الفنانة شروق اغبارية

ذاكرة ولو بعد حين

الآن وهنا، يُولدُ الماضي كحاضر لا لبس فيه من شرفة ذاكرة و حنين.. الآن وهنا، يصبح الحاضر ماضياً يزن المكان بعنيني مهاجر، تلتقط ما أضفته يد الزمن من بصمات ترشده لهوية المكان الأولى.

الآن وهنا، يستوقفني امتداد الطريق بمصابيحه الصدئة خافتة الظل العاطلة عن العمل معظم الوقت، وسوف تضيع عند ناصية الشارع لافتة حمراء تمنع مرور السيارات لتعيد للمكان بهائه.

هل قلت بهائه؟ أعتذر إذن، بل أقصد هدوءه، فلم يعد للمكان بهاء منذ زمن. لم تعد شجيرات الفلفل الهرمة تتألق بنضارة فتوتها الأولى، لترسم بريشة من خيال عناقيدها الحمراء الأليفة التي طالما داعبت وجناتها بالأمس البعيد.. أخيراً سوف تنسدل غلالة شفيفة من ضباب وتأمل بخدر بدأ يجتاح كيانها. بضع خطوات تفصلها عن تلك البوابة التي شهدت أولى رقصات القلب، وشغف الروح، وبواكير العاطفة. نظرةٌ  واحدةٌ نحوها كانت كفيلة باستدراج سيلٍ من ذاكرة عادت لاحتلال أرض الحكاية من جديد : ها هي تجمع كراساتها وأقلامها، وتترقب بقلق جرس الانصراف، تلقي بين الفينة والأخرى نظرة نحو ساعة يدها تستجديها مزيداً من السرعة، تخرج مرآتها خلسة.. تتأمل وجهها بنظرة خاطفة.. ترسم على وجهها  ابتسامتها المصطنعة، تلمس غدها  الي تحلم به بأصابعها ويوقظها، أخيراً، رنين الجرس من شرود عابر معلناً نهاية الدرس.. وهكذا، راحت بخطوات رشيقة، نزقة، تتناغم وايقاع داخلي أشبه بمعزوفة “فلامينغو” تجتاز سلم البناء، غير عابئة بما تثيره حولها من ضجيج عابر سيهدأ فجأة عند بلوغها نهاية السلم..  وضمن بحر من سكون وآخر من عاطفة، وقفت تتفقد وجوده على بعد ممر طويل يفصلها عن بوابة البناء..  ها هو ينتظر بلهفة قدومها عند الجانب الأيمن من البوابة بقامته الممشوقة، وأناقته المعهودة، يترقبها عن بعد بنظرات تستدعي منها مزيدا من تهادي الخطوات والدلع، إلى أن ينتهي ذاك العبور الشغف باللقاء المنتظر. توقف شريط الذكريات فجأة حين بدا لها طيفه، غامت عيناها في موجة شجن بدأت تتسلل نحوها، وتفتح جرحها كوردة نتأت من رماد. ها هي تعود نحو ذاكرتها من جديد : آليا تستودعه كراساتها، بل قلبها ومصيرها، ليحتضن بحب ما أودعته غامزاً لها بحركة محببة وكأن به يقول: ماذا بعد؟ فتجيب بغنج وهيام وبنظرة مماثلة: ماذا بعد؟. يضيف ضاحكاً: إلى أين ؟ فتجيب بصوت أشبه بالهمس: إلى ما لسنا ندري..  إلى أي مكان معك.. فكل الأماكن بصحبتك سواء، فيدخلان الضباب، يمتطيان بعجالة غيمة شاردة عابرة تمنح الأرض خلسة قبلة حب وتمضي، يسيران نحو معراجهما الأجمل، يتفاديان رذاذ مطر راح يزداد غزارة، بمظلة أخفت معالمهما، يتمتمان بوشوشات تعلو معها الضحكات، تتنحى لغة الكلام بين حين وآخر، فقد تجيد لغة العيون البوح بما تعجز عنه الكلمات. يتابعان اقتحام الفضاء الضبابي، تغويهما عن بعد رائحة شواء زاكية تتقدم بصحبة نسمات رطبة، ترشدهما نحو عربة ذاك العجوز الذي يتقوقع خلف مجمر تئن وقد تنفجر فوق أسلاكه حبات من الكستناء ، يلتمس الدفء والرزق بآن معا، يحيط المجمر ببضع مقاعد قزمة من القش الملون، شكلت بعفوية استراحة لرواد المكان وعابري الطريق، ومصدر دفء محبب غير تقليدي، جلسا متجاورين ، يمد كل منهما راحتيه نحو المجمر لاقتناص شيء من الدفء. ويصدح مذياع عجوز يعلو سطح العربة، ليعلن من القاهرة أن : “هنا صوت العرب” وقد حان الآن موعد البرنامج الاسبوعي ” أغاني وعجباني”..، فتقترب حتى تكاد تلتصق به وتهمس: “الأغنية الأولى هي حظي منك.. فيمنحها، مبتسماً، حبة مقشرة من الكستناء موحياً بأن لك ذلك.. فتأتي أغنية عبد الحليم ” ضي القناديل”.. التي غدت وشم روحها على مدى الأيام.

لكن ماذا عنه ..هل سيذكر مشهدهما هذا عند سماع الأغنية؟.. ربما..

وحين تضع يدها على خدها قرب الشباك-كما تقول نجاة الصغيرة- لا تجد من يشاركها همًها سوى عصفور دوري رشيق يزقزق بلا كلل، ها قد أمسينا ركاء في المواطنة يا صديقي” تقول كمأنها تخاطبه.. ثم تتابع كأنها تعاتبه : هل نسيت؟  لطالما كنا مجرد جارين لسنوات.. يطلّ كل منا على الآخر دون أي تقاطع من أي نوع كان، فلكل منا شؤونه الخاصة المختلفة تماما عن الآخر، تجمعنا فسحة سماوية تحيط بها مجموعة أبنية اسمنتية اتخذتَ بين مساماتها مسناً وعشاً آمناً بعيدا ‘ن أعين الأولاد الأشقياء، اتفقنا أن نكون شريكين دون ترتيب مسبق و دون وعود، فالوعد خذلان لو تعلم، اتفقنا على شراكة شرعية غير معلنة، فهذا الإسمنت بات وطناً مشتركاً لك ولي أنا أذوي بصمت و أنت ترقص و تشدو بنزق ولا بأس لو تحضر زوجتك العصفورة و أطفالك، لابأس، سأقبل بذلك، وهل لي خيارات أخرى؟ فتعبثون بمزاجي عبر فوضى خلاقة  فتقتحمون صباحاتي بفرح طائش، وإدراك مبهم للحياة بعيداً عن صرامة الناشيونال جيوغرافيك. وحين ارتد للواقع سوف أكتشف أنك يا صديقي الدوري، ومهما كان غناءك بديع ومهما كنت تمتلك حرية في الطيران و التحليق بعيداً  بطريقة يحسدك عليها جميع البشر، إلّا أنك في نهاي المطاف سوف تعود إلى تلك الشقوق الإسمنتية التي قبلت بها “وطناً” ولابأس من ساحة صغيرة يمنحها لك التوضع العشوائي لبرميل مازوت صدأ يعلوه بما يقارب المتر صندوق المكيف الصحراوي لجارنا وليس بعيداً عنه بقايا مدفأته القديمة مستكملة عناصر الفوضى عنوانا للمكان ! سوف تقفز على طرف “صوفا” قديمة تتأمل صغارك وهي تمرح، سوف تنتبه أن أحدهم قفز على حبل الغسيل، لا شك أنه تعلم – ليس بطريقة داروينية على كل حال- خطر ذلك فتطلق ما يشبه زعيق فيعد الصغير سريعاً قرب أنه ويتأملك خلسةً، هل ما زلت غاضباً؟، تقترب منه فيلتصق بأمه، في الواقع أنت لا تريده، بل خطر على بالك، من حيث أنت على طرف الصوفا، طقوسك الغرامية مع العصفورة الأم، وها أنت تقترب تحاول أن تعيد الكرة، فالصغار كبروا و على وشك أن يغادروا العش، فماذا تفعل بوقت الفراغ؟؟ ها؟ قل لي ما ستفعل؟

لم تعد تذكر كم مضى لها من الوقت على الشباك، ولولا الم في يدها لما انتبهت أصلاً، القت نظرة أخيرة على العصفور و سافر بصرها ما بين زاويتين هنالك حيث ثمة  فسحة يمكن من خلالها مشاهدة جزء من قاسيون، تتسلق سفحه حتى القمة أزقة ومنازل تتصدر المشهد الدمشقي برمته. قواوير زرع تغص بالخبيزة، والشكرية، وخزام الغندورة، والشب الظريف ياسمينة طفلة غيورة تتطاول بفروعها الغضة مضاهية ياسمينة جارتها التي تفوقها عمرا وجمالا.. وهناك وردة بلدية شحيحة، تجود ببضع زهرات منذرة بأشواكها كل من يتقدم نحوها، رغبت في لحظتها تلك لو تملك أجنحة مثل جارها الدوري، أجنحة تتسع معها مساحة خياراتها فتطير حيث تشاء وكيفما تشاء ومتى تشاء. ” أيها الدوري الجميل، ما أغواك بما حولي”, عادت تهمس من جديد وقد بدأ خدر يدها يتلاشى.  ها تعدني أن لا تترك المكان؟ كثيرون قالوا لن يغادروا، ومضوا، رحلوا ، هاجروا، ارتحلوا، ابتعدوا عن العين و القلب، حملوا ذاكرتهم معهم وراحوا، خفقت قلوبهم للمرة الأخيرة، وذهبوا، وها أنت حبيس الإسمنت و أنا حبيسة الشباك.

عن سلام شربجي

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *