بحر اللاذقية

شيء من البوح عن الوطن السوري

لم يعد مجدياً أن نسأل ما هو الوطن. بل لم يعد مجدياً حتى التفكير في تعريف الوطن. ومع ذلك، فالوطن ليس فنتازيا درامية، ولا نشيد طفولة  نستذكره، ولا شعار نردده دون تفكير. الوطن ليس وظيفة، أو بيت، أو ضيعة، أو جبل و سهل و بحر.. بل ربما الوطن كل هذا، جميع هذه الأشياء.. وغيرها مما لا نرغب فيه أو في حدوثه، كما أخبر غسان كنفاني صفية ذات لحظة: ” أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟.. الوطن هو أن لا يحدث ذلك  كله”

غادرتُ سوريا منذ عام تقريباً، وها أنا صرتُ خارج حدود “الوطن”، مثلي مثل آلاف، بل ربما مئات الآلاف أو حتى الملايين، من السوريين “ومن في حكمهم”. أعيش الآن في باريس، ومنها أتابع، يومياً، تفاصيل الداخل السوري، الذي مزقته الحرب، ومازلت أشعر بالذعر في كل مرة أتعرّض لبعض مما يحدث “هناك”، وتتوضح أكثر، يوماً إثر يوم، عملية التنميط التي مورست على السوري عبر أكثر من نصف قرن، والذل الذي كنا نعيشه على مدى عقود والذي أفقدنا الإحساس بكرامتنا، حتى صار همّ الناس اليومي البقاء على قيد الحياة، وهل هناك ثمة ما هو أصعب من الحفاظ على الذات في لعبة الحرب؟، حين يتحاشى الناس الحديث، صراحةً، في المواضيع التي قد تلحق بهم ضرراً من نوع ما ” ليس أقلها استدعائهم من قبل الأجهزة الأمنية -وما أكثرها-، أو المنع من السفر أو الاعتقال”، وأعرف، شخصياً، شلّة من الأزواج يلتقون كل مدة في سهرات أو في مقاهي وكنت -بسبب الضجر- أرافقهم، وكنت أتعمد إثارة موضوع سجناء الرأي، مثلاً، أمامهم، فأستجمع أفكاري، لأثير فيهم ما يدفعهم للحديث ولو بكلمة أو يعطوا رأياً، بسجناء الرأي، وأستشهد أمامهم بأسماء زملاء اعتقلوا سنوات وأقول لهم: أنتم تعرفونهم، يعني.. ألا تتعاطفون معهم؟ فيكون جوابهم الصمت، وكأنهم على رؤوسهم الطير كما تقول العرب، أستمر باستفزازهم، بعناد، وأذكر روايات لسجناء رأي وأقول: طيب ما قرأتم هذه الروايات؟ يعود الصمت يسقط بيننا ثقيلاً ومزعجاً، مثل أحد حواجز الفرقة الرابعة، وفي النهاية يرسلون إشارات  تشعرني بأن حديثي غير مرغوب فيه وإني صرت في نظرهم، يا للهول، ثقيلة ومزعجة مثل ذلك الحاجز، فأصمت، وأتأملهم، واسترجع بيني وبين نفسي حياهم السابقة وأعالهم الناجحة و دراساتهم الجامعية، ويخرجني من ذهولي عودتهم إلى الحديث باي شيء غير ذي قيمة، وأتساءل.. معقول؟ طيب ليش؟ لماذا لا يبدون رأيهم  بما هو صح وما هو غير صحيح؟ بما هو فاسد ومرتشي و منافق وصاحب أخلاق سيئة.. هل الحياة فقط أكل ومشاريع ورحلات وبحر وحفلات؟

من المنطقي القول أن الناس ينظرون للحرب، كبيئة اجتماعية وسياسية تختلف جوهريا عن بيئة السلم، من خلال نتائجها وآثارها، وهي، بذلك، تختلف، وأقصد رؤيتهم للحرب، عن نظرتهم للكوارث التي اعتاد عليها الإنسان عبر التاريخ وتكيف معها حتى لو كانت تحمل عنصر المفاجأة. ومنذ سنوات، بدأت الحظ  كم يشوّه الخوف، الذي يصل حد الذعر، الإنسان السوري. أنا نفسي كنت أتنفس خوفاً في سوريا، وأعيش لحظات رعب لا توصف، وينتابني ما أسميه (تناذر الذعر)  كلما تم استدعائي إلى أحد الأجهزة الأمنية، ويختلط ليلي بنهاري وتتسارع ضربات قلبي وتتشنج عضلاتي.. إلخ، لكني كنت أمتلك، دائماً، القدرة على إعادة ترميم روحي، والعودة إلى الكتابة بشجاعة الصدق، لأنني طبيبة العيون التي ترى، لتفضح، وليس لفحص العيون فقط.

كنت أصاب بالدهشة الممتزجة بالفخر من قدرة السوريين على التفكير في حالهم لما بعد الحرب، أمرٌ مذهلٌ حقاً أن يبدأ الناس في التفكير في مرحلة ما بعد الحرب منذ اللحظة التي تندلع فيها الحرب. وتبدأ الأشياء تأخذ المظهر “العادي”، بما في ذلك ذلّ الحرب وذلّ السؤال وذلّ القهر.. الذلّ بأنواعه كافة. وهكذا تكاد تكون كلمة “عادي” هي القاسم المشترك الأعظم للسوريين في الداخل، “أستعير كلمة الداخل هنا بذات المعنى الذي يصف فيه فلسطينيو الشتات بلدهم”. إن كلمة عادي تعني في الحقيقة المجردة “الجحيم”.. الجحيم السوري الذي ليس كمثله جحيم، فمعظم السوريين هناك يخشون تسمية الأشياء بأسمائها “العادية”، فتكثر الاستعارات والتوريات في لغتهم اليومية “العادية”. وهكذا يتحول العادي إلى بناء مجازي يتضخم كل يوم، بل كل لحظة، حتى كاد، هذا المجاز من العادي، أن يسدّ الضوء في نهاية أي نفق مفترض، فقد اعتاد السوري منذ أن كان طفلاً صغيراً على الانقطاع شبه الدائم للكهرباء، هذا في أيام السلم، فما بالك في وقت الحرب؟ لقد بات من المضجر حقاً، بالنسبة له تتبع الساعات التي تنعم بها عليه الدولة بالكهرباء، وما هو أكثر مرارة، عدم قدرته، بالأحرى جرأته، على التعبير عن مشاعره، وغضبه المكبوت منذ سنوات، سقف الحرية أن يقول بأسى وحذر: تعودنا على العيش دون كهرباء أو “صار البراد نملية” (والنملية، خزانه من أيام الأجداد لحفظ الطعام ) أو يشكون أن هذه الساعة اليتيمة التي تتوفر فيها الكهرباء بالكاد تكفي لشحن هواتفهم الخليوية، وأن أولادهم درسوا على ضوء الشموع (لأن اللدات المخرّشة للشبكية أيضاً ما عادت تنير المكان بسبب عدم قدرتها على الشحن من كهرباء مقطوعة طوال الوقت ). وقمة الجرأة التي لاحظتها في كتابات السوريين في الداخل عبارة (نستاهل). كلمة وحيدة فقط بدون شرح لماذا (نستاهل)، طبعاً يقصدون أن السكوت لسنوات على عيش الذل والقهر وانعدام الكرامة والخوف، سوف يوصلهم إلى الجحيم الذي يستحقونه بسبب صمتهم، أن يصل معظم السوريين إلى مرحلة الشماتة بأنفسهم والاعتراف أنهم يستأهلون حياة الذل بسبب صمتهم حالة مؤلمة ولا إنسانية، إنها تعني أنهم قبلوا أن يدفنوا كرامتهم في وحل الذلّ والفساد والاستبداد. أو أن الخوف الأقرب لحالة الذعر جعلهم خائفون على حياة من تبقى من أولادهم الأحياء بعد أن مات أولادهم في حرب فُرضت عليهم.

أجل، حرب فرضت عليهم، فبدّلت بيئتهم الاجتماعية والاقتصادية وقناعتهم السياسية وحتى توجهاتهم الدينية. وإذا كنا لا ننكر الدور الذي تلعبه الحرب في تشكيل وصياغة الحوافز الفردية والجماعية وتعيين الفاعلين السياسيين الرئيسيين، إذ ما كان سائداً قبل الحرب، لم يعد مقبولاً بعدها، أو ربما لم يعد مجدياً التمسك به، فغموض اللحظة التي تسبق الحرب “وقد عشناها جميعاً اليس كذلك؟” سوف تنجلي لاحقاً، وتعبر عن ذاتها في حالة فوضى شاملة تضع الفرد في موقف محيّر أو مخيف وتقوّض توازنه النفسي وتماسكه الاجتماعي وربما الثقافي، فتحديات الحرب تختلف، بلا ريب، عن تحديات أي كارثة أخرى طبيعية لجهة اشتعالها غير المرغوب فيه في البداية، ثم الانخراط فيها عن سابق تصميم ولجهة سيطرة العنف كمصدر إلهام ومنتج رئيسي لها، أي للحرب، فيتم استقطاب المجتمع واحتقانه.. هذه هي اللحظات التي تسبق الحرب، أما ما يلي ذلك.. فهم جهنم التي يمكن لأي منا أن يتخيلها، داعياً ربه أن لا يكون في خضمها. فالمشاركة في الحرب ليست نزهة، إنما هي مغامرة محفوفة بالمخاطر، المكسب فيها يساوي الخسارة، علماً أن خطورة عدم المشاركة فيها لا تقل جسامة.

لا يسمح للحياد في الحرب، ويكون الحياد الوحيد الناح هو الفرار أو فرض الخيارات لا إرادياً، ومنع العقل من التفكير والبحث عن حلول أخرى، فإذا كان الفرنسيون يقولون في أمثالهم “عند المشكلة، فتّش عن الحل الثالث” فإن الحرب لا تعترف بحل ثالث. الأمر أشبه أن تزور صديقاً في بيته ويسألك هل تريد أن تشرب شاياً أم قهوة؟ وهنا لا يمكنك التفكير في العصير مثلاً، لقد قام صديقك بتأطير عقلك ضمن خيارات حددها لك مسبقاً.. هكذا وجد السوريون أنفسهم قبل عشر سنوات، تأطرت عقولهم بين خيارات محددة سلفاً على يد جهات أخرى لا يعرفونها، أو ربما كانوا يعرفوها ولكن ليس عميقاً. جهات تزعم أن الحل بيدها أو تحتكر الحل أو تفرضه.. بأي ذريعة، قومية، إلهية، طائفية، وطنية، أي شيء، ألم يقل الزعيم الصيني ماو تسي تونغ مثل هذا من قبل، ” بما معناه”، أن الآلهة أرسلته كي يطبق  الماركسيّة في الصين؟..  وبعيداً عن أي زخرفة أو بلاغة لغوية تزيد الأمر غموضاً أو تتحدى عقولنا، أليس هذا ما حدث ويحدث في سوريا؟ أليس رغبتنا في التشبث بالحياة خنقت؟ ومجابهتنا للنكبات والمآسي أجهضت؟ وصلابتنا وعنفوانا كسرا؟ ألم يحصل هذا على يد أتباع حراس العقيدة والقومية الذين أتونا من كل بقاع الأرض ليفرضوا ما في عقولهم علينا.. ومع كل هذا، يتحدث بعضنا عن الانتصارات. لست أدري كيف يمكن الحديث عن الانتصارات وثلث الشعب مهجّر خارج البلد، ونسبة الفقر المدقع تكاد تتجاوز نسبة 80%، وفوق كل هذا يستطيع فرع اتحاد الكتاب العرب في سوريا ( الذي يرفع شعار الأمل والعمل) أن يصدر بياناً أو منشوراً بمناسبة حلول ذكرى رحيل الخميني وحافظ الأسد يعلن فيه أن  المركز الثقافي لسفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في اللاذقية وفرع اتحاد الكتاب العرب في اللاذقية يتشرفان بدعوتكم لحضور ندوة فكرية بعنوان : (المقاومة في الفكر والثقافة والهوية) حول “تعزيز ثقافة المقاومة بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني (قدس سره) وفي ظل القائد الخالد حافظ الأسد (رحمه الله )”. ترى بماذا تختلف دعوة اتحاد لكتاب العرب عن دعوة الصديق صاحب الشاي أم القهوة؟

طيب.. لدي صديقة جامعية ومثقفة تظل تعيش حالة تشنج وخوف مرضيين، وكلما أحكي معها وأسألها شو الأخبار في اللاذقية ؟ ترد “عم أعمل مربى الورد” وتظل ساعة تحدثني عن مربى الورد، وأحاول، جاهدةً، إحراجها بالحديث عن أحوال الناس لكنها تقول: “ما بدي وجّع رأسي”. أتصل بصديقة أخرى، لعلي أسمع ما هو جديد عن أحوال البلد والناس وأوجاعهم، فتغرقني في التفاصيل، ولكن ليس أي تفاصيل، فتكاد لا تنتهي من الحديث عن المغص، الشديد وغير المحتمل، الذي يصيبها وتبدأ في التأوه والشكوى، فأكاد أجنّ من قدرتها الهائلة على حرف المكالمة وتحويلها إلى حديث عن مغص بطنها. أحاديث الناس غارقة في التفاهة وميتة، الكلمات ميته لأنها تنبع من روح مسخها الخوف وشوهها، الخوف يميت ويشل الإحساس بالكرامة لدى الإنسان، ربما لا يشعر كيف مُسخت إنسانيته وكيف لم تعد وظيفة دماغه التفكير الحر، لأن كلمة حرية تُخيف مثل كلمة ثورة، يتحول دماغ الخائف إلى عجينة خوف، عصيدة جافة لا تفرز فكراً حراً. إحداهن كتبت على صفحتها على الفيس: ادبكوا ونخوا، “كلكن رح تدبكوا وتنخوا”، بعد يومين حذفت ما كتبته واعتذرت ( بالتأكيد تعرضت لتهديد من الأجهزة الأمنية). ولا زلتُ أذكر يوم كنتُ موظفةً في المشفى الوطني في أواخر الثمانينات، كان علينا أن نشارك بمسيرات مؤيدة للرئيس حافظ الأسد في مناسبات وطنية مختلفة، مثل 8 آذار وغيرها، وكانت تُلغى كل العمليات ونخرج نحن الأطباء والممرضات كالقطيع في مسيرة التأييد، وطبعاً كان هناك أطباء مُخبرين يكتبون اسم من يهرب من المسيرة، وفي إحدى المرات خطر ببال أحد المسؤولين فكرة عبقرية أن يحمل كل طبيب وطبيبة وردة من ورق ملون مصبوغ ، وكان منظرنا يحمل كل منا وردة مُهين، ولسوء الحظ بدأ المطر بالهطول بغزارة، وتلوثت ملابسنا بالصباغ من الوردة التي نحملها -لا نعرف لماذا- وفوجئنا في اليوم التالي بأوامر أن علينا أن نعيد المسيرة المؤيدة لأن التلفزيون لم يتمكن بسبب غزارة الأمطار من التصوير، وكنت أراقب طوال وقت المسيرة بعض الممرضات يرقصن ويدبكن فرحاً لكن استوقفني آذن في المشفى الوطني لباسه رث وأسنانه منخورة وبنية وسقط معظمها، كان يدبك مثل “كاراكوز” ولا يتوقف عن الدبك ثانيةً ليلتقط أنفاسه، بدا كأنه مُصاب بمسٍّ، وأظنه فعلاً مصاب، وحين عدت إلى البيت وأنا مثل كرة النار من الغضب وجدت أمي تتابع المسيرة على التلفزيون، طاش صوابي ولم أدخل البيت، ورحت أركض أكثر من ساعة قرب شاطئ البحر كي لا أنفجر، ولم يكن أمامي سوى أحلامي، عادة ما تنتابني الأحلام وأنا يقظة، ولست أدري هذه نعمة أم نقمة. لكن في تلك اللحظة صرت أستجدي الحلم.. وهكذا -مثل سقوط حر- ومن شدة التفكير والتعب والغضب، بدأت أفكّر في أسهل طريقة لتحويل نهر الفرات صوب دمشق، دون المساس بتدمر التاريخية، وفجأة وجدت نفسي على رصيف إحدى المدن الأوروبية، ولاح قربي عمود برونزي أشبه بمدفع يخرج منه ماء بارد.. بارد ومنعش، فقلت في سرّي وبصوتٍ عالٍ: سأستحم هنا, رغم أنف القبيلة.. الآن وهنا، سأستحم. فمنذ سقوط بغداد لم أستحم. خلعت بقايا ثيابي، ركنت أمتعتي بقربي على الرصيف وبدأت استمتع برش الماء على جسدي.. انتبهت، فجأةً، وأنا أحاول تعديل مجرى الفرات إلى توقف سيارة فارهة، وبرز، من شباكها الدخاني، شخص ملتح بطريقة “مودرن” رمقني ببرود وشفقة.. مطَّ شفتيه، ثم بصق على الأسفلت  وربما قال: “يا حرام أو مسكينة.. أو قومي  البسي فضحتينا.. بصراحة لست متأكدة”.. مرت دقائق على هذه الحال، وهو يتمتم.. ولم يتفوه بحرف.. تابعت السيارة سيرها و تابعتُ رش الماء ..وإذ سمعتُ جلبةً من ورائي.. تفقدت أمتعتي فلم أجدها.. واختفى هاتفي الخلوي، أيضاً وبدأت أفكر.. من سرقه؟ من هو هذا الحقير.. آه لو يحذف الصور.. ومازال الفرات يتدفق صاخباً نحو الشام..  لابأس فليأخذه إلى جهنم هكذا قلت عن سارق الموبايل، ثم تنهدت وبدأت أموء بأسى.. فقط لو يحذف الصور.. لا أخشى شيئاً قط، لكن لا أحب هذا الأسلوب في التلصص على الخصوصية.. ثم انتبهت، ولكن أي صور؟ فكرت بصوت عالٍ.. أي صور؟ فأنا في العادة لا أحتفظ بصوري الشخصية على الموبايل؟.. أوووف، ينبغي أن أفكر بطريقة أخرى.. لنعد للبداية.. طيب، يلّا من الأول، أنا على الرصيف استحم، المكان مدينة أوروبية، وسيارة بلا نوافذ، وأمتعتي قربي  والماء البارد يتدفق بحنان.. لا أملك سيارة، إذاً هاتفي ليس في السيارة، عادةً لا أضع هاتفي في السيارة، وبكل تأكيد ليس في الكيس البلاستيكي، إذن هو في مكان ما.. ربما في البيت، عظيم، إذن الصور لم تُسرق أيضاً.. يا إلهي.. يا للروعة الصور لم تسرق، وبدأت أدمدم بلحن أغنية قديمة وأنا أرش الماء على جسدي على رصيف مدينة أوروبية وسيرة فخمة تقف قربي وشخص يطل من نافذتها ويبصق على الأسفلت ثم يرمقني بحيادية، وأمتعتي قربي على الرصيف  وهاتفي وصوري في البيت والفرات يهدر نحو الشام. وبدأت أتابع البحر ولوركا يهمس في أذني لا تستعجلي.. تمهلي  فنحن ” حين ننتظر، تتمطّى الثواني إلى ما لانهاية’”.

وصلتُ إلى البيت وأنا أفكّر في صديقتي الثرية المتدينة ” كما يحلو لها أن تقدّم نفسها”، كانت هذه الصديقة معتادة على إقامة رحلات ترفيهية إلى دمشق كل شهر تقريباً، رفقة شلة من النساء الُمتدينات والثريات، وينزلن في فندق “فور سيزن”، يقضين هناك عدة أيام وينشرن صورهن في الفندق الفخم، وطبعاً كل منهن تدفع الملايين، كنت، في كل مرة أشاهد صورهن، أخجل من انعدام إحساسهن بوجع 80 % من السوريين الجياع، يتمتعوا كما تشتهون، ولكن على الأقل، احترموا جوع الناس ولا تنشروا صوركن الباذخة، وثمة امرأة تكتب أنها موظفة راتبها 45 ألف ليرة، وزوجها موظف يقبض الراتب ذاته، وهي تقصد اللحام كل اسبوع لتشتري لحمة ب 2000 ليرة، فيعطيها اللحام قطعة لحم بحجم ما تتسع ملعقة طعام، وابنها الصغير ذو السنوات الست، يحب اللحم، ويبكي أين اللحمة؟ فتقول  الأم: ذابت في الطبخ  لك ابني، فيجن جنونه ويقول اللحمة لا تذوب. هذه المرأة كتبت نصاً أدبياً في الواقع، وهي تصف مشاعرها أثناء ذهابها إلى اللحام أسبوعياً، لتشتري كمية اللحمة تلك، حتى أن اللحام صار يسميها: تعالي يا أم الألفين ليرة (للعلم، سعر كيلو اللحم في سوريا 40 ألف ليرة).

كيف يستقيم ما ينشره السوريون؟ أي منطق يحكم عقولهم؟ أين نضع ما كتبته “أم الألفين”؟ وأين نضع صور أولئك السيدات فاحشات الثراء اللواتي يتبجحن بثرائهن ورحلاتهن وينشرن عشرات الصور على الفيس بوك.. ثم أين الثورة من كل هذا؟ لست بصدد كتابة بيان سياسي هنا، لا أجيد ذلك أصلاً، ولكن الناس خلال أكثر من عشر سنوات تمرمرت روحها من الذل والقهر واللهاث وراء لقمة العيش ولم يعد يعنيهم سوى ألا يموت ما تبقى من أولادهم! فليدبكن ويرقصن ابتهاجاً بالعرس الشعبي كالبهاليل، لأن الخوف يمسخ كرامة الإنسان ويجعله كراكوزاً وبهلولاً وأكثر ما يعبر عن حالة الشعب السوري وغيره من الشعوب العربية كتاب مصطفى حجازي (سيكولوجية الإنسان المقهور وسيكولوجية الإنسان المهدور)  وحياة السوري تائهة تماماً بين القهر والهدر الوجودي لدرجة صار البعض يكتب: عايشين من قلة الموت أو نحسد من ماتوا  ارتاحوا أو نحن أموات. وقس على ذلك ما سبق، حين حطّم “الرئيس الخالد” العقد الوطني السوري بتحويل البلد إلى ديكتاتورية عسكرية تحكمها عصبيات متخلفة.. لقد تحطم معه أيضاً، للأسف: النسيج الثوري منذ آذار الستينيات. ولست أزعم إني أملك الحل أو أعرف طريقه، لكن لاشك لا يمكننا البدء دون عقد اجتماعي وطني بين جميع الفئات والشرائح، فالذل الذي حاف السوريين لم يتغير، وكذلك وخوفهم، رغم ثورة الحق والكرامة عام 2011 التي أجهضت للأسف  ونزوح أكثر من ثلث الشعب السوري خارج البلد، لقد أصبح من تبقى من الشعب في الداخل لا يهمه إلا أن يبقى وأولاده أحياء يأكلون وينامون في ظلمة المكان وظلمة أرواحهم. ودعوني أروي لكم قصة أحد هؤلاء.

عامل تبغ من اللاذقية، فقد ابن شهيد وابن أخيه شهيد، ومع ذلك يشارك في “العرس الشعبي” و”الانتصارات” ويدبك وينخ. وفي اتصال معه سألته: كيف استطعت أن تدبك وتنخ وابنك شهيد؟! قال: حفاظاً على حياة ما تبقى من أولادي. حين تتحول الحياة إلى مجرد بقاء وتراكم سنوات ذل فمن المُعيب أن نسمي هذه حياة، الخوف يشلّ قدرة العقل على التفكير الحر ويسحق إحساس الإنسان بكرامته، أذكر في روايات لكتاب صينيين انتقدوا ماوتسي تونغ أنه كان مُصراً على (رقصات الولاء الإلزامية) مهما علت مرتبة الشخص، لأن الرقص والدبك والنخ ورقصات الولاء الإلزامية تحول أصحابها إلى بهاليل، وفي المدارس ومؤسسات الدولة وحتى في المشافي كان الكل يدبك ويرقص رقصات الولاء الإلزامية حتى مرضى القلب كانوا يشاركون في الدبكة، كذلك النساء حديثات الولادة! لا أنسى أي ألم مُهين أحسسته لما رأيت أحد أهم أساتذتي الذي  كان من أشهر الأطباء في دمشق وحاصلاً على البورد الأمريكي، في الطب المخبري والتشريح المرضي، وكان ثرياً جداً، وراقياً جداً، وكانت هوايته ركوب الخيل، كان يدرسنا مادة التشريح المرضي لأجزاء العين، وكنت، يومها، في سنوات الاختصاص في مشفى المواساة (دراسات عليا)  كان يدخل الصف مثل أمير، رجل أنيق بارع في الكلام، وعشقنا، بسببه، مادة التشريح المرضي، رغم أنها جافة. كم كان راقياً وكرامته عالية، ولا أعرف لماذا قبل أن يكون وزيراً للصحة في سوريا وحين رأيته كيف يدبك ويكاد يسقط مراراً أحسست بالخزي والذعر وتساءلت: ما الذي يدفعه ليشارك في رقصات الولاء الإلزامية!

وصديقة أخرى، عزيزة على قلبي، وهي كاتبة مبدعة وموهوبة، لا تنشر في صفحتها على الفيس بوك إلا كتاباتها، وتكتب عن روايات إبداعية أعجبت بها وهي تنشر إبداعها في مواقع عديدة وتعمل مدرسة في إحدى مدارس اللاذقية، أرسلت المديرة في طلبها فاعتقدت أن الأمر يتعلق بالطلاب أو بقضية ما، لكن المديرة عاتبتها عتاباً مُبطناً بالتهديد بأنها لم تكتب كلمة واحدة ابتهاجاً بـ “العرس الشعبي” بمناسبة الانتخابات الرئاسية، وعليها أن تثبت أنها مواطنة صالحة ومطيعة وبأنها يجب أن تعلن فرحها وتشارك في العرس الانتخابي، عبر كتابتها على الأقل في صفحتها على الفيس .

وإحدى الصديقات، وهي مدرسة جامعية عالية الضمير، كانت تراقب فحص البكالوريا في قاعة إحدى المدارس في اللاذقية، صرفها المدير إلى بيتها ومنعها من المراقبة لأنها لم تسمح بالغش أثناء الامتحان. وصديق آخر، وهو طبيب من حلب الشهباء والآن لاجئ في دولة أوروبية منذ ثماني سنوات، عرف أنه فصل من نقابة الأطباء بحجة أنه لم يدفع الرسوم السنوية المترتبة عليه كل عام، ورغم أنه أوكل قريبه أن يدفع له الرسوم النقابية لنقابة الأطباء لكن موظف في نقابة الأطباء رفض استلام المبلغ من الوكيل رغم أن الأخير أبرز له الوكالة وقال الموظف: عليه أن يحضر شخصياً لدفع الرسوم النقابية، كيف يمكن لنازح  ولاجئ في مدينة أوروبية أن يعود إلى حلب لدفع الرسوم النقابية؟ ثمة أصرار على فصله من النقابة كما لو أنه أجرم حين اضطر أن يغلق عيادته التي تدمرت بالكامل وينجو بحياته وحياة أسرته ويتحمل الغربة!

وهكذا تتحول حياة السوريين التي كانت صاخبة ذات يوم إلى روتين “عادي”.. وخلف هذا العادي تختبئ جرائم كثيرة، فانقطاع الكهرباء يصبح عادي وشح المياه عادي وغلاء الأسعار عادي وانعدام الأمن والخطف والقتل عادي.. كل شيء عادي، تخبرني إحدى الصديقات التي تسكن في الطابق الخامس أن الماء لا تصل بيتها إطلاقاً لأن الساعة الذهبية التي تأتي فيها الكهرباء (بعد قطع خمس ساعات) غير كافية ليضخ موتور الماء المياه إلى بيتها، انقطاع كهرباء وشح المياه وراتب الاحتقار وطوابير الخبز والبنزين والمساعدات الغذائية البائسة ومظاهر الفحش والتباهي بالثراء لدى شريحة من أثرياء الحرب، والشعب السوري جائع وصامت وقد وصل إلى حضيض اليأس. لكنه لا يملك أن يصرخ ويحتج على هذا العيش الذليل إذ يخشى أن يُتهم أنه يوهن الشعور القومي، أما قطع الكهرباء خمس ساعات فلا يوهن الشعور القومي! ولا شح المياه ! ولا راتب الاحتقار. وقد باتت كلمة “عادي” في سوريا تعادل معنى الجحيم. ومع ذلك الإعلام السوري “نايم في العسل” كما يقول أهلنا في مصر المحروسة، فلا برامج استقصائية ولا فضح للفساد والفاسدين، بل على عكس ذلك تم حبس مذيعة موالية للنظام وتعمل في التلفزيون السوري منذ سنوات طويلة لأنها حكت عن الفقر ومظاهره في سوريا، كذلك سُجن مذيع موالٍ للنظام لأنه انتقد الفساد، وليس سراً القول أن جيراننا  جماعة “سوى ربينا” ورغم معاناة الشعب هناك والأزمات الطاحنة التي يغرق فيها البلد، لكن نجد في جميع نشرات الأخبار من يصرخ ضد الطبقة الفاسدة “كلن يعني كلن”، ويلحقون الفاسدين إلى المطاعم يشتمونهم ويعبرون عن غضبهم ومعظم هؤلاء الفاسدين نواب ووزراء، وثمة برامج تلفزيونية مهمة جداً وعظيمة مثل برنامج (يسقط حكم الفاسد) الذي يقدم فيه صحافيون أدلة ووثائق وتسجيلات صوتية لفاسدين كبار ومعظمهم نواب ووزراء وقضاة وأصحاب مصارف، وبرنامج عظيم آخر تقدمه الإعلامية الشجاعة الذكية ديما صادق، وبرنامج آخر لغادة عيد عن الفساد والفاسدين، قد يقول البعض: وما نتيجة هذه البرامج؟ الفساد مستمر والفاسدين لا يزالون في مناصبهم، لكن الكلام مهم جداً خاصة تلك البرامج الوثائقية التي يقدمها صحافيين استقصائيين، وهناك العديد من البرامج، بصرف النظر عن موقفنا منها أو من الجهات التي تمولها، لكنها تطرح قضايا الساعة بطريقة مستفزة للطبقة الحاكمة الفاسدة على اختلاف انتماءاتها الطائفية والطبقية والسياسية، كما تسمح، بذات الوقت، لشريحة كبيرة ومتنوعة من  المواطنين أن يعبّروا أمام العالم كله عن آرائهم.  مما يمنح الناس أملاً بأن يفهموا تماماً حقيقة واقعهم المعيشي، ثم أن ينكشف أمامهم  الفاسدين من خلال الأدلة والوثائق.

الكلمة لها مفعول الخميرة في النفوس، فاستمرار مثل هذه البرامج التي تتناول بشجاعة وصديق سوف تؤثر على موقف مزاج الشارع . أما الصمت فهو موت، والصمت يشجع الفاسدين على التمادي في ظلمهم وجشعهم .

الصمت موت،  الكلمة أقوى من الرصاصة وأقوى من القيود والأسوار، أذكر إني تابعت تلفزيونية  مع شاب سوري من قرية “البيضا” في الساحل السوري قرب بانياس، كانت المقابلة طويلة حوالي ساعة ونصف، ورغم أن كل عبارة كان يقولها الشاب كانت تترك نزوفاً في روحي إلا أنني تابعتها حتى آخر كلمة، الشاب جميل ولديه كاريزما عالية وذكاء وقدرة عالية على التعبير وعلى تحليل ما حدث له في عدة سجون ( سُجن في عمر 17 سنة وتنقل من سجن إلى سجن حتى استقر في سجن صيدنانا الرهيب وبقي فيه ثلاث سنوات حتى عمر العشرين ). قال أن سجن صيدنايا بنائين: بناء أحمر وبناء أبيض، والبناء الأحمر مدهون بدماء السجناء الذين قُتلوا . يحكي الشاب ابن قرية البيضا وهو يبتسم طوال الوقت وحديثه شيق كأنه يحكي قصة شخص آخر .وكان معه في السجن ابن خالته وتوأم روحه وكانا يعزيان بعضهما همساً لأن الحديث ممنوع بين السجناء فيضطروا للهمس  ولا داعي أن أسرد طرق التعذيب المُروعة التي تعرض لها مساجين سجن صيدنايا، فكلنا نعرف وحشية السجان في سجون كثيرة في العالم العربي خاصة (وفي دول غربية كثيرة أيضاً) ورغم أن والد الشاب كان ضابطاً متقاعداً في الجيش السوري إلا أنه لم يتمكن من مساعدة ابنه والإفراج عنه، إذ أن هناك خطة بنقل السجناء من سجن إلى سجن كي لا يعرف الأهل أين ابنهم المُعتقل. أحب أن أذكر حادثة واحدة فقط هي حين طلب السجان من الشاب المُعتقل (ابن قرية البيضا) أن يحدث جرحاً بليغاً وعميقاً وطويلاً في ظهر أحب إنسان إلى قلبه (ابن خالته) وكيف أن السجّان أعطى ابن الخالة مسدساً وطلب إليه أن يطلق رصاصة على قريبه. وإن لم يُنفذا الأوامر فالقتل مصيرهما. ورغم أن هذا الطلب يدفع إلى الجنون فقد نفذا الأوامر، إذ أمسك ابن البيضا مفك البراغي الذي أعطاه إياه السجان وأحدث جرحاً عميقاً وطويلاً في ظهر حبيب القلب الصديق وتوأم الروح (ابن خالته) وقام هذا بإطلاق النار على صديقه وأصابه برصاصة في حوضه مما تسبب له بنزف غزير كاد أن يموت بسببه .

جريمة الشاب ابن قرية البيضا أنه شارك بمظاهرات عديدة مطالباً مع شلة من رفاقه ومعظم سكان قرية البيضا (نساء ورجالاً) بالحرية. وكلنا نذكر تلك اللقطة المهينة لشباب قرية البيضا المنبطحين أرضاً وأيديهم خلف ظهورهم، ويقفز فوق أجسادهم العديد من عناصر الجيش والأمن وهم يرددون عبارة: “بدكون حرية ما هيك.. وعفس عفس هالخاين”،  قال الشاب أنه أحس بحصى الطريق الصغيرة تنغرس في وجهه من قوة الضرب ومن ثقل الرجال الذين يقفزون فوق أجساد شبان البيضا. تعذيب وحشي كان يحكيه الشاب الرائع ابن البيضا والابتسامة لا تفارق وجهه وتحدث عن التعذيب الجسدي والجنسي والنفسي وكيف أن أحد زملائه في السجن مات من الخوف وأنه اكتشف أن الضغط النفسي الكبير والخوف إلى حد الذعر قد يؤدي إلى الموت، كل يوم كان يموت عدة شبان ليحضروا بدلاً منهم معتقلين آخرين، بعض السجناء كانوا يموتون من الحكة الشرسة فهم لا يستطيعون التوقف عن الحك بسبب الجرب، حكّة تؤدي إلى نزيف في الجسم، ولأنه غير مسموح للسجين إلا بكأس ماء في اليوم فكان الدم النازف من الجسم والسوائل المرافقة له كافية بموت هؤلاء السجناء، وكان الدود ينغل في جروح المعتقلين بسبب التعذيب !

طوال ساعة ونصف الساعة كنت أبحلق مبهورة بالشاب الجميل المُبتسم دوماً وأتساءل: ترى لمَ لمْ يكسروا أسنانه! لأن أسنانه كانت جميلة جداً، ومات صديقه وتوأم روحه ابن خالته. مات راغباً في الموت إذ أضرب عن الطعام وأراد أن يرتاح من حياة الجحيم (وأظن كلمة جحيم هنا  كلمة مُلطفة جداً تجاه عالم الرعب والإجرام) حيث أن الضرب والتعذيب لا يتوقف كل يوم حتى والسجين ذاهب إلى المرحاض كانت تنهال عليه العصي وآلات حادة بالضرب فيقفز محاولاً تفادي الضرب .

قال المعتقل ابن البيضا أنه مر عليه وقت في سجن صيدنايا  كثيراً ما تساءل فيه لمَ هو حي؟ وما الغاية من الحياة، لكن بعد موت صديقه الحميم وتوأم روحه ابن خالته أحس أنه صار يقلده في ابتسامته وطريقة كلامه وأحس أنه لم يمت بل حاضر في روحه بقوة .

أكثر ما استوقفني في المقابلة أن الشاب تعرف على طبيب نفسي في سجن صيدنايا (وكان السجن يغص بالأطباء والمهندسين والمحامين.. إلخ) وهو كان طالب بكالوريا، حاول الطبيب النفسي التقرب من الشاب وقال له: لا تكتئب أتعرف أفضل شيء يحدث لنا في السجن؟ بحلق به ابن قرية البيضا وقال: وهل يحدث لنا شيء جيد في السجن؟! أجاب الطبيب النفسي بكل ثقة: أجل أفضل ما يحدث لنا في السجن هو التعذيب، واسمح لي أن أشرح لك كيف، تخيل لو أنك جالس طوال الوقت في هذا المربع الصغير الذي بالكاد يتسع لك مقرفصاً يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر وسنه تلو سنه، سيتجمد الدم في عروقك، سوف تصاب بالجنون لاشك، ستكون عاجزاً عن الحركة، أما حين يعذبك الجلاد فأنت تتحرك، تلوي كتفك، وتحرك عنقك وتقفز على رجليك، حين تذهب إلى المرحاض ،فأنت تمشي في رواق طويل تحت الضرب حتى تصل المرحاض، لكنك تتحرك وكل ضربة يوجهها لك السجان وأنت تقصد المرحاض، تجعل عضلات كثيرة في جسمك تتحرك وبالتالي الدورة الدموية في جسدك تتحرك ولا تموت. هذه الفكرة الصحيحة طبياً ونفسياً جعلت المراهق ابن البيضا يقاوم الجلاد ولم يمت وهو مذهول فعلاً  كيف لم يمت !

أن يكون التعذيب المُروع للمعتقلين في السجون وقاية من الموت، بل بالأحرى، رفاهية، فكرة قد تدفع إلى الجنون، لكن تبدو منقذة في جحيم سجن صيدنايا المؤلف من مبنيين، أحدهما أحمر لأنه مصبوغ بدماء المعتقلين الذين قتلوا .

طوال وقت حضوري المقابلة مع العظيم ابن البيضا كنت أتساءل: لمَ لا أكون أنا في مكانه فأنا مثله أريد الحرية، وهو لم يقتل ولم يحمل سلاحاً بعمر خمسة عشر عاماً تظاهر بحماسة الشباب أنه يريد حرية، هذه هي جريمته الوحيدة أنه يريد حرية، وكلمة حرية في سوريا تعني أن مصيرك الموت، ثم بدأ عقلي يفرز تساؤلات لمَ لا يكون مصير كل سوري مثل مصير المراهق ابن قرية البيضا؟ ما الذي يمنع؟ مئات الألوف من الشباب والشابات تظاهروا سلمياً فقط مطالبين بالحرية وكان مصيرهم الاعتقال، أو الموت تحت التعذيب وبعضهم كان له الحظ أن ينجو. وأن يهرب من وطن يعتبر الحرية مرادفة للموت، الكلمة الأخطر في وطن الصمود والتصدي والممانعة. وهكذا عدت من جديد  إلى أحلامي، ولست أدري هذه نعمة أم نقمة.. وهكذا -مثل سقوط حر- ومن شدة الذهول هذه المرة لم أفكر يتحويل الفرات إلى الشام إذ ينبغي أن أفكر في الأمر بطريقة أخرى.. فأنا في مدينة أوروبية، استحم على رصيف أحد شوارعها، وسيارة بلا نوافذ، وأمتعتي قربي والماء البارد يتدفق بحنان.. لا أملك سيارة، إذا هاتفي ليس في السيارة، عادةً لا أضع هاتفي في السيارة، وبكل تأكيد ليس في الكيس البلاستيكي، إذن هو في مكان ما.. ربما في البيت، عظيم، إذن الصور لم تُسرق أيضاً.. يا إلهي.. يا للروعة الصور لم تسرق، وبدأت أدمدم بلحن أغنية قديمة وأنا أرش الماء على جسدي على رصيف مدينة أوروبية وسيرة فخمة تقف قربي وشخص يطل من نافذتها ويبصق على الأسفلت  ثم يرمقني بحيادية، وأمتعتي قربي على الرصيف  وهاتفي وصوري في البيت والفرات يهدر نحو الشام. وبدأت أتابع البحر ولوركا يهمس في أذني لا تستعجلي.. تمهلي  فنحن ” حين ننتظر،  تتمطّى الثواني إلى ما لا نهاية”.

آه نسيت أقول لكم أن الشاب الجميل ابن قرية البيضا صار الآن طالباً في جامعة هارفرد في أميركا، وهي من أرقى الجامعات. وكان قد نزح أولاً إلى السويد وتعلم لغتها. وتفوق في دراسته في جامعه هارفرد. وما ساعده على عدم انهياره  طبيب نفسي مُعتقل أقنعه أن أفضل ما يحصل في السجن هو التعذيب لأنه يحرك الدورة الدموية .

كل سوري هو ابن البيضا العظيم الذي جعلني أتساءل أية قوة جبارة يملكها الإنسان على التحمل وكم أن ثمن الحرية باهظاً. ولا يزال السؤال يؤرقني لمَ لمْ أكن أنا بدلاً منه في سجن صيدنايا؟ لمَ لا يكون كل شاب سوري وشابة سورية مكانه؟  كل الشعب السوري يريد حرية أي أنه يختار طريق رحلة درب الآلام التي قد تنتهي بموته تحت التعذيب وتحويل دمه إلى دهان لجدران السجن أو يكون له الحظ أن يهرب ويرفع اسم سوريا عالياً متفوقاً في أرقى جامعات العالم ويكون أيقونة السوري في الغرب لشدة وعظمة ما تحمله ولنجاحاته .

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *