في 7 أكتوبر 2023 كان الروائي اللبناني فلسطيني الهوى إلياس خوري يتعافى من مرض ألم به في تموز 2023، وهكذا لم يتمكن من مواكبة الأحداث مواكبة لحظية؛ دقيقة فدقيقة وساعة فساعة ويوماً فيوماً، ولكنه على الرغم من ذلك تحامل على وجعه وضعف جسده، فكتب، في الحرب وعنها وفيما يخصها، مقاله الأسبوعي في القدس العربي وافتتاحيته لمجلة الدراسات الفلسطينية الفصلية، وكل من كان يقرأ مقالاته قبل مرضه، وقرأ مقالاته التي كتبها في أثنائه، لاحظ الفرق في المستوى واضحاً، بل وأحياناً في الموضوع، فلم نعهده فيها يكتب عن ألمه الشخصي. وإن كان، من قبل، عبر عن آلامه، فمن خلال شخصياته الروائية التي كانت تعاني من أشكال مختلفة من الآلام الناجمة عن الفقد والحرمان والوحدة والعزلة والنفي والحرب؛ الأهلية والوطنية، والفواجع الشخصية والعامة.
وكان لكتابته – لو لم يعانِ من المرض – أن تكون ذات مذاق مختلف، مثل رواياته التي كتبها في الموضوع الفلسطيني، ابتداء من «الوجوه البيضاء» مروراً بـ «مملكة الغرباء» فـ «باب الشمس» و »كأنها نائمة» وثلاثية «أولاد الغيتو: اسمي آدم» و »نجمة البحر» و »رجل يشبهني» التي تؤهله – بناء على معيار الموضوع في تحديد هوية الأدب – أن يعد علامة رابعة في الرواية الفلسطينية إلى جانب علامات ثلاث معروفة: غسان كنفاني وإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا، فهو الذي قرأ رواياتهم وتشربها ودرسها في الجامعات، اتكأ عليها في بناء رواياته – أي تناصت رواياته مع روايات المذكورين وفوقها رواية أنطون شماس «عربسك»، ولم يكتفِ بالرواية، فقد تمثل حياة شاعرين فلسطينيين مهمين، هما راشد حسين ومحمود درويش اللذين كتب عنهما في كتبه النقدية، وقدم، في رواياته، لجانب من حياتهما الشخصية، ما لم تقدمه كتب عديدة أنجزت عنهما.
كأنه وهو يكتب عنهما في رواياته لم يهتم وحسب في أشعارهما قدر اهتمامه بجانب شخصي هو علاقة كل منهما بالمرأة اليهودية التي أحبها وأسطرة هذه العلاقة.
حضر الموضوع الفلسطيني في روايات إلياس كما لم يحضر في روايات فلسطينية تلت روايات كنفاني وحبيبي، بل ويمكن القول إن حضور الموضوع الفلسطيني في رواياته فاق حضوره في روايات الكاتبين، وقد يعود السبب في ذلك إلى أنه عاش أربعين عاماً إضافية أخرى عن الأعوام التي عاشها كنفاني وكتب الرواية في سن مبكرة أبكر من السن التي كتب فيها حبيبي رواياته، وفوق ذلك أنه حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ.
وهكذا تقرأ في رواياته تفاصيل التفاصيل فيما تعرضت له فلسطين في العام ١٩٤٨ – عام النكبة وما تلاه، وربما هذا هو ما حدا بالمرحوم أحمد دحبور، حين كتب عن رواية «باب الشمس» (1998)، إلى اعتبارها رواية المأساة الفلسطينية التي أرخت لها كما لم يؤرخ لها من قبل.
عندما كتب إلياس ثلاثيته «أولاد الغيتو» احتار في إشكالية تجنيسها وبدت حيرته على لسان الشخصية التي اختفى وراءها وأنطقها بما ينطق به هو، وحيرة آدم دنون تأخذنا إلى موضوع آخر يمس شخصية إلياس نفسه وتحيلنا إلى أبجديات المنهج الوضعي في النقد الذي لا يفصل بين الكاتب ونتاجه وتراهما متداخلين يعبران عن روح واحدة هي روح المؤلف.
يحتار آدم في تجنيس دفاتره التي يكتبها: أهي سيرة ذاتية أم رواية أم نص أدبي أم… ؟ ولسوف تدفع هذه الحيرة القارئ الملم بكتابات المؤلف/ إلياس إلى التساؤل إن كان إلياس نفسه يحتار في تصنيف ثلاثيته، وهو ما فعلته مرة فكتبت تحت عنوان «إشكالية التجنيس في أولاد الغيتو» وجعلتني أرجح أنها ليست سيرة ذاتية لإلياس بل سيرة فكرية أدبية تتخذ من آدم دنون قناعاً لها ليحكي لنا المؤلف، وهو يحكي عن الموضوع الفلسطيني، عن قراءاته المتعددة فيه؛ في الأدب العالمي والأدب الفلسطيني والأدب الإسرائيلي وتاريخ القضية الفلسطينية وما شهدته وما مر به الفلسطينيون من أحداث جسام منذ 1948 وحتى انتفاضة الأقصى وذيولها؛ في فلسطين وفي مخيمات لبنان، بل وفي نيويورك حيث نخبة فلسطينية درست في الجامعات الأميركية. وللتدليل على ما سبق يمكن اختيار النصين الآتيين من الجزء الثاني من «أولاد الغيتو» وهو «إسمي آدم»:
«فأنا كاتب ممتلئ بالنصوص التي قرأتها/ كتبتها، أتعامل معها بوصفها حقيقة، موظفاً خيال الآخرين، من أجل خدمة خيالي، بهذا المعنى، أنا هو الكاتب الذي لم يكتب شيئاً لأنه كتب كل شيء، وهكذا أتفوق على جميع كتاب العالم الذين يشعرون بالفرح القاحل الذي يحاصرهم، بينما لا أشعر سوى بالمتعة والعطش إلى مزيد من ماء الكلمات».
«لا شيء يفسر عودتي إلى هذه الأوراق سوى سحر الكلمات، فالسحر بدأ بالكلمات، والكلمات حين تكتب تختلج باحتمالات الحياة، وها أنا أنظر كالمشدوه إلى كلام ماضي الماضي، وأجد نفسي أمام حكاية أشعر أنني وارثها، لأنني قارئها الوحيد» (إسمي آدم، 150 / 151).
ويفصح الاقتباس الثاني عن ولعه بالكلمات والكتابة، هذا الولع وصل حد السحر، فالكلمات تسحره، وسحرها يدفعه إلى اللعب الجمالي بها، ولم أقرأ شخصياً، فيما قرأت، لكاتب عربي لعب في رواياته جمالياً، وبوعي يظهره في نصه ولا يترك القارئ يستنتجه، كما قرأت في روايات إلياس.
لقد سحره أسلوب أحمد فارس الشدياق وأسلوب إميل حبيبي وأرستقراطية لغة جبرا إبراهيم جبرا، وأراد أن يكون لكتابته في الجانب اللغوي نصيب أيضاً
Check Also
موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948
في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …