لوحة "العاشقين" للفنان البلجيكي رينييه فرانسوا ماجريت 1928

ما الحب؟

ما الحب!

تُرى ما هذا الذي اسمه الحب؟
إنّي لأعتقد جازماً أنّه لأسهلُ على الإنسان أن يعرف أصلَ الكونِ وفصله من أن يعرف الحب ويُعرّفه. بل إنَّ المرءَ يتساءل مندهشاً، كيف أعجز – وأنا المتمرغ في الحب والمحترق بناره – عن أن أعرّف الحب!.
ما الذي يجعل أمُّاً تمضي عمرها في حزنٍ مميت على فقدِ أحد أبنائها؟ وكيف لأُخرى أن تنسى!، وكيف نفهم تعلق لورانس بغلام بدوي؟، هل تسعفنا مأدبة أفلاطون في تقديم إجابةٍ عن هذا السؤال؟.
لماذا أمضى ديك الجن عمره حزيناً بعد أن خنق حبيبته الجارية؟ وما الذي جعل قيسَ مجنوناً بليلى؟.
يقع الإنسان بضربة الصاعقة، لماذا هذا الإنسان بعينه دون سواه من وقع بضربة الصاعقة من قبل هذه المرأة؟ لماذا لم يخبَر بعضُ الناس هذه التجربة؟ وكيف يُشفى المضروب ولماذا؟ هل يفسر لنا الدافع الجنسي تجربة الحب؟ لماذا يصير الحب دافعَ إبداعٍ ولماذا؟ كيف يُفسر التعلق بالرموز والأشياء، أحبُّ هذا أم لا؟.
لماذا تختلف عاطفة الحب من حيث الكم والكيف بين إنسان وآخر، بل لماذا أعيش أنا التجربة على أنحاءٍ مختلفة؟ أترانا قادرين على حمل الناس على الحب؟ وتربيةِ البشر على حبّ بعضهم البعض؟ .
هل الحبُّ ثقافة؟
من ذا الذي باستطاعته الإجابة عن هذه الأسئلة؟ من؟.
أبدأ بالبسيط الواضح الذي لا أحتاج للتدليل عليه: أنا أحبُّ ذاتي. كلُّ إنسانٍ قادرٌ على أن يصدر هذا الحكم دون أن نشك بصدق ما يقوله أبداً.
أنا أحبُّ ذاتي تعني فيما تعنيه أنّي أمتلك شعوراً صادقاً لا ينفصل عني، فلست أنا اثنان: ذاتٌ وذاتٌ تحبُّ ذاتاً، بل ذاتٌ تفصحُ عن نفسها بصدقٍ قائلةً: أنا.
أنا أحبُّ ذاتي تعني أني أرغب وأطمح وأسعى لتلبية كل ما يجلب لي الفرح والسعادة من الخارج. ها أنا إذاً أتجه إلى الخارج، ذاتي تبحث في الخارج عما يحقق لها متعتها، لذتها، سعادتها وفرحها.
الشكل الأسطع للخروج إلى عالمٍ يحقق لي السعادة؛ النزوعُ نحو الآخر، امرأةٌ نحو الرجل، والرجلُ نحو المرأة.
معنى أن تحبَّ امرأةٌ رجلاً أو يحبَّ رجلٌ امرأةً؛ أنَّ آخرَ أصبح جزءاً لا يتجزأ من وجودي، أيّ من حبّي لذاتي، فلأنني أحبُّ ذاتي أحبُّ آخرَ يحقق لذاتي سعادةً وفرحاً، لا يمكن أن يتحققا لولاه.
وتبدو شدة الحب للآخر متطابقةً مع شدة حبي لذاتي في هذه اللحظة التي أحب فيها الآخر.
ها أنا إذاً عبر حبي لذاتي أحب الآخر، إنّ ما يبدو خروجاً للأنا نحو العالم الآخر، هو عودةُ الآخر إلى أنا، ليصبحَ جزءاً لا يتجزأ منها. لقد صار المحبوب جزءاً من ذاتي، أو قل مكوناً من مكونات ذاتي.
إذا كان الأمر هكذا، وهو هكذا، فإنَّ بنيةَ ذاتي هي التي تحدد لي موضوعَ حبي، وطريقة تعبيري عنه، ودرجته. فالذات، وهي طاقة خلّاقة، تخرجُ باحثةً عمّا يرضي حبها لذاتها، بفعلِ نداءٍ داخليّ ودونَ أيّة قوةٍ منطقيةٍ تقعُ في الظاهرِ في الحبّ، لكن الحقيقةَ أنّها أوقعت المحبوبَ في شركها.
صحيحٌ أنّ لا إرادةَ في هذه العملية، لكنّها من حيث الواقع خروجُ الأنا باحثةً عن المحبوب، وهو متهيبٌ دائماً لمثل هذه الحال.
نحنُ في الحب أمامَ “ملكيةٍ عاطفيةٍ”، أجل؛ أمتلكُ الآخرَ هنا يعني أنّ جعبةَ عواطفي مليئةٌ، أيّ أنني أمتلك ثراءً عاطفياً. أناديه أو تناديه بنداء يخرج من الأعماق: بنيّ، أو تناديها ويناديها: بُنيّتي، حبيبي حبيبتي، الياء هنا هي ياء الملكية، ياءُ ما يخصني .
الابن والابنة امتدادٌ جسدي لي، حتى الأحفاد، ولهذا هناكَ توحدٌ عاطفيٌّ، ملكيةٌ عاطفيةٌ مطلقةٌ، إنّها حالةُ هوى دائم.
في حال الحبّ الذي يقومُ بين الرجل والمرأة، نحنُ أمامَ حالةٍ أكثرَ تعقيداً. من الطبيعي أن ينصرفَ الذهنُ إلى الغريزةِ الجنسيةِ بوصفها دافعاً للحب، أو مفسراً للعلاقة بين الرجل والمرأة.
لاشكَ أنّه لا تفسيرَ للحب دون دافعٍ جنسيّ، لكن لا فَهمَ للحب – بدافعٍ جنسي فقط- إذ أنّ الإنسانَ يمارسُ الجنسَ في أغلب الأحيان دون علاقة حبّ، فالبيولوجيا تفرضُ على الرجل وعلى المرأة التواصلَ الجنسي إشباعاً لهذه الطبيعة الثابتةِ في الكائن البشري.
ولهذا فإن السؤال: لماذا يستطيعُ الكائن البشري ممارسة الجنس مع كثيرين، ولكنه غير قادرٍ على أن يحبَّ إلّا كائناً واحداً أو اثنين.
فمن الصعب أن يجتمع رجلان في قلب امرأةٍ على نحو متشابهٍ أو امرأتان في قلب رجل، ولكن من السهلِ أن يجتمع رجال على فراشِ امرأةٍ، ونساءٌ على فراشِ رجل. وعندي أنَّ الحبَّ بين الرجل والمرأةِ هو تعبيرٌ صارخٌ عن حبّ الذاتِ الذي تحدثتُ عنه، وعندي أيضاً أنَّ أكثرَ الكائنات حباً لذاتها هي أكثرها حبّاً للكائن الآخر.
إنَّ حبَّ الذاتِ – هنا- ليسَ أنانيةً، فحبُّ الذات هو خليطٌ من الإعجاب بالأنا والشعور بالكبرياء وقوةٌ في شهوةِ الحضورِ واستصغارٌ لكلّ ما ينالُ من هيبة الأنا ومكانته، وعمقٌ في الحلم، وامتلاكٌ للهاجسِ الكليّ.
فالأنانيُّ لا يحبُّ ذاتَه، بل يحبُّ أن يمتلك الأشياءَ، فيغتربُ بها، كاغترابِ البخيلِ بالمالِ مثلاً.
أمّا الذي يحبُّ ذاتَه، فإنّه يحبّها عظيمةً في أعينِ الآخرين، فلا يسلكُ إلا حراً من أيّة عواملَ تمنعُ ظهوره المأمول. إنّ توجُهَ الذاتِ التي تحبّ ذاتها نحو الآخرِ لهو تحويلُ الآخرِ إلى جزءٍ لا يتجزأ من الذات.
فالحبُّ الذاتي وقد تحول إلى حبٍ للآخر، قد حوّل الآخرَ إلى مكوّنٍ من مكونات الذات، ولم يعد الآخر شيئاً في الخارج يشبعُ لي غريزتي ثم يختفي من وجودي، بل إنَّ جسدَ الآخرِ صارَ جسدي. فالمحبوبُ أعيدَ تشكيلُه من قلب الحبيب، وتغدو العلاقةُ علاقةً بين محبوبٍ ومحبوبْ.
من هنا نفهم لماذا تحوّلُ الشخصياتُ المبدعةُ المحبوبَ إلى نمطٍ من الآلهةِ المقدسة، ولماذا يعيشون لحظةَ الفناءِ بالمحبوبِ والمعبَّرُ عنه باللغة واللوحة.
حتى المتصوفةُ أنفسُهم؛ ما هم إلّا عاشقين لِذواتِهم، وقد سَمَوا بعشقهم إلى إيجاد محبوبٍ على قدِّ ذواتهم فوجدوه في الإله.
إنّ العطاءَ اللامحدودَ من قبَلِ المحبِّ للمحبوب، يفسرُه عطاءُ الذاتِ لذاتها. وإنّ التذلّلَ الذي يبديه للمحبوبِ ليس إلّا خوفُ المحبوبِ على ذاته من أن يفقدَ أحدَ أهمِ مبرراتِ وجودها.
أمّا ما الذي يجعلُ كائناً ما يحبّ كائناً بعينه؟ فهذا أمرٌ فرديٌّ جداً، لا ينفعُ معه، التعميم.
ذلك أنّنا لكي نفهمَ هذه العلاقةَ بعينها أو تلك، فعلينا أن نغوصَ في أعماق الذات، في عتمتها، في طفولتها، في كبتها، في تحولاتها، في ثقافتها.
فالحبُّ هو الدليلُ الأكبرُ على تعقيدِ الأنا، وانغلاقه أمام الرؤية البسيطة له.
لأن أمرَ الحبّ لا يعودُ إلى خيارٍ مُدرَكٍ، أو إلى قرارٍ مسبقٍ، فلو كان الأمر كذلك، لاستطعنا أن نحبَّ متى نشاءُ، ومن نشاءُ، وأن نتخلص من المحبوب متى أردنا.
لو كان الحب خاضعاً لإرادتنا، لما فهمنا كيف يتعلقُ رجلٌ بامرأةٍ، رغمَ ما يسببُّه له هذا التعلق من ألمٍ، وكيفَ تتعلقُ امرأةٌ برجلٍ رغم ما يجلبُ لها تعلقها من قهر وعذاب؟
أبداً، لا يعودُ الأمرُ إلى مازوشيةٍ أو ساديةٍ عند هذا الطرف أو ذاك، إنَّ القضيةَ قضيةٌ ذاتٍ خرجت من ذاتها وتوحدت بذات أُخرى، ثمَّ عادت إلى ذاتها في وحدةِ أنا وآخر.
ومن هنا نفهمُ لماذا يعبّرُ المحبُّ عن ألمه بالشكوى والهجر والوجد والشوق والحنين والسقم. ورغم كل هذه المعاناةِ يبقى المحبوبُ حاضراً في ذات المحبِّ، وإن تلاشى فإنَّه يتلاشى بعفويةٍ ودون أن يدري المحبُّ لماذا.
غيرَ أن المحبوبَ إذا زادَ في تعنته رفضاً للمحب الذي توحد معه دون توحد المحبوب، ووصل العاشق أو صاحب الهوى إلى درجةٍ من فقدانِ الأمل في الوصولِ مع المحبوب إلى توحدٍ متبادلٍ، فإنّ الهوى وهو الحب الشديد قد يتحول إلى حقد. وآيةُ ذلك أن المحبَّ يشعر بالفقد، بألم انفصال جزءٍ من ذاته دون إرادةٍ منه بل بإرادةِ الآخر. يشعرُ أن ذاته قد فقدت تلك المعاني التي انطوت عليها.
إن المحبوب كائنٌ واقعيٌ ولا شك، لكنّه متخيلٌ ومصنوع من جديد من قبل المحب، فالكائن الذي توحد به المحب هو فريدٌ وخاصٌ ولا مثيل له ولا بديل عنه.
الانفصالُ الذي يتم من أحد الطرفين يخلقُ معنى العدم والموت، ولهذا فإنَّ الحقدَ هو أقصر الطرق للتخلص من المحبوب المنفصل، والحقدُ هو الآخر ليس إرادياً.
فشدةُ الألمِ هنا لا تعودُ إلى الانفصال فحسب، بل إلى تصورِ كائنٍ آخر وفقدٍ استحوذَ على المحبوب، ولهذا يتنامى الحقد تبعاً لتنامي خيال المحب وهو يرصدُ في مخيلته العلاقة بين محبوبته وبين آخر.
وتعبر الكلمات الآتية عن مستويات معاناة الحقد: الغدر، الخيانة، خيبة الأمل، الطعنة في الظهر، هذه الكلمات وغيرها يضفيها المحب على المحبوب المنفصل كي يحوّله إلى عدوٍ ولكي يبرر حقده على المفقود.
وليس من مخرج من حال الحقد على المحبوب المنفصل إلا حالة حب جديدة، وتوحدٍ جديد، وعندها يتحول المحبوب المنفصل إلى ذكرى سيئة لها بعض الجمال، فيموت الحقد بولادة حب جديد.

عن د. أحمد برقاوي

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *