محمود درويش معجزة شعرية.. لا تنتهي.

قراءة في ديوان “لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي”

بعد مسيرة محمود درويش الشعرية، والنضالية، والإنسانية، يمكننا اعتباره معجزة الشعر التي ،ربما، لن تتكرر، عبر ما استجمعته من موهبة صافية، وثقافة واسعة ومتنوعة، واكب فيها التطورات الأدبية، والفكرية، والسياسية، على الساحة العربية، والعالمية، وعقائد متعددة، شكلت أهمّ معالم شخصيته وفكره، ومنهجه الثقافي، والسياسي، والإنساني:

-عقيدة اشتراكية: عمقت ثورته على الظلم والاحتلال، وعجلت نضوجه وفهمه المبكر والصحيح، لمشاكل الواقع العربي، والفلسطيني، والعالمي.

-وعقيدة قومية: كرس فيها انتمائه الفلسطيني للأمة العربية وتاريخها، بموضوعية لم يتبنى معها أي نهج عنصري.

-وعقيدة إنسانية شاملة: قوامها ارتباطه الوثيق بالناس، ومحبته لهم وتبني قضاياهم وآلامهم.

شكّلت ثقافة درويش الشاملة، واللغوية منها، على وجه الخصوص، أهم دعائم مشروعه الشعري الفريد والمستقل، فكانت أبرز أدواته الشعرية، التي أعاد بها تركيب لغتنا، ومشاعرنا، منذ ديوانه الأول (عصافير بلا أجنحة) إلى ديوانه الأخير( لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي )، حيث تمكن بتفوق من الغوص في بحور اللغة، وانتقاء وترويض نفائس مفرداتها ومرادفاتها، بما يتوافق ومشروعه الفكري، والثقافي، والفني.

تأثر درويش في بداية مشواره بالشعر العربي القديم وبأسلوبه المباشر والخطابي، ومن ثم انتقل إلى مرحلة أكثر رومنسية، وأقل مباشرة، تأثر فيها بشعراء المهجر، مما أضفى على قصائده مزيداً من العذوبة، والرقة. وكان للشعر الحديث تأثير واضح عليه من خلال بدر شاكر السيّاب ونزار قبّاني، ومع اتساع ثقافته العالمية، والتاريخية، ومع بلوغ تلك الموهبة طور النضوج والكمال، لجأ محمود درويش في التعبير إلى الرموز التاريخية، والأسطورة، التي تلائم مجريات الواقع، بحرص شديد تقيد فيه بتفعيلات بحوره الشعرية، التي أخضعها بتقنية ومهارة لإيقاع موسيقاه الداخلية الرشيقة، وتجربته النفسية والروحية، وقد أمتعنا بأداء كثير من قصائده، بصوته المتميز بطبقاته المرتفعة، ونبراته الواثقة الرنانة، المنسجمة مع انفعالاته الداخلية، ما بين هتاف وهمس، وتساؤل وإقرار، بطابع سردي وروائي ملحن، محوّلاُ تلك القصائد إلى صور ناطقة، عبر ما استخدمه من استعارات، وكنايات، وتشابيه ومجازات وتورية، وغيرها، بتقنية، وحرفية، غدت معها قصائده مسموعة بالأذن، والقلب، والوجدان، محلقاً بجمهوره نحو فضاء شاسع من الشجن، والحلم، والخدر.

شكل حيّز محمود درويش الشعري، أحد أهم دعائم الهوية الفلسطينية الفكرية، والثقافية، ورسالتها، فكان رسولها بحق، عبر ما مثّله من احتضان لقضية شعبه داخل أرضه المحتلة، وثمّ في الشتات والمنفى، حين أطلق العنان لهموم ومعاناة شعبه، من فوق أعلى المنابر الفكرية والثقافية في العالم، مكوناً أولى لبِنات الرأي العام العالمي، في دعم وتأييد اقضية الفلسطينية، ومشروعية نضال الشعب الفلسطيني، من أجل استعادة حقوقه.

قدّر لحياة محمود درويش أن تكون رهينة نكبتين، الأولى نكبة الاحتلال والشتات والمنفى منذ العام 1948، أما النكبة الثانية فقد صنعتها أيادي فلسطينيّة عبر اتفاقية أوسلو، وما تبعها من انقسامات داخل الصف الفلسطيني، بعد مسيرة نضال طويل ومشرف.
يقول محمود درويش: ( إن اللجوء داخل الوطن أكثر ألماً ووحشيّة، والعذاب في المنفى يبرره انتظار يوم العودة، مع سيطرة عنصر الوعي، والتحدي، والبحث عن حل).

مع انكسار الحلم الأول، وما خلفه ذاك الانكسار من ألم ويأس في نفس الشاعر، ومع نضوب الواقع الفلسطيني من طيف حلم جديد، يتابع من خلاله الشاعر ما تبقى من رحلة حياتية، تزامنت مع مسيرة واقعه الفلسطيني بأمله وألمه، عاد الشاعر وللمرة الأولى نحو ذاكرته الأولى المكانية، والزمنية، ليتصفح هذا (الرائي) بأسى مدخرات نفسه، وروحه، وفكره، ويفرغ ما تبقى في جعبته من إرث تاريخي، إبداعي، وثقافي، ليؤكد وللمرة الأخيرة، صدق نبوءته حين كان يردد محذراً ( أنا من رأى)، عبر قصائد ديوانه الأخير ( لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي)، الذي يمثّل مسك ختام نتاج درويش الشعري، والفكري، والحياتي، الذي قدّم فيه عبر لمساته الإبداعية المتميزة، جداريته الذاتية والفلسطينية الأخيرة.

((لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي ))

يمكننا تقسيم هذا الديوان إلى عدة أقسام: ذاتي لم ينفصل عن السياق الفلسطيني العام، (كلاعب النرد، وبالزنبق امتلأ الهواء، وطللية البروة، ومسافر، وهذا المساء، ومن كان يحلم، ورغبت فيك رغبت عنك، ولن أبدل أوتار جيتارتي، وكأن الموت تسليتي).
وتحمل قصيدة (لاعب النرد)، جدلية (الأنا)، بتواضع يرجئ فيه الشاعر وجوده المعجزة للمصادفة البحتة، فيقول:

أَنا لاعب النَرْدِ ،
أَربح حيناً وأَخسر حيناً
أَنا مثلكمْ
أَو أَقلُّ قليلاً …
وُلدتُ بلا زَفّةٍ وبلا قابلةْ
وسُمِّيتُ باسمي مُصَادَفَةً..

ويقرّ الشاعر بلسانه الفلسطيني، ما اقترفته تلك المسيرة من أخطاء، كاعتراف رواد الكنائس تحللا من الذنوب فيقول:

مَنْ أنا لأقولَ لكم
ما أقولُ لكم
عند باب الكنيسةْ
ولستُ سوى رميةِ النرد
ما بين مُفْتَرِس ٍ وفريسةْ
ربحت مزيداً من الصحو
لا لأكون سعيداً بليلتيَ المقمرةْ
بل لكي أَشهد المجزرةْ..

وهنالك قصائد تحليلية، قدم فيها الشاعر تحليلا لخفايا النفس الإنسانية بشكل عام، ونفسه على وجه الخصوص، كقصيدة (الخوف، وما أسرع الليل، وهناك حب بلا سبب).

في قصيدة ( الخوف)، يرمز الشاعر للبداية الذاتية الفلسطينية بالربيع، وللنهاية بالخريف، فيقول:

للخوف رائحةُ القرنفلِ في الطريق من الربيع
إلى الخريف. ونحن نمشي في هواجسنا عن
الغد: ربما يصلُ المسافرُ كامل
الأعضاءِ. لكن الربيعَ وراءه. في كل مترٍ
من خطاه وداعُ شيءٍ ما
يلاحقه كرائحة القرنفل غامضاً
ويخاف أن لا يستعيدَهْ!..

وقصائد أخضعها للاحتمالات كقصيدة: (سيناريو جاهز، وإن كان لابد، ولو ولدت. ويقول في قصيدته ( إن كان لابد):

وإن كان لا بدَّ مني… فإني
على أُهبة المرتضى والرضا، جاهزٌ للسلام
مع النفسِ. لي مطلبٌ واحدٌ: أن يكونَ اليمام
هو المتحدّثُ باسمي، إذا سقط الاسم منّي!..

كما تضمن الديوان رسائل شعرية لأصدقاء مثل ( إيميل حبيبي، وسليمان نجاب، ونزار قباني) وإلى (شاعر شاب) وفيها يقول:

الطريق طويل كليل امرئ القيس
سهلٌ ومرتفعات، ونهرٌ ومنخفضات
على قدر حلمك تمشي
وتتبعك الزنبقة
أو المشنقة!

أما الملحمات الشعرية الفلسطينية، فنجدها في: (تلال مقدسة، واقعيون، لا أريد لهذي القصيدة أنت تنتهي)، و( على محطة قطار سقط عن الخريطة) ويقدم فيها الشاعر الواقع الفلسطيني بمباشرة مؤلمة، فيقول:

وقفتُ على المحطة.. لا لأنتظر القطارَ
ولا عواطفيَ الخبيئةَ في جماليات شيء ما بعيدْ ،
بل لأعرف كيف جُنَّ البحرُ وانكسر المكانُ
كجرة خزفية ، ومتي ولدتُ وأين عشتُ ،
وكيف هاجرتً الطيورُ الى الجنوب او الشمال..
وهنالك قصائد حوارية، تقمص فيها الشاعر أدوار عديدة، ومنها ( طللية البروة، وليل بلا حلم، وقمر قديم، ورغبت فيك رغبت عنك) و (لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي) التي يخاطب بها الحبيبة، ويرجح أنها فلسطين، يقول:
– أنا هو، من كان عبدا
لمسقط رأسك.. أو سيّدا
أنا بين يديك كما خلقتني
يداك، ولم أتزوج سواك
ولم أشف منك، ومن ندبتي أبدا
– قالت له: قد تزوجني يا غريب
غريب سواك
فلا جذع زيتونة ههنا
أو سرير،
لأن الزمان هو الفخ/

كما يعبر الشاعر عما يسكنه من غربة في قصيدة (ليل بلا حلم)، عبر حوار مع أنثى هي امرأة ربما، أو عشقه الدائم فلسطين فيقول:

-هل نبقى معا؟ نبقى معا. وتحبني؟
-وأحب سرّك، لا تبوحي لي بسرك.
– لا أحب طفولتي والذكريات.
-ولا أنا.
-حسنا، لنذهب! لا غريب
ولا غريبة في الرحيل ..

برأ الشاعر في قصائد أخرى، معشوقته فلسطين، من جميع ما يرتكب فوق أرضها من آثام سياسية، معلنا لها الولاء، والحب في قصيدة (لن أبدل أوتار جيتارتي) وفيها يقول :

لن أبدل أوتار جيتارتي.. لن أبدلها
لن أحملها فوق طاقتها.. لن أحملها
لن أقول لها: جديني على وتر سادس
أجد الفرس العائدة.

والآن ماذا بعد.؟، ماذا بعد أن طوى محمود درويش ظله ورحل.؟

كيف لنا أن نصدق بأن الموتى سواسية أمام الموت، أيها الغائب الاستثنائي الذي كلما أوغل في الغياب ازداد حضورا، وأنّى لنا أن نصدق أنهم لا يتكلمون، وصوتك ما زال يصدح نغما ومعنى في ليل غربتنا.

هل بتنا الآن في أواخر الشعر.؟، وهل من نبي جديد لهذا الزمن الجديد لنرى من خلاله غدا غدنا.؟.

من سيمنحنا بعد رحيلك حصتنا من خبز اللغة.؟ ومن سينقلنا ثانية بدقة، وإتقان، وأمانة، نحو سحر المفاضلة بين جمالية الأسطورة ولبس الراهن، وواقعية الحلم وعبثية الواقع، انكسر بعد رحيلك من حولنا حلم لم يعد في وسعه أن يحلم أكثر، وما تبقى لنا هو عبث الواقع، وبات ما حولنا خواء..(خواء كل ما حولنا خواء).

عن سلام شربجي

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *