التعصب لا دين له: جدل الأرضي والسماوي

ثمة نكتة شائعة عن رجل دين وآخر “بدائي” تقول

-الرجل البدائي: ولكن قل لي يا سيدي، إن كنتُ لا أعرف شيئاً عن الرب، هل سيكون الجحيم مصيري ؟

-رجل الدين: لا أبداً، على الأغلب لا، طالما لا تعلم

-الرجل البدائي: طالما الأمر كذلك ؛ لمَ تحاول، إذن، أن تخبرني عنه الآن

في الواقع ترددتُ كثيراً قبل الخوض في هذا الموضوع الشائك ( التعصب الديني)  أو (التعصب المسيحي) مُتوقعة سلفاً ردود الفعل العنيفة التي سأتلقاها، وحجم الغضب الذي سوف يشعر به المسيحيون المتعصبون، ولكنني أؤمن أن الكتابة شرف، ولا معنى لها إن لم تكشف المستور عنه وتحلله، على ضوء العقل والمنطق والحق . لذا أبدأ بالقول بكل عفوية أنني مسيحية بالهوية، وكان يمكن أن أكون مُسلمة أو بوذية أو يزيديه إلخ، لكن للقدر أحكامه، وقد تربيت في كنف عائلة مسيحية ( أمي أستاذة فلسفة وأبي أستاذ لغة عربية ) وكانا منفتحا الأفق وفي الوقت ذاته يمارسان كل طقوس الديانة المسيحية من صوم وصلاة وعادات احتفالاتنا الدينية، وأنا لم أكن أشارك بأي من هذه  الطقوس لقناعتي أن الدين معاملة، وأن الله واحد في كل الأديان، الآن وقد بلغت منتصف العمر أجد نفسي يوماً بعد يوم مُروعة ومُضطرة ألا أتجاهل التعصب المسيحي ضد الدين الإسلامي، وقبل أن يصرخ أحد في وجهي بأن هناك متعصبين في الديانة الإسلامية أقول بكل شرف الكلمة التعصب، كالإرهاب، لادين له. ومنذ بداية ثورات الربيع العربي وخاصة الثورة اليمنية والثورة في سوريا (التي تعنيني لأنها وطني) حيث هنالك العديد من الطوائف والأديان بدأت آفة التعصب “الديني” تنتشر  كالسرطان، لتفتك في عقول الناس، لدرجة تفتق سؤال من أعماق أعماقي: هل هذا التعصب الديني نتيجة ظروف معينة أم أنه كالبذرة الكامنة في النفوس تظهر عند تحريضها. لكن ما سأحكيه وبكل صدق لأنني أؤمن أن الصدق وحده يُحررنا من كل الأحقاد والأوهام، ولا يمكن أن أتجاهل عبارة قالها لي أحد زملائي وهو أستاذ في الفلسفة ومتدين جداً: الحمد لله أن الله خلقني مسيحياً. وعبارته مُبطنه بأنه محظوظ بأنه مسيحي وبأن الله يحبه أكثر من بقية الناس غير المسيحيين، كما لو أن الله لديه واسطة ويميز ديناً عن آخر. ومن المؤسف أن من قال هذه العبارة هو شبه كاهن أي أنه مسؤول عن تحضير محاضرات دينية واجتماعية لأكثر من ثلاثين أو أربعين سيدة تتجاوز أعمارهن الأربعين، وهو ينظم لهن اجتماعات دينية لا أعرف تماماً مواضيعها، ومنذ سنوات لكن يكفي أن أعرف أن جوهر شخصيته وشعاره في الحياة هو : الحمد لله بأنه خلقني مسيحياً،  تأملوا هذا التعصب الأعمى الذي لا يحتاج إلى شرح أو تعليق أو تأويل لشدة وضوحه. لذا يمكنني أن أخمن أي كلام يقوله لأولئك النسوة اللاتي يعتبرنه الأب الروحي لهن ويستشيرونه في كل مشاكلهم الأسرية، والمؤلم أنه أستاذ في الفلسفة التي من المُفترض أن تعلمه المُحاكمة المنطقية للأمور، وحين قلت له بأن أي منا لم يختر دينه وبأن كل واحد يرث دينه عن عائلته، ابتسم متعالياً وقال منتشياً: الحمد لله بأن الله خلقني مسيحياً ( على مبدأ المقولة المنسوبة لأفلاطون الذي يشكر فيها آلهته لأنها خلقته يونانياً وليس بربرياً، حراً وليس عبداً).. لكن أفلاطون، على الأقل، يستذكر فيقول أنه يشكر إلهه لأنه خلقه أيضاً في عصر سقراط، فما بال هذا الأستاذ وهو الذي أتى في آخر الزمان ونضوج العلم والمعرفة تقريباً أن يعود بنفسه وبنا إلى الوراء، بل إلى وراء الوراء! وفي المقابل أذكر حين كنت ضيفة في الجزائر العاصمة، حين كانت الجزائر عاصمة الثقافة العربية، قال لي أحد الحاضرين : خسارة أنك مسيحية. ونصحتني صديقتي ألا أرد لأن الاستعمار الفرنسي مرتبط بنظر هؤلاء بالدين المسيحي. وبين خسارة أن تكون مسلماً وخسارة أن تكون مسيحياً سوف يضيع ملايين الشبان والشابات من كل الأديان، وسوف تُشوه روحهم بالتشنج والتعصب. بل لم يعد يحق لنا أن نتساءل لماذا تتصاعد وتتنوع لحد الاشمئزاز مظاهر العنف والتحرش الجنسي والقتل (حتى قتل الوالدين) لأن ما يُزرع في عقول هؤلاء الضحايا القتلة أفكاراً مروعة من الحقد ونبذ الآخر.

هل يدرك هذا الأستاذ- بحكم تخصصه- قول الفيلسوف الألماني  إيمانويل كانط” إن ديناً يعلن الحرب على العقل سوف يصبح مع مرور الزمن غير قادر على الصمود أمامه”، بكل تأكيد لا يدرك، لأن الأصل عنده أن يعتقد بأن يقينيته الدينية هي الحقيقة الوحيدة القابلة للعيش، لذا هو غير مهتم ،أو لا ينبغي له ان يهتم كثيراً للحقائق الأخرى( كالحقيقة التاريخية مثلاً)، هو في الحقيقة يقبع” مع يقينيته” في مكان ما خارج التاريخ، خارج الزمان والمكان، ولا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد بما يقرره القانون التاريخي، بل يبني تصوراته على حتميات يعتقد بضرورة انجازها، كما أن الله (والأمر ينطبق على بقية الأديان و أربابها ودعاتها) قد أوكله وأقرانه لإنجاز هذه المهمة و”الرسالة”. لاشك، أن هذا نمط تفكير ضيق الأفق لا يحتمل الآخر.. وتكثر فيه الصور النمطية والقوالب الجاهزة عن رؤيتنا لأنفسنا وللآخر وللعالم، إذ مازلنا نقيس الأمور بمعايير ذاتية وشخصية انفعالية منغلقة، وهذا ينطبق على أي يقينية دينية؛ مسيحية أو غيرها.

علماً أن اللجنة المعنية بحقوق الإنسان الخاصة بالميثاق الدولي الخاص للحقوق المدنية والسياسية، كانت قد أشارت، ومنذ العام 1993، إلى أن المقصود بالدين أو المعتقد ضمناً يتمثل في “معتقدات في وجود إله، أو في عدم وجوده أو معتقدات ملحدة، بجانب الحق في عدم ممارسة أي دين أو معتقد”.

أعيش في مدينة اللاذقية، في “حي الأميركان” أو شارع 8 آذار ذي الأغلبية السكانية المسيحية ومعظمهم جامعيين وميسوري الحال، وأزعم أن لا أحد منهم قرأ القرآن أو حتى الإنجيل، ولكن الكلام عندنا ( ما عليه جمارك كما يقولون ) هذه الشريحة من مسيحيي اللاذقية متعصبة تعصباً أعمى وغير قابل للجدل والنقاش فيما يخص القرآن وتعاليمه (وأتكلم هنا على العموم وليس التعميم ودون تحديد وبصيغة وصفية ليس أكثر.. يعني يمكن لهذا الوصيف أن يطبق على أي أغلبية أخرى في حي آخر) ولدى جماعة حي الأميركان فهمهم الخاص للقرآن، وبما يشترك معهم في هذا افهم ودلالته وانعكاساته معظم المسيحيين في سوريا، حيث تدور أفكارهم حول فكرة أساسية ترى في الدين الإسلامي دعوة لأتباعه بقتل من هو غير مسلم ويستشهدون بآيات من القرآن يفسرونها على هواهم وببعض المقولات النمطية الشائعة من قبيل جواز قتل المسلم لو غيّر دينه !  بل يصل الأمر إلى مخجل حقاً ويعبر عن سلوك استعلائي غير مبرر وغير منطقي بل وعنصري مثل زعمهم أن لبيوت المسلمين رائحة معينة غير مستحبة؟؟ وبأن كل مسلم يشعر بأعماقه بالدونية تجاه المسيحي ، أي كما لو أن المسلم يغار من المسيحي لأنه أرقى منه مرتبة إنسانية ودينية ( على أساس يعني المسيحي جايب الديب من ديله كما يقال)، وهو ذات السلوك والتعصب الأعمى الذي يماهي بين داعش وبين الدين الإسلامي، من خلال إصرارهم على أن داعش تمثل الإسلام والمسلمين فهي الإسلام والإسلام هي.. ويسخرون ويحتقرون ما يُسمى بجهاد النكاح ولا يريدون الاعتراف بأن تلك بدعة غير حقيقية وألصقت ظلماً وحقداً بالدين الإسلامي. وبأن مفهوم جهاد النكاح غير موجود أصلاً في الدين الإسلامي. ومع ذلك لاهم  مقتنعين ولا يجعلون غيرهم يقتنع ويسردون قصصاً عجيبة غريبة عن جهاد النكاح لا أعرف من أين يستقونها، ولا مانع لديهم من السخرية، بل واحتقار، المحجبات ويعتبرون كل سيدة مشهورة لبست الحجاب بعد أن كانت سافرة بأنها قبضت مالاً من جهات مُسلمة، لاسيما إن كانت تلك السيدة مذيعة مشهورة أو ممثلة. ولا يمكن لهؤلاء المسيحيين المتعصبين أن يقتنعوا ولا بأي شكل من الأشكال بأن للمرأة حرية ارتداء الحجاب، وبأن عقلها يبقى متنوراً وغير متعصب رغم ارتداء الحجاب، إذ يُلصقون بها فوراً صفة المتعصبة. علاوة على ذلك , يعتقدون أن جوهر الدين الإسلامي يتمثل في احتقار المرأة إذ سمح للرجل بالزواج من أربعه، ويغضون النظر عمداً، ولسوء نية، عن تتمة العبارة ( ولن تعدلوا ) ، ولا شك ن هؤلاء لم يقرأوا  لرسالة التي كتبها الآب تيلّو  Tillot، لكلية اللاهوت في باريس  قبل نحو 600 سنة ( تحديداً 1444) : “”كل الرجال بحاجة للاستمتاع مرة واحد في السنة على الأقل لإطلاق سراح غرائزهم الطبيعية التي يمكن كبتها حتى مستوى محدد. إنهم يشبهون براميل الخمر التي يمكن أن تنفجر إن لم يقم أحدهم بنزع الغطاء من فترة إلى أخرى لإزالة الضغط. يمكن للرجال أن ينفجروا أيضاً إن كان الشيء الوحيد الذي يغلي في داخلهم هو إخلاصهم للرب”. لكن هذا لا يمنع سيدة مسيحية تقصد الكنيسة كل يوم أحد وتصوم وتصلي وتعطي الفقراء بشرط أن يراها أكبر عدد ممكن من الناس بأن تصرح بأنها تتمنى الموت لابنها الشاب إذ تزوج مسلمة !! أصرخ بها هل حقاً تتمنين له الموت !! فترد بقناعة تامة : طبعاً. وهذه الأم تشترك مع كثير من المسيحيين الين يحتقرون، بل ينبذون أي مسيحية تتزوج من شاب مسلم، أو بالعكس: أي شاب مسيحي من فتاة مسلمة، وغالباً تقاطعهم عائلاتهم وتحرمهم من الميراث، وتمنع كتابة أسمائهم على أوراق نعوات الوفيات لأحد الوالدين. والحجة في ذلك بأنه لا يوجد عدل وبأن المسيحي أو المسيحية يضطران غالباً لتغير دينهم حين يتزوجون من مسلم أو مسلمة (مع أن تلك المعلومة غير صحيحة إذ يمكن لهما ألا يغيرا دينهم المسيحي). ويُكمل المتعصبون بأن أولاد هؤلاء سيكونون حتماً مسلمين، وهذا غير عادل، وحين تقول لهم وتحاول إقناعهم بأن الحل يكون بالدولة العلمانية والزواج المدني يرفضون رفضاً قاطعاً هذا الحل.

كيف أنسى كلام أم مسيحية أخرى، ترتاد الكنيسة كل يوم أحد وتقف بخشوع تام وهي تغطي شعرها بمنديل أسود مخرم وتبرطم بصلاة الله أعلم ماذا تقول، هذه الأم التي يصنفها الجميع بالمرأة المؤمنة والورعة سمعتها ذات يوم تقول لابنها البالغ التاسعة من عمره: اختر أصدقاءك في المدرسة من المسيحيين فنحن أفضل من المسلمين نحن لدينا سر المعمودية المقدس الذي يجعلنا أنقياء، المسلم غير متعمد ولم يحل عليه الروح القدس. ليت تلك الأم الجاهلة الأصولية المتعصبة تعرف أن الروح القدس هو روح الله. وبأن ثلثي سكان الكرة الأرضية لا يؤمنون بالديانات التوحيدية، وبأن الله يحب خليقته كلها بالتساوي حتى هؤلاء الذين لا يؤمنون به على حد قول دوستويفسكي : الإلحاد يقف قبل الإيمان بدرجة واحدة فقط. لأنه لا يوجد إنسان في العالم لا يؤمن بمبدأ، وحين قرأت كل الأدب الياباني لم أجد كلمة الله وليس لديهم الوصايا العشرة، والانتحار عندهم ليس قتلاً للنفس ولا خطيئة بل قرار حر، لكن أذهلني الأدب الياباني بتلك المنظومة الأخلاقية العالية جداً التي تحكم العلاقات بين اليابانيين .

أي أم هذه التي تؤمن أنها مسيحية وعضوة في جمعية الأخ والأب الروحي أستاذ الفلسفة ذاك الذي يؤمن بأن الله يحبه أكثر من بقية الخليقة لأنه خلقه مسيحياً، ثم تقوم / عن سابق إصرار وترصد ومن باب العناد والتعصب، بتسميم عقل ابنها الطفل بالأحقاد وكره الآخر والنفور منه بل واحتقاره لأنه غير مُعمّد ولم يطهره سر المعمودية. ولا أعرف لماذا تنطوي المسيحية على هذا الكم الهائل من “الأسرار الإيمانية”!! فحتى إن نشاطاً اجتماعياً يشترك فيه جميع البشر -المؤمنين وغير المؤمنين- مثل الزواج يعتبر سراً يشارك به الله الزوجين، يقول الإنجيل: وما جمعه الله لا يفرقه إنسان! أي كلام هذا وحالات الطلاق في تزايد. كيف سيكون تفكير هذا الطفل ابن السنوات التسع والذي زرعت أمه الكراهية في نفسه ضد إخوته في الإنسانية الأطفال المسلمين أو من ديانات أخرى، فهؤلاء أنجاس لأنهم غير مُعمدين، وأهم ما في الديانة المسيحية المعمودية خاصة حادثة تعميد المسيح من قبل يوحنا المعمدان .

وليس سراً القول بأن هنالك شرائح واسعة نسبياً من مسيحيي اللاذقية وبالتأكيد مسيحيي سوريا يحملون هذه العقيدة، والكثير منهم يربط بين داعش والدين الإسلامي وبين الوهابية والدين الإسلامي، بل يذهب بالبعض إلى القول بأن الدين الإسلامي أصله مثل داعش دين القتل والإجرام والقتل خاصة الأشخاص من الأديان الأخرى أو حتى المُسلمين المُعتدلين، ولا يستطيع أحد أن يُقنع أصحاب هذه العقول المتحجرة بأن الله واحد لكل الأديان وهو إله محبة ورحمة ومُخلص للبشرية من أزمتها الوجودية وآلامها . كم أحس بالخزي والعار حين أرى المسيحيين يحملون في أعماقهم كل هذا الحقد للدين الإسلامي ويلصقون به صفات العنف والإجرام والقتل وتعدد الزوجات . كم أحس بالخجل حين ألاحظ متعتهم وشماتتهم بالدين الإسلامي. ولست بصدد الدفاع عن الدين الإسلامي فقد دافع عنه العديد من العلماء والمثقفين وبرهنوا من خلال آيات في القرآن الكريم أنه دين رحمة ومحبة، وبأنه أكثر كتاب مُقدس حكى عن ضرورة العناية بالأرامل والأيتام والمطلقات، فالمطلقة في الدين الإسلامي مُحترمة وتتزوج ثانية دون انتقاص من قيمتها، ومن باب التذكير فثمة آية في الإنجيل الكريم (ومن تزوج بمطلقة فقد زنى) (ومن ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى) لماذا يتم التعتيم على هكذا آيات ولا تُفسر على ضوء الظرف التاريخي الذي قيلت به. وأؤكد وأحمل كل المسؤولية لبعض رجال الدين من كل الأديان وكذلك للفضائيات التي لا تخصص سوى برامجاً تزيد من تعصب المشاهد لدينه وكرهه للدين الآخر، غافلين أن إله الأديان واحد! هل يُعقل مثلاً أن نجد على إحدى الفضائيات حوار مع شيخ مسلم وله حق الإفتاء يتلقى اتصالاً هاتفيا” من امرأة تسأله رأيه الفقهي ورأي الدين الإسلامي في كيفية نزع الأشعار من جسد المرأة ! ومتى يكون استعمل الشفرة حلالاً ومتى يكون استعمالها خطيئة! والشيح يتنحنح ويرد بكل جدية كلاماً أتعفف وأخجل من ذكره! هل هذا هو الدين الإسلامي! أهكذا يُقدم على الفضائيات ليُضلل عقول ملايين الشباب العربي؟ يا للساعات الطويلة التي استمعت فيها لأسئلة المشاهدين إن كانت قطرة العين تفطر أو لا تُفطر لأن مُستعملها يشعر بطعمها في بلعومه؟ سؤال آخر هل يُنقض الصيام إذا قبل الزوج زوجته على خدها! وهل يفسد الصيام إن أطلق الشخص ريحاً من أمعائه؟

 ما هذا الهذيان المُخجل؟ الذي يتعمد تغييب العقل والمنطق والفكر الحر وتحويل الدين بجوهره الإنساني السامي إلى مجموعة طقوس سخيفة تتنافس الفضائيات في عرضها خاصة في شهر رمضان الفضيل ساعة تلو الساعة، وما أدرانا مدى تأثر الجيل المراهق والأطفال بهذه الترهات. هل أنس الطفل أسامة ذو السنوات الست حين أجريت له عملية حول في عينيه ودخل عيادتي فبادرته بالترحيب: مرحبا أسامة كيفك اليوم؟ فرشقني بنظرة نارية وقال كأنه يُقرعني: ما بيقولوا مرحبا بل يجب أن تقولي “السلام عليكم” لأن الشيخ الذي يتلقى عنده دروس الدين في جامع في اللاذقية وتحت شعار كبير (مدارس الأسد لتحفيظ القرآن) قد زرع في عقل الطفل أن كلمة مرحبا حرام ولا تنتمي للدين الإسلامي! ما ذكرته هنا ليس سوى مثال بسيط ويبدو كأنه نكته، ولكن لنتخيل أسامة هذا حين يبلغ الخامسة عشرة أو السادسة عشرة أية معلومات تكون قد حُشرت في ذهنه وآمن بها، وبالمقابل هناك جمعيات التعليم الديني المسيحي الأورثوذكسي والتي انتسبت لها في مراهقتي ثم هربت منها لأنها أيضاً تعتبر المسيحية أرقى مستوى من الدين الإسلامي وأنا كنت أحب أصدقائي المسلمين والمسيحيين بنفس الدرجة ولا يمكنني تصنيفهم حسب الدين، وكان سبب هروبي من هذه الجمعيات الأرثوذكسية أنني سألت: بما أن الله محبة وواحد لكل الأديان فلم لا تسمحون بالزواج بين الأديان: فردت علي المرشدة الروحية (هكذا كنا نسميها) لأن ثمة خلاف جوهري بين المسيحية والإسلام، فسألتها ماهو: فردت المعمودية، فالديانة المسيحية قائمة على فكرة المعمودية التي هي معمودية الروح والجسد والتطهر!! وعند الإسلام لا توجد معمودية . كلام بدا لي كالطلاسم وكان كافياً أن أهج من كل مدارس التعليم الديني. بإمكاني أن أستفيض في الكلام وأن أسرد مئات القصص التي يتعلمها الأطفال في مدارس التعليم الديني سواء كانت مسلمة أو مسيحية وكلها (ولعظيم الخزي والأسف) تزرع الفوقية والتكبر والغرور عند الناشئة بأن دينهم أفضل دين وبأن من الصواب أن تكون علاقاتنا رسمية ومحدود ة مع الأشخاص الذين ينتمون إلى ديانات مختلفة، له .

للأسف، هذا هو حال مسيحيي اللاذقية، ولابد من الإشارة إلى خطورة وفظاعة التفكير الأصولي المتعصب لهؤلاء، ورغم اشتراكهم في موقفهم من الإسلام ، إلّا أنهم، واقصد فئة المتعصبة منهم، يكرهون بعضهم البعض أيضاً، وكل منهم يرتاد كنيسة معينة ويستحيل أن يغيرها، ويصلي فيها أيام الأحد وفي كل المناسبات والأعياد الدينية، فمثلاً ثمة نفور وكره بين المسيحيين الذين يقصدون كنيسة مار ميخائيل وبين هؤلاء الذين يقصدون كنيسة مار إندراوس. ومدارس التعليم الديني للمراهقين والشبان لا تتعاون مع بعضها ولا تتقاطع أبداً بل على العكس، فالشبان والشابات الذين يرتادون مدارس الأحد (حيث يتعلمون قراءة الإنجيل ويسمعون مواعظ دينية اجتماعية) لدى الطائفة الأرثوذكسية يقاطعون وينفرون من هؤلاء الذين يرتادون مدارس الأحد المارونية. حتى أن المطران الفيلسوف جورج خضر قال ذات يوم : بأن الحوار المسلم المسيحي أسهل من الحوار المسيحي المسيحي (وطبعاً يقصد الطوائف المسيحية المتناحرة سراً وعلناً) .وأكبر دليل عدم اتفاقهم على توحيد عيد الفصح. فإيمانهم يستند، ربما إلى التأويل اللاهوتي للنص، أكثر منه إلى العقل  أو حتى إلى النص “المقدس” نفسه كما يقول نصر حامد أبو زيد في “نقد الخطاب الديني” -وإن كان في سياق آخر- من أن النصوص “دينية كانت أم بشرية محكومة بقوانين ثابتة والمصدر الإلهي للنصوص الدينية لا يخرجها عن هذه القوانين لأنها تأنسنت منذ تجسدت في التاريخ واللغة وتوجهت بمنطوقها ومدلولها الى البشر في واقع تاريخي محدد أنها محكومة بجدلية الثبات والتغير فالنصوص ثابتة في المنطوق متحركة متغيرة في المفهوم وفي مقابل النصوص تقف القراءة محكومة ايضا بجدلية الاخفاء والكشف”

لقد وصلنا إلى مرحلة خطيرة جداً في التخوين والتعالي بين الأديان وتتحمل الفضائيات والمؤسسات الدينية الجزء الأكبر منها. وعيب أن نبقى بعد الآن كالنعامة التي تطمر رأسها في عتمة الجهل والتعصب الذي لا دين. وفي سوريا يزداد الأمر سوءً يوماً بعد يوم، دون أفق لحل قريب. وينطبق الحال على مجمل الدول العربية. ومثلما بدأت بنكتة، فسوف أختم بنكتة أيضاً ولكن هذه المرة عن توظيف رجل السياسة للدين.. يقال أن وزير خارجية المملكة العربية السعودية الراحل سعود الفيصل( 1940-2015) وصف علاقة بلاده بالولايات المتحدة، إثر توتر العلاقة بينهما في العام 2004  بأنها “زواج إسلامي”  يمكّن المملكة من الاحتفاظ بزوجات عدة ما دامت تستطيع أن تعدل بينهن..

بس خلص الكلام

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

العدوان على غزة: أجندة إسرائيل الاقتصادية

ما هي الأسباب الحقيقية وراء معارضة إسرائيل لتطوير حقول الغاز في الساحل الفلسطيني؟ هل هي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *