدي، وكانت أسماء المستوطنات اليهودية المؤسسة حديثاً إما استعادة لتسميات كتابية وتلمودية أو أداة احتفاء برموز وزعماء صهاينة وقادة سياسيين، تنظم بوساطة لجنة خاصة أنشئت في تموز 1925 مهمتها العمل على تنظيم مركزي لهذه التسميات. وأدرجت، في كلتا الحالتين، الأسماء الجديدة في الخارطة ضمن عملية الإحياء القومي والتجديد، ودُمج التاريخ اليهودي بالذاكرة الصهيونية وجغرافية النهضة الصهيونية. وعملت اللجنة في غضون 26 سنة من تاريخ تأسيسها، على تعيين 415 اسماً لمستوطنات أنشأت حديثاً، منها 215 اسماً يعود إلى عصر ما قبل الدولة، من بينهم 108 “أسماء تاريخية”، بمعنى أسماء قديمة تمت استعادتها، و120 اسماً “ذو صفة احتفائية تذكارية” و187 “اسماً رمزياً ” (16). ونظراً لأن اللجنة لم تعد موجودة منذ آذار 1951، فإن هذا العدد يتضمن أيضاً أسماء مستوطنات أنشئت بعد قيام الدولة.

وبينما أُعلنت العبرية كلغة رسمية لفلسطين الانتدابية في العام 1922، إلى جانب العربية والإنكليزية (17). فإن وضعية أسماء الأماكن العبرية في فهرس المنشورات الرسمية لحكومة الانتداب كانت مسألة حساسة وعلى درجة من عدم الاستقرار من الناحية السياسية. وكان التركيز الصهيوني منصباً على استخدام التسميات العبرية في المنشورات الرسمية الحكومية (عندما توجد نسخة عبرية) إلى جانب العربية و/أو الإنكليزية(18).

وركزت الصهيونية في مطالبها على الاعتراف بالتسميات العبرية -بصورة أساسية- في الفهرس الرسمي الحكومي، فمثل هذا التمثيل للغة والأسماء العبرية يعني الاعتراف الرسمي بالروابط التاريخية والثقافية لليهود بوطنهم القديم. وتجدر الإشارة إلى أن الطلب الصهيوني لم يقتصر على الأسماء والتسميات العبرية-اليهودية باعتبارها ذات معنى حصري، بل تضمن أيضاً مساواتها مع الأسماء والتسميات العربية والإنكليزية.

قدمت الخرائط بمقياس 1:100,000 التي أعدتها سلطات الانتداب البريطاني في أربعينيات القرن الماضي خارطة رسمية للأرض المقدسة كوحدة إدارية (وإن لم تتضمن هذه الخرائط منطقة النقب جنوب بئر السبع). وعبّرت اللغة الجغرافية لفلسطين الانتدابية، كما تظهر من هذه الخرائط، عن هيمنة اللغة العربية على الطبوغرافيا المحلية بصورة ساحقة من خلال تعيين 3700 اسم عربي وما يزيد قليلاً على 200 اسم عبري فقط أطلقت على المستوطنات اليهودية.

والأمر اللافت هنا عدم ذكر المقابل العربي لمدينتي (القدس والخليل)، أو المقابل العبري (يروشالايم Yerushalaim وعفرون Hevron) بل أعيد صياغة التسميات الكتابية في شكلها الإنكليزي: جيروزاليم Jerusalem وحبرون Hebron (19).

وكانت الأسماء العربية تعبر بوضوح، من وجهة نظر السكان العرب المحليين، عن سمة العيش وبداهة الحياة اليومية لهم.

غير أنه، ومن أجل أغراض البحث الحالي، فإن وجهة النظر اليهودية هي التي ستؤخذ في الحسبان. لذا؛ كانت أسماء الأماكن العربية، بالنسبة لغالبية المهاجرين اليهود وبغض النظر عن التزامهم في الدافع الصهيوني للنهضة القومية، سمة من سمات المشهد المكاني المحلي، وبالتالي، ميزة ذرائعية ووسيلة في البناء الذهني لتشكيل صورة الأرض العبرية (الوطن).

وعلاوة على ذلك، غالباً ما كان استخدام الإحالات والمراجع العربية يؤكد على المعرفة الوثيقة والعلاقة الحميمة بالمشهد المكاني المحلي. وبالنظر إلى الدلالات الثقافية للأسماء العربية على ارتباطها بالأرض؛ فقد كانت تبث شعوراً بالأصالة.

وفي مقابل هذه المفاهيم السائدة، برز موقف قومي نقي مفعم بمشاعر الأسى والشجب بسبب الهيمنة العربية على لغة المشهد المكاني المحلي. وقد اعتبرت الأسماء العربية أجنبية من منظور الالتزام بالعبرية كواجب وطني، كما أن انتشار هذه الأسماء واستخدامها يشكل تنافراً معرفياً: ولهذا السبب (عدم وجود تسميات عبرية) فالأرض أيضاً هي أرض غريبة على أبنائها الذين ولدوا وترعرعوا فيها؛ فهم يمشون في طول البلاد وعرضها، ويسافرون على طرقاتها، يتسلقون قمم جبالها الجميلة ويهبطون وديانها الخضراء، وينسابون منحدرين نحو الوديان الوعرة ويعبرون الأنهار، دون أن يعرفوا أسماء هذه المعالم الجغرافية التي بدونها لا يمكن للمرء إقامة رابطة روحية مع ما تراه عيناه (20).

وقد استند الموقف النقي الأصولي هذا إلى قناعة ترى أنه على الرغم من وجود 174 عنصراً فقط من مجموع أسماء المواقع الطبوغرافية تم ذكرها -على وجه التحديد- في العهد القديم والمصادر اليهودية التاريخية اللاحقة، إلا أنه كان هناك ثمة أسماء طبوغرافية عبرية شاملة. ومنذ القرن التاسع عشر، اتخذ تقصي أسماء الأماكن  وتحقيقها في الأرض المقدسة شكلاً حديثاً وعلمياً، لا سيما لجهة مطابقة وتحديد المواقع التاريخية، وعلى وجه الخصوص من ناحية النصوص الكتابية، كما أصبح، هذا التقصي، موضوعاً للدراسات التاريخية واللغوية، فضلاً عن المسوحات الجغرافية والأثرية.

وقد أنتجت دراسات الجمعيات الأوروبية المختلفة التي أجريت في إطار استكشاف فلسطين مع بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر خرائط موثوقة ووسعت المعرفة في الجغرافيا التاريخية للبلاد بصورة عامة وفي أسماء المواقع الجغرافية التاريخية بصورة خاصة. وفي هذا السياق، كانت مطابقة أسماء الأماكن الكتابية مع المعالم المعاصرة للمشهد المكاني مسألة ذات أهمية قصوى. ومع نهاية القرن التاسع عشر، كانت قد تشكلت النظرية التقليدية عن الديناميات التاريخية لأسماء الأماكن المحلية في فلسطين (21). وافترضت هذه النظرية احتفاظ الكثير من التسميات العربية المعاصرة ولو في صورة معدلة، على أسمائها السامية الأصلية، ولو في صورة معدلة؛ والبعض منها يعود للأزمنة الكتابية، على الرغم من التغيرات في أنظمة الحكم ودروات الاستيطان (22).

وقد فُسر هذا الافتراض من خلال التحولات في النطق. ووفقاً لهذه النظرية التقليدية عن الديناميات التاريخية لأسماء الأماكن المحلية في فلسطين؛ فقد حصل تعريب لأسماء الأماكن والمواقع القديمة، التي تعود لأصل عبري، خلال وبعد الفتح العربي لفلسطين في القرن السابع الميلادي. ليس ها فحسب؛ بل فسرت أيضاً الآلية اللغوية التي حكمت هذه إجراءات التعريب تلك.

ومن وجهة النظر العلمية، فإن فكرة الاستمرارية الطوبونومية (التسمية المكانية) كانت أداة فعالة لإعادة بناء خارطة سامية-عبرية لفلسطين القديمة.

أما من ناحية المقاربة الصهيونية؛ فقد أيدت هذه النظرية رؤية الطوبونوميا العبرية كمكوّن أساسي للجغرافيا التاريخية لفلسطين، كما منحت أيضا الشرعية للآلية “الألسنية” ولاستخدامها في استعادة التسميات العبرية السابقة.

من ناحية أخرى؛ ساد الموقف الصهيوني الصارم إزاء لغة المشهد المكاني بين مجموعة قليلة -لكنها مخلصة- من الناس الذين عبروا -رغم قلّتهم- عن تعلقهم والتزامهم باستكشاف الجغرافيا التاريخية لفلسطين اليهودية، واقترحوا، حتى قبل تأسيس الدولة، بعض الأسماء العبرية لمعالم جغرافية أخرى من المشهد المكاني، غير المستوطنات الصهيونية الجديدة، وقد حفّز تكريس السيادة الإسرائيلية لاحقاً على فتح المجال واسعاً أمام إحياء اللغة العبرية ليشمل نطاق الطوبونوميا (أسماء المواقع).

كان إنشاء خارطة عبرية شاملة جزءً من رؤية مبكرة، ظهرت في رسالة إلى وزير الداخلية في كانون الأول1948 تنص على وجوب: “استبدال الأسماء التقليدية بأخرى جديدة.. والبدء الفوري في عملية عبرنة شاملة لخارطة بلادنا في إطار سعينا لتجديد واستشراف أيامنا كمثل تلك الأيام التي عاشها أجدادنا  قديماً؛ والانغماس في معيشنا اليومي الحديث كشعب سليم مرتبط بتراب أرضنا”

نشأة لجنة الأسماء الحكومية (23)

منحت هذه المقاربة الصارمة للغة الخارطة القومية تفويضاً رسمياً عندما قام بن غوريون في تموز1949، باقتراح تشكيل لجنة يوكل لها مهمة تحديد أسماء لجميع الأماكن والمواقع والجبال والأودية والينابيع والطرق وما إلى ذلك في النقب (24)، أي جنوب إسرائيل؛ وهي المنطقة التي من المفترض حصر عمل اللجنة فيها. واقترح، في أيلول1949، توسيع عمل اللجنة لتشمل سائر البلد وإدراج تحديد أسماء المستوطنات ضمن مهامها (25).

واستدعيت اللجنة من جديد بناء على اقتراح من رئيسها في تشرين ثاني 1950، وعهد إليها مهمة عبرنة الخارطة القومية بأكملها، وهو ما يعني عملياً تمديد عملها السابق إلى النصف الشمالي من البلاد عالي الكثافة السكانية. وقررت الحكومة في جلستها المنعقدة في 8 آذار1951، إنشاء لجنة الأسماء الحكومية، التي دُمجت مع اللجنة المسؤولة عن تسمية المستوطنات الجديدة.

ومما له مغزى هنا، أن اللجنة لم تكن مسؤولة عن تسمية جميع المواقع الجغرافية القومية، والاستثناء البارز كان أسماء الشوارع الذي كان من صلاحية السلطات المحلية المنتخبة.

وكان واضحاً أهمية الجانب الجغرافي لمشروع العبرنة من خلال اندماج لجنة الأسماء الحكومية مع مجمع اللغة العبرية، وكما يوحي المنطق الإداري البحت، لم يكن الأمر مجرد أجندة بيروقراطية. فلقد كان من بين مهام مجمع اللغة العبرية، الذي تأسس في العام 1952، تحديد البدائل العبرية للكلمات الأجنبية، بما في ذلك الأسماء الخاصة بالحيوانات والنباتات. وظهر الفصل الإداري والعملياتي لكلتا الوكالتين المسؤولتين عن العبرنة بمزيد من تمايز الجانب الجغرافي لمشروع العبرنة كمقياس خاص لبناء الأمة، رغم ارتكاز هذا الفصل على ظروف تاريخية محددة (أنشئت هيئة الأسماء الحكومية فعلياً في العام 1950).

اتخذت قرارات الهيئة الطابع الرسمي من خلال نشرها من طرف الحكومة. فنشرت النتائج الأولى لعملها في الكتاب السنوي للحكومة في العام 1951. وانحصر الشكل الرسمي للجنة على قرار الحكومة وتبعيتها إلى مكتب رئيس الحكومة.

ومن الناحية التاريخية، لم تكن صلتها بمكتب رئيس الحكومة تعبيراً واضحاً عن الاهتمام الشخصي لبن غوريون في عبرنة الخارطة القومية، بل أيضاً من خلال الصبغة الرسمية التي منحت لأنشطتها وقراراتها.

كما تعززت مكانة اللجنة بفضل الأعضاء البارزين المرشحين للمشاركين فيها، حيث ضمت القائمة خبراء بارزين في مجالات الجغرافيا ورسم الخرائط والتاريخ وعلم الآثار، واللغة العبرية والثقافة اليهودية. ونُشرت قائمة أعضاء اللجنة في إعلان رسمي لسكرتارية الحكومة في الثاني من أيار1951 (26) وشملت: أ. بيران (عالم آثار)، م. آفي-يونا (الجغرافيا التاريخية)، أ. برافر (رسم الخرائط)، ز. فيلناي (جغرافيا وتاريخ أرض إسرائيل)، ش. يفين (جغرافيا)، ي. كلوسنر (التاريخ اليهودي والأدب العبري)، ب. ميسلر (عالم آثار، ورئيس الجامعة العبرية لاحقاً)، ي. فايتس (مسؤول بارز في الصندوق القومي اليهودي) و ي. بن تسفي (زعيم صهيوني والرئيس الثاني لإسرائيل ). وخبراء في ميادين تخصصية، مثل الهيدرولوجيا، والأورولوجيا، وكان يتم استشارتهم عند الضرورة.

وكان من بين الأعضاء الذين استثمرت مشاركتهم في عمل الهيئة شخصيات مرموقة على الصعيد الأكاديمي القومي من الجامعة العبرية في القدس (كانت الجامعة الوحيدة في إسرائيل [آنذاك])، في الخمسينيات لما لهم من شهرة والتزام أكاديمي في المسعى القومي.

المرحلة الأولى: النقب 1949-1950

استغرق إنجاز “عبرنة” النقب نحو ثمانية أشهر، وتكمن أهمية هذه الخطوة في كونها نقطة البداية في عبرنة المشهد المكاني الإسرائيلي كمشروع تدعمه الحكومة بشكل رسمي، والذي قدم لاحقاً المخطط التفصيلي لتوسيعه فيما بعد ليشمل الأرض القومية الإقليمية بأكملها. ونظراً للالتزام الشخصي لبن غوريون “بعبرنة إسرائيل” كجانب من جوانب التجديد الصهيوني فقد أصبح اهتمامه بالبعد الجغرافي لهذا المشروع واضحاً بعد قيام الدولة، وتجلى هذا في إطار رؤيته لصحراء النقب باعتبارها نداء وعمل صهيوني رائد. فالأسماء العبرية لمعالم المشهد المكاني هناك لا بد من أنها ملمح ضروري وأساسي، وهو الأمر الذي توصّل إليه عقب زيارته الأولى كرئيس وزراء للنقب في حزيران 1949، وكان قد أشار في مذكراته إلى ضرورة “منح أسماء عبرية لهذه المعالم. أسماء عبرية قديمة إن وجدت، وإلّا فاسم عبري جديد”(27).

وتشير عبارة بن غوريون “اسم عبري قديم إذا وجد؛ وإلا فاسم جديد” إلى تصميمه على “إيقاف التقليد السائد بدعوة المشاهد المكانية والمعالم الجغرافية بالأسماء العربية”، كما يستذكر ذلك لاحقاً سكرتيره العسكري(28). لقد كانت عبرنة النقب بالنسبة إليه شرطاً ضرورياً كخطوة أولى لاندماج الإقليم في نطاق السيادة الإسرائيلية.

كما ينبغي أن تفهم أيضاً عملية عبرنة النقب في سياق Top of Form

المحاولات السياسية التي بذلتها بريطانيا ما بين 1948-1949 لفصل النقب عن حيز السيادة الإسرائيلية. ولذلك، وضمن هذا السياق، جاء مشروع عبرنة النقب للتأكيد على الحضور الإسرائيلي في المنطقة والسيطرة عليها، وانصبت جهود المعنيين النشطة بتشكيل الأسماء العبرية على تحويل النقب إلى تضاريس وديّة: “كان النقب، الذي تشكل مساحته نصف بلدنا، يرزح تحت وطأة غربة تهددنا بسبب أسماء الأماكن الأجنبية التي هي في معظمها تسميات عربية، تمتاز بأنها مشوهة ومربكة، وبعضها بلا معنى، والبعض منها ذو دلالات سلبية بل ومهينة أو مذلة، لقد كانت هذه الأسماء تنضح بروح أجنبية، ومع فتح إيلات ورفع العلم الإسرائيلي فوقها أصبحت هناك حاجة ماسة لتغيير وضعها جذرياً، وتعيين أسماء عبرية لها وإلغاء تلك التسميات الأجنبية وإثراء خارطة النقب بأسماء أصيلة، أسماء قريبة من قلب العبراني سواء كان مُدافعاً عنها أم مُستوطِناً فيها”(29).

وقد توصلت اللجنة بعد ثمانية أشهر من تشكيلها إلى تحديد حوالي 560 تسمية عبرية في منطقة تقارب نصف مساحة الأراضي ذات السيادة الإسرائيلية وتمتد من إيلات في الجنوب وخط غزة-عين جدي في الشمال، وفي آب 1950 طبعت خارطة عبرية للنقب بمقياس1:250,000. ونشرت قائمة الأسماء تلك في كتاب الحكومة السنوي في العام 1951، الأمر الذي أكد على وضعها الرسمي وجعلها متاحة للجمهور. وقد علّق لاحقاً رئيس الهيئة مستذكراً بأن قائمة الأسماء قدمت “باكورة جهد اللجنة، أي، خارطة عبرية للنقب، مهذبة من الأسماء الأجنبية، حيث امتلك كل موقع فيها اسماً عبرياً”(30).

قسّمت اللجنة مهامها بين لجنتين فرعيتين وهيئة تنسيق مركزية: وكانت اللجنة الفرعية الجغرافية مسؤولة عن جمع أسماء المواقع؛ وترجمة الأسماء العربية وفقاً لخرائط بريطانية بمقياس1:250,000 (المسح البريطاني لفلسطين لم ينتج خرائط بمقياس1:100,000 للمناطق التي تقع جنوب بئر السبع). أما اللجنة الفرعية الأخرى، والتي دعيت باللجنة الفرعية التاريخية فقد أعدت المادة المتعلقة بالمطابقة المحتملة لهذه الأسماء وذكرها في المصادر التاريخية مثل العهد القديم والتلمود والنقوش المصرية والآشورية والنصوص الأدبية الإغريقية والرومانية.

وحددت اللجنة أيضاً أسلوب اختيار الأسماء من خلال تحديد مجموعة من خمس أولويات (31):

أ) المطابقة التاريخية

ب) استخدام الأسماء الكتابية (العهد القديم) (ليس بالضرورة أسماء أماكن)

ج) ترجمة الأسماء العربية

د) إعطاء شكل عبري للأسماء العربية وفقا للتشابه الصوتي

ه) أسماء رمزية جديدة

ورغم اعتبار الخيار الأفضل هو استعادة وإحياء الأسماء العبرية التاريخية، إلا أنه كان من الصعب تحقيقه نظراً لنقص التقاليد التاريخية الموثوقة التي تحدد مواقع معينة.

وهكذا، قدّم العهد القديم 40 تحديداً، بينما قدمت المصادر التاريخية غير اليهودية بعض الاقتراحات التي كانت وفقاً للجنة “تخفي بلا ريب أسماء عبرية”.

كما تم في المجمل “إحياء” 70 اسماً عبرياً من قبل الهيئة بتعيين أسماء مناطق أثرية (خرائب) وينابيع وآبار وأنهار ومستوطَنات. بالإضافة إلى ذلك، استخدمت أسماء أماكن عبرية لا تستخدم في العادة كأسماء جغرافية لتعيين الأودية الكبيرة الجافة في النقب. وثمة خيار آخر استخدم لتسمية المعالم الجغرافية باستعمال أسماء رموز كتابية (كأسماء الآباء البطاركة والملوك) أو أسماء أبطال من التاريخ اليهودي. وهكذا، على سبيل المثال، سُمّيت المعالم الطوبوغرافية لمحيط مسعدة بأسماء الأبطال اليهود الذين حاربوا ضد حكم الإمبراطورية الرومانية.

أما بالنسبة للأسماء العربية، فقد كانت تترجم عندما تعكس شروطاً طوبوغرافية محلية، مثل أسماء نبتات وحيوانات أو ظواهر طبيعية.

امتدح بن غوريون عمل اللجنة في رسالة بعثها إلى أعضاء اللجنة: “يسرني، باسم حكومة إسرائيل أن أنقل لكم شكر وعرفان وتقدير الحكومة لهذا المشروع الثقافي والتاريخي الذي اضطلعتم به لتحديد أسماء مواقع جميع مناطق النقب، جبالها وتلالها ووديانها وأنهارها وممراتها وينابيعها وآبارها وفوهاتها .لقد محوتم، بعملكم هذا، عار التغريب واللغة الأجنبية عن نصف أرض إسرائيل واستكملتم المهمة التي بدأها جيش الدفاع الإسرائيلي: تحرير النقب من الحكم الأجنبي؛ وآمل أن تواصلوا عملكم حتى تستعيدوا المنطقة بأكملها من سيطرة اللغة الأجنبية (32)“.

المرحلة الثانية: 1950-1960 نحو خارطة قومية بمقياس 1:100,000

وسعت هيئة النقب عملها شمالاً؛ بين كانون أول1950 وآذار1951، واقترح في هذه المرحلة 170 اسماً جديداً، 25 اسماً منها مستعاداً من أسماء تاريخية (33). ومع إنشاء اللجنة الحكومية للأسماء، باتت عبرنة المشهد المكاني الإسرائيلي مشروعاً قومياً رسمياً، واعتمدت اللجنة، من الناحية الإدارية، مبادئ توجيهية وضعت من قبل لجنة النقب. وكانت مهمتها، وفقاً لمسودة المشروع، العناية “بمنح الأسماء العبرية إلى جميع الأماكن التي تحمل أسماء عربية، وتحديد أسماء لأماكن ليس لها اسم على الخارطة”. وفي ما يخص الأسماء العربية، ووفقاً للمنهج المتبع، فقد كان يتوجب، وبصورة شاملة، إلغاء وشطب جميع أسماء المواقع التي تحمل أسماء شخصية أو ألقاباً. كما ينبغي ترجمة الأسماء التي تدور حول “ظواهر طبيعية أو معالم مكانية أو خصائص مكانية”؛ وساعدت الأسماء المماثلة للناحية الصوتية العبرية كأساس لاختيار أسماء عبرية مناسبة (34).

لم تحدث عبرنة لأسماء القرى والبلدات الواقعة ضمن السيادة الإقليمية الإسرائيلية والتي كانت مأهولة بالعرب، وكان الخيار الأمثل اقتراح الاسم العبري التاريخي لها إن وجد.

لم يكن التصوّر المتعلّق بعبرنة الخارطة القومية مهمةً مفتوحةً وغير محدّدة، رغم أن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بالتصوّرات المتعلقة بعبرنة النقب، إذ كان مشروعاً محدداً جغرافياً وزمنياً. ومن الناحية الرسمية؛ قسمت اللجنة عملها إلى مرحلتين:

-المرحلة الأولى، وقد أنجزت عملها في العام 1955، وكان من نتائجها خارطة لإسرائيل بمقياس 1:250,000، والتي وضعت أسماء عبرية للأنهار والجبال والتلال المهمة. وخصصت السنوات الثلاث التي تلت لإعداد خارطة عبرية بمقياس 1:100,000. واستطاعت اللجنة -وفقاً لتقرير يعود للعام 1958 من تعيين 3000 اسم موقع طبوغرافي (35).

كما اشتمل الفهرس العبري للخارطة في هذه المرحلة على 780 اسماً للأنهار وروافدها. وحيث إن نصوص العهد القديم أشارت إلى أسماء 16 نهراً فقط تقع غرب الأردن، فإن جزءً صغيراً من الأسماء كانت أسماء مستعادة. ومع ذلك اختير 220 اسماً كتابياً أطلقت على مواقع أنهار؛ الأمر الذي منح صدىً كتابياً كبيراً للخارطة المائية لإسرائيل الحديثة. ومن بين الأسماء الممنوحة لـ 250 ينبوعاً، احتفظ 60 منها فقط بأسماء كتابية أو ما بعد كتابية أو تاريخية.

وشملت القائمة 720 تلّاً وخربة، كان 170 منها معرفاً تاريخياً بصورة مؤكدة. وتألفت الخارطة العبرية الجبلية من 560 اسماً لجبال وهضاب. ويقول تقرير يعود إلى أوائل الستينيات بأن الهيئة منحت أسماءً عبرية لنحو 5000 موقعاً(36).

ويعدّ تنظيم الجغرافيا الإسرائيلية وفقاً للقواعد العلمية الحديثة أحد المظاهر المهمة لعمل لجنة الأسماء الحكومية، كما كان حال سابقتها، أي لجنة النقب. واكتسى هذا التنظيم  أهمية خاصة في حالة تسمية الأنهار، حيث كان كل قسم من النهر يحمل اسماً عربياً مختلفاً. كما حرصت اللجنة، من ناحية أخرى، على تحقيق التوافق بين الاعتبارات الجغرافية والترتيبات المتعلقة بأسماء المواقع والأماكن وأصولها، والحرص، بالتالي على استثمار الخارطة القومية بنظام واتساق جغرافي.

كانت اللجنة، بصفتها هيئة سيادية، هي السلطة الوحيدة المخولة بإجراء التسمية. بيد أنها كانت في بعض الحالات تتشاور وتتعاون مع الجمعيات الجغرافية الجهوية والجمعيات المحلية. وعموماً لم يكن هذا سوى استثناء، وكان ممكناً فقط في مناطق الاستيطان اليهودي الأقدم(37). وكانت اللجنة قد تجاهلت، تماماً، الأسماء العامية الدارجة بين السكان المحليين. مما يعني، على المستوى القومي، فقدان الخبرات المتراكمة والذكريات التي ارتبطت وظهرت مع الأسماء المحلية الدارجة لهذه الأماكن.

تمسكت اللجنة بنقاء اللغة العبرية. ويبدو أن مثل هذا الالتزام يعدّ بديهياً وبسيطاً إذا ما أخذنا في الاعتبار معالم المشهد المكاني. غير أن الوضع كان أكثر تعقيداً مع أسماء المستوطنات التي قصد منها تسميات احتفالية أو تخليد ذكرى معينة. ولم يُسمح باستخدام أسماء أجنبية كأسماء طبوغرافية احتفالية لتسمية المواقع، حتى لو كانت الإحالة التاريخية مبهمة: “لم نقم حتى الآن بتحديد أسماء أجنبية للمستوطنات الإسرائيلية، حتى عندما يكون الأشخاص (المحتفى بهم) مهمين في نظرنا… لا مكان للاستثناء هنا ولا مبرر لوجود اسم أجنبي على خارطة إسرائيل (38).

Bottom of Form

ومع إقرار اللجنة بصعوبة تغيير العادات القديمة، لكنها كانت معنيّة كذلك بنشر الأسماء التي أقرتها رسميا وغرسها في الأذهان (39). وأصدر بن غوريون تعليماته للجيش الإسرائيلي لترويج واستخدام الأسماء العبرية الجديدة. وقامت القيادة العليا للجيش بمتابعة هذه التعليمات وأرسلت قوائم بأسماء حديثة ووزعتها بين وحدات الجيش. وقد كانت لوحات الطرق وسائل فعالة لإشهار الأسماء الجديدة -كما اعترفت اللجنة- لا سيما أسماء المستوطنات الجديدة.

وتقدمت اللجنة في العام 1951 بطلب إلى وزارة التربية والتعليم من أجل “التأثير على المدارس والمعلمين والتلاميذ، ليأخذوا على عاتقهم مهمة اقتلاع الأسماء الأجنبية وزرع الأسماء العبرية مكانها” (40).

وبالإضافة إلى نشر القوائم المطلوبة في الجريدة الرسمية، فقد أرسلت قوائم جهوية بالتسميات للمكاتب العسكرية والسلطات الإقليمية والحكومية بما في ذلك مصلحة البريد ودائرة المسح الإسرائيلية ودائرة الأشغال العامة والمؤسسات التعليمية والشركات المختلفة المسؤولة عن مشاريع التنمية. وكانت إذاعة إسرائيل، وهي فرع من الحكومة [آنذاك] تدعو إلى الانخراط في نشر الأسماء الجديدة (41).

وأدركت اللجنة أن الخارطة ليست هدفاً فقط ولكنها أيضاً وسيلة جبّارة لا غنى عنها في جهودها الرامية إلى نشر وترسيخ الأسماء: “طالما لم تظهر الأسماء في الخرائط، فلن تحظى بالحياة” (42). ورغم التعاون مع دائرة المسح الإسرائيلية، جرت طباعة الخارطة العبرية وإتاحتها للجمهور العام بوتيرة أبطأ من تحديد أسماء المواقع الجغرافية العبرية. وكانت الأمور مختلفة مع الخرائط العسكرية، التي حظيت بسرية ولم تكن في متناول عامة الناس. وقد أعدت أول خارطة عسكرية إسرائيلية في كانون أول 1948 وكانت لمنطقة النقب غير أنها كانت لاتزال تضع الأسماء الطبوغرافية العربية. أما نسخة العام 1952 من الخارطة فقد أتت عبرية بالفعل.

أما أول خارطة شاملة لإسرائيل بمقياس 1:100,000  والتي طبعتها دائرة المسح الإسرائيلية في العام 1958 فقد كانت هجينة إذا نظرنا إليها من منظور أسماء المواقع الجغرافية. ففي حين كانت الأوراق التي تصور النقب تظهرها معبرنة بالفعل، فقد كانت الأوراق التي تصور النصف الشمالي من إسرائيل مطبوعة فوق خرائط إنكليزية معدّة من قبل دائرة المسح البريطاني لفلسطين في الأربعينيات، وهذا يعني أن تلك الخرائط استنسخت الأسماء الطبوغرافية العربية.

واحتوى التحديث “العبري” لهذه الخرائط على أسماء يهودية جديدة للمستوطنات التي أقيمت بعد العام 1948 كما أضيفت ملاحظات (بين قوسين) عن القرى العربية المهجورة “كخرائب”. أو ما اصطلح على معرفته باسم “السلسلة الجديدة”، وطبعت خارطة عبرية شاملة لإسرائيل بمقياس 1:100,000 في العام 1963؛ وكما كان مقرراً في الأصل، فقد كان هدف المرحلة الثالثة من عمل اللجنة إنشاء خارطة بمقياس1:20,000 (43)، ولكن نمط عمل الهيئة قد تغير تدريجياً حيث قامت بتحديد أسماء جديدة كاستجابة لاحتياجات ومتطلبات محددة، وذلك بخلاف عملها السابق، عندما بادرت في تاريخها المبكر بإجراءات التسمية والعمل على البناء المنهجي لإنشاء خارطة عبرية. كما شمل أحد جوانب عملها تسمية المعالم المكانية التي لا تحمل أسماء.

وقامت الهيئة بتعيين أسماء عبرية للينابيع والتلال والطرق ومفترقات الطرق من خلال مقاربة هذه المواقع لأسماء بعض الأفراد والمنظمات، ومثل هذا الأسلوب في العمل يعني التوسع المستمر في إطلاق الأسماء العبرية على المواقع الجغرافية، بصرف النظر عن حجمها ونظامها الجغرافيين.

وثمة جانب آخر مهم لعمل اللجنة تمثل لاحقاً في تعيين أسماء المستوطنات اليهودية الجديدة المقامة على الأراضي التي احتلتها إسرائيل بعد حرب العام 1967 (44). وكانت المهمة الأصلية للجنة تقتصر على الأراضي الإسرائيلية فقط [فلسطين المحتلة عام 1948-المترجم]، ووفقا لذلك لم يتبع ذلك عبرنة جغرافية شاملة ومتسقة للأراضي الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية.

نفذ مشروع العبرنة لتحقيق الاتساق الطوبونومي على جانبي الخط الأخضر الذي يفصل إسرائيل عن الضفة الغربية. كما طبقت العبرنة أيضاً في مناطق الكثافة السكانية اليهودية التي لا يتواجد فيها نظام منهجي طبوغرافي. كما جرت عبرنة أسماء مواقع الجولان بأكملها في أعقاب إلحاقه بإسرائيل في العام 1981 بموجب قرار الضم بحكم الأمر الواقع de facto.

التقويمات والاستنتاجات

أولاً-إحياء العبرية: وجهة النظر الإسرائيلية

دعمت الدولة رسمياً مشروع عبرنة الخارطة القومية لإسرائيل منذ انطلاقه في العام 1949 وروّجت له كمشروع قومي. وكان لاستعادة الجغرافيا العبرية للماضي اليهودي في الأرض والأسماء الطبوغرافية الاحتفالية لتاريخ الصهيونية مكان بارز في تشكيل الخارطة العبرية القومية. بيد أن الأولوية الموضوعية للمشروع كانت بدمج لغة المشهد المكاني في فضاء إحياء اللغة العبرية وحماية نقائها: “كانت اللجنة متأكدّة تماماً من عدالة ممارستها في تحديد الأسماء العبرية فقط وعدم إفساح المجال لتواجد أي اسم أجنبي من لغة أجنبية لتسمية المستوطنات الإسرائيلية، وستواصل اللجنة وقوفها للحفاظ على الاسم العبري في خارطة إسرائيل” (45).

لقد كان إنتاج طوبونوميا عبرية شاملة فعلاً جلياً لرمزية الاستيلاء على الأراضي القومية. وظهرت عملية عبرنة أسماء الأماكن كجزء من مراحل سابقة من التاريخ اليهودي في البلاد؛ إذ تربط نصوص العهد القديم إعادة تسمية مدينة كنعانية على يد الإسرءيليين بعد فتحها [وَذَهَبَ يَهُوذَا مَعَ شِمْعُونَ أَخِيهِ وَضَرَبُوا الْكَنْعَانِيِّينَ سُكَّانَ صَفَاةَ وَحَرَّمُوهَا، وَدَعَوْا اسْمَ الْمَدِينَةِ «حُرْمَةَ».] (سفر القضاة 1: 17)، كما قام الحشمونيين الذين حققوا الاستقلال القومي اليهودي في القرن الثاني ق.م بعبرنة أسماء الأماكن الهلنستية في الأراضي التي احتلوها وسيطروا عليها (46).

توفر مثل هذه السوابق التاريخية، وإن لم تذكر صراحة في سياق عبرنة خارطة إسرائيل، الشرعية التاريخية والقومية لمشروع العبرنة الصهيوني.

Bottom of Form

لقد مثلت الخارطة القومية العبرية، بصفتها منتجاً للهندسة الثقافية الرسمية، إسهاماً مهماً في الأسس الرمزية للأمة الإسرائيلية، فضلاً عن دورها في أن تصبح جزءً عضوياً من اللغة اليومية، وهذا يعني، لاحقاً، اختفاء الشحنة الرمزية العالية التي أعطيت لعملية عبرنة أسماء الأماكن في مرحلة تقديمها، بسبب السياق العادي الواضح لاستخدامها المتواصل.

إن نجاح مشروع العبرنة، الذي يهدف إلى دمج اللغة العبرية بجغرافية السيادة الإسرائيلية، لم يكن في توافر التسميات العبرية أو الإبداع الذي استثمر في بناء تسميات معينة فحسب، بل كان أيضاً في القبول الشعبي للأسماء الطبوغرافية الحديثة. وقد اعتبرت اللجنة أن عملها، وفي جزء رئيس منه، إنما هو غرس الأسماء العبرية الجديدة. كما أدى تضافر جهود متعددة لوكالات ومنظمات رسمية وغير رسمية إلى تعزيز الخارطة العبرية بصفتها النص الرسمي للوطن القومي. وعلى هذا النحو، كانت الخارطة العبرية أداة مهمة للتنشئة الاجتماعية، وضمان نجاحها بين المتحدثين باللغة العبرية على المدى الطويل، حتى لو أشار الإسرائيليون المخضرمون إلى الأماكن بـأسمائها السابقة، أي الأسماء العربية.

انتمت عبرنة الخارطة بوصفها مشروعاً قومياً في الخمسينيات إلى مرحلة بناء الأمة، عندما تأسست نزعة النقاء الألسني (اللغوي) إيديولوجياً ضمن إطار إحياء اللغة العبرية. لقد كانت العبرنة واضحة في مختلف مجالات الثقافة. وحتى نهاية الستينيات، تعبرنت أسماء الفرق الموسيقية البريطانية والأمريكية.

لكن ضغط العبرنة هذا تراجع تدريجياً فيما بعد. فعلى سبيل المثال ألغت وزارة الخارجية في أيلول 1995، التعليمات المتعلقة بضرورة عبرنة أسماء المسؤولين الرسميين (47)، وفي المقابل، ورغم تضاؤل أهمية نقاء اللغة العبرية كواجب وطني والتزام قومي، كان نجاح الأسماء الطبوغرافية العبرية بقبولها، في نهاية المطاف، من قبل المتكلمين بالعبرية كجزء بدهي من الخارطة القومية والاستخدام التلقائي للعبرية كلغة للمشهد المكاني.

ثانياً: لغة المشهد المكاني: العربية مقابل العبرية

فاق عدد الأسماء الطبوغرافية العبرية التي قدمتها لجنة الأسماء الحكومية عدد الأسماء الطبوغرافية العربية للمواقع التي كانت موجودة في الأربعينيات. ورغم ذلك، يبيّن النظام الجغرافي وتسمية المعالم التي ليس لها اسم، أن إنتاج الخارطة العبرية يتفق إلى حد كبير مع إجراءات إعادة التسمية، ونتيجة لذلك، وبوصفها اللغة المهيمنة على المشهد المكاني القومي فقد حلّت اللغة العبرية “على الأقل بالنسبة للمتحدثين بها” محلّ اللغة العربية. غير أن هذا لم يمنع من استمرار تداول الأسماء الطبوغرافية العربية في الفهرس الرسمي للأسماء الطبوغرافية، مثل أسماء القرى والبلدات التي يسكنها العرب في إسرائيل.

وهناك ظاهرة أخرى، وإن كانت نادرة، تمثّلت في استخدام الأسماء العربية كمرجع تاريخي. وينطبق هذا خصوصاً على أسماء مواقع ميادين القتال في حرب العام 1948، والمثال الأبرز هنا هو “باب الواد” الواقعة على الطريق بين تل أبيب والقدس، كان باب الواد ميدان قتال عنيف خلال حرب [الاستقلال] الإسرائيلية. وبرز اسم باب الواد كمرجع للتاريخ والأسطورة، وأخذ مكانه في التقليد والمعتقد القومي الإسرائيلي. ويشير الاسم الطبوغرافي العبري للمكان (المترجم عن العربية) إلى الظروف الجغرافية المعاصرة.

فالأسماء الجغرافية العبرية والعربية مترابطة لغوياً إلى حدٍ كبير. وقد اهتمت اللجنة الحكومية Top of Form

Bottom of Form

للأسماء بصورة مباشرة باستعادة الأسماء التاريخية القديمة، لا سيما العبرية منها، في حال وجودها.

واستناداً إلى الفكرة القائلة إن العديد من الأسماء العربية أظهرت استمرارية طبوغرافية، فقد أخذت اللجنة في حسبانها الأسماء العربية كمعطى افتراضي عند تحديد الأسماء العبرية، إما عن طريق الترجمة الدقيقة للمعنى أو الحفاظ على الخصائص الصوتية(48).

ومن المثير للاهتمام أن استعارة الكلمات العربية لبناء كلمات عبرية، كان يعد إجراء مناسب من قبل أليعازر بن يهودا، الذي يعرف بأنه ” مجدد اللغة العبرية”. وكان بن يهوذا قد أشار إلى التقارب في “الجوهر والطابع والروح بين العبرية والعربية واعتبار هاتين اللغتين الساميتين كلغة واحدة تقريبا” (49). وهذا التقارب بالنسبة له “سيفسّر ويسوّغ بداهةً، المبدأ الذي استخدمته للاقتراض بأريحيّة من اللغة العربية كي أسدَّ أوجه القصور والنقائص في لغتنا في كل مرة لا يوفرها كنزنا اللغوي بالجذر المطلوب لاشتقاق الكلمة المطلوبة بشكل جيد”.

كانت لغة المشهد المكاني، في إطار الصراع القومي اليهودي-العربي، قضية جوهرية نظراً لأنها تلامس الحجج المجرّدة وتحولها إلى واقع مجسّد عن المزاعم الإقليمية والحقوق التاريخية. وكانت الإشارة إلى المشهد المكاني سواء باسمه العبري أو العربي -بصفته معيار للتمايز- تتعزز كبادرة لغوية وكعاد مميزةshibboleth كلما تكررت مزاعم كلتا الجماعتين القوميتين. فعلى سبيل المثال، لم يكن ذكر الحي اليهودي المتنازع عليه في القدس الشرقية والذي بدأ تشييده في ربيع العام 1997، والذي يشار إليه باسم هار حوما (في العبرية) أو جبل أبو غنيم (في العربية)  مجرد تلميح جغرافي أو لغوي؛ بل كانت الإشارة إليه بمنزلة بيان سياسي.

وفي سياق النزاع اليهودي (الإسرائيلي)- العربي (الفلسطيني) على الأرض، يتم استثمار السؤال عن ماهية اللغة الأصلية للمشهد المكاني بشحنات عاطفية ودلالات سياسية استثنائية. وتستند وجهة النظر الإسرائيلية السائدة على أساس المعرفة العلمية التقليدية، وهي تعبر عن وجهة نظر مبالغ فيها وغير متمايزة حين ترى أن “جميع (التشديد مضاف) الأسماء العربية هي تشوهات عن الأصل العبري” (50).

أوضح المحلل الإسرائيلي ميرون بنفينيستي في العام 1988 وجهة نظر متباينة بشأن العلاقة المعقدة بين أسماء الأماكن العبرية والعربية كجانب من جوانب الصراع القومي. وكان قد لاحظ، بصورة استثنائية، برؤيته المتعاطفة مع مصالح ومظلومية كلا الجانبين “ما هو مثير للسخرية حقاً أن الخارطة العبرية حُفظت (لنا) في شفاه شعب قمنا نحن بمحو أماكن توطنه… () [و] لولا هذا التعلق بالأسماء القديمة لما تمكننا من إعادة بناء خارطتنا العبرية” (51).

أما الرؤية العربية الفلسطينية الشعبية الشائعة فترى بأن الأسماء العبرية لجميع المستوطنات على وجه التقريب والتي بنيت في سياق الأنشطة الصهيونية هي بدائل غير شرعية لأسماء الأماكن العربية السابقة لإنشائها. وتم تقديم مثل هذا الزعم فعلياً من قبل شخصية قيادية بارزة في اللجنة العربية العليا في شهادته أمام لجنة التحقيق الأنكلو أمريكية في فلسطين في العام 1946، أي قبل تأسيس دولة إسرائيل (52).

والمثال الحديث على ذلك، مسابقة تعليمية نظمها المجلس الوطني الفلسطيني في العام 1996. فقد كان أحد أسئلة المسابقة عن “الاسم الحقيقي للمدن الفلسطينية المدمرة وبنيت في مكانها المدن التالية: تل أبيب وأشدود ورامات غان ونتانيا”؟ (وهي المقابل العبري للمواقع العربية: تل الربيع، أسدود، سلمة وأم خالد) (53).

وكما هذا هو واضح في المثال، لا ترتبط شرعية الأسماء العبرية بتاريخ تأسيسها، فمن المثير للاهتمام ملاحظة وجود اسم واحد فقط من الأماكن الأربعة المذكورة بعد تأسيس الدولة، في حين أن تل أبيب، مثلاً، تأسست في العام 1909.

وتجدر الإشارة إلى أن عبرنة المشهد المكاني لإسرائيل كمشروع إعادة تسمية قومي، كان مظهراً من مظاهر التحول في المشهد أثناء حرب العام 1948 وما بعدها؛ والذي اتخذ أبعاداً هائلة في المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل.

كان تفريغ المناطق العربية من سكانها واستيطان اليهود في القرى العربية المهجورة وجوارها ينتمي -من منظور صهيوني- إلى إحياء الوطن اليهودي القديم. أما وجهة نظر العرب الفلسطينيين فكان تفريغ القرى العربية خلال حرب العام 1948 وما بعدها وما رافقه من تدمير مادي لهذه القرى منذ بداية الخمسينيات إنما يهدف إلى “القضاء على رمزية المشهد المكاني-الثقافي الفلسطيني” (54).

ولم يكن اجتثاث أسماء القرى العربية المهجورة من الفهرس الرسمي مجرد نتيجة ثانوية لمشروع العبرنة بل نتيجة لقرار سياسي. فقد تم في العام 1951، وتحديداً في المرحلة المبكرة من مشروع العبرنة، توجيه سؤال محدد لـ “بن غوريون” عما إذا كان يتوجب الإشارة إلى القرى العربية المدمرة بأسمائها في الفهرس الرسمي الجديد للأسماء الطبوغرافية فكان جوابه واضحاً لا لبس فيه: “لا ينبغي تضمين الخارطة الجديدة أسماء أماكن كانت موجودة من قبل. عندما نبني مستوطنة جديدة في المكان المدمر؛ فسوف نمنحها اسماً وننشره في الخرائط” (55).

ويشير الخالدي بالقول في توثيقه المنهجي لهذه القرى العربية ولإعادة تسميتها أيضاً “حلت الأسماء العبرية لهذه القرى العربية المهجورة محل أسمائها العربية، وأحياناً بنغمة ركيكة وصدى ساخر (التشديد مضاف) يردد هذه الأسماء” (56).

ورغم النفي والدمار المادي، التزم الفلسطينيون العرب “بالتسميات العربية للأماكن التي إما أزيلت من المشهد الجغرافي واستعيض عنها بمستوطنات يهودية أو بتسميات عربية تحتفي برموز دينية وبمؤسسي المستوطنات” (57). وزيادة على ذلك، يستخدم عرب إسرائيل اللغة العربية كلغة للمشهد المكاني. ومن مظاهر البناء القومي للعرب الفلسطينيين تبرز استعادة الجغرافيا التاريخية لفلسطين العربية ولأسماء الأماكن العربية بصورة خاصة كما تتجلى في الكتب والخرائط (58).

وتبدو مقارنة الخرائط الإسرائيلية بالعربية الفلسطينية تأكيداً على عدم توافق الخرائط العبرية والعربية على الأرض المتنازع عليها. ومما هو جدير بالاهتمام في هذا السياق إمكانية “تعايش الأسماء الطبوغرافية وأصولها” على مستوى الخرائط، حيث يُستدل على هذه الأماكن بأسمائها العربية والعبرية.

ومن الأمثلة الراهنة هو خارطة إسرائيل في أطلس التلاميذ العرب في إسرائيل، حيث ترد أسماء المواقع الجغرافية بالعربية والعبرية (وإن كان بحروف أصغر) (59).

خلاصة

توصف عملية (إعادة) كتابة الخارطة القومية في اللغة العبرية بأنها جزء لا ينفصم من الأسس الرمزية للأمة الإسرائيلية، وهي أكثر من مجرد عملية نسخ أو ترجمة. لقد كان بناء الخارطة القومية يعني كتابة نص عبري أكثر من كونه استخداماً أو تحويلاً لنص موجود إلى اللغة العبرية. وبهذا المعنى، كانت الخارطة العبرية نصاً أولياً للتجديد الصهيوني. وأهميتها في هذا السياق تكمن في دمج لغة المشهد المكاني في فضاء الثقافة العبرية الناشئة ودمج الإيديولوجية الصهيونية في الممارسات المكانية في الحياة اليومية.

لقد بينت عبرنة المشهد المكاني باعتبارها مظهراً من مظاهر تشكيل الدولة، رمزية إعادة الاستحواذ على الوطن اليهودي في الإطار العام للاستقلال القومي. كما أكّدت الخارطة العبرية القومية باعتبارها نصاً رسمياً على الهوية اليهودية لدولة إسرائيل بوصفها دمجاً للجوانب الثقافية والإقليمية للسيادة اليهودية.

وكما ذكرت حنا بيتان، منسّقة اللجنة الحكومية للأسماء، ثمة، هناك، حوالي 7000 اسماً عبرياً تم تعيينهم بصورة تامة حتى العام 1992. ولتوضيح وجهة النظر الرسمية، فقد فسرت الأمر بأن عمل اللجنة: يقدّم تعبيراً ملموساً عن الارتباط القوي بين الشعب اليهودي وأرضه. وقد اعتبر أعضاء اللجنة عملهم على أنه مهمة تنطوي على التزام علمي-أخلاقي لتحديد وإحياء الأسماء العبرية على خارطة الأرض وفقاً للحقائق الجغرافية-التاريخية لأرض إسرائيل(60).

وسوف يقوّض تقديم خارطة عبرية رسمية -من خلال تصورها كإجراء استعادي- مقولات أسماء الأماكن العربية الموجودة كتسميات مسلم بها، ووحيدة وشرعية للمشهد المكاني.

ويُنظر، وفقاً للمقاربة الصهيونية، إلى عبرنة المشهد المكاني كإشادة باستعادة الماضي اليهودي للأرض ومظهر من مظاهر النهضة القومية اليهودية.

وأما من وجهة النظر المعادية للصهيونية قد يكون هذا إدانة لأنه يمثل محواً رمزياً للماضي العربي.

ولكن، وكما أصبح واضحاً، لم تستبدل الخارطة العبرية اليهودية لإسرائيل، الخارطة العربية لفلسطين. فقد استمرت الطوبونوميا العربية قائمة في شكل الجغرافيا العربية والشعبية وفي خرائط الفلسطينيين العرب التي تؤكد صلاحية وصحّة أسماء الأماكن العربية. وبالتالي، استمرت أسماء الأماكن العبرية والعربية كسرديتين تتشاركان وتتنازعان الوطن القومي.

……

هوامش

(1) E. Gellner, Encounters with Nationalism (Oxford 1994) 166.

(2) S. B. Cohen, and N. Kliot, Israel’s place-names as reflection of continuity and change in nation-building, Names 29 (1981) 227–248. See also Idem, Place-names in Israel’s ideological struggle over the administered territories, Annals of the Association of American Geographers 84 (1992) 653–680.

(3) J. A. Fishman, Language and Nationalism (Rowley, MA 1972) 62

(4) Ibid., p. 55.

(5) I. Even Zohar, Language conflict and national identity: a semiotic approach, in J. Halpher, (Ed), Nationalism and Modernity: Mediterranean Perspectives (New York and Haifa 1986) 126–135

(6) U. Eco, Einfühlung in die Semiotik (Munich 1972) 310

(7) J Duncan and N Duncan, (Re)reading the landscape, Environment and Planning D: Society and Space 6 (1988) 117–126

(8) C. Stelzenmuüller, Wer nicht glaubt, der lebt gefaührlich, Die Zeit, 25 July 1997, 2.

(9) On Captain Cook’s naming activities in Australia, see P. Carter, The Road to Botany Bay (New York 1988).

(10) J. Raban, The unlamented west The New Yorker, 20 May, 1996 60–81. On American place names and naming patterns see also D. J. Boorstin, Names in profusion and confusion, in Idem, The Americans: The National Experience (New York 1965) 299–306

(11) M. Azaryahu, The power of commemorative street names, Environment and Planning D: Society and Space 14 (1996), especially 313–319

(12) E. Meyer, Die mittelalterichen deutschen Stadtnamen im Bereich der spaüteren preussischen Provinz Schlesien und ihre heutige polnischen Entsprechungen, Mitteilungen des Beuthener Geschichts- und Museums-vereins 50 (1992) 197.

(13) Ten Years’ Work in The Land of Israel, an illustrated booklet, published in 1931 in Jerusalem by Keren Hayesod (Hebrew)

(14) E. Schweid, The Idea of Judaism as a Culture (Tel Aviv 1995) 300

(15) On this practice, see G. Toury, Hebraicizing family names in the land of Israel as ‘cultural translation’, in N. Gertz (Ed), Viewpoints: Culture and Society in the Land of Israel (Tel Aviv 1988).

(16) Report on the work of the Governmental Names Commission, 4 April 1952, 3, Israel State Archive [henceforth ISA] C/3788/5551.

(17) S. B. Saulson, Institutionalized Language Planning. Documents and Analysis of the Revival of Hebrew (The Hague 1979) 65.

(18) For a detailed analysis see Y. Katz, 1995, Identity, nationalism, and place names: Zionist efforts to preserve the original local Hebrew names in official publications of the mandate government of Palestine”, Names 43 (1995) 103–118

(19) In a newspaper article concerning cartography and politics, Avraham Braver, a prominent Jewish geographer and a future member of the Governmental Names Commission, criticized the seemingly inconsistent British policy concerning Biblical names in Palestine: “As if stealthily, in Palestine the British allowed themselves to call Yerushalaim Jerusalem and Yericho Jericho and Hevron Hebron as it is written in the translation of the Bible, and not ‘Al Quds’ and ‘Aricha’ and ‘Al-Halil’ as in Arabic. Yet in Shechem and Beit Shean and Ein Ganim and many other places known to us and to the Englishman familiar with the Bible in their Hebrew names—they did not allow themselves such liberty”. See A. Braver, Haaretz, 29 June 1937, 2.

(20) Y. Press to D. Ben-Gurion, 15 December 1948, ISA C/3783/5550

(21) G. Kampffmeyer, Zeitschrift des deutschen Palästina Verein 15 (1982) 1–33. Y. Aharoni, The Land of Israel in Biblical Times: A Geographical History (Jerusalem 1962). For a comprehensive survey of Arabic toponyms, see N. Kliot, The meaning of Arabic place names in Palestine and their comparison to the names of Jewish settlements, Ofakim Begeographia 30 (1989) 71–79

(22) Y. Aharoni, The Land of Israel in Biblical Times: A Geographical History (Jerusalem 1962) 97. On the continuity of names, see also Y. Ziv (1992) The war of names, Eretz Israel: Studies in the Knowledge of the Land and its Antiquities, 23 (1992) 371.

(23) For a short history of the Commission, see H. Bitan, The Governmental Names Commission, Eretz Israel: Studies in the Knowledge of the Land, 23 (1992) 367–370

(24) Report on the accomplishments of the Governmental Names Commission for the beginning of the year 5719 (1958–1959), September 1958, 1, ISA C/5551/3787

(25) Letter M. Brechman to H. Even-Tov, deputy secretary of the Government, 8 September 1949, ISA C/3783/550

(26) ISA C/3782/5550

(27) Entry for 11 June 1949, in G. Rivlin and E. Oren (Eds), The War of Independence. Ben-Gurion’s Diary III (Tel Aviv 1983) 989

(28) Letter Z. Sherf, the secretary of the government, to Sh. Yevin, Head of Antiquities Department, 22 November 1951, ISA C/5550/3782

(29) Report on the activities of the Governmental Names Commission, the Negev commission 1949–1950, 4 April 1952, ISA C/5551/3788

(30) Ibid., 3

(31) Commission for the determination of geographical names in the Negev (1949–1950) 2, in Report on the Governmental Names Commission, 4 April 1952, ISA C/5551/3788

(32) Letter D. Ben-Gurion to members of the commission for the determination of names in the Negev, September 6, 1950, ISA C/5550/3782

(33) Report on the work of the Governmental Names Commission, 4 April 1952, 3, ISA C/3788/5551.

(34) Draft proposal, the geographical committee, the Prime Minister Office, 1, ISA C/3783/5550

(35) Report on the accomplishments of the Governmental Names Commission for the beginning of the year 5719 (1958–1959), September 1958, 3, ISA C/3787/5551

(36) The Names Commission (no date), ISA C/3787/5551, 1.

(37) Report of the Governmental Names Commission, 6 February 1955, 1, ISA C/3788/5551

(38) Sh. Yevin, Protocol, session no. 71 of the Governmental Names Commission, 7 February 1955, 1, ISA C/3787/5551

(39) Report on the activities of the Governmental Names Commission, September 1958, 4, ISA C/3787/5551

(40) Report on the activities of the Governmental Names Commission, 7 April 1952, 7, ISA C/3788/5550

(41) Letter B.-Z. Eshel to the secretary of the government, 7 September 1953, ISA 3782/5550

(42) Report on the activities of the Governmental Names Commission, September 1958, 4, ISA C/3787/5551

(43) Ibid., 1. In a later report it was maintained that this stage was begun in 1960 (The Names Commission (no date), ISA C/3787/5551, 1)

(44) On these see Cohen and Kliot, Place-names

(45) Protocol, session no. 71 of the Governmental Names Commission, 7 February 1955, 2, ISA C/3787/5551. These emphatic sentences came as a reaction to that the Knesset forced the Commission to accept a commemorative place name that was not Hebrew

(46) E. Ben-Yehuda, Prolegomena to the Complete Dictionary of Ancient and Modern Hebrew (Jerusalem 1940), 189

(47) Diplomats can now keep their non-Hebraic names, Jerusalem Post, 15 September 1995

(48) N. Kliot, The meaning of Arabic settlement names in the land of Israel and their comparison with Hebrew settlement names, Ofakim Begeographia 30 (1989) 71–79

(49) Ben-Yehuda, op. cit., 10

(50) D. Bar-Ilan, Archeology used to bash Israel, Jerusalem Post, 5 April 1996, 9. In a similar vein see U. Elitzur, Point out: Hevron, Schechem and Jerusalem, Yediot Ahronot, 30 September 1996, 5.

(51) M. Benvenisti, What is in a name, in Idem., The Sling and the Club (Jerusalem 1988), 136

(52) In his testimony (March 12, 1946), Jamal Husseini also claimed: “Arab villages were destroyed houses, mosques and cemeteries were erased from the map of the mandate government and in their stead there appeared Hebrew names of Zionist settlements”. Cited in A. Karlebach (Ed), The Anglo-American Inquiry Commission for Palestine (Tel Aviv 1946), Vol I, 352–365. On the reaction of Moshe Sharet of the Jewish Agency, who later became Israel’s foreign minister and for a brief period also prime minister, see ibid., Vol. II, 531

(53) R. Shaked, Who are the Zionist terror gangs? A personal computer is promised to the solver Yediot Ahronot, 18 April 1996, 11.

(54) G. Falah, The 1948 Israeli-Palestinian war and its aftermath: the transformation and de-signification of Palestine’s cultural landscape, Annals of the Association of American Geographers 86 (1996) 256–285. For a different perspective see A. Golan, The transformation of abandoned rural areas in Israel’s War of Independence, Israel Studies 2 (1997) 94–110

(55) Note from Nechenmia Argov (the military secretary of Ben-Gurion) to the chairman of the Governmental Names Commission, 25 June 1951, ISA C/3782/5550

(56) W. Khalidi (Ed), All that Remains. The Palestinian Villages Occupied and Depopulated in 1948 (Washington DC 1992) xxii

(57) Cohen and Kliot, Place names, p. 676

(58) An example for a book that juxtaposes Hebrew and Arabic place names. A. Shukri, Palestinian Sites between Two Periods and Two Maps (Shuafat 1992). An example for such a map is The Temporary Borders of the Palestinian Authority (Amman 1993).

(59) M. Braver, Y. Bishara and H. Iraqi, Comprehensive Atlas for Arab Schools (London 1996)

(60) H. Bitan, the Governmental Names Commission, 369

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

الاستعمار البديل لفلسطين: 1917-1939

استهلال يعني مفهوم “الاستعمار البديل” أو “الاستعمار بالوكالة” استخدام القوى الاستعمارية لأطراف أو جماعات محلية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *