غصت قاعة معهد العالم العربي في باريس في تشرين الثاني\ نوفمبر 2014، بجمهور غفير لم يعقه مطر باريس الغزير عن حضور الفيلم الوثائقي للمخرج السوري محمد على الأتاسي بعنوان (بلدنا الرهيب). الفيلم يجسد تجربة المفكر والمناضل ياسين الحاج صالح وزوجته سميرة التي اختطفتها جماعة مُتطرفة منذ أكثر من عام مع الناشطة رزان زيتونه وزوجها. بداية أشعر أنه من الضروري أن أشير أن عدداً من الحضور لم يتمكنوا من متابعة الفيلم لقسوته، لأننا فعلاً نعيش في بلد رهيب هو سوريا. لن أتحدث عن الجانب السياسي للفيلم، رغم أن ياسين الحاج صالح أعتقل، وهو في العشرين من عمره وطالب في السنه الثالثة في كلية الطب البشري لمدة ستة عشرة عاماً، وكتب تجربته الذاتية في كتاب من إصدار دار الساقي بعنوان: ستة عشرة عاماً في السجون السورية. لن أتطرق للجانب السياسي، لأننا اعتدنا على أنباء الاعتقال والسير الذاتية للمعتقلين، لدرجة صرنا نشعر أن الاعتقال في سوريا شيء لا بد منه، ومألوف كالخبز اليومي، وقد لا يعرف المواطن العربي من خارج سوريا كيف تعايش السوريون مع هذا الجحيم بأبشع صوره، أي، “الذل” حيث باتت هذه المفردة هي القاسم المشترك الأعظم للسوريين منذ أكثر من نصف قرن مضى، كلمة تعني في حقيقتها “الجحيم”، لدرجة أن اعتاد السوريون على عدم تسمية الأشياء بأسمائها، فصار المجاز جزء من نسغ حياتهم حين قبلوا، مرغمين لاشك، على تغيير الكثير من عاداتهم وأنماط حياتهم ومشاعرهم وغضبهم وأغانيهم وأمثالهم وحتى أسمائهم.. وكل شيء. ففي بلدنا الرهيب، أي سوريا، تختبئ الجرائم خلف البسيط من هذا المجاز: شح المياه وانقطاع الكهرباء المزمن والطوابير على الأفران ومحطات توزيع المحروقات ومظاهر البذح والفحش والمحسوبية.. إلى آخره من “الجحيم” اليومي العادي الذي يصبغ الحياة السورية بقتامة لا يقو على احتمالها أعتى الثوريين وأشدهم بأساً، على سبيل المجاز.
لهذا، لن أتطرق إلى مشاهد الدمار المروعة في دوما والغوطة، وعن تلك العدسة العبقرية التي أدمت قلوبنا وهي تسلط الضوء على جزء مهترئ من ستارة خضراء قاومت ولم تحترق لتشهد على بشر كانوا يسكنون في منزل تحول إلى أنقاض، وإلى أبنيه تكسرت جدرانها وسقوفها وبدت كقطع من البسكويت يفتتها ويكسرها بأصابعه طفل صغير . لم تُقصر الفضائيات في تصوير مشاهد الدمار المروعة في سوريا وغيرها، لكن تلك التفاصيل الصغيرة والتي تبدو للوهلة الأولى تافهة ولا تعلق في الذهن: كجزء من ثريا تفحمت أو رأس دميه محترقة الشعر كانت لطفلة آمنه تلعب بها قبل أن تفر من قدرها الأسود هاربة من البلد الرهيب، تذرع الآفاق سدى مع أهلها، وقد تكون قد ماتت وقُطع رأسها كدميتها أو تكون بائسة في خيمة نزوح ، مشاهد الدمار الفظيعة في دوما والغوطة وما يرافقه من كلام لياسين الحاج صالح وزوجته سميرة كما لو أنهما يعيشان حياتهما الطبيعية متجاهلين وجود كاميرا ترصدهما كل تلك المشاهد جعلتنا نتابع الفيلم وأنفاسنا مخطوفة والفزع يُطبق علينا كأنه مصر أن يدفعنا إلى الجنون لأننا نعي في كل لقطة وكل عبارة يقولها ياسين أيه حياة رهيبة نعيش ، أي خوف يُكبلنا وأي عذاب ينهشنا وأي دمار مادي ونفسي يلحق بنا، الفيلم ليس سوى إنعاش لذاكرتنا التي خدرتها المصائب المتلاحقة وأعماها الخوف، إنه أشبه بجرعة فيتامين قوية تهزنا من جذور أعصابنا لتضعنا أمام مرآة الحقيقة.
ما أريد التحدث عنه في هذا الفيلم الوثائقي الرائع “بلدنا الرهيب” هو قوة الإنسان التي جسدها ياسين الحاج صالح، لدرجة تساءلت مع كثيرين من الحاضرين كيف لا يزال يملك القدرة على المشي وعلى حلق ذقنه بأناقة كما شاهدنا في الفيلم وعلى الكتابة وعلى تبني مجموعة من الشبان بعمر أولاده ليدعمهم ويؤازرهم كي لا يسقطوا في لجة اليأس وكي لا ينحرفوا إلى العنف والإجرام والانتقامات، ياسين الذي هو نموذج للإنسان السوري الذي لم ينهار بعد سجنه سته عشرة عاماً، بل خرج من السجن مثقفاً من الطراز الرفيع ومتحرراً من الأحقاد ومؤمناً أكثر فأكثر بقضيته الإنسانية العادلة: الحرية والكرامة والعدالة للسوريين، وأكمل دراسته للطب رغم انقطاعه عنها سته عشرة عاماً، لكنه نذر نفسه للكتابة وللعمل السياسي لأنه يعشق وطنه، لكن يبدو أن القدر يهوى تحدي الأشخاص الأقوياء والمميزين، فبعد أن قرر وزوجته المناضلة سميرة أن يعيشا في دوما والغوطة وأن يساعدوا الناس المنكوبين، خُطف إثنين من إخوته في الرقة التي كانت تسيطر عليها داعش، فما كان منه إلا أن لجأ إلى الرقة –المدينة التي ولد وعاش فيها– عساه يصل لطرف الخيط ويعرف مصير أخوته وعاش تلك الأسابيع في الرقة مُتخفياً وهو يتأمل الوحوش المتعددة التي تنهش في جسد وطن مُستباح اسمه سوريا، في تلك الفترة تم خطف زوجته سميرة من قبل جماعات متطرفة في الغوطة، وخُطفت معها رزان زيتونه وزوجها. كيف يمكن لإنسان أن يتحمل كل تلك المصائب ولا ينهار ولا يفقد عقله، اضطر إلى اللجوء إلى المنفى لأنه لم يعد بقادر أن يقدم أي شيء في بلد الجنون والموت والدمار سوريا، واستمر في نضاله الأساسي الذي يسميه النضال الثقافي لأنه مؤمن أن الجهل والتخلف لعبا دوراً رئيسياً في وصولنا إلى ما نحن عليه، أكثر ما أعجبني في كلام ياسين إيمانه بدور الثقافة وبضرورة تغيير العقلية المتعفنة الأشبه بالبحيرة الآسنة. هذا الرجل الجبار: ياسين الحاج صالح مُحصن ضد الانهيار، يلعب لعبة لي الذراع مع القدر، لن ينهزم طالما لا يزال نبض في عروقه، يؤمن بالحرية والكرامة، ومن يؤمن بالحرية يعرف أن لا قيمة لعيش يشبه عيش دجاجات في قفص، بل تسهل التضحية بالحياة من أجل القيمة التي وجدنا لنعيشها: الحرية. كان ياسين في الفيلم مرآة كل سوري وسورية، فكلنا في مهب الجنون العاصف والشياطين التي تستبيح البلاد والعباد وتحول سوريا إلى بلد رهيب. وبعد أحب أن أكرر مع ياسين ما قاله في الفيلم بأن الجميع، كل دول العالم تريدنا أن نبقى في الظلام. ظلام العقل والجهل. وما من سبيل للنجاة من هول ما نعيشه سوى بالثقافة وتنوير العقل. تحية إلى الرجل الخارق ياسين الحاج صالح الذي أبدعت الحياة في تحدي رغبة الحياة والحرية في قلبه وانهزمت لأنه مؤمن حتى النخاع أن لا قيمة لعيش إلا بالكرامة والحرية ولأنه عاشق لسوريا التي لا يريدها رهيبة.