غاستون باشلار : حلم التحليق (4)

ترجمة : سعيد بوخليط

بدون شك، لا يحوي أيّ أدب، قصيدة أكثر رحابة، واتساعا ونموا من قصيدة شيلي، أو لكي نتكلم بشكل دقيق جدا، تجسد قصيدة شيلي فضاء فعالا بكيفية عمودية ينمو بالكائنات ويمدها بالقوة حسب معاني الارتفاع. بالتالي، لا يمكننا الولوج إلى فضاء هذه القصيدة بغير   المشاركة في صعود، وارتقاء، أو أن نعيش داخله دون التقاط همس دعوة أشعار شيلي :”لقد بزغ يوم جديد فما الوجهة التي تتوخى برفقتي التحليق نحوها؟ “(الجزء الثاني، ص273 ).

تسعى دائما، مختلف عناصر شعرية شيلي، مغادرة الأرض نحو السماء. صور تبقى عصيَّة على الفهم بالنسبة لخيال الأشكال، وستظهر هنا وفق شكلها الفوري حينما نفهم النمط الديناميكي المتطابق معها في الخيال المباشر لاندفاعات حقا أولية.  كيف يمكننا مثلا أن نفسر بكيفية أخرى صفحات من هذا القبيل(1) : “أحبت غالبا تسلق السّلّم الأكثر وعورة للبخار المتخثِّر غاية مرتفع يابسة لبعض السحب التائهة في الهواء، مثل أريون(أسطورة إغريقية) ممتطيا دلفينا، وهو ينشد على امتداد أثير بلا ضفاف؛ دوما اقتفاء لخطى منعطفات الوميض  المتعرِّجة، إنه منساب فوق أسطح الريح” .لا تمتلك السماء ضفَّة لأن الارتقاء لا يحده عائق.

تعتبر كل الخطوط طرقا بالنسبة لهذا النوع من الخيال الديناميكي، وكل إشارات  السماء بمثابة نداءات، كما يرتبط طموح الارتقاء بجلِّ مظاهر العَمُودية، حتى أكثرها اندثارا.

يمكننا القول حقا، بأن حركة قصيدة شيلي تتضمن صورا هوائية مثل الوثوب الحيوي، حسب برجسون، وتقدم على امتداد مسارها، أشكالا حية. على العكس من كل الصور التي أنجزها الشاعر، يجب أن نضيف إليها الحركة حتى نتمثَّل فعلها الشعري .لذلك، تظل كتلة سحب مجرد سُلَّمٍ إذا رغبنا في تسلقها، وأردنا – من صميم  الروح- السفر نحو الأعلى.

تصبح الصور غامضة أو بلا طائل، لدى قارئ يرفض الاندفاع الشعري الخاص جدا الذي أبدعها. على العكس، سيجدها الخيال الديناميكي ودِّيا مفعمة بالحياة، بمعنى واضحة ديناميكيا. لأنه بوسعنا الحديث عن وضوح وتميُّز ديناميكيين. يتطابق الاثنان مع حدوس ديناميكية طبيعية وأولى.

حسب نظام الخيال الديناميكي، كل الأشكال مشروطة بالحركة: يتوقف تخيُّلنا لدائرة بالعمل على تقليبها، أو سهم من خلال رؤيته محلِّقا، ولا امرأة إن لم نجعلها تبتسم. حينما يمتد الحدس الشعري نحو الكون، فلأن حياتنا الباطنية أدركت أعظم انتشاءاتها. يمضي بنا كل شيء نحو المرتفعات، السحب، الضوء، السماء، ما دمنا نريد ذلك بكيفية حميمة، ونطوي تحليقا داخلنا. لقد اختبر شيلي (الجزء الثاني، ص 217 ) :”غبطة بُخارية لا يمكنها أن تشغل محتوى…تغمرني شحنة متعة، أشبه بمحيط من الضوء، ويحملني كسحابة مرتدية هواءها الخاص”.

سنلاحظ الهواء في السحب، والأخيرة مادة للهواء بل ينطوي السحب في جوهره على مبدأ الحركية الهوائية. ثم إن الحركة ثراء للجوهر الخفيف. من أجل فهم أولية الخيال المادي وكذا الخيال الديناميكي، فلن يقف تأملنا طويلا كي ينطق صورا كما الحال بالنسبة لصور شيلي التي تعكس تبادلا لانهائيا بين مبدأي الخيال المادي والديناميكي .تدرك جيدا مختلف الكائنات الهوائية، بأن المحلِّق ليس سوى جوهرها الخاص، بيسر طبعا، ودون حركة الجناح. “يرتشفون ريح سرعتهم الذاتية” (ص 180- 182). الحركة، خالدة داخلنا أكثر من الجوهر :”بوسع الحركة أن تغيِّر،لكنها تبقى أبدية”.

هل تعكس صورة متحرِّك يمضي به :”الهواء وفق سرعته الذاتية”، شيئا آخر غير المعاكس للحركة الالتوائية الأرسطية التي لاحظها جان بياجي مع ذهنية الأطفال (العلة الفيزيائية عند الطفل، ص 27)؟ لكن الشاعر يمتلك مفتاحا يتيح له إمكانية أن  يزيل عنها في الوقت نفسه كل صبيانية أو سمة نظرية فلسفية. حينما يركن هذا الشاعر للخيال، جسدا وروحا، سيخاطب الحقيقة النفسية الأولى :الصورة.بحيث يبقى في إطار ديناميكية وحياة الصورة .بالتالي، يفقد معناه كل اختزال عقلي وموضوعي.

عندما نتمثَّل هذه الصورة صحبة شيلي، سنقتنع بأن الصور لاتشيخ أبدا .ولن يتبدى سوى مبرر صغيرة للكتابة حول أعمار الخيال، رغم أن دراسة ليون برونشفيك حول عصور الذكاء تضمنت سردا واضحا وفق نضج ذهني .إذن، بقدر قولنا بأن الخيال مبدأ شباب دائم، سينعش الفكر وقد أعاد له الصور الديناميكية الأولى.

لاشيء مستعصيا عن هذا الخيال الديناميكي. يقول شيلي مثلا، في كتابه “ساحرة أطلس” (ص 249)  :”تشعر أحيانا بالسعادة حين صعودها غاية تيارات الهواء العليا التي تحدث دوران الأرض ‘ ضمن مدارها اليومي”(2)، وتستمد أرواح هذه المناطق، ثم تسمح لها بالانتماء  إلى جوقتها”. أرواح، يعني شدوها تأثيرها المادي. تعيش في الهواء، ومن الهواء .بفضل الهواء، تعتبر كل الحياة والحركات ممكنة. تدور الأرض نتيجة نَفَسِ الهواء. تمثل ضخامة الكرة الأرضية، بالنسبة للخيال الديناميكي، كما الشأن مع كل دائرة، مجال حركة الدوران البديعة.

سيثير هذا التأويل الفلكي المتخيَّل ضحك العقلاني؛ بحيث سيطلب من الشاعر تحديدا دقيقا لـ “مدار الأرض اليومي”. في حين، سيتهم عقلاني آخر شعرية ”البخار” عند شيلي بكونها مجرد صياغة لقواعد تمدّد الغازات(3). بهدف دعم شرح من هذا القبيل، يذكِّر وايتهيد بحماسة الحداثي شيلي نحو العلوم الفيزيائية. يعتقد بسهولة النقد الأدبي الكلاسيكي المتلهف لمعطيات واضحة، بفعالية تلك الإحالات إلى العلم .لكن الاعتقاد، بأن نظرية ”تمدّ د الغازات”، قد لعبت دورا ما، بخصوص تحديد شعرية شيلي الهوائية، يعني عدم الانتباه لميزة استقلالية الحلم الشارد الشعري عند شاعر كبير.

مثلما جرى الشأن دائما، مع نقد بول دو راول، باعتباره دقيقا جدا ومتنوعا للغاية، يبدو هنا غير ملائم مثل الافتراضات التي طرحها وايتهيد عالم الرياضيات والفيلسوف .إنه مرتبك أمام ”ساحرة أطلس” التي جسَّدت كائنا مركَّبا  قوامه: ”النار، الثلج وكذا العشق السائل”. حتما، بوسع بيولوجي، العثور من خلال ذلك على ماينتقده! بينما سيختبر حالم حقيقي على الفور القوة الديناميكية لذاك الخليط. إذا كانت النار تمنح الحياة، ويهب الحب السائل- اكتشاف رائع!- المادة المعشوقة، ويتيح الثلج البياض، الجمال، ثم رؤية القمم. سيمنح الثلج- ثلج هوائي، وثلج القمم-الكائن الناشئ هذا المظهر اللاواقعي، الذي يعكس بالنسبة لشيلي، قمة الحقيقة .وأمام هذه المقاطع الشعرية الرائعة :

Yoked yo it by an amphisbaenic snake

The likeness of those winged steeds

حاول بول دو راول ”فَرْك عينيه”، مؤكدا بأن صفحات على هذا النحو تنهل من التحليل النفسي. ويضيف :”لنضع حدا لهذه المرافعة التي لا ترغب سوى في تهدئة وعي الناقد” فهل يعتبر الناقد إذن – اعتراف عجيب- وعيا ينبغي تهدئته؟

بين طيات صفحات أكثر تعاطفا مع عمل شيلي، كتب (4) بول راول بأن أشعاره : “تمثل عضوا أكثر خِفَّة من الهواء، إنها الجناح الذي يسمح باندفاعه ويحمله”. ثم أضاف، بأن الأمر يتعلق تحديدا بالنسبة لشيلي في: ”ترجمة حركات الروح أو الروح في حركة”.

سنعود إلى الخاصية التركيبية للخيال الديناميكي الذي يحرِّك الروح بأكملها، ونتبيَّن لحظتها بأن انتقال الحركات من روح إلى روح بالحركة كليا، يعكس تحديدا الدرس الكبير للتحليق الحُلُمي، الذي يضفي وحدة مدهشة على تجارب الحلم، كما يهيئ للحالم عالما متجانسا يسمح باختبار، ضمن مشاهد اليوم، تلك الإضاءات الكبرى للحياة الليلية. هكذا تبدو عدم إمكانية أن نحدد بشكل أفضل شعرية شيلي، سوى انطلاقا من كونها تحليقا حالما يصعد غاية أوج الضوء.

إن حركة نعيشها بالمطلق خياليا تصاحبها بعفوية موسيقى متخيَّلة. تخلق حركة أثيرية كبرى إيقاعا إلهيا. بالتأكيد، يلزم الفَلَك الفلسفي، كما الأمر بالنسبة للفلك الفيتاغوري، حينما يتأمل التوافق بين أعداد وأزمنة ثورات سماوية، التي تحدث مختلف مجازات الإيقاع؛ لكن التأمل الشعري، إن كان صادقا وعميقا، سيصغي بشكل طبيعي لنفس الإيقاعات. يعتقد الفيلسوف بكونه صادفها ثانية من خلال الأعداد، لأنها فعالة طبيعيا بالنسبة للخيال. كل شاعر حقيقي يتأمل السماء المرصَّعة بالنجوم كما يرهف سمعه لركض الكواكب، ثم ”الألحان الهوائية”، الليل، “الليل الهادئ  المنساب”.

ينبغي قصد تحقيق الإصغاء لكائنات الفضاء اللانهائي، أن نخرس كل ضجيج الأرض؛ مثلما يقتضي السياق- إذا وجب قول ذلك؟- نسيان مختلف الدروس الأسطورية والمدرسية .إذن، سنفهم بأن التأمل يشكل بالضرورة داخلنا قوة مبدعة .نحس بولادة إرادة التأمل، تغدو فورا إرادة تساعد ما نتأمله على الحركة. ليست الإرادة والتمثُّل قط بقوتين متنافستين كما الشأن في فلسفة شوبنهاور.

القصيدة تبلور حقيقي لمعيار جمال الإرادة (5). إنها تعبر عن إرادة الجمال. يمثل كل تأمل عميق، بالضرورة وطبيعيا، نشيدا .تكمن وظيفة هذا النشيد في تجاوز الواقع، ثم التخطيط لعالم رنَّان فيما وراء العالم الأخرس. نظرية شوبنهاور عن القصيدة مفرطة بخصوص تبعيتها لتصور يستحضر جماليات طبيعية. بينما، القصيدة ليست ترجمة لجمال ثابت وأبكم، بل هي فعل نوعي.

ميزت المشهد الرابع لمسرحية ”بروميثيوس المتحرِّر” إيقاعات متخيَّلة مباشرة، بهذه الإيقاعات الناشئة جراء تفعيل الخيال الديناميكي. عبر فقرات صفحات رائعة، يجمع شيلي أحيانا بين الإيقاع والليل، ومرة أخرى الإيقاع والضوء. مثلا صورة ناي الشتاء، التي حضرت كليا من خلال تجلٍّ جوهري يصل بين صفاء هواء الشتاء وكذا صفاء شدَّته، لكنه فَعَل خيرا، بتسّربه الهادئ إلى الروح المُستلهمة (الجزء الثاني ص 213 ) :”اصغوا أيضا، إلى تلك الإشارات الضمنية الزاخرة بها كل وقفة صامتة، رنَّات مشرقة وفِضِّيَّة، لاذعة مثل الثلج الذي يوقظ ويخترق المعنى ويحيا بين طيات الروح، مثل نجوم تنسلّ فتخترق هواء بلورة الشتاء ثم تتملى البحر”. استرقوا السمع لسِهام ضوء الشتاء المنبثقة عبر كل مكان. يهتز الفضاء بأكمله نتيجة صخب البرد القارس. لا فضاء دون موسيقى لأنه لاوجود للتمدّد دون فضاء. الموسيقى مادة متموجة. تنبثق بانثيا Pantéa (الجزء الثاني، ص 223)، من :”تدفق الموسيقي كما لو من  حوض مائي متلألئ، بل حوض نور لازَوَرْدِيّ”، وفي بروميثيوس (المقطع الثاني، المشهد الأول) دَوَّت وسط السماوات صعقة القوس الكبيرة :

”اصغوا! إنها الأرواح تتكلم. تدوِّي باستمرار سيولة أجوبة لغتها الهوائية “.

بالنسبة للأرضي، يتلاشى كل شيء ويضمحل حين مغادرته الأرض، أما عند الهوائي فإنها تلتئم، وتغدو ثرية حين صعودها. يبدو لنا بأن شيلي الهوائي حقق تطابقا من المفيد جدا مقارنته مع تطابقات بودلير.

يتأتى التطابق البودليري نتيجة توافق عميق  بين الجواهر المادية؛ بحيث تحققت إحدى أكبر كيميائيات الحواس، من خلال نقط أكثر تكاملا قياسا لخيمياء رامبو. يمثل التطابق البودليري مِفْصَلا قويا للخيال المادي، تنتهي عنده جلّ المواد المتخيَّلة، وكل ”العناصر الشعرية” كي تتبادل ثراءها، ثم أن تغذي إحداها الأخرى بمجازات.

تطابق شيلي تزامن بين مختلف الصور الديناميكية لخفة شَبَحِية. فإذا كان التطابق البودليري بمثابة سيادة للخيال المادي، سيمثل تطابق شيلي سيادة للخيال الديناميكي. هكذا، تتآلف في إطار ميتا-شعرية شيلي، الخاصيات نتيجة تخفيف حمولتها المتبادل .تتسامى جميعها؛ وتساعد بعضها البعض كي تتسامى وفق مسار تقدم لانهائي.

حينما درس أندريه شوفريون، الطبيعة في قصيدة شيلي، كتب ما يلي :”ينعتون شيلي في انجلترا، بكيفية صائبة، شاعر الشعراء. وبالفعل، شكَّلت قصيدته نتاج تقطير مزدوج. إنها تمثل بالنسبة لباقي الشعر ما ينبغي  للأخير بلورته على أرض الواقع : قصيدة متطايرة، متقلِّبة، ملتهبة، غير قابلة للتوقع، متأهبة دائما للتسامي، ولا تمتلك جسدا” .وقد ألَّحت سابقا، صفحات أخرى لنفس الكاتب أندريه شوفريون (ص 120)،على هذا التسامي الهوائي :”لقد امتلكت مختلف البيانات الوصفية هذه الخاصية المشتركة والدالة، بحيث يفقد خلالها الموضوع شيئا فشيئا تفاصيله الفردية ومظهره الثابت، جراء الانتقال من مقطع شعري صوب مقطع شعري آخر، غاية أن يصبح طيفا مبهما ومضيئا” .يعكس، تلاشي  ال ضوء نمطا لتسامي واضح الخصوصية عند شاعرنا شيلي.

ينمو ”عمق” السماوات مع صمت الليل. ينسجم الكل تبعا لإيقاع هذا الصمت والعمق. تنمحي التناقضات، ثم تصوم عن الكلام تلك الأصوات النشاز. نتيجة التناغم المرئي لعلامات السماء، تخرس داخلنا أصوات أرضية لم تكن تعرف سوى التوجع والتحسر. فجأة، الليل نشيد عظيم؛ ثم تردد قيثارة الملاَك أريلAriel  صدى رومانسية البهجة والسعادة .شيلي، حقا، شاعر سعيد بالهواء والمرتفعات. فقصيدة شيلي، رومانسية للتحليق.

تمنح هذه الرومانسية الهوائية والمحلقة  أجنحة إلى كل الأشياء الأرضية. ينتقل اللغز من الجوهر إلى محيطه. يتآمر الجميع قصد إعطاء الكائن المنعزِل حياة كونية. خلال اللحظات التي أُرهف فيها السمع حيال نضج البرقوق، أرى الشمس تداعب الفواكه، وتضفي طلاء ذهبيا على مختلف الأجسام المستديرة، وتصقل كل الخيرات. ترتجُّ أجراس زهرة الحوض، نتيجة انسياب خفيف لمجرى شلاَّل أخضر. يحلق صوت أزرق. ترسل حزمة ورود بلا توقف زغاريد صوب السماء الزرقاء.

أتصور شيلي في عمله المعنون بـ” Epipsychidion” (ص 264) و:”شفتيه، مثل ياقوتة ممتلئة بندى من العسل، يتساقط همس سائل، قطرة قطرة، ينفذ معه صبر شغف الحواس، عذب أيضا بحيث تتوقف الموسيقى الكونية كي تسمعه بانتشاء ”. هكذا حينما تهمس وردة، ويرنّ ناقوس الأزهار عند قمة نظام الازهرار، حينها تصمت الأرض قاطبة، ثم تتكلم كل السماء. يمتلئ الكون الهوائي بتناغم الألوان. ثم تلوِّن  شقائق النعمان ذات الألوان المتنوعة رياح السماء الأربعة. يمتزج اللون بالصوت، العطور، وكذا زمان تتكلم خلاله الورود…

هكذا تبدو الإشكالية تحديدا: وفق أيّة دلالة يلزمنا القول بأن صوتا أضحى هوائيا؟ حينما يكون عند أقصى حدود الصمت، محلِّقا وسط سماء بعيدة، عذبة وكبيرة .يشتغل التناقض من الصغير غاية الكبير. إنه لانهائية صِغر الصوت، ثم استراحة مع تناغم الورود ترجُّ لانهائية كِبر الكون المتكلِّم .نعيش حقا لحظة شيلي (ص 270)، حيث :”يتحول الضوء إلى حب”، نُهمس بالحب، وقد امتلكت أزهار الزنابق أصواتا مقنعة جدا تعلِّم الحب إلى الكون قاطبة .نسمع خطى ريح ساكن (ص 251 ). نسمع إيقاع المتصل :”مع حركة مماثلة لفكر هذه الريح التي تجعل خطوتها الناعمة، النوم أكثر عمقا”.

نموذج واضح جدا عن التطابقات، التي تشكَّلت في أعلى مناطق الخيال، ربما مستعارة من فيلسوف مجهول (لوي كلود دي سان مارتان) الذي ألَّف كتابا عنوانه : ”إنسان الرغبة ”(ص 101): ”ليس أبدا كما جرى الأمر في منزلنا القاتم، حيث لم تكن هناك إمكانية لمقارنة الأصوات سوى بالأصوات، والألوان بالألوان، ثم كل مادة بما يماثلها؛ في حين هنا يتماثل كل شيء”.

”يقدم الضوء أصواتا، يلد النغم ضوءا، للألوان حركة لأنها كانت حيَّة، وبدت الأشياء في الوقت ذاته رنَّانة، شفافة ومتحركة جدا  كي ينفذ أحدها إلى الثاني، ويجوب  بإشراقة كل المدى ”.

حينما نتعقب آثار صور بودلير، سننحدر صوب  قبو وجهات كي نعثر ثانية على الوحدة داخل العمق والليل. إنها حركة عكسية عند لوي كلود دي سان مارتان، تهتدي بنا نحو وحدة الضوء؛ أكثر تحديدا، التآلف بين الضوء، الرَّنين وكذا الخِفَّة مما يرسم ارتقاء مستقيما.

إن الدوران في السماوات على طريقة الشمس، يمثل مجرد إذعان  لصورة مرئية، لا ندرك معها البعد الجوهري للخِفَّة الإلهية. في المقابل، يتأتى مع الارتقاء المستقيم لـ ”قوى المناطق” المكتسَحَة، أن تدعم بـ ”أجنحتها” الروح؛ مثلما أمكنها تخليص أنْفَاسها من أدران لازالت عالقة بالروح جراء إدمانها النوم في العالم السفلي: “ثم بعد ذلك، أن يرسم الارتقاء المستقيم، بالأيادي النارية لتلك القوى، الإقرار الأصيل عن مبادرته، حتى ينفتح له سريعا مدخل باب  المنطقة الموالية ، وقد اختبَرَ هناك تطهيرا ومكافأة جديدين”.

تآلف التطهير والجزاء، ثم عمل خاصيات فيزيائية ومعنوية تبعا لـ ”خط الحياة هذا”، يحدد معالم تأمل شارد ديناميكي هوائي .يشكل ثالوث، الشفاف الخفيف وكذا الرنَّان، نوعا من الاستجابة المحدِّدَة للخيال. مثل هذه الاستجابات، الماسكة بين خيوط سمات متخيَّلة، تبلور هندسة مختلف الأمزجة الشعرية. ستكون لنا فرصة العودة إلى مقاربة هذه القضية.

وثائق مأخوذة من عمل في غاية التميّز كما الحال مع شيلي، ستبدو استثنائية جدا، بالتالي لن نكون مهيَّئِين كفاية بخصوص استيعاب استمرار انطباعات التحليق الحالم بين طيات التأمل الشارد اليقظ، إذا اكتفينا فقط باختبار القصيدة وحدها. سيكون حتما مفيدا أن ندرس، بناء على وجهة نظر الخيال الديناميكي، الملاحظات الموضوعية جدا للفكر البشري. لذلك، سنذهب كي نعثر ثانية، بين صفحات أعمال عدة لبلزاك، عن دلائل ذات خاصية نفسية فعلية لـ ”التعالي النفسي الذي نعيشه”.

مثلا يبدو لنا بهذا الخصوص، السرد الذي يحمل عنوان ”المحظورات’ ‘(6)، عملا دالا جدا .يظهر من الوهلة الأولى، أن الروائي يقبل ضمن صفحات معينة، صورا جاهزة كليا، ستوصف حتما بكونها مجرد استعارات شفوية. لكن، فجأة يصادف القارئ سمة لا تضلِّل  قط، لأنه حين اقتفاء أثرها نشعر بأن خيال بلزاك يواصل انطباعات التحليق الليلي.

إذن، حينما نستعيد تحديدا الصور التي بدت مزيَّفة مع معطيات الملاحظة الأولى، فسنكون مضطرين للاعتراف حقا بأنها تشكل جانبا من تجربة حُلُمية حقيقية. نتمرن على الحلم بالنص، الذي اكتفى النقد الكلاسيكي بفهمه ثم إهماله في نهاية المطاف. هكذا، حينما يخبرنا بلزاك بأن دانتي : “أقرَّ بإمكانية الوصول عبر الإيمان من دائرة نحو أخرى، وقد أمسك بالتوراة في يده، متساميا روحيا بالمادة، كما أضفى بعدا ماديا على الفكر”، إننا لا نبدي قط اهتماما بهذه المادة التي ارتقت روحيا أو هذا الفكر المتجسِّد، ويتجلى سريعا جدا كوننا ننسى أن نتخيل. نخسر مكسب خيال مادي يسمح لنا كي نعيش الحقيقة القوية لحالة تشكل عضوية وسطى تقف على مسافة متوازنة بين الفكر والمادة.

قد تبدو هذه الوثيقة فقيرة ولفظية. لكن إذا توخينا فعلا حاليا أن نعيش الكلمات، ونفهم حقا بأن دانتي الذي أنعشه بلزاك يتكلم فيزيائيا، ماديا، سنحقق لحظتها تلك الحالة الانتقالية لمتخيَّل فيزيائي بين المائع والمتبلور. فورا، ستتماسك مختلف المجازات وتبدو تلك المرتبطة بالطيران، التحليق، الارتقاء، تخفيف الوزن، كتجارب إيجابية نفسيا.

مثلا، ستتحدث هاته الإشارة، عن التوتر النوعي للتحليق(ص345 🙁 ”توتر متعب نعرض من خلاله قوانا حينما نتوخى الاندفاع، مثل طيور مستعدة للتحليق” .يمكننا، بالتأكيد عدم الالتفات وجهة هذه الملاحظة الديناميكية، وتأمل الأفكار فقط، والإيمان بأن وظيفة المجازات تكمن في الإيحاء بأفكار؛ حينها ستتوارى عن انتباهنا سلسلة ملاحظات نفسية، تتعلق بالمقاربة النفسية لمسألة الإسقاط.

بهدف التعبير عن تجربة إرادة الوثوب، وليس الوثوب، يحتاج التحليل النفسي إلى صورة ديناميكية نوعية جدا، في غاية الأهمية، مادامت هي صورة وسيطة بين القفز و التحليق، اللامتواصل والمتواصل. التوتر الذي يلزم بلزاك ترجمته، يمنح استمرارية إلى لحظة للتصميم. إنها وعي بقوة ستؤثر ثم تواصل مجهودا. يمسك بجوهر نفسية التصميم، بل يقف عند نواة التمثُّل والإرادة.

يعثر هذا الإسقاط على درسه الأول مع خيال التحليق الديناميكي. فلماذا لا تتحقق إذن استضافته؟ لذلك نجد في نفس الصفحة، إحالة واضحة على التحليق الحُلُمي :”كان الزمان عند نهاية اليوم، تحديدا ليلا. أحلِّق، محمولا من لدن مرشدي، تجذبني قوة تماثل تلك التي تبهجنا إبان أحلامنا، داخل دوائر لا تدركها أبصار الأجساد”(7).

يمثل تجلي رغبة التحليق عند عتبة الليل والنهار، علامة على هذا التسامي المركَّب بحيث تقود الخِفَّة إلى الضوء وكذا من الأخير نحو الخِفَّة، كما الشأن بالنسبة ل”التطابقات” الشعرية لدى شيلي. يفسر التسامي المركَّب الخاصية المادية وأيضا الديناميكية للهالة التي تحيط بهؤلاء الذين ”يصعدون”.

سيتناول القارئ الذي ”يفكر” سرد بلزاك، باعتباره تخيُّلا دون جدوى. لذلك، تسكننا رغبة أن نكون قارئا “يتخيل”، كي نستوعب بالمعنى القوي، أي الفيزيائي، السطور التالية: “إن هالة الإشراقة التي توشِّح جباهنا تنتشل الظلام عن طريقنا كغبار متناثر” .لنحيا إذن تطور المجرد نحو الملموس مادام يلزم دائما إحياء الكلمات بواسطة الصور.

 نزيل عن هامَتِنا غشاوة الظلام، أي نطرد ما يحزن النظرة، ونستبعد الهموم كأنها مجرد رماد، ودخان، بل مثل غموض بعيد جدا. هكذا، تتجلى هالة الإشراقة مثل تمدّد فيزيائي ناعم وتدريجي. تمدّد فكر يأخذ شيئا فشيئا وعيا بتجليه.

*هوامش :

مصدر المقالة :

Gaston Bachelard : l’ air et les songes ;1943.PP :57 -67.

(1)شيلي،ترجمة الجزء الثاني، ص 249، “ساحرة أطلس”.

(2)هل ينبغي التذكير،بأنه حسب نظرية ديكارت عن نشأة الكون،تمثل مادة السماء  مصدر دوران الأرض على نفسها؟ دليل على أن حدوس ذهن ساطع لا تختلف كثيرا عن رؤى شاعر.

(3)ألفريد نورث وايتهيد : العالم والعالم الحديث، ترجمة، ص 116 .

(4)بول دو راول :القصيدة الانجليزية من ويليام وردزورت غاية جون كيتس، ص.213

(5)بغية تقديم جواب على الاعتراضات التي وُجِّهت إلينا بخصوص توظيف مفهوم “كليانية معيارية الجمال”(Pancalisme) ،يلزم التذكير بالمصدر الذي استلهمناه منه ويتمثل في معجم  جيمس مارك بلدوين، بحيث سعينا تبعا لهذه المرجعية التأكيد على أن النشاط الجمالي يتطلع وجهة تحويل كل تأمل في الوجود إلى إقرار بكونية الجمال.

(6)بلزاك، المحظورات، باريس.1902

(7) ماريكوفسكي، دانتي، ترجمة، ص 449 :”تختلف كليا أجنحة دانتي المتوقدة، أجنحته الداخلية، عن أجنحة ميكانيكية، خارجية، كما الحال بالنسبة لأجنحة ليوناردو دافينتشي وكذا أجنحتنا”.

عن سعيد بوخليط

شاهد أيضاً

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *