استهلال
هزاع البراري (1971) كاتب وروائي أردني، يحمل شهادة بكالوريوس علوم اجتماعية، مستشار سابق لوزير الثقافة و مديراً لمديرية الدراسات والنشر في وزارة الثقافة، عضو مؤسس لفرقة دقوس المسرحية. كتب العديد من الروايات الطويلة: الجبل الخالد (1993) ، حواء مرة أخرى (1995)، الغربان (2000)، تراب الغريب (2007)، أعالي الخوف (2014) ، تجاعيد الفراغ (2017)، كما كتب مجموعة قصصية بعنوان الممسوس (2001) وعدد من المسرحيات: العرض المجهول (1997)، حلم أخير (1998)، مرثية الذئب الأخيرة (2000)، العُصاة ( 2002)، الناي والنهر (2004) ، هانيبال (2005) ، قلادة الدم (2007)، بالإضافة إلى نشاطه في كتابة بعض البرامج الدرامية مثل دروب الحنة وأزمنة الحب والحنين و دفن المرحوم وغيرها
ميادة مصري (1972) من سكان بلدة كفرقرع في المثلث الشمالي فلسطين، تحمل شهادة بكالوريوس في الصعوبات التعليمية، وتحمل شهادة تدريس في نفس المجال، حاصلة على شهادة ماجستير في الفن والمجتمع، ناقدة فنية لها عدة مقالات في هذا المجال، فنانة تشكيليه، شاركت في العديد من المعارض الفنية محليا وعالميا من اهم المعارض التي قامت بها:
” بين الدوالي”، مركز السلام الدولي، بيت لحم، فلسطين، 2004
“خط وحروف ” بيت الكرمة، حيفا، 1999.
” ذاكرة المستقبل، باريس، 2007
” فلسطين حكاية ولون “، جامعة النجاح الوطنية، نابلس، فلسطين، 2017
” مهرجان الأردن العالمي للفنون التشكيلية، العقبة، الأردن، 2017
“لمعرض الدولي للفن التشكيلي، المركز الثقافي الملكي، عمان، الأردن، 2019
” بين الدوالي ” مقهى ليوان الثقافي، الناصرة، 2020 .
……………………
قراءة نقدية في رواية “أعالي الخوف “
صياغة تكشف عن محاور ذكي مؤسس على أفكار تقدمية ومواقف وانفتاح اتجاه الآخر
إشكالات اجتماعية وهموم ذاتية، وتملك تداخلاً بين القيم الفردية والقيم الاجتماعية
ومضات متفرقة تشترك بالبدء بفخ الأنا وسؤاله، ومحاولة تحديه والخروج من محدداته وكل ما يعفيه عن التهدد والخلاص
يصطحب الروائي البراري القارئ في نزهة عبر دهاليز رائعته “أعالي الخوف” الموحشة والممتعة في آن واحد عبر مئتان وخمسة صفحات، في إسهاب لسرد احداث بما فيها الزمان والمكان وجمالياته، ولا يترك شيئا إلا أن يقدم له وصفاً مفصلاً، تغوص بالقارئ في أعماق وسراديب بطريقة مشوقة حيث تتمنى أن تكون الرواية بلا نهاية. أما لوحة الغلاف فهي للفنانة التشكيلية القطرية أمل العائم، لوحة تجريده تظهر شخصية عملاقة من غير ملامح، وتثير تساؤلات عديدة، هل تدير الشخصية لنا ظهرها ولماذا؟ هل هي مثل حنظلة لا نستطيع رؤية وجهه إلا عندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته، وإنسانيته، إلى أين تنظر الشخصية؟ هل تتأمل؟ هل تقيم صلاة تأملية في الفضاء الواسع؟ هل يعتريها القلق والخوف؟ لما تضخمت؟ هل لضخامة الشعور بالخوف؟ لا شك أنها شخصية مسكونة بالأسرار! وقد تمثل جميع أبطال الرواية.
يبتدأ البراري برسم لوحته الخاصة “أعالي الخوف” بصورة كاملة ثم يعيد تفكيكها بالصورة التي يراها. وهو يمهد فيها لأسلوبه الفريد الخاص في الرواية، ليس هناك بداية لحدث معين، قد يبدأ من المنتصف ويتركك تترنح بين الماضي والحاضر، رغم أنك لا زلت هاهنا مكانك في حاضر غير معروف تحاول تفسير الصدف والصور والقصص معه، وتصل معه في كل هذا إلى “أعالي الخوف”. فقد توفرت في هذه الرواية طرائق عديدة لتلوين أجوائها وبث دلالاتها، فاشتغلت على مساحات متعاقبة من الجغرافيا والتاريخ، لقطع رتابة السرد وخلق أجواء جديدة، تحل محل القديمة التي قد يكون قد ملّها المتلقي (فتارةً يحدثنا عن العثمانيين وتجنيد جد الشيخ إبراهيم، “أحد ابطال القصة الأساسيين”، وعن حروبه في البلقان وإيطاليا، ونقل جده من السويس إلى الجبهة المستعرة مع روسيا القيصرية، وأخرى عندما نزلا في السويس، كانت الحرب العالمية الأولى في الرمق الأخير، في حين بسط البريطانيون نفوذهم على فلسطين، ويسرد لنا البراري كيف أن جد إبراهيم قطع مسافة إلى فلسطين سيرا على الأقدام ومن فلسطين عبر النهر إلى قريته بشرى) ، وتارة يذهب بنا إلى مصر ومدينة القاهرة بالتحديد ويصف لنا بالتفصيل مكان سكن إيناس زوجة الدكتور فارس “أحد ابطال القصة الأساسيين “فيقول شقتها في الطابق الثاني فوق صيدلية فؤاد في منتصف شارع “المرعشلي ” في الزمالك) وما بين وبين الماضي والحاضر يحدثنا عن عمان بأشكالها المختلفة: عمان القديمة والحديثة، المثقف الذي يترنح ما بين الحداثة والعولمة وما بين نشاءته القروية وما يحمل موروثات وعادات .كما أن الرواية “أزاحت” صوت الراوي، بما أضحى يسود عوالمها من حوارات تأتي على ألسنة متحاورين، يتكلم كل منهم بلسانه الخاص وهويته الخاصة، وقد جاءت الرواية على هيئة فصول بأسماء مختلفة، وعناوين أتاحت للروائي حرية الحركة للانتقال بالمتلقي إلى أماكن وأزمان مختلفة ومتعاكسة ، كسراً لسكون المتلقي، وتنويعاً على إيقاعه كذلك. فبعض العناوين جاءت على أسماء شخصيات الرواية (زينب، إبراهيم، بطرس، هديل..) وبعضها أسماء أماكن (مأدبا، بشرى وظلال أخرى، زنوبيا..) وبعضها إيحاءات وميزات لأبطال الرواية (قلوب تائهة، أرواح مشردة، يتامى، هواجس الروح)، وغيرها من العناوين التي تشير إلى الغموض (العودة الغامضة، النبوءة الغامضة، وحشة، السر..).
لا يكتفي الكاتب بتسمية الرواية “أعالي الخوف”، بل يقوم بإهدائها إلى “خوفهم يسكن وجداني” ليشكل الإهداء عتبةً أساسية للدخول في النص الأدبي، وسوف نتطرق، فيما بعد، إلى العنوان وإلى أي مدى ارتبط مع مضمون الرواية بتفاصيلها ومجرياتها وذكرياتها.
يحتاج القارىء، عند قراءة النص، إلى العودة، في كثير من الأحيان، للمعجم لمعرفة معاني الكلمات والمصطلحات التي وردت في الرواية مثل، كلمات: ملكوم، بقايا نخرة، كاس مترعة، نكوصاً.. وغيرها، ومفردات أخرى قوية دقيقة المعنى مثل كلمة لطيما (عند وفاة والدة الشيخ إبراهيم قال للدكتور بطرس صرت لطيما (وكان أبوه قد توفي من قبل)، فكثيراً ما نسمع الناس يقولون: هذا يتيم الأبوين، وذاك يتيم الأم، وهذا غير صحيح، والصواب أن (اليتيم) من فقد أمّه فقط، وأما (اللطيم ) فهو من فقد أبويه معاً، لكن الناس تسامحوا في الاستعمال اللغوي، فأطلقوا (اليتيم) على من فقد أباه أو أمه أو كليهما. ومن هنا فإن نرى نباهة البراري واستعماله المصطلح، بدقة، تتلاءم مع المعنى. كما أنه استخدم تشبيهات مذهله مثل “صوت خليل المؤذن ينساب رخيماً كسرب طيور مهاجرة” (ص21). لم تحبل الأرض بالفطر الذي يغني عن شحم اللحم“. و”المواسم شحيحة كحذاء ضيق” (ص51) وغيرها الكثير.
يستمد الكاتب أصالته من بيئته المحلية، إبداع مواز وانعكاس لها
اللغة السردية للرواية جاءت بصياغة تستجمع طاقاتها المباشرة والإيحائية بأسلوب تفصيلي لا يقدم المكان التجريدي، إنما المحتوى المعبر عن معالمه ومناخاته، وتبدو البنية الجمالية للمكان متوالية، عبر الوصف والحوار، للمكان والبيئة السلطة العظمى في خلق رؤية الإنسان وسلوكه وما هو عليه، وهذا ما يؤكده الكاتب في عمله الأدبي، فقد برز المكان ظاهراً جلياً في كثير من الأحيان، وقدم للمتلقي تفاصيل عن المكان والنباتات وبعض الأدوات التراثية الآيلة للاندثار.
إن استخدام الروائي لأسماء الأماكن التي ذكرت الرواية لم تأتِ بشكل عفوي، إنما بشكل مدروس، من أجل خدمة النص وانسجامه مع الأحداث المتلاحقة ومن أجل المزاوجة بين المجتمع التقليدي بعاداته المتبعة، والحداثة، ليمهد لنا طرحه لصراع العادات والتقاليد والخرافة مع العلم، على سبيل المثال اختار جبل اللوبيدة حيث المقاهي الثقافية ومراكز الثقافة وصالات العرض الفنية، واختار أيضاً ديمة لتكون فنانة تشكيلية، واختياره مدينة مأدبا لم يكن وليد مصادفة، إنما لأن المدينة مختلطة دينياً فعاش الدكتور بطرس المسحي، هناك، قبل انتقاله لطلوع المصادر في عمان، كذلك جبل القلعة التي تحمل معالم إسلامية وأخرى مسيحية، قرية بشرى حيث التقاليد والخرافة. وغيرها من أسماء الأماكن التي ساهمت في تشكيل الحبكة الروائية التي استنطق الكاتب إمكاناتها، على نحو يؤصل رؤيته السردية، وتمكنه من خيوطها، محققاً من خلالها منجزاً فنياً تجلى في استظهار العناصر في النسيج الاجتماعي المتعدد النماذج.
بعض النماذج مما جاء في الرواية:
نحن أبناء المدن التي لم تغادرها القرى، وتلك القرى تشبه بالمدن هكذا، نحن هكذا (ص24)
نذوب وتسيح حياتنا في شوق عمان، لا تعود تشبهنا أبداً، لا برد الشتاء العجول يعيدنا ثلجاً، ولا حر الصيف يحيلنا إلى بخار منتهي.
عمان الغريبة، امرأة متبرجة بالغموض والدهشة والبرودة (ص11)
جبُل القلعة مثل عجوز يهذي بالذكريات البعيدة، وكأنه مصلوب بعبث على هذا الجبل الكبير، يتكئ على تاريخ من المجد والأساطير رحل فيه الخلان وأكلت ْ النهايات ُ والخذلان، ويعيش حاضراً مأزماً المفجعة فيها رفاق َ العمر. (ص67).
أنا وحي جبل القلعة تقف وسط الوحشة والبرد، لا تنتمي لشيء فإلى اليسار تبدو عمان الشرقية بائسة ورمادية، إلى اليمن تلوح عمان الغريبة الحديثة باذخة. (ص74)
أشواك صحراوية، سيل صحراوي جارف وديان وجرف إكليل ورد جاف، الفطر، جريش الذرة، أشواك مرّار منسية، سنسله حجرية، الحوش، صندوق عروس منسي، قناديل كاز.
هكذا عكست الرواية الجانب الروحي للروائي وصلته بالطبيعة والمجتمع. كذلك من خلال وصفه لعمان مرة الباذخة وتارة بالغريبة الغامضة بحسب شعور شخصياتها وانعكاسا لأحاسيسهم وتفكيرهم وكيف أن المدينة حطمت أحلام شخصياتها، لأنها مثلت الضياع، والأرواح المشردة لدى أبطالها ليتبين لنا أهمية المكان في بناء الرواية، بالإضافة أنواع المكان الإقامة – الانتقال –المدينة – القرية – الاندماج بينهما والشعور بالغربة. (انتقال إبراهيم من قرية بشرى إلى عمان، انتقال الدكتور بطرس من مأدبا إلى طلوع المصادر).
وقفات فلسفية وأسئلة نابضة بالقلق الوجودي
تضعنا رواية “أعالي الخوف” أمام ظهور مجازيّ لأسئلة الذات وتشكل ملامحها بدقة، من خلال بناء روائي فذ وباستطرادات ووقفات فلسفية التي تجعل من الرواية درباً استكشافياً لكثير من المعاني والأسئلة. اهتم الروائي البراري بالأسئلة النابضة، في أعماق شخوصه. وبالقلق والخوف الوجودي إزاء العادات، والدين، والتعلم، والحياة الاجتماعية.. وسواها من التساؤلات الإنسانية، وأخرى فلسفية وجودية: الحياة والموت، مما أثرى العمل الروائي، وقد تجلى هذا بوضوح شديد في الحوار الداخلي الذي تنامى بشدة واضحة في أعماق أبطال القصة الأساسيين الثلاثة: الدكتور بطرس، والدكتور فارس، والشيخ إبراهيم، اللذين يحمل كل منهم سر وروح هائمة وغربة وتيه, فيقول الدكتور فارس: وحيٌد ومأزومٌ بأسئلة وأفكار أنا نفسي لا أعرف ما هي، صور مشوهة تلاحقني أنصاف جمل، حياة مبتورة، وأيام موتوره ألاحقها وتلاحقني، من أنا؟ كيف كنت؟ وأي مآل صرت إليه، حقّقت حلم غيري وخسرت نفسي (ص107).
ويقول الشيخ إبراهيم، الذي كان يعيش صراعاً بين الدين والدنيا: “شعرة معاوية، نعم أنا مربوط بشعرة معاوية بين الدين والدنيا، في عروقي كرامات وفي قلبي أرواٌح مقدسة، وفي عقلي جيوش ٌ همجية من الأسئلة المؤذية (ص87).
ـ تعالي معي يا أمي، تعالي معي، أنا وأنت لا ننتمي لهذا المكان، أشاحت بوجهها عني، وأشارت بيدها بأسف، اذهب ليس لك مكان في الدنيا إلا هنا. (ص 120).
أنا أتوه يا دكتور، أتوه ولا خلاص، لذا قررت أن أذهب في رحلة طويلة (إبراهيم يقول لفارس ص204).
-من هو الشيخ إبراهيم؟
ـ إنه سؤال أطرحه على نفسي، منذ مات أبي ودفناه في المغارة إلى جانب جدي، سؤال تتعقد آفاقه كلما مرت على السنوات، وركلتني لمزيد من أنني شخص يتمزق بين أفكار كثيرة الآن ُ العمر الضائع والفراغ، أشعر أتبعثر مثل مسحوقُ نثر في وجه العاصفة، لولا خوفي أن تتحول كرامة الأرواح المدفونة في مغارة بشرى..
(ص103).: «يا هذه الدنيا أما من عالم آخر أهرب إليه غيرك وغير الموت؟».
أمّا أم إبراهيم فهي كانت مدركة لتخبطات ابنها وتعي ما يدور من أسئلة وأفكار والتيه الذي يعاني منه ابنها الشيخ إبراهيم الذي أجبر على أن يكون شيخاً بالوراثة تقول له أمه.: يا قلبي عليك!،لم تتغير يا إبراهيم، مازال الضياع يسكن عينيك (ص122).
والدين في العقل يا إبراهيم، عقلك تائه، الأرواح الطاهرة التي تهجع في المغارة، لن ترتاح وأنت تتخبط في هذه الهواجس، اليوم أنت كبرت، لا تفجعني، بك ليس لي في هذه الدنيا غيرك (ص177).
الموت ُ وحده من يأكل من حياة الأحياء، يبقى الفقد ينهش في قلوبهم دون رحمة، فيأتي على شكل صور وذكريات تظهر في ليالي الأرق كأسراب حشرات ٍ تقتا ُت على أفكارهم، وتحول أحلامهم إلى كوابيس مؤلمة. أنا أمضيت ُعمري أهرب، ليس كهرب إبراهيم، ولكني أهرب بشكل محزٍن ولا يجلب غير المواجع والشعور بالندم (ص133 فارس).
ـ أنت تهرب يا دكتور، تهرب
. ـ أهرب من ماذا؟
ـ وحدك يعرف لكنك تهبر من شيء تحصن في داخلك ربما تهرب من نفسك (حوار بين نور وفارس ص133).
ها أنا الآن يا بطرس وحيد ٌ، أهيم في الحياة وتنهشني الأفكار، لا أبصر طريقاً لأضَع عليها خطاي، أسير وتسير معي خسائري وأحلامي الميتة. (فارس ص 205)
هذا هو إبراهيم شخص فريد، عقله حقل لأسئلة، وقلبه قلب طفل عامر بالطيبة والحب والخوف. (بطرس ص143).
ربما يا إبراهيم أنا خليل الأجدب، روحي هائمة لم تستقر ولن تستقر إلا بالموت، نعم بالموت، لأنهم حين اقتحموا عيادتي الفارغة، وجدوني جالساً بانتظار لحظة الإعدام، (ص194).
أنني لم أنضج بعد، ملامحي تائهة، مثَل هلام ينداح في الاتجاهات، لا طريق أبصرها، لا درب أزرع فيها خطاي، ها أنا أضع قدمي في الفراغ وأمشي، وأمشي(ص205).
إن هذه الأسئلة التي طرحت اتخذت شكل وجع انساني، متعدد المصادر، يتحكم بمسارات الشخصيات والمصائر. ووضعت القارئ أمام نماذج يعايشها أو تعيش فيه، فالشيخ إبراهيم هو شيخ معاصر يجمع بين العقل والدين يتمرد على عاداته وتقاليده ويهرب من لعنة المغارة الى المدينة ويحب مسيحية لكنه يبقى أسير العادات التي تحول دون تتويج حبه بالزواج، وهو إنسان منفتح على الآخر المختلف دينياً ولا تهمه التيارات السياسية المختلفة وكان يخوض حوارات فلسفية وجودية إلا أن الضياع والتيه رافقه حتى عند انتقاله الى عمان. كذلك فان الدكتور بطرس طبيب الأسنان لم يشفَ من ضياعه بانتقاله من مأدبا الى عمان، فالذنب لمقتل عليا رافقه إلى أن مات وبقي أسير الأسئلة والهواجس، أما الدكتور فارس، دكتور في الإعلام الذي حاول أن ينسى زوجته أقام علاقات متعددة خارج الزواج وحرص بذات الوقت على سمعته ومكانته الاجتماعية كدكتور محاضر في الجامعة، إلا أن الضياع والأسئلة الوجودية حاصرته. وقلقه الدائم من الانفصال حال دون ارتباطه الرسمي مرة أخرى.
هكذا ومن خلال أسئلتهم العقلانية وأفكارهم الفلسفية بيّن لنا الكاتب أزمة المثقفين في المجتمع العربي، عامة، والمجتمع الأردني، خاصة. وشكلّوا ثلاثتهم نماذج لأزمة الإنسان المعاصر الذي يعيش تخبطات وتيه ما بين الماضي والحاضر، ما بين العادات والتقاليد، ما بين الحضور والغياب، ما بين التناقضات الإنسانية والاجتماعية، بين المآسي والذكريات، ما بين ما نريد وما بين ما هو موجود، والقلق الوجودي.
الى اين ذهبت عليا!
تعالج الرواية قضايا عديدة في المجتمع ومن زوايا مختلفة منها، قضايا المرأة والشرف جرائم الشرف او القتل بدعوى الشرف وهي جريمة قتل يرتكبها غالبا أحد الأعضاء الذكور في اسرة ما او قريب ذكر لذات الاسرة بحق انثى او مجموعة اناث في ذات الاسرة لأسباب تتعلق بمفهوم شرف الاسرة وارتكاب الانثى او مجرد الشك في ارتكابها افعلا تعتبر حسب العرف الاجتماعي مخلة بالأخلاق والآداب المجتمعية مثل علاقات خارج إطار الزواج.
فمن خلال حديث الدكتور بطرس (أحد ابطال الرواية الاساسين) طبيب الاسنان، خلال عمله قام بمعالجة عاليا (فتاة بدوية) تعرف عليها وأحبها وبعد زياراتها المتكررة علم أهلها بذلك وحضر اخوتها للعيادة وقاموا بسحبها من العيادة يقول بطرس :”لا أعرف كيف لكنهم قتلوها، قالوا إنهم وجدوها غارقة في البئر، من الناس من قال سقطت في البئر وهي تخرج الماء بالدلو، ولم يكتشفوا سقوطها إلا بعد فوات الأوان، ومنهم من قال هي التي ألقت نفسها لأنهم أرادوا تزويجها بأحد الرعاة، ولكني أعرف أنهم رموها بالبئر، أو هددوها حتى هربت إلى الموت، ماتت وكنت ُ أنا السبب نعم أنا القاتل الحقيقي” (192)..
ـ نعم كان حظي وحظها عاثرين، لم نفكر بالعواقب، حتى اختلاف الدين لم يكن في البا ل، كنا غرقنا حالة غريبة وهجينة من العشق العذري المجنون، لم يكن من مجال للقاء والحديث، الا في العيادة، تكررت زيارتها إلى عيادتي، وإن كانت زيارا ت متباعدة (بطرس يحكي عن عليا ص190).
وبالرغم من ان لم يحدث بين عليا والدكتور بطرس علاقة جنسية وما شابه ذلك، وبمجرد ان سمعوا اخوتها ولو يتحققوا من شيء ولم يحاولوا بسبل أخرى تفهم الامر او إيجاد حل سلمي او غير ذلك يقول بطرس:
بينما نحن نتحدث، وأنا بالكاد لمست ُيدها، حتى باغتنا اثنان من إخوتها، كانا ملثمين، الشر يتطاير من أعينهم ألسنة نار مستعرة، هي لم تصرخ ِ، فقد تجمد ْت مثل مومياء يابسة، أحدهما سحبها من يدها بعنف.
نساء ضحايا علاقات اجتماعية
جريمة الشرف هي واحدة من مظاهر العنف المستشري في المجتمعات الشرقية والعربية تكمن في عمليات التميز بين الرجل والمرأة واعتبار الرجل هو المسؤول الأول والأخير في القيام بهذه المهمة، وكل ما يحدث على هذا القرار فهو جريمة قتل عمد وعن سابق تصور وتصميم لكن الخدعة التي نضحك بها على أنفسنا هي الصاق كلمة (شرف) ليبرر للقاتل فعلته ويزداد الامر خداع عندما نخاطب وبشكل خبيث عواطف الناس الدينية فنقول عن هذا المجرم، لقد اقام حدود الله وبذلك نضفي عليه براءة لم يكن يحلم بها، براءة بان تخفف حتى عنه الشعور بالذنب.
وكأن الروائي البراري يريد إيصال رسالة للمتلقي فيقول له: اما آن الأوان لكشف هذا الخداع والزيف فالشرف هو الحق والعدل وليس جسد المرأة، والدين الإسلامي أسمى من ان يمنح مجرما صك براءته. تناولت الكثير من الروايات والاعمال الدرامية والسينمائية الكثير من الاعمال المتعلقة بجرائم الشرف منذ عقود، والتي ما زالت قائمة حتى اليوم ونطالعها كل ساعة. هذه الظاهرة ليست اردنية فقط، بل تمتد على مساحة التخلف العربي وقد تجلى ذلك خصوصا في الابداع السردي الروائي، ولا شك ان الرواية هي من بين أكثر أنواع الابداع قدرة على التعامل مع مثل هذه الظاهرات الاجتماعية، واحداث فعل التأثير لتغيرها، وربما تساهم رواية ” أعالي الخوف ” للبراري مع غيرها من هذه الروايات في الغاء او تغير العقوبات المختلفة عما يسمى ” جرائم الشرف “. ومعالجة هذه القضية من خلال بشكل اخر، أكثر وعيا، من خلال هذا الطرح نأمل تغير الواقع ليكون أكثر إنسانيا.
الحب المحرم
لم يكن السبب الوحيد للخلاص من علاقة بطرس وعليا هو فقط العادات والتقاليد انما الحب المحرم الذي قاد الى التهلكة، فهو مسيحي وهي مسلمة، رغم حالة التعايش التي تغلب على العلاقات المسلمين والمسبحين بالذات في الأردن الشقيق، الا ان زواج الشباب والفتيات يكاد يكون مستحيلا، إذا ما كانا ينتميان لديانتين مختلفتين، وفي بعض المناطق ينتهي الامر باشتباكات دامية.
الحب هو المتهم الحقيقي وراء معظم حوادث الفتنة الطائفية في الفترات الأخيرة بالذات لكن المثير ان لا أحد يذكر هذا صراحة، بالرغم من ان هناك أسباب أخرى لأحداث الفتنة الطائفية، منها خلافات الجيرة العادية والنزاع على الأراضي وما الى ذلك، ولكن الحب هو السبب الذي تعزف عن ذكره التحقيقات بالرغم من انه يشكل عاملا رئيسيا في اندلاع الكثير من حوادث الفتنة.
يقول شقيق عليا لبطرس: الذي همس ولهيب الغضب ينسكب مع حروفه: «ستموت، ستموت كل يوميا بطرس النصراني، ستموت. (ص192).
وهكذا تنبه هذه الرواية بطريقة غير مباشرة لمسالة مجتمعية، وخاصة انه في الآونة الأخيرة، شكلت مواقع التواصل الاجتماعي أداة سهلة لنمو هذا النوع من العلاقات، لكن التواصل السهل بين الفتيان والشباب من ذوي الديانات المختلفة اقترن في الوقت نفسه ينمو في نزعة التعصب وعدم التسامح. هكذا كانت نهاية علاقة عليا وبطرس فقد كانوا اخوتها سببا في عقب رجولة الدكتور بطرس، فأصبحت روحه متعبة تائهة وعلق بطرس صورتها في عيادته (معبده كأنها الهة) لتذكره بذنبه وليتذكر تمردها، ويترك البراري للقارئ التأمل في نتائج الاحداث.
شغف الأبناء وسلطة الاباء
صراع الاهل والابناء على التخصص الجامعي من المواضيع التي لا تزال قائمة وبشكل كبير في مجتمعاتنا وقد تناولها الروائي البراري في روايته، فأبطال الرواية الثلاثة لم يقموا باختيار تعليمهم بمحض رغبتهم وارادتهم وقد حدد مستقبلهم التعليمي سلفا مما أدى الى نتائج وانعكاسات اثرت كثيرا على حياتهم. فمهنة الطب لبطرس كمهنة والده، والشريعة للشيخ إبراهيم ارثا عائليا لأباء إبراهيم والدكتوراه حلم والد فارس.
يقول إبراهيم أحسست أن أبي الشيخ غيث، يلبسني عباءة ليست لي (ص63)، بعد المدرسة حلمت ُبدراسة الفنون الرسم أو المسرح، لم أفلح بحصة رسم، ولم أقف ممثلا ً يوماً في حفل، بالكاد يجبرني معلم التربية الإسلامية، لأتلو شيئاً من القرآن في الإذاعة المدرسية، لجمال صوتي وحسن قراءتي، ربما لولا أني ابن قرية مكبلة بالعيب، وسليل شيوخ أجلاء، مكللين بكرامات أسطورية، لغنتي ُوابتهجت روحي المواويل، الفكرة وحدها بدت مرعبة وقاتلة، لم يتحرك لساني يوماً بمطلع أغنية وإن كانت روحي تواقة، يهزها أنين ناي، ويشجيه موال حزين (ص176).
قالت لي امي:
- ان لم تدرس الشريعة، وتتفقه بكتاب الله، سأتبرأ منك الى يوم الدين.
- اما بطرس فيقول ” تعرف دكتور فارس، أبي لم ينجب غيري، لا أعلم السبب، لكنه لو تصور يوماً أنني رهان خاسر، بيضة خداج، كان أنجب قطيعاً من، فأوقف حياته وحياة أمي من أجل الأرواح المترعة بالحياة. حلم بي طبيباً ذلك كنت ُ حياتهما، لحظة الفرح المؤجلة. لذا سافر ُت عند أهل أمي في روما، ودرست طب الأسنان، عد ُت إلى مأدبا وكنت أول من افتتح عيادة لطب الأسنان في القرن الماضي، سخر مني الغجر ممن يمتهنون طب الأسنان بالوراثة، بعد سنوات من الكساد والضيق، بدأ الناس يقتنعون بجد ويهذا الطب (بطرس ص142).
ويتحدث الدكتور فارس فيقول:
أما أبي فكان لا يفكر في شيء من هذا، لم يتزوج، بقي يحلم بي ويحلم من أجلي، أرادني أن أكمل دراستي وأكون دكتوراً مدرساً في الجامعة..
. يا إلهي ما أقسى حلمك علي يا أبي وما أطوله!! أنا كنت ُ ملولا لا أحب ان اختنق بسياج الوقار الأكاديمي، ولا رغبة لي في ذلك، لكن من أجل حلم هذا الرجل الصامت والحزين، الذي خسر حياته كما خسر َمعاركه العسكرية، من اجل ان يرحم صدوَع روحه الكبيرة، قلت: نعم سأفعلها امن أجل فرح قليل يؤنس به اواخر أيامه (ص149).
هذه الشها ُده اللعينة جلابة للخراب والنزف، تمنيت ُ التخلص من هذه اللعنة، لو كان بإمكاني أن أ َعيدها من حيث ُنلُتها، لكنه قدٌر مسعور، يفتك بحياتي ُمنذ صغري، والآن استشرى بي حد التوحش، (ص151).
بهذه الكلمات استنطق البراري شخصيات روايته ليعبروا عن سخطهم ولومهم للأهل في اختيار دراستهم العليا واجبارهم عليها، وان تسليط الروائي على نمط التوريث العائلي في اختيار الدراسي ليصبح الأبناء نسخة عنهم في العمل او ان يحققوا حلم الاهل الذي لم يستطع الاهل تحقيقه لهو امر في غاية الأهمية، علينا الانتباه الى عواقبه ومدى تأثيره على ابناءنا.
ان السلطة الابوية تقوم بإجبار الأبناء على تخصصات لا يرغبون بها مما يؤثر سلبا على حياتهم الوظيفية وبالتالي على مستقبلهم وحياتهم بصفة عامة. خاصة ان نظرة المجتمع هي التي تسيطر على عقول الناس في اختيار الوظائف الصعبة ذات ” المركز العالي اجتماعيا ومن ناحية راتب ومكانة اجتماعية والنظرة على المسمى مثل ” الدكتور ” هو اختيار شكلي بحت.
ان التدخل بمصير الأبناء دون النظر الى ميولهم ودون الاخذ برأيهم يؤدي الى مشاكل نفسية عديدة، قد تصل بهم الى الاكتئاب وغيره من سلوكيات خاطئة ويقتل عند الأبناء الرغبة في الإنجاز وتحقيق الذات ورأينا في الرواية فارس وبطرس وإبراهيم يقول فارس: انا أستاذ جامعي في الإعلام هذا هو الزيف، لكن الحقيقة أنني وهم، كائن من فراغ (ص14).
الأكاديمي الذي تعب وتعلم وثقف نفسه ثم أخذ زاوية أو عموداً في جريدة يومية، يصبح مثل امرأة نالت أعلى الدرجات العلمية، ثم تزوجت ْ وجلست في المطبخ، الكتابة اليومية تصبح مجرد عادة واجترار بال طائل أو أثر. (ص49).
ماذا بقي مني الآن؟ عقلي تائه منذ وعي بعيد، وقلبي اليوم صار سفينة في محيط مظلم بلا بوصلة (إبراهيم ص131).
ويقول بطرس لإبراهيم: ربما ما كان عليك دراسة الشريعة، أنت خلقت للفلسفة، ربما يا إبراهيم لو درست الفلسفة الآن، كن َت ستحسم أمرك، كما فعل الأب ميشيل (ص91).
جعل ابناءهم ” نسخ عن احلامهم مما يؤثر عليهم مستقبل
ان ما يهدف الكاتب الى قوله للأهل كونوا” بوصلة بحار لهم ولا عصا اعمى” ولا شك ان بحكم تخصص الروائي سابقا في العمل الاجتماعي له تأثير كبير بحيث بحكم تجاربه العملية في تعامل مع الاهل وتوجيهم للاعتماد على أسلوب الحوار والنقاش الهادف الى الاخذ بعين الاعتبار شانيتهم وتفكيرهم وضرورة اثبات هويتهم فعلى الأبناء الاختيار وعلى الإباء تقديم النصح والإرشاد والتوجيه الصحيح والمساعدة بالشكل المتوازن لمساعدتهم على حسن الاختيار.
صراع بين التنوير والجهل بين التحليل الفلسفي والخرافة
يقف الكاتب عند بعض الاساطير التي باتت في عمق الذاكرة الثقافية والاجتماعية للمجتمعات العربية، المتمثلة في الفأل والخرافات التي تصل الى الغرائبية، حيث تنتشر الكثير من المعتقدات والأعراف المتكئة على الخرافات والتهيئوات والخزعبلات. هذه الظاهرة برزت لاعتقاد الانسان بالحاجة لها من اجل التغلب على مصاعب الحياة والدفاع عن نفسه، لما لها من طاقة وقدرة على جعله قادرا على العيش في المجتمع.
ومن هنا جاء التدين الشعبي أيضا وهو عبارة عن ممارسات توفيقية متوالدة من عملية دمج الدين والتراكم التاريخي للعادات والأعراف الاجتماعية التي تحدد طبيعة الانسان ويدخل في اطاره الادب العام والتعاملات اليومية، مرورا بالمعتقدات والمعارف مثل الاعتماد القوى الخفية والتبرك بالأولياء، وهو مؤسس على تجارب روحية شخصية وذاتية والارتباط بالموروث الديني والايمان بالبركة والخوارق.
“اسرار غامضة وكرامات نبت في العائلة فجأة جلبها جدي من مكان مجهول (إبراهيم ص119)
“السحرة يفرون الى الكهوف المعلقة في صدور الجبال العارية والرعاة يواقعون الحم تغافلا ” (ص51).
“صار يلاحقني كرصد يهودي، قرين لا يرحل ولا يؤذي ” (ص157)
(الرصد اليهودي “الحارس: جني او ثعبان يقوم بحراسة المال من أي عابث او أي شخص يحاول ان يصل للكنز، فيمنعه الحارس او الرصد / أخطر هذه الأرصاد هو الرصد اليهودي وهو أخبثها وامكرها وأقبحها وأصعبها).
لعنة العمشة
العمشة: تطل مثل حلم غامض، أصنع ملامحها من مخيلتي، لفترة طويلة من طفولتي، وأنا أظن أن العمشة عندما ماتت تحولت إلى غولة تتحصن في المغارات بالمنحدرات الغربية، تتربص بنا نحن الأطفال الأشقياء، لليوم أعتقد َّأن غولة ما ستنهيني ذات يوم.
خليل رجل مخبول من قريتي «بشرى» فجأة صار مؤذن المسجد هنا، قدر ما أم صدفة غريبة، أم…؟؟، يعمل متطوعاً بقوت يومه. (ص23).
قال ذلك وابتلعت برودة الفجر، بدا فيلسوف، وكان الجنون دفعه للتفكير في الحياة بطريقة أخرى (خليل ص104)
ـ خليل لم يكتفي بكونه أجدب يلقي النبوءات جزافا، وروح تعيش على خشاش الأرض، وتتوسد العراء لتنام، أراَد أن يكمل أسطورته، أن يترَك لنا سؤاله الواخز، وحياته الأغرب، لا أحد يعرف كيف ظهر متسولا ً في القرية، فطاب له العيش في أحد كهوفها الغائرة في أطراف المنحدر الغربي، ومع الأيام صار جزءاً من مكونات حياة «بشرى»، ثم التصق بي لرأفتي به، لكنه لم يرأف بي حين كبرت ُ.
مات خليل، «بشرى» خسر ْت شيئاً من روحها، اليوم دفنا ما بقي لهذه القرية من بركة. (ص159)
انا قلت في نفسي: عليا البدوية وخليل الأجدب لغزان يفتكان بنا، ربما كانت ْ العجوز العمشة، والتي تحولت إلى غولة مخيفة، هي من تسيرهما بقواها السحرية ولعنتها المختبئة في كهوف جروف ” بشرى “(ص191)
الشيخ لم يظهر ثانية، ذاب كفكرة كريهة، لكن خليل الأجدب لاحقني هذه الليلة، خليلا لذ يظهر منذ أسبوعين فجأة، وتطوع ليؤذن. لأذان في المسجد، جاء ورائي من «بشرى»، كيف استدل علي؟ لابد أن في الأمر سرا
- يا إبراهيم انت مولع بالأسرار، الصدفة تصنع كل شيء
القدر يصنع كل شيء
لن نختلف على الاسم
والمبدأ غير الاسم
(حوار بين إبراهيم وبطرس ص26)
هكذا نرى الشيخ إبراهيم امام المسجد الذي هرب من لعنة المغارة التي سكنها جده وابوه، لكنه كان يامن بالأسرار والخوارق رغم تعلمه فهو ترعرع في بشرى حيث عاش والده في المغارة فكانت الرواسب للموروثات والعادات الشعبية تتغلغل اعماقه بالرغم من دراسته للفلسفة.
طقوس من الموروث الشعبي
تواصل الرواية مشوارها الطقوسي من خلال رواية الطقوس والموروث الشعبي الساكن عميقا في جذور مجتمعاتنا، ومنها الأغاني الشعبية الطقوسية مثل القيام بصلاة الاستسقاء، التي تقام عادتا عند انحباس المطر، فيلجأ القروي الى الله من اجل الغيث.
استطاع البراري ببراعته ا وبإطلاقه اسم غيث لابن الشيخ إبراهيم ان يوظف الاسم لطلب الغيث، ليأتي الغيث من السماء ويكون غيث في الأرض يغيث الناس تحل به البركة وتعم على الجميع.
“يا أم غيث، احتجبت السماء، وجفت الآبار عطش الشجر ومات الزرُع، وضمر الضرع، فمنذ مات صاحب البركة لا مطر ولا بيادر فاغيتينا يا أم غيث” (ص59).
في الصباح خرجت ْ الأم إلى المغارة فوجد تْ الطفل نائما ً مكان والده، ا ومن حوله الرجال يتهيؤون لصلاة الفجر. النساء «الغياثات” خرجن مع خطوط الفجر إلى التلال القريبة يغنين َطلباً للغيث،
اختلط غناء «الغياثات بأنين النايات، وتشققت الأرض ببكاءٍ يمزُق القلوب َويجرح الحناجر، عندما تعبن من. والرجاء، جلست ْالعجوز «العمشة» القرفصاء، ٍكبيرة، ودخلت ْبنوبة عويل مؤلم، كان صوتها مرتفعاً ومفزعاً على صخرة النساء هرعن إليها بعد أنأخذ ْت تمزق ملابسها، كاشفة عن رأسها، وقد بدأت تنتف شعرها بقوة.
قالت احداهن:
العمشة انجنت
ردت أخرى
انها تبكي الموتى، لم يبقى لها عزرائيل من أحد.
تجمعن حولها، يهدئنها ويسترن ما كشفت من عورتها، فقالت امرأة
الموتى لهم الرحمه: ونحن كلنا اهلك.
صمتت فجأة، وقالت كأنها لا تكلم أحد.
انا لا ابكي الموتى، بل ابكي الاحياء الموتى (ص60)
وبعد انتهاء النساء من الغناء وطلب المطر امطرت السماء وكتب الروائي:” هكذا عمد المطر الطفل غيث، ليصبح الشيخ المبروك غيث “. (لن نخوض هنا موضوع التعميد ومعانيه حسب الديانات المختلفة لان الموضوع واسع جدا وشائك).
هكذا ومن خلال والوصف التفصيلي لطقوس صلاة الاستقاء اضفى الروائي جماليات أخرى للرواية وتنويعا يكسر الرتابة ويعرفنا الى بعض الطقوس الجميلة، حيث روح التعاون والمحبة بين القرويين والتكاثف من اجل الجميع.
هواجس واسئلة في المعتقد الديني
الدين والتابو الاجتماعي
التابو الديني يحرم النقاش في الدين الا عبر أبواب مغلقة
ورث الشيخ إبراهيم التدين عن والده الشيخ غيث، ولما كبر تركت مشاعره بالقلق وجال في عقله التساؤل، كلما أراد ان يسال فلم يجد مجيب، كلما ترك لسانه بالاستفسار والمناقشة الا وأغلقت الدائرة من غير إجابات.
يقول الشيخ إبراهيم: في الجامعة بدأ ُت بقراءة الأساطير والفلسفات، كنت أقرأ والاسئلة تتفجر وتفجرني، فأحا ُصر المحاضرين بالأسئلة المزعجة، حتى ناداني ذات يوم أستاذ العقيدة بعد المحاضرة، تبعُته إلى مكتبه، بعد أن وضَع حقيبته على طاولة المكتب، جلس وتأملني، ثم سأل (ص177)، ثم سال المحاضر الشيخ إبراهيم:
ـ لماذا تدرس الشريعة؟ ـ إرث العائلة، جدي وأبي رجال دين
ـ وأنت؟
– أنا؟
ـ يا ابني رجل الدين لا تفتنه الأسئلة، هو رجل استقر الإيمان َّ الصافي في قلبه ونطَق به لسانه، أنت مشو ٌش وضائع، لم يستقر فيقلبك.
إني أحاول، أبذل جهدي
انت تبذل جهدا في الاتجاه الخاطئ، الأسئلة هذه ضد اليقين، ستصل بك الى الهاوية، انصحك بحضور حلقات في العقيدة وفكر الدين، انضم الينا بعد صلاة العصر كل خميس وجمعة، وانغمس في جوهر الدين، وغادر اسئلتك هذه فهي مهلكة. (ص178)
لماذا يخاف اهل الدين من السؤال؟
قضية الصراع بين من يطلب الدليل في مقابل من يريد التسليم الاعمى، هي قضية كبيرة موجودة في تاريخ البشر، في شتى المذاهب والأديان. وهناك صراع دائم بين الباحث العاقل الحر الذي يعيش ولاء عقله وبين بعض كهنة الدين الذين يقولون لك (اغلق عينيك، هذه إرادة الله)
يرى الكثير من الباحثين في الفلسفة، وعلم النفس والاجتماع، ان الانسان إذا وجد أسئلة ولم يجد لها جوابا، اخترع لها ما يجيب عليها. ومع تطور المجتمعات وتطور البشر زادت المسائل تعقيدا. ومع هذه التغيرات والتفكير في الأسئلة التي لا يجد لها أجوبة وعجز عن إيجاد التفسير لجا الى الغيب لتفسير الواقع، لكن الإسلام جاء امرا لنا بان نقيم اعتقادنا على ادلة يقينية، فدين الإسلام هو شريعة وعبادات واخلاق ويشترط الدليل ليبني عليه الايمان، ولا يستقيم الا بالدليل والبرهان واتباع العقل في اصوله.
قال العلماء ان اول واجب على الانسان هو النظر، أي التأمل والتفكير للوصول الى معرفة الله عز وجل.
يقول تعالى امر الناس بأعمال العقل (افلا تعقلون) (افلا تنظرون) (لعلكم تعقلون) (لعلكم تتفكرون).
فهذه الآيات صريحة في بيان أهمية العقل، واعمال العقل في الفكر والتنوير في خلق الله تعالى طالبا الأدلة اليقينية على وجود الله تعالى وتوحيده.
ديننا متين مؤسس على قواعد راسخة من الأدلة العقلية والمنطقية، فلا يرهبنك مجتمع جبل على التقليد، واعتاد ان يكبت غيره وان لم يأمره الله ان يكفيه، ان الانسان يمتاز عن غيره من الكائنات بالعقل، وان وجود العقل شرط ليكون الانسان مكلف بالدين، وان التقليد في العقائد (التي هي أساس الدين)، لا يجوز، بل لا بد لكل انسان ان يؤسس ايمانه على الأدلة، وأشار القران الكريم في آيات كثيرة الى ذلك.
لكن إبراهيم بدلا من ذلك بدا يجالس المنخرطين في العمل السياسي ووجد نفسه صديق لليسارين، وخاض معهم حوار في الفكر الماركسي والفلسفات التي أسست لهذا الفكر، وكانت هذه الحوارات تشبع روحه وتدهشه.
علاقات الدكتور فارس مع بعض الشخصيات النسائية في الرواية
الدكتور فارس اسر قلوب النساء ومتعدد العلاقات بذات الوقت
نساء كن ضحية للعلاقات اجتماعية مسببة للقهر
هديل – طالبة ماجستير ارملة لديها بنت مراهقة، هديل امرأة مقهورة اجتماعيا تعاني فراغا أسريا، اقامت علاقة مع الدكتور فارس، وربما كان هذا تنفيس شعوري ملئ بعض الفراغ العاطفي الذي تعيشه محاولة الخروج عن الأعراف بقناعتها ان لها الحق بذلك. وهذا أدى الى التجاذب العاطفي للدكتور فارس.
قالت هديل: لأنها الحقيقة، أنا امرأة واقعية، امرأة بالأربعين وأرملة، ولدي ابنة تقترب من المراهقة بخطوات متسارعة، هذا واقعي الّذي أعيشه، عد ُت للّدراسة لأطر َد الوحدة والسأم اللذين تكاثفا في حياتي ُمنذ موت زوجي بحادث سير، لن أترك ابنتي وأتزوج، ولكن قلبي يحب، وجسمي يشتهي، سأكون دكتورة، أنا أستحق ذلك، أتعرف فارس؟ (ص114).
لكل امرأة دورها في المجتمع، ولكن الأرملة ضحية هذا المجتمع السليط بلسانه، ونظرته المخيفة التي تتعرض لها تحت اسم المعتقدات والتقاليد القديمة، وعلى الرغم من أن الشرع أحلّ لها الزواج، غير أنها تحظى بمزيد من الاحترام لو أوقفت نفسها لأولادها وتفرغت لهم ورفضت الزواج بعد وفاة زوجها.
لا يراعي المجتمع الفطرة البشرية والناحية النفسية التي تتعرض لها الزوجة الأرملة، كذلك الفراغ العاطفي، وهنا تأتي حاجة المرأة لملء هذا الفراغ، لكنها تخضع، في الوقت ذاته، لرقابة صارمة، لاسيما إن كانت لم تزل شابة، وبالذات إن لم تنتقل إلى العيش في بيت أهلها. لهذا قد تعيش الأرملة صراعاً قاسياً، أو قد تجد مخرجاً، مثل هديل التي لم تتزوج وبقيت ترعى ابنتها لكنها أقامت علاقة غير شرعية مع الدكتور فارس. وهنا تطرح الرواية هديل كأنموذج للمرأة التي ترتكب أفعالاً تعتبر مخلة بالأخلاق والآداب المجتمعية، حسب العرف الاجتماعي، مثل العلاقات خارج إطار الزواج، وبذات الوقت يبين لنا الكاتب الأسباب التي جعلتها تسلك هذا المسار. ويلفت نظرنا إلى وجوب المسؤولية الاجتماعية والدينية في هذه الشؤون من أجل حماية المرأة واعطائها حقها الشرعي والاجتماعي.
من النساء اللاتي كنَّ على علاقة مع الدكتور فارس، الفنانة التشكيلية ديمة، ونور (طالبته التي تركها خوفاً على مركزه كدكتور جامعي رغم أنها حاولت إغراءه)، إيناس زوجته (التي أصرّت على الطلاق، بعد مرضها بسرطان الرحم، وعدم قدرتها على الإنجاب). حيث أدى انفصالهما، بالرغم من زواجهما على إثر علاقة حب، إلى التسبب بشعور القلق الدائم والخوف من الانفصال لديه، لهذا لم يتزوج مرةً ثانية، وفي المقابل، كانت له علاقات عديدة خارج الزواج.
ومن الشخصيات النسائية التي ذكرت في الرواية كانت الطالبة ديانا قدري وعلاقتها مع الشيخ إبراهيم زميلها في الكلية. كانت ديانا شيوعية وخاض معها، الشيخ إبراهيم، نقاشات فكرية، ولم يكن يعرف أنها مسيحية إلا عندما أرادت أن تسافر وأهدته صليباً ذهبياً مع سلسة ذهبية ناعمة، فجعل الصليب سرّه، قام بلفّه بقطعة قماش حريرية وخاطه مثل حجاب، ووضعه في جيب قريب من القلب.
إن الشخصيات النسائية التي ظهرت في الرواية كانت متعددة النماذج تتشابه بعض الصفات وتختلف أحياناً، فجاءت نماذجها ممثلة معظم فئات المجتمع النسائية، معبرة عن روح العصر الذي تعيش فيه، وممثله لفكره، ومترجمة للعديد من الظواهر الاجتماعية، ومعبرة عن رؤية الروائي الشمولية المعمقة للواقع الذي يعيش فيه. فظهرت الأرملة هديل، الزوجة إيناس، الفنانة ديمة، الطالبة الجامعية الشيوعية، البدوية عليا، القروية زينب، العمشة الخرافية. كما نرى أن شخصيات الرواية قد تحمل أحياناً عدة أدوار: المرأة، الأم، المرأة الضحية، المرأة المتمردة، المرأة المثقفة، المرأة العاشقة، المرأة المهمشة.
تهميش النساء
أما نساء العائلة فمجرد هامش صامت، أمي زينب أمي مرهونة لأمر راهبات من أجل شيء لا يعلمن منه شيئاً ما َّفي، كانت تقول لـ (إبراهيم ص119)
تغيب المرأة من الشأن الاجتماعي نتيجة لحرمانها من تحقيق ذاتها في مقابل منح الرجل مساحة الحضور كاملة. لقد قامت والدة الشيخ إبراهيم على رعاية زوجها الشيخ غيث العجوز التي تصغره بعدد كبير من السنوات، فكان دورها تنفيذ الطلبات ورعاية شؤون البيت، وليس من حقها أن تسأل أو أن تناقش أو أن يكون لها رأي، وهي على علم ودراية أن ابنها ليس لديه أي ميول ليكون شيخ أو أن يسكن المغارة، وأنه مختلف عن أبيه وجده، لكنها صمتت ولم تحاول مساعدته في تحقيق رغبته، أو حتى أن تتفهم الاختلاف بينهم وتتقبله.
يقول الشيخ إبراهيم: تعالي معي يا أمي، تعالي معي، أنا وأنت لا ننتمي لهذا المكان، شاحت بوجهها عني، وأشارت بيدها بأسف أنا عشت هنا، وسأموت هنا، لأدفن في مقبرة القرية قرب زوجتك التي ستأتي يوما.
ملخص
أبطال الرواية الدكتور بطرس طبيب أسنان، الشيخ إبراهيم، الدكتور فارس، دكتوراه في الإعلام، إبراهيم وفارس مسلمين وبطرس مسيحي، بطرس وإبراهيم كل منهما وحيد لأهله بطرس وفارس يتمين، فارس مات والده ثم التحقت به أمه وأصبح لطيماً فيما بعد، الأبطال الثلاثة أصحاب قلوب تائهة، لم يكونوا راضيين عمّا هم عليه، لم يختاروا وظائفهم، لم يهتموا للاختلاف الديني بينهم، اجتمعوا بعد أن عاشوا فصول حياة متوترة، قاطعتها المفاجآت القدرية، عاشوا حالة هروب من واقع أسري، خاضوا حوارات فلسفية ووجودية، عبّروا من خلالها عن أفكارهم ومعتقداتهم وقناعتهم المتناقضة أحياناً، وعبروا عن قلقهم الوجودي، وضياع هويتهم الفردية وعاشوا تنكر للذات وسط مجتمع قمعي حرمهم من أبسط الحقوق الإنسانية، اختيار المجال التعليمي، اختيار المهنة، اختيار الزوجة. وعاشوا صراعاً بيّناً وهواجساً وأسئلةً في المعتقد الديني وبين الحياة والموت، وتعريةً لبعض العادات التي تفضح القمع وقضايا المرأة ونماذج علاقتها مع الرجل. كل هذا يلفت أعماقنا إلى مشهد شعوري نبّهتْ له الرواية. فما هو؟!
خوف أم قلق
يقول الأستاذ كمال إغبارية أستاذ اللغة العربية، لا يوجد في اللغة العربية “ترادف” تام، بمعنى لا توجد كلمتان أو أكثر لها المعنى ذاته تماما!، فعلى سبيل المثال، الأب غير الوالد، والأم غير الوالدة، والابن غير الولد، وللتوضيح: الوالد والوالدة هما الزوج والزوجة اللذان أنجبا الولد، الأب “قد يكون أباً بالمجاز، كأن نقول: إبراهيم أبو الأنبياء، وهو ليس والدهم. وبطريقة ما مشابهة، يتم الحديث عن القلق والخوف بشكل شائع في الحياة اليومية، لكن القليل منا يفهم الفرق الحقيقي بين الاثنين. فنحن نواجه، في الحياة، العديد من الأحداث والظروف التي تشير لردود فعل متنوعة فينا، هناك ظروف نعرض فيها ردوداً غير سارة، وغير مرحب بها. ويشكّل والخوف والقلق، في العادة، نوعان من ردود الأفعال من هذا القبيل، وغالباً ما يستخدم الناس هذه الكلمات بالتبادل- وهو استخدام خاطئ-: مثل الخوف من المجهول، والخوف من الموت، أو النجاح، أو الفشل.. هذه جميعها يشار إليها ،عادةً، على أنها “خوف”، إلا أن جميع المصطلحات السابقة، في الواقع، تصف أشخاصاً يعانون من انفعال القلق .
اما الخوف فيرتبط بتهديد معروف او مفهوم ومحدد يهدد الامن او السلامة، مثل خروج سيارة مسرعة، ظهور كلب يركض امامنا بشكل مفاجئ، والخوف شعور مؤقت.
كذلك يذكر البعض أن القلق والخوف وحدة متلاصقة، ولكن، مثلاً، يختلف شعور الفرد بالخوف، حينما يرى سيارة مسرعة وسط الطريق عن شعوره بالخوف حينما يقابل شخص لا يحبه أو لا يستريح له، ويعتبر الفرق النفسي بين الخوف والقلق يعتمد على اعتبار أن الخوف استجابة حادة والقلق استجابة مزمنة.
وأسوق هذا المهاد الاسترجاعي لفحوى ذلك الى رؤية الكاتب من خلال النص وتسميته لعنوان الرواية “أعالي الخوف” لنرَ أي مشاعر حقاً كانت تستحوذ على ابطال الرواية.
. أنت خائف أم قلق؟ القلق، وجهان لعملة واحدة، ُ ـ القلق ينبت الخوف، والخو ُف يفجر ونحن تلك العملة اللعينة(ص97).
أنتشي أيها الشيخ الجليل، فما السكر إلا لحظة انتشاء، لعل هذا الخوف الذي حفر فيك عميقا يرحل. (بطرس)
(افتعل الاستغراب) خوف
ـ نعم، وهل يخفى الخوف
ها أنا أهرب من سرّي، كيف يهرب رجل من سرٍّ زُرع في داخله قبل أن يولد؟ عندما حملتُ حقيبتي هذه لأغادر القرية، نظرتُ إلى أمي (إبراهيم ص120)..
رَّج قلبي خوف كبير، هل أعود لأدفن أمي؟ هل جاء خليل ندا من كرامة ما؟ هل هو خليل فعلاً أم ثمة قوة ما، روح ما جاءت بشكل (120).
الموت ُ وحده من يأكل من حياة الأحياء، يبقى الفقد ينهش في قلوبهم دون رحمة، فيأتي على شكل صور وذكريات تظهر في ليالي الأرق كأسراب حشرات ٍ تقتا ُت على أفكارهم، وتحول أحلامهم إلى كوابيس مؤلمة. أنا أمضيت ُعمري أهرب، ليس كهرب إبراهيم، ولكني أهرب بشكل محزٍن ولا يجلب غير المواجع والشعور بالندم (ص133 فارس)
ترتعب أوصالي عندما يداهمني شعور َّأن المغارة هي قبري الكبير الذي يلاحقني أينما هربت، تركت أمي العجوز وهجرت قريتي «بشرى»، لا أحد يعرف أنني أهرب من قدر يلاحقني. عندما أتخيل قبري ثالث قبر في تلك المغارة أكاد أصرخ من الفزع: «يا هذه الدنيا أما من عالم آخر أهرب إليه غيرك وغير الموت؟ (إبراهيم ص 103).
ها أنا الآن يا بطرس وحيد ٌ، أهيم في الحياة وتنهشني الأفكار، لا أبصر طريقاً لأضَع عليها خطاي، أسير وتسير معي خسائري وأحلامي الميتة (فارس ص 205)
أنني لم أنضج بعد، ملامحي تائهة، مثَل هلام ينداح في الاتجاهات، لا طريق أبصرها، لا درب أزرع فيها خطاي، ها أنا أضع قدمي في الفراغ وأمشي، وأمشي.
هذا نرى قلق ابطال الشخصيات مستمر ولم ينتهي فالمصير غير معروف والشعور بالضياع مازال يرافقهم.
يختتم البراري الرواية بلا نهاية لأن التيه وعدم الخلاص لازال يرافق أبطال العمل: فيقول الشيخ إبراهيم للدكتور فارس: أنا أتوه يا دكتور، أتوه ولا خلاص، لذا قررت أن أذهب في رحلة طويلة. (ص204)
ويمكننا أن نوجز ونقول أنه تميزت الرواية بجرأتها الواسعة وبحمولاتها الثقافية والفكرية، حيث وكما رأينا، لم يتوقف هزاع البراري عند حدود محليته، بل حاول أن يصنع من بيئته عالماً متكاملاً قادراً على الوصول إلى أي قارئ في كل مكان. إن استخدام النص للتعبير عن رؤى اجتماعية ودينية وثقافية يعد طبيعياً، وهو انعكاس للأفكار السائدة في المجتمع، إذ أن الرواية تعبر عن الحياة في شمولها، وهي غير مرتبطة بإيدلوجية ضيقة، أو مناسبات عارضة، فهو خاض في الدين والجنس والفلسفة، ولمّ جوانب الحياة كافة، كما أن العمل لا يستهدف في الأساس تغير العالم، فيمكننا القول أن الرواية تندرج تحت الرغبة في الإصلاح وتقويم سلوكيات. من خلال طرحها لأسئلة كثيرة حول ما ورثناه من تعاليم دينية أو مواقف تاريخية اكتسبت مع مرور الزمن طابع القداسة، كما أن الرواية طرحت سؤال المسؤولية الاجتماعية والدينية (اختفاء أو موتها عليا، سلوك هديل. سلوك الشيخ إبراهيم، الدكتور فارس).
تؤكد الرواية أن اختلاف الهوية الدينية بين الأبطال لم يشكل خطراً على الحياة الاجتماعية والثقافية، إلا أن قضية عليا وما جرى لها سببه تدخل الأعراف والتقاليد. كذلك علاقة الشيخ إبراهيم مع ديانا قدري الشيوعية المسيحية كانت علاقة احترام وتبادل معرفة ومحبة.
كان حضور المرأة بأنوثتها وكيدها وحكمتها وطيبتها وبساطتها حضوراً يؤكد أن للمرأة حضوراً خصباً ومؤلماً أحياناً، ولكنه حضور قادر على الوقوف ومكوناً ثرياً وهاماً في المجتمع.
وقد جعل الكاتب من الزمن آلة متحركة فيها وببراعة مطلقة، من خلال الزمن المتنقل، اصطحبنا لنعيش أحداث الرواية الزاخرة بالمعرفة، واستطاع أيضاً أن يستنطق الذاكرة ويحاسبها ويسقط في أذهاننا شيئاً من الاستنكار والرفض وحاول أن يستنهض هممنا في التغير.