كي لا ننسى

انزاح كابوس حكم الأسد لأكثر من نصف قرن عن قلوب السوريين، وحل فرح طاغ غمر قلوب السوريين

لكن ثمة حوادث لا يجب أن ننساها، هي كالوشم في الذاكرة لا يُمكن أن يزول، ولأنني عملت في المشفى الوطني في اللاذقية

لأكثر من نصف قرن، وكنت شاهدة عصر على انتهاكات مُروعة في المجتمع السوري (تحديداً في مدينتي اللاذقية) . أردت استحضار بعض الجرائم التي لا يُمكن غفرانها ولا نسيانها.

بداية أحب أن أذكر أنني كنت أسافر كثيراً إلى مدينة صافيتا (القريبة من طرطوس) فلدي قريب غالي جداً يسكن في صافيتا وأصدقاء معظمهم أطباء يعملون في مشفى صافيتا (وهو المشفى الأشهر). الجريمة التي لا أعتقد أن كل السوريين سمعوا بها هي حين تمت صفقة دفن النفايات النووية الخطيرة جداً في سوريا (يُقال تم دفنها في منطقة قرب تدمر)، ويُقال أن عبد الحليم خدام هو المسؤول عن صفقة دفن النفايات النووية لدول أجنبية في سوريا، والبعض يقول أنه باسل الأسد، في كل الأحوال النظام السوري في عهد حافظ الأسد سمح بدفن النفايات النووية التي وصلت إلى مرفأ مدينة طرطوس في علب معدنية كبيرة على أساس أنها (دهان للجدران) . حمولة كبيرة جداً من العلب الضخمة ممتلئة بالنفايات النووية دخلت إلى سوريا على أساس أنها دهان للجدران، العديد من العمال في مرفأ طرطوس والمقربين منهم ومعظمهم يسكن في القرى القريبة من صافيتا، أخذ كل منهم علبة دهان ودهن جدران بيته سعيداً باللون ناصع البياض غير عارف أنه دهن بيته بنفايات نووية أدت إلى تسميم الأجسام وغيرت البنية الوراثية والجينية لهؤلاء المساكين، أي حدث تشوه في DNAالخلايا، ومنها البويضات عند المرأة والحيوانات المنوية عند الرجل. خلال أشهر شهدت مشفى صافيتا (وحدها) ولادة لأطفال بدون رأس (مجرد وجه لكن لا يوجد جمجمة) الحمل عند هؤلاء النساء كان مُكتملاُ أي تسعة وحوالي (700) امرأة حامل (اللاتي بيوتهن دهن بالنفايات النووية) أنجبن أطفالاً بدون رأس، مجرد وجه، كل هؤلاء الأطفال ماتوا خلال دقائق. الحالات كلها مسجلة في دفاتر مشفى صافيتا، كانت صدمة مُروعة لأهالي صافيتا وقراها، وربما هناك حالات مماثلة في قرى ومدن أخرى من أشخاص أخذوا علبة دهان. العديد من أطباء مشفى صافيتا تقدموا بطلب إلى وزارة الصحة ورئاسة مجلس الوزراء يبلغون عن هذه الحالات المُخيفة (لم يكونوا وقتها يعرفون أن السبب هو النفايات النووية) وطلبوا لجنة لتحقق في ولادة (700 طفل) في مشفى صافيتا بلا رأس. جواب الهيئات المختصة والرسمية كان طي الملف وتهديد الأطباء إن تجرأ أحد منهم بالكلام أو نشر صور الأطفال بلا رؤوس. ربما الشعب السوري يعلم بأن نفايات نووية دفنت في أرض سوريا وبالتأكيد هذه النفايات لها أضرار كبيرة على المزروعات والناس ومياه الشرب، لكن الإعلام منع تماماً التحدث عنها، على كل السوريين اليوم أن يعرفوا عن هؤلاء الأطفال الذين ولدوا بلا رأس وماتوا.

القصة المُخزية التي أحب أن أتحدث عنها أيضاً هي السرقات والانتهاكات للمشفى الوطني في اللاذقية الذي عملت فيه كطبيبة عيون لربع قرن كان المشفى الوطني ساحر الجمال بسقوف القرميد وسياج ( كأنه حديقة ) من الأشجار الباسقة التي تحيط بالمشفى ، بأبوابه الخشبية السميكة من أفخم أنواع الخشب ( يزن الباب حوالي مئة كيلو ) ونوافذ كبيرة من الخشب مع أباجورات خضراء ، كان المشفى الوطني الذي تم بناؤه على أيام الانتداب الفرنسي تحفة معمارية ، حين رأيت صورته ( بالأبيض والأسود ) في معرض تصوير ضوئي في متحف اللاذقية لم أعرفه !!لولا أن لافته من ورق مكتوب عليها المشفى الوطني ، الإدارة التي استلمت المشفى الوطني في حكم حافظ الأسد وبعده إبنه بشار الأسد ، أزالت القرميد والحجر المتين وجعلت واجهة المشفى كلها من الرخام ( حتى أنني في روايتي نسر بجناح وحيد سميت المشفى الوطني مشفى الرخام ) كما سرقوا كل الأبواب الخشبية الكثيرة والتي تُقدر قيمتها بالمليارات ، واستبدلوها بأبواب من نوع ( ورق مقوى سميك قبيح ) سرعان ما يتكسر إذا استند عليه أحد !!كذلك سرقوا وأزالوا كل الأباجورات الخضراء من الخشب أجود الأنواع وسيجوا النوافذ بشباك معدنية لتصبح الغرفة كأنها سجن ، الحجة التي قدموها في تسييج النوافذ بشبك حديدي أن المرضى ( الفقراء المعترين ) يسرقون أغطية السرير عن طريق رمي تلك الأغطية إلى أصدقاء أو أقرباء من النوافذ !!! مع العلم أن أغطية الأسرة مهترئة إلى حد يثير الشفقة. لجان الشراء المكونه من عدة مهندسين وجامعيين وكلها تابعة لمدير الصحة (وربما وزير الصحة) كانت تُبدع في النصب مثلاً يتم طلب خيوط جراحية لخياطة العين (والعين عضو نبيل) كنا نطلب أفضل خيوط ممتازة للخياطة في جراحة العين، وباهظة الثمن

وبعد التوقيع على الطلب (أي أصبح أطباء العينية تحت المسؤولية) كانت لجنة الشراء تُحضر لنا خيوطاً (سعر الخيط خمس ليرات) من باكستان، خيط يستحيل أن يقبل أي طبيب عيون أن يُخيط به العين، كانت تلك أردأ أنواع الخيوط ، فنضطر أن نطلب من المريض شراء خيط ممتاز ( إيتيكون – فرنسي ) لنخيط العين أثناء العملية ، وكان مهمة الممرضات ( وهن عبد مأمور ) أن يفتحن عدة خيوط رديئة صناعة باكستان كي يتخلصوا منها . وكانت أجهزة ضخمة

تختفي مثل جهاز تخدير ممتاز في غرفة عمليات جراحية، تمت سرقته واستبداله بجهاز تخدير غير صالح للعمل لكنه صورة طبق الأصل عن الجهاز القديم. الأدوية التي كانت تصل المشفى الوطني كانت أنواع جيدة من الأنتي بيوتيك والكورتيزون الخ، كانت عصابة تتفق مع صيادلة أن يستبدلوا الدواء الجيد في المشفى الوطني بأرخص أنواع الأدوية. وبعد 2011 وانطلاق الثورة السورية سُيجت كل المشفى الوطني بالحديد ، حبال سميكة جداً من الحديد وحراس يطلبون من الأطباء فتح حقائبهم للتفتيش ، وغصت الجدران بصور الرئيس بشار الأسد وأيضاً تمثال نصفي لحافظ الأسد في باحة المشفى ، ومن المفارقة العجيبة والرائعة أننا كنا في شهر آب وأحضر العمال التمثال النصفي لحافظ الأسد ، وهطل مطر كالطوفان وذاب معظم وجه القائد المُفدى إلى الأبد ، يا لفرح السماء التي أحست بقلوبنا الشامتة السعيدة ، في كل جدران المشفى نقرأ عبارات ( خلصت ، خلصت خلصت ) أو ( فرانس 24 والجزيرة والعربية ) قنوات سفك الدم السوري ، أو عبارة ( حين تصل رؤوس أعداؤك إلى حذاءك فلهم الشرف ) وصور بشار الأسد في كل مكان حتى في غرف العمليات .

هذه التفاصيل التي صارت من صميم حياة السوري، والاستبداد المديد الذي جعل الأمل يذبل في النفوس وكأنه لا خلاص من الأبد واستبداد وحشي لنظام حافظ وبشار الأسد وأسرة الأسد كلها ، أصبح على مدى نصف قرن كأنه نمط حياة يستحيل تغييره ، لكن المستحيل حصل وعلى أمل محاكمة بشار الأسد الهارب بالمليارات السفاح في سوريا.

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

“فوكوياما يسقط في غزة”: مرويّات الحرب والحبّ والمنفى

في كتابها “فوكوياما يسقط في غزة… مرويّات الحرب”، الصادر مؤخرًا عن “دار صفصافة للنشر”، تستكمل …