عالم الإجتماع الدكتور مصطفى حجازي في غنى عن التعريف ، من أشهر كتبه كتاب ( سيكولوجية الإنسان المقهور ) وكتاب ( سيكولوجية الإنسان المهدور ) وله كتب ومقالات مهمة جداً . لكنه طرح مؤخراً فكرة بالغة الأهمية هي إهمال علم النفس للشباب ، ويُبين أن ( علم نفس الشباب ) ظاهرة مستجدة عالمياً . ويهمني من الفكر المتميز للدكتور مصطفى حجازي تحليله النفسي العميق لوضع الشباب العربي ، حيث أن المجتمعات العربية مُجتمعات فتية ، أكثر من سبعين بالمئة من السكان أعمارهم أقل من 23 سنة .
في البداية يذكر الدكتور مصطفى حجازي – يحكي عن أجيال الأجداد والآباء – كانت الفتاة تتزوج في عمر خمسة عشرة سنة ( أقل أو أكثر بسنوات قليلة ) والشاب يتزوج بعمر 22 سنة ( وسطياً ) أي كان يتم الانتقال من مرحلة المُراهقة إلى سن الرشد وتحمل المسؤولية ، وكانت فرص العمل مُتاحة للزوج الشاب الذي غالباً ما يرث مهنة أبيه ، فابن النجار يصير نجاراً وإبن المُزارع يصير مزارعاً الخ ، لكن كان الزوج الشاب قادراً على إعالة أسرته .
لكن الثورة العلمية والصناعية التي حصلت في الغرب أثرت على العالم كله ، ويذكر الدكتور حجازي أن الثورة العلمية الصناعية بدأ بها كل من كوبرنيكوس وغاليلة ونيوتن أي أن الغرب أنجز ثورات كثيرة منها الثورة العلمية بتأسيس جامعات كبرى تعتمد على الفكر والبحث العلمي والأهم أن أن سلطة العقل والإرادة الإنسانية حلت محل سلطة الكنيسة وتعاليمها والغيب ، وأصبحت العلوم التجريبية وعلم القياس هما الأساس في المجتمعات المتطورة . ومن الضروري أن نذكر أن من أهم الثورات التي قامت بها المجتمعات الغربية والمتطورة هي الثورة على الحاكم الذي يستمد سلطته من الله ( الحاكم الإلهي ) وتم تأسيس الحكم المدني أي الحكم الذي يطلع من القاعدة الجماهيرية ليختار الحاكم وأيضاً أن يتم تداول السلطة بمعنى ألا يبقى الحاكم في منصبه إلى الأبد . وقد نجحت الرأسمالية العالمية في تحويل الإنسان إلى آلة مُنتجة ومُستهلكة ، وغالباً يكون ما تستهلكه لا لزوم له ، لكن الناس تُصاب بسعير المنافسة على الاستهلاك . أوهمت الأنظمة الرأسمالية مواطنيها أنهم أحرار يختارون ما يريدون بينما الواقع أن الإنسان تحول إلى آلة مُنتجة تقبض أجراً وتكون الأرباح الكبيرة للشركات الرأسمالية . من الناحية النفسية أصبح وضع الإنسان في الأنظمة الرأسمالية بحالة استلاب وغربة اجتماعية والاستلاب حسب تعريف ماركس حين يُستلب من الإنسان ثمار عمله وانتعش الطب النفسي إذ صار أغلب من يقصدون عيادات الطب النفسي يعانون من الاكتئاب والغربة الإجتماعية أي انعدام اليقين . واعتمدت الرأسمالية العالمية في الدول المتقدمة على إغراق الإنسان في المُتع فهي دعمت كثيراً الثورة الجنسية وأصبحت ممارسة الجنس مشروعة ومباحة بشكل كبير مم أدى لتراجع الزواج والإنجاب لكن الرأسمالية دعمت الاستهلاك الجنسي ( أو الحرية الجنسية ) لغاية بعيدة وهي تحرير الطاقات الجسدية المكبوتة لأن هذه الطاقات القوية عند الشباب إذا حُررت يُصبحون أكثر قدرة على الإنتاج والإبداع والتفكير . وقد أثبت علم النفس أن الكبت الجنسي يؤدي لكبت عقلي كما في مجتمعاتنا العربية التي تُهيمن عليها سلسلة موانع ومحرمات تستند إلى الدين والغيب فشبابنا العربي يُعاني من كبت جنسي يعيق كثيراً تفكيره الحر وحريته ، وتعتمد الأنظمة الاستبدادية على ترسيخ الكبت الجنسي للشباب العربي بهدف السيطرة عليهم . المهم وضع الشباب في مجتمعاتنا العربية وقد قسم الدكتور مصطفى حجازي الشباب ( الشابات ) العرب إلى عدة شرائح : – الشريحة الأولى : هم الشباب النخبة أي الذين يتلقون أفضل تعليم وأفضل رعاية أسرية وقادرين على السفر والدراسة بأرقى الجامعات العالمية ، هؤلاء مؤهلين لتولي أهم المناصب وهؤلاء تستقطبهم أميركا ودول متقدمة كاليابان والدول الغربية .
الشريحة الثانية من الشباب حسب تصنيف الدكتور حجازي هم الشباب المحظي : أي أبناء حديثي النعمة أي يولدون وفي فمهم ملعقة ذهب لكنهم يفتقدون الرعاية الأسرية ويُتركون للخدم لتربيتهم ( دول الخليج مثالاً ) هؤلاء صحتهم النفسية مضطربة بشدة يُعانون من الفراغ والقحط العاطفي من قبل الأهل المنصرفين عنهم لكنهم ( أي الأهل ) يعوضون أولادهم عن الحب الأسري بتقديم رشاوي مادية فيلجأ الشباب إلى الإدمان على التسوق أو إدمان المخدرات أو الدخول في علاقات جنسية تؤذيهم . هؤلاء الشباب الأغنياء ( حديثو النعمة ) لا تتاح لهم فرص عمل ومناصب مثل الشباب النخبة لكنهم محصنين بثروات طائلة والكثير منهم يعملون في التجارة وتجارة المخدرات وغيرها .
الشريحة الثالثة من الشباب هم الكادحين مثل طلاب الجامعة من بيئة فقيرة أو متوسطة وهؤلاء رغم حصولهم على شهادة جامعية فهم لا يملكون إمكانية السفر ولا يجدون فرص عمل ، هؤلاء كانوا نواة الإنتفاضات ضد الفساد وهم جيل الثورة غير المرتهنين لزعيم أو نائب ، هم مثقفون يطالبون بالحرية والعدالة والكرامة يعرفون تماماً حقوقهم ويقاومون الظلم والفساد .
الشريحة الرابعة من الشباب حسب تصنيف الدكتور مصطفى حجازي هم الشباب المُهمش أو ( شباب الظل ) هؤلاء بالكاد تلقوا تعليماً ( أغلبهم لم يتجاوز المرحلة الابتدائية ) ولم يتلقوا تربية أسرية مسؤولة هؤلاء الشباب هم وقود العنف يتم استغلالهم من قبل زعماء الميليشيات ويقبضون القليل من المال مقابل أعمال تخريب أو قتل وهؤلاء هم من يموتون ، وهؤلاء – للأسف – يضربون الثوار ويكسرون مباني عامة وحكومية إذ لا يشعرون بقيمتهم وبأنهم ليسوا مُهمشين إلا بأعمال العنف ، كل من هؤلاء ( الشباب المُهمش ) يشعر أنه سيد الساحة يعتدي على الثوار الذين يطالبون بحقوقهم ويكسرون ويقتلون ، هؤلاء ضحايا الفكر الأصولي الذي يقمع ويُقيد الطاقات الحيوية عند الشباب مُستغلاً جهلهم ويحولهم إلى جمهور قطيعي بنشر عقلية التحريم ( جرائم قتل الشابات قام بها شباب مُستلبين للفكر الأصولي عامة ) أيضاً هؤلاء ضحايا الأنظمة الاستبدادية التي تستغلهم في حروب أهلية ونزاعات طائفية .
المجتمعات العربية تفتقد للمواطنة ، والمواطنة ليست بطاقة هوية أو جواز سفر بل هي القاعدة الواعية الحرة التي تختار الرئيس والنواب ، والتخلف ليس اقتصاديا فقط بل الأخطر هو التخلف الذهني والفكري ، فالدول العربية لم تنشأ من قوى المُجتمع الحُر المُفكر بل نشأت من المبايعات لزعامات ولحكام يتبعهم الشعب كله كقطيع ، فقط في عالمنا العربي يهتف الشعب : بالروح بالدم نفديك يا زعيم !!ولأن لقمة عيشهم مرتبطة بالزعيم ، وإن لم يرضى عنه الزعيم يُصبح المواطن موضع شبهة ويُعاقب ، لكن شباب الانتفاضة أو الثورة لا ولاء لها لزعيم ولا لحاكم هي واعية تماماً حقها في كرامة العيش وتطالب بمحاسبة الفاسدين . لكن للأسف الشعوب العربية مقهورة ومسحوقة وتشعر أنها فاقدة للسيطرة على مصيرها فهي تعيش في ظل أنظمة شمولية استبدادية حيث الفكر الحر يؤدي لسجن صاحبه أو قتله ، وخاضعين لسلسلة من التحريمات ( الحلال والحرام ) من سيطرة الفكر الأصولي على هؤلاء الشباب والذين للأسف يشكل شباب الظل نسبة كبيرة منهم . لا توجد كلمة ومفهوم مُبايعة إلا في عالمنا العربي ، الشعب يبايع الحاكم والزعيم إلى الأبد ويريد رضاه وإلا شعر بالضياع ، عليه أن يثبت دوماً ولاءه للحاكم . يشعر الإنسان المقهور أنه بدون ولاءه للزعيم فهو مفقود وتائه .
المُخزي أن الشباب لا يُعطون احترامهم وقيمتهم فقيمة الشباب في خدمة الكبار وفي الطاعة وإعادة إنتاج الأب بفكره ومعتقداته ، عبارة قتل الأب التي قام بها الشباب في الدول المتقدمة لا تعني قتله جسدياً بل القدرة وضرورة نقد الأب وتجاوزه ، في عالمنا العربي الأغلبية يسمون أولادهم بأسماء الآباء قد يبدو الأمر بسيطاً لكنه يدل على عدم القدرة على قتل الأب أي نقده وتجاوزه دون التقليل من احترامه . ولأن العولمة فرضت على جميع سكان الكرة الأرضية نمط حياة وأصبح العالم قرية كونية صغيرة بعد ثورة الاتصالات فإن الشباب العربي وقع بدوره ضحية ما يُسمى ( رضاعة التسلية ) وقد اخترع هذا التعبير بريجنسكي سكرتير الأمن القومي الأميركي رضاعة الإلهاء تتجسد في التلفزيونات والألعاب ونجومية المُطربين ولاعبي كرة القدم حتى أصبحت الكرة أشبه بدين ، وصار الشباب يحلقون بحلم النجومية فكل منهم يحلم بضربة حظ ليصبح مثل المطرب الملياردير أو الممثل أو لاعب كرة قدم مشهور ، رضاعة التسلية تغذي صناعة الأحلام ، وكم من شباب وشابات ضاعوا ودُمرت نفسيتهم وهم يركضون لاهثين متأملين أن يقفزوا فوق واقعهم ويصيرون نجوماً ويسحقون الفقر .
أخيراً وأمام واقع موحش في قسوته حيث نرى الشباب يُقادون لخوض حروب ويُقتلون كل يوم ، أو نرى شباناً يغرقون في البحر وهم في قوارب الموت ، وهيمنة الفكر الأصولي والاستبداد ، هل من مسؤولين أخلاقيين يهتمون بالصحة النفسية للشباب الذين هم بناة المستقبل . علم نفس الشباب يحتاج أن تكون له الأولوية في الأبحاث والدراسات لإنقاذ الشباب من الضياع ومن المخاطر الكثيرة التي تهدد سلامتهم النفسية والعقلية .
كل الشكر للدكتور مصطفى حجازي الذي أضاء على أهمية علم نفس الشباب .