بين ميشيما وكاواباتا

يسحرني الأدب الياباني دوماً، هو أدب الحرية بأعلى تجلياتها، وأدب المنظمة الأخلاقية خارج الأديان التوحيدية، كاواباتا حصل على جائزة نوبل للآداب وكان أعز صديق له ميشيما، ميشيما انتحر (كما يُرجح معظم النقاد) لأنه لم يحصل على جائزة نوبل التي وُعد بها عدة مرات، انتحاره آلم صديق عمره (كاواباتا) فلم يحتمل الألم الكبير لانتحار ميشيما فانتحر كاواباتا أيضاً. الانتحار في اليابان لا يُعتبر جريمة (كما في الأديان التوحيدية حيث الانتحار هو جريمة قتل النفس لأن الله أعطى والله أخذ) بل يُعتبر الانتحار في اليابان (حرية إنهاء الحياة). وأدهشني وأبهرني التشابه في الفكر في روايتين لميشيما وكاواباتا. الروايتين موضوعهما (الانتقام)، ويشعر من يقرأهما أنهما (الروايتين) لكاتب واحد. الروايتان هما :(حُب محرم لميشيما) و(حزن وجمال) لكاواباتا. والبطل في الروايتين كاتب مشهور جداً.

في رواية (حُب محرم) لميشيما وهي رواية ساحرة رغم أن الترجمة لم تكن ممتازة (إذ لم نجد اسم المُترجم!! بل لجنة الترجمة !!) موضوع الرواية كاتب مشهور جداً مدهش الإبداع وهو قد غدا عجوزاً، لكنه عاش فترة شبابه عدة علاقات مع نساء فاتنات تسببن له في آلام نفسية كثيرة (جراح في روح الكاتب لم تندمل) فيقرر أن ينتقم منهن واحدة تلو الأخرى. يتعرف الكاتب العجوز المشهور جداً على شاب رائع الجمال لكنه فقير أو يُغويه المال، والشاب مثلي (أي لا يطيق ممارسة الجنس مع النساء) لكن الكاتب المشهور يعرض على الشاب الجميل جداً والمُغوي أن يُغوي النساء اللاتي تسببن بجراح عميقة للكاتب المشهور في شبابه أن يعطيه مبالغ كبيرة من المال ليُغوي النساء اللاتي تسببن في جراح نفسية عميقة للكاتب المشهور في شبابه، يوافق الشاب على طلب الكاتب، الذي يطلب منه إغواء النساء وإقامة علاقة جنسية معهن (الواحدة تلو الأخرى) حتى يتعلقن به ويعشقنه بجنون لأنه فاتن ويتقن لعبة الإغواء وتمثيل الحب (رغم أنه مثلي) وبعد أن تعشقنه النساء بعد إيقاع الشاب الفاتن لهن في غرامه يتركهن بطريقة مُهينة جداً مم يتسبب لهن بآلام نفسية كبيرة ومعظمهن انتحرن .

ميشيما يُبدع في روايته (حُب محرم) في التحليل النفسي للنفس البشرية المجروحة، وسبيله في الانتقام من عشيقاته إقناع شاب فائق الجمال أن يُغوي عشيقات الكاتب في شبابه ويقيم معهن علاقة جنسية ويوهمهن بالحب ثم يتخلى عنهن بطريقة تتسبب آلاماً نفسية قاسية جداً تدفعهن إلى الانتحار. فيكون الكاتب المشهور قد حقق انتقامه عن طريق الشاب المُغوي.

في رواية (كاواباتا) الصادرة عن دار الآداب بترجمة ممتازة للدكتور سهيل إدريس) رواية من 300 صفحة بعنوان (حزن وجمال) وهي آخر رواية كتبها قبل أن ينتحر.

موضوع رواية (حزن وجمال) لكاواباتا أيضاً (الانتقام) وبطل الرواية أيضاً كاتب مشهور جداً طُبعت رواياته مراراً بطل الرواية اسمه (أوكي) متزوج من امرأة كانت تطبع له رواياته على الآلة الكاتبة ولديه طفلان، لكنه يعشق بجنون (وهو بعمر 31 سنة) شابة بعمر 17 سنة هي بدورها تعشقه بجنون وتعرف أنه متزوج هي (أوتوكو) حب جارف لا يُمكن السيطرة عليه يجمع المراهقة مع الكاتب المشهور الشابة أوتوكو (17 سنة) تحمل من الكاتب الذي يضطرب جداً بسبب حملها ، لكنها تستمر في الحمل وتتأمل أن يتزوجها الكاتب (أوكي)، وهو ما تتمناه أم الشابة، لكن (أوتوكو) تجهض جنينها في الشهر السابع ويكون ميتاً وتصاب بانهيار عصبي وتدخل مصحة للأمراض العقلية لمدة سنة. ولم يتزوجها الكاتب الذي رزق بطفلة من زوجته في الوقت الذي أجهضت فيه حبيبته التي يعشقها بجنون (أوتوكا) طفلها الميت. تُغادر أم (أوتوكو) وابنتها (أوتوكو) مدينة الكاتب إلى مدينة بعيدة هي (مدينة كيوتو). تنقطع العلاقة تماماً بين الكاتب وحبيبته الشابة ولا يعرف أين هي؟ ويكتب الكاتب قصة حبه الأبدي للشابة برواية كانت الأشهر بين رواياته بعنوان (فتاة في السادسة عشرة) يحكي فيها بجرأة وبالتفصيل حبه الأبدي للشابة وكيف حملت وأجهضت طفل ميت، وهذه الرواية حققت نجاحاً ساحقاً وهي مبنية على مأساة. تُصبح أوتوكو بعد أن خرجت من المصحة العقلية رسامة مشهورة جداً تكتب عنها الصحف وتُعرض لوحاتها في المعارض، وتُقرر ألا تتزوج، وهي لا تشعر بالحقد والغضب على الكاتب المشهور (أوكي) الذي دمر حياتها، لكن في أعماقها تشعر أنها لا تزال تُحبه وأنه الرجل الوحيد الذي كانت له ولن يكون هناك رجلاً بعده. أوتوكو تُصبح رسامة مشهورة جداً ولديها مُحترف للرسم، تلجأ أليها شابة جموحة فائقة الجمال تطلب منها أن تُعلمها الرسم وتصبح تلميذتها الشابة ساحرة الجمال هي (كايكو) وهي في أوج شبابها وفتنتها وتعشق معلمتها في الرسم (أوتوكو) التي كانت في الأربعين من عمرها، لكن عشق التلميذة للأستاذة ليس عشقاً جنسياً (ولو أن بعض الصفحات تُشير إلى ميل جنسي بينهما) لكن عشق التلميذة التي أبدعت في الرسم أيضاً نوعاً من الانبهار والعبادة لأستاذتها، وتعرف التلميذة قصة معلمتها (أوتوكو) فتغضب كثيراً وتريد أن تنتقم لمعلمتها في الرسم من الرجل (الكاتب الشهير الذي دمر حياتها) وتغضب أيضاً أن معلمتها لا تحس إطلاقاً بالحقد على حب حياتها وأنها انتهت بسببه إلى مشفى الأمراض العقلية وخسرت الطفل الذي تفكر به طوال الوقت وتحاول رسمه. تُقرر التلميذة الجامحة التي تعبد أستاذتها أن تنتقم لها من الكاتب وأن تدمر أسرته، رغم أن أستاذتها تحاول منعها من قيامها بتصرفات مجنونه لكن التلميذة لا تبالي وتُصاب بجنون الانتقام، ويبدو أن الأستاذة (أوتوكو) التي وصلت إلى الأربعين من عمرها ولم تلتقي طوال ربع قرن حب حياتها لا تُمانع بشكل جدي حماسة وجنون تلميذتها للانتقام من الكاتب الذي دمر حياتها وعاش مع زوجته وطفليه وحقق شهرة أدبية واسعة خاصة على حساب مأساتها في روايته الأشهر (فتاة في السادسة عشرة). الكاتب لا يزال يعشق أوتوكو ولا يكف عن حبها والتفكير بها ويُقرر في ليلة رأس السنة أن يسافر إلى مدينة كيوتو حيث تسكن حبيبته ليحضر طقوس (قرع الأجراس) .

أبدع كاواباتا في التحليل النفسي للشخصيات وتتمكن التلميذة (كايكو) من إغواء الكاتب وتمارس معه الجنس وفي لحظة النشوة تصرخ باسم أستاذتها (أوتوكو) فيشعر الكاتب بالانهيار. وتعرف زوجة الكاتب عما حصل وتكاد تنهار، لكن التلميذة التي أصبحت شعلة من نار لتنتقم لأستاذتها التي تعبدها تقرر إغواء ابن الكاتب وهو شاب جميل، توهمه أنها تحبه، وهو يعشقها بجنون فهي ساحرة الجمال ورسامة موهوبة، وتحتال عليه في رحلة بحرية بالقارب وبدون أن يذكر كاواباتا التفاصيل يموت ابن الكاتب غرقاً ويتم البحث عن جثته دون جدوى فيما التلميذة يتم إنقاذها من الغرق، وتبقى حية وسعيدة أنها انتقمت لأستاذتها. تنتهي الرواية بمواجهة بين الكاتب وزوجته المنهارين بسبب وفاة ابنهما. ولأن (كايكو – التلميذة هي سبب موته) وزوجه الكاتب تتهم الأستاذة أوتوكو أنها من دفعت تلميذتها للانتقام.

لكن كم كان مؤثراً أن الرسامة (أوتوكو) كانت تفكر طويلاً كيف ترسم صورة طفلها الميت وتضع عنواناً للصورة (صعود الطفل إلى السماء) كانت تريد من هذا الرسم أن تُقدس الحب الذي تحمله لطفلتها الصغيرة الميتة، وقد استعادت بذهنها كل اللوحات اليابانية التي تُمثل (كوبوديشي طفلاً) وهي أسطورة تتعلق بقديس، وبموجبها يُرى (كوبوديشي) الطفل في الحلم جالساً على زهرة اللوتس ذات الثماني أوراق وهو يتحادث مع بوذا.

روايتين مُبهرتين (حُب محرم) لميشيما و(حزن وجمال) لكاواباتا. وكم يبهرني الكتاب الرجال حين يبدعون في الغوص في أعماق المرأة. متفوقين على كاتبات كثيرات.

هو سحر الأدب الياباني.

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …