رشحات من جرتي

لا يُمكن قراءة كتاب علا طبري ( رشحات من جرتي )* إلا دفعة واحدة ، ليس لأن أسلوبها جذاب وشيق ، وليس لأنك تتوقف متأملاً أفكاراً مدهشة صاغتها علا ببساطة وكأنها لم تبذل أي جهد ، بل لأن النص ( الكتاب كله ) أشبه بجدارية إسمها فلسطين ، فلسطين التي لا نقرأ اسمها في النص لكن روحها تخترق مسامنا ، وتخض ذاكرتنا بوجع الحقيقة ، وجع وطن مُغتصب وشعب عظيم يكافح ويموت في سبيل فلسطين . لا نجد في النص الجميل جداً الأشبه بنثر شعري ( هذا رأيي ) أي تفجع ولا نقطة دم ولا صوت رصاص . علا توارت وراء الكلمات والأسئلة بتواضع وذكاء وجعلتنا شركاء لها في ( رشحات من جرتها ) ففي داخل كل منا جرة أو بحيرة تختزن وجودنا وهويتنا وآمالنا وآلامنا .

نثر شعري يخطف الأنفاس منذ السطور الأولى فلا يُمكنك التوقف عن القراءة ، تماماً كما لا يُمكنك أن توقف تدفق ماء النبع . مع كل صفحة في الكتاب كنت ألهث وأنا أقول ( أي هوى أحسه لفلسطين وتحسه علا ) وصدقاً أجد صعوبة في الكتابة عن هذا الزخم الشعري الإبداعي في كتاب علا ، فهو يُشبه آهة عميقة طويلة لا يُمكن كبتها وخنقها .

( لا تقتلوا العصافير, لا تسجنوها !- ماذا لو اتضح أنها أرواح من غادرنا جسده أو جسدها !

لعلها أرواحهم تُحاول أن تُسمعنا صوتاً نتمناه ..- لعلها تحاول أن تفصح لنا عن سرِ داهمه الغياب ولم يصل إلى مبتغاه  )

أتأمل كلمات وأفكار كتبتها علا : بين البعد والابتعاد فروقات قواعدية بسيطة حد التعقيد – كما الصمت وابتلاع الكلام .

  • جرتي ترشح ، لم تعد تقوى على حفظ ما فيها – كثيراً ما حاولت الحياة كأني أموت غداً ، لكني سهوت عن هول رحيلها .

عبارات أو أفكار تبدو للوهلة الأولى بسيطة تكتبها علا كأنها تخاطب نفسها فنتوقف لنتأمل المعنى ويُصبح السؤال نابع من أعماقنا : كلما انتصر أحدنا على الآخر عشنا ألم الخسارة سوية .

كل عبارة او فكرة اكتبها علا تشبه تماماً مرآة تضعنا أمام أنفسنا مزيلة غبش الوهم تقول : وراء كل ندبة سعادة عظيمة خبت – كادت تسقط في ذاكرة – لولا عصف الروح – معلنه انه ما زال بها مُتسع – فرقص القلب واستعد لحلم جديد .

ومراراً وبلا إرادة منا نبتلع دموعنا أمام دفق مشاعر علا : الصمود مُرادف لحليب أمي – التي قدسها كل من عرفها – فلا تقربوني شذراً – فتزهقوا أمام طاقة حبي .

  • من لا يسمع صمتك لن يفهم كلامك
  • – لا يجهل الحب إلا من عايشه – أما من آمن أنه عرف حقيقته فلن يعرفه مرة أخرى في حياته ! فللإيمان مطباته .

في مقطع آخر من الكتاب : قالوا لا بأس ، ليس إلا كلاماً يطير في الهواء – لا يلصق بالأشياء ، فتبقى نقية طاهرة . نسوا أن الطهارة فكرة – أن الأشياء أمست مُرهقة – وأن الكون يعشق المعاني – يخزنها كمن يداوي الأماني .

  • لا يحتاج البركان إلى حجر أو عود ثقاب –ينفجر حين تخور قواه – بعد أن كان قد نجح في الحفاظ على سُبات دواخله عبر الزمن –كان فيه مزاراً شامخاً مهيباً هادئاً ، مهيباً .

وفي صفحة أخرى نشعر أننا من أحسسنا وكتبنا ما كتبته علا : أحتاجك لأبقى . – ابقي ،وسأبقى ! سنبقى جميعاً – نقيم العشاءات اللطيفة المُخففة للآلام – ألمك كبير واحتماله يتطلب منا الكثير – لقاءات وموائد ، بالكلام والموسيقى نجاهد –نتجنب الحديث عنك – لكيلا نخنع تحت وطأة الألم .

ننظف عجزاً خفياً – ونعيش – خجلون بعض الشيء ، لكن لا بأس .

في مقطع آخر : حُملت في صندوق خشبي مُريح – تبادلت الشمس مداعبتها على ما ظهر من وجهي المبتسم مع النسمات التي لفحته بحميمية – . جالوا بي في الشوارع حتى أبواب المقبرة وروائحها التي بدت عطرة أكثر من العادة – وكيف لا وقد تصدر الحبق مراسيم الاستقبال .

في الصفحات الأخيرة من النص النثري الشعري الرائع أختم : ومع ذلك يتكرر سؤالها عن علاقة الغربة بالغروب ، بشكل لولبي أشبه بداء مُزمن – لعله ابتدأ منذ ولادتها وقبل أن يَضاف البعد الجغرافي على غربتها .

لم تنجح في فك أغلال عشقها لذاك الشرق المُدمى – إذ من قال أن ( من الحب ما قتل ) قد مات بالتأكيد .

هل يشعر الآخرون بالاغتراب ساعة الغروب .

لست ناقدة لكنني وأنا أقرأ كتاب لا طبري ( رشحات من جرتي ) أحسست بالنشوة والانعتاق الذي يتركه في نفسي الشعر الإبداعي وأنا لا أحب التصنيفات ، علا برأيي شاعرة أو تكتب نثراً شعرياً مُبهراً .

شكراً لك صديقتي .

..

*( رشحات من جرتي ) كتاب جديد للمبدعة المخرجة الفلسطينية علا طبري (  100 صفحة ) – دار فضاءات عام 2023 لوحة الغلاف للفنان السوري كيفورك مراد

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *