مختبر فلسطين: تسويق وتصدير تقنيات الاحتلال

قراءة في كتاب مختبر فلسطين: تسويق وتصدير تقنيات الاحتلال

The Palestine Laboratory How Israel Exports the Technology of Occupation around the World

بدل من المقدمة

NSO الوجه الرقمي القبيح لإسرائيل

فوجئ العالم في كانون الأول 2018 بمقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول؛ وسرعان ما تبين دور الأمن السعودي الذي كان يراقب تحركات خاشقجي بتتبع بيانات هاتفه المخترق بأداة التجسس “بيغاسوس” من تطوير شركة NSO الإسرائيلية؛ الذي كان من أبرز صفقات الشركة مع السعودية في العام 2017. علماً أن التعاون بينهما ليس جديداً؛ فمنذ السبعينيات كانت السعودية تحصل على كثير من المعلومات الخاصة بالعائلة الحاكمة من إسرائيل؛ فضلاً عن علاقات سرية طويلة مع شخصيات حكومية بارزة مثل الأمير بندر بن سلطان الذي عمل طويلاً رئيساً لجهاز المخابرات السعودي.

نفت شركة NSO أي دور لها في اغتيال خاشقجي؛ وعمدت إلى تجميد عقدها مع المملكة. ولكن تبين لاحقاً أن هاتف خطيبة خاشقجي وكذلك هاتف زوجته الأولى تعرضا للاختراق بأداة بيغاسوس قبيل مقتله بأيام قليلة. وليس مفاجئاً لأحد عدم حرج الحكومة الإسرائيلية من تورط هذه الشركة، بل على العكس، استمرت في الحفاظ على علاقاتها مع النظام السعودي. وقد بات بحكم المعروف دور شركة NSO وما يشبهها في تعزيز الأجندة الأمنية لإسرائيل، حيث تعمل على تسهيل إجراءات التصدير لتحقيق مصالحها الاستراتيجية.

بعد حادثة اغتيال خاشقجي التقى مسؤولون في شركة NSO مع مالكي شركة الاستثمار الرائدة في مجال التكنولوجيا فرانسيسكو بارتنرز Francisco Partners والتي تعمل من خلال صناديق الاستثمار في الأسهم الخاصة وصناديق الائتمان، حيث تقدم رأس مال مرن ودعم شراكات للشركات التقنية التي تسعى للنمو والتوسع. كان الهدف من اللقاء مناقشة تداعيات اغتيال خاشقجي. وزعمت الشركة أن الحكومتين الإسرائيلية والأمريكية أيدتا استمرار عملها في المملكة، وهذا ما دفعها فعلاً إلى استئناف نشاطها بعد توقف قصير.

كان لحادثة الاغتيال دور في ظهور تفاصيل أخرى عن استخدام تكنولوجيا المراقبة بين أجهزة الأمن السعودية وكذلك البحرانية والإماراتية، مثل اختراق هواتف صحفيين في قناة الجزيرة -القسم الإنكليزي- ونشر صور حميمية لبعضهم -خاصة السيدات-، وكذلك اختراق هاتف جيف بيزوس، مؤسس أمازون، وهاتف الناشطة لجين الهذلول بعد إطلاق سراحها؛ بالإضافة إلى شخصيات غير سعودية أخرى مثل بن هوبارد، رئيس مكتب نيويورك تايمز في بيروت، الذي تعرض هاتفه للاختراق أثناء تغطيته لأحداث المملكة. كما استخدم حاكم دبي نظام بيغاسوس لاختراق هاتف زوجته السابقة وهواتف معارفها (مما دفع بالشركة إلى إلغاء تعاقدها مع دولة الإمارات)

لم يؤثر مقتل خاشقجي سلباً على مبيعات الشركة عالمياً؛ بل توسعت في أسواق جديدة بفضل الدعم القوي من الحكومة الإسرائيلية. وازدادت شهرة عندما رفعت شركة فيسبوك دعوى قضائية ضدها في العام 2019، متهمة إياها باستغلال ثغرة في تطبيق “واتس آب” لاختراق هواتف نحو 1400 شخص حول العالم. وفي العام 2020، شاركت في المعرض التجاري للأمن والشرطة في بريطانيا بدعوة حكومية، كما حظيت في العام 2021 بموقع بارز في معرض الأمن الدولي في لندن، لكنها لم تروّج آنذاك لبيغاسوس بعد الشكاوى التي تلقتها من منظمة العفو الدولية، بل قدمت تقنية “إكليبس Eclipse ” لمكافحة المسيرات.

تمثل NSO قمة جبل الجليد في صناعة التجسس السيبراني حيث تستخدم نحو 73 دولة عبر العالم أداة بيغاسوس، وهناك العديد من الشركات الأخرى التي تعمل في هذا المجال دون تدقيق أو محاسبة. ولافت للنظر أن الأنشطة السيبرانية ليست سياسة حكومية خالصة تخضع لأجهزة الأمن في الدول المهتمة مثل الولايات المتحدة أو الصين أو إسرائيل أو روسيا أو حتى إيران؛ بل تتمثل هذه الأنشطة بكيانات تجارية خاصة أو مختلطة وتعمل كوكيل حكومي. وفي إسرائيل -وهي موضوع حديثنا هنا- هناك عدد كبير من الشركات المنافسة لشركة NSO، مثل شركة “باراغون Paragon ” المدعومة من رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك.  وغيرها من الشركات التي سنأتي على ذكرها هنا.

يُعتبر مسار NSO شاهداً على الإرث الإسرائيلي في مجال اختبار وتسويق وتعميم تكنولوجيا المراقبة عالمياً. وأوضح إيلي بينكو، الرئيس السابق لوكالة مراقبة الصادرات الدفاعية الإسرائيلية، الأسباب -في مؤتمر عقد أواخر العام 2021- بقوله أن لا خيار أمام إسرائيل سوى بيع الأسلحة والتكنولوجيا السيبرانية لأي دولة تطلبها، ويضع هذا التحدي إسرائيل أمام معضلة حقيقة تتعلق بحقوق الإنسان، لكنها لا تستطيع تقديم هذه الحقوق على حقها في الوجود. فـ “إما الحقوق المدنية في بلد ما؛ أو حق إسرائيل في الوجود؛ أود أن أرى كل واحد منكم يواجه هذه المعضلة ويقول: “لا، سندافع عن حقوق الإنسان في البلد الآخر”. كلا أيها السادة، هذا لا يصلح في حالة إسرائيل”. على حد قوله.

ولعل هذا ما يبرر استخدام الشرطة الإسرائيلية تكنولوجيا NSO لجمع المعلومات سراً من الهواتف الذكية الإسرائيلية، مما جعل برنامج “بيغاسوس” أداة أساسية في الأنشطة الأمنية المحلية والدولية لإسرائيل. وقامت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بشراء “بيغاسوس” لاستخدامه في جيبوتي كجزء من نشاط مكافحة الإرهاب، رغم سمعة البلد في انتهاك حقوق الإنسان. وفي السياق ذاته، طلبت أوكرانيا الحصول على “بيغاسوس” عدة مرات منذ عام 2019، لكن طلباتها رُفضت، حيث رغبت إسرائيل في الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا ومواصلة عملياتها العسكرية في سوريا. ويدور الحديث هنا عن برنامج تحكم بالمسيرات من تطوير شركة Xtend، حيث تقوم روسيا بتسليح الطائرة بصواريخ من صنعها؛ على أن تطور الشركة الإسرائيلية برنامج تحكم في الطائرات بمساعدة جهاز الموساد الإسرائيلي من خلال تكنولوجيا الواقع الافتراضي والمعزز. ويذكر في هذا الصدد أن شركة المراقبة الإسرائيلية Cellebrite باعت لروسيا في العام 2022 تقنية اختراق الهواتف استخدمت فيما بعد ضد المعارضين للرئيس بوتين.

ويقال أيضاً إن العديد من مراكز الشرطة في الولايات المتحدة تستخدم نظام اختراق الهواتف الذب تصنعه شركة Cellebrite. وكان لاستخدام طارات هيرمس 900 من شركة إلبيت في غزة أن لفتت انتباه روسيا التي منحت ترخيصاً لطائرات الاستطلاع الجوي الإسرائيلية التي تصنعها شركة Aerospace Industries Searcher II الإسرائيلية، التي أعاد مالكوها الجدد تسميتها إلى “فوربوست Forpost‘”، وأصبحت أداة أساسية في الدعم الروسي للرئيس السوري بشار الأسد. ودرّبت إسرائيل طيارين روس على تشغيلها.

وإذا كانت المكسيك أول اختبار عالمي لنظام بيغاسوس، فسرعان ما تبعتها دول أخرى. وأصبح الزبائن جهات متنوعة في الإمارات العربية المتحدة وبنما وكينيا وتركيا وغيرها، كما استخدمه النظام المغربي لاستهداف معارضيه مما أسفر عن اعتقالهم بتهم ملفقة، فضلاً عن التجسس على كبار السياسيين الفرنسيين بمن فيهم الرئيس إيمانويل ماكرون. لقد كانت هذه التكنولوجيا جزء من صفقة تعزيز التعاون مع المغرب شملت بيع مسيرات انقضاضية وهو ما تجاهلته الحكومة الإسرائيلية في تصريحاتها الرسمية (على لسان وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد في العام 2021) لعدم إثارة أي انتقادات محتملة. وطبعت إسرائيل علاقتها مع المغرب أواخر العام 2020، مقابل اعتراف الولايات المتحدة بسيطرة المغرب على الصحراء الغربية.

واستمرت هذه العدوى الرقمية بالارتحال فوصلت إلى هواتف السياسيين الكاتالونيين المؤيدين للاستقلال (أدى انكشاف العملية إلى استقالة رئيس وكالة الاستخبارات الإسبانية).

ووفقاً لصحيفة “هآرتس” (آب 2022)، أبرمت NSO عقوداً مع اثنتين وعشرين هيئة إنفاذ القانون في الاتحاد الأوروبي (بالتعاون مع شركات برامج تجسسية أخرى). واستهدفت تكنولوجيا الشركة مسؤولين في وزارة الخارجية الأمريكية مقيمين في أوغندا، وعندما كشف الأمر، أواخر العام 2021، أعربت الشركة عن أسفها العميق لأنها كانت المرة الأولى (المعروفة) التي يقع فيها مسؤولون أمريكيون ضحية أدواتها الرقمية. إذ إن تصميم بيغاسوس لا يمكنه استهداف أي أرقام هواتف تحمل بادئة +1، بالنسبة للولايات المتحدة، وهو أمر أصر المسؤولون الإسرائيليون على الشركة تثبيته لتجنب تجسس العملاء العالميين على المواطنين الأمريكيين. ومع ذلك، خططت NSO لحل بديل، أطلق عليه اسم فانتوم Phantom، والذي عرضته على مكتب التحقيقات الفيدرالي في العام 2019 كوسيلة للوكالة لاختراق هواتف الأمريكيين.

وفي تشرين الثاني 2021، اتخذت إدارة بايدن خطوة مفاجئة ضد شركتي المراقبة الإسرائيلية NSO وCandiru بوضعهما على “قائمة الكيانات” (Entity List) الفيدرالية الأمريكية، مما يعني منع الشركات الأمريكية من بيع التقنيات الأمريكية إلى الكيانات المدرجة في القائمة. وتأتي هذه الخطوة ردًا على ما وصفته الحكومة الأمريكية باستخدام هاتين الشركتين برامج تجسس، لاختراق الهواتف المحمولة لمئات من الصحفيين والنشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان حول العالم. علماً أن إسرائيل تستعين حالياً بكلتا الشركتين في تعقب الأسرى والرهائن الإسرائيليين لدى حماس، وقد أبدت الشركتان استعداداً كبيراً لتقديمات الخدمات المجانية لأجهزة الأمن الإسرائيلية كنوع من المساعدة في “المجهود الحربي بأي طريقة مطلوبة” فضلاً عن شركات أخرى عديدة تنشط في تطوير برامج التجسس مثل “رايزون” و”بارغون”.

تُعد “NSO” من أبرز الشركات في مجال المراقبة الإلكترونية لجمع المعلومات الحساسة في المجالات العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية، حيث تتعاون مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية لتحقيق أهداف السياسة الخارجية للدولة. ولا تقتصر هذه الشركة على كونها كيانا تجارياً، بل تُعتبر أداة جذب وجزءً من الجهود الدبلوماسية الإسرائيلية، إذ يُمكنها من خلال بيع تكنولوجيا التجسس تحقيق مكاسب سياسية، خصوصاً لجهة تعزيز علاقات إسرائيل مع الدول الأفريقية والعربية. وفي هذا الصدد؛ يقول أميتاي زيف الذي عمل كمراسل لأخبار التكنولوجيا في صحيفة هآرتس، أن قوة الشركة ليست في الأموال التي تجنيها فحسب ولكن في الدبلوماسية أيضاً: “عندما تبيع إسرائيل أدوات المراقبة لبعض الدول الأفريقية، يمكنها ضمان تصويتهم لمصلحتها في الأمم المتحدة. وبما أن هناك احتلالاً، فنحن بحاجة إلى هذه الأصوات لتقف في صفنا”.

ربما يشكل الحديث عن نشاط شركة NSO التجسسية وقصة اغتيال خاشقجي مدخلاً للكتاب الذي نحن بصدده لتكوين صورة عن محتواه. وسوف نأتي على ذكر العديد من القصص المشابهة؛ بل هي ربما أكثر سوءً وأشد وقعاً.

وإذن من هنا نبدأ

فمؤلف الكتاب صحفي أسترالي يدعى أنتوني ليفنشتين نشأ في أسرة يهودية ليبرالية صهيونية؛ هاجرت إلى ملبورن في العام 1939. ويقدم في كتابه إضافة مهمة للأدبيات التي تبحث في استراتيجيات إسرائيل الأمنية وعلاقاتها الدولية، ويركز على تفاصيل دور إسرائيل في تطوير وتجريب تكنولوجيا الرقابة والقمع في الأراضي المحتلة وتصديرها إلى العالم؛ كما يكشف عن طرق استغلال هذه التقنيات لتعزيز وتوسيع نطاق التجسس الرقمي لتحقيق أهداف إسرائيل الأمنية والسياسية والدبلوماسية من خلال شركات المراقبة التي تسهم في تشكيل تحالفات سياسية دولية وتحقيق مكاسب أمنية، لا سيما في الشرق الأوسط.

حظي الكتاب حين صدروه باهتمام واسع من القراء والمهتمين بالشأن الإسرائيلي؛ وناقشته فعاليات عديدة (حضرتُ قبل شهر تقريباً جلسة خاصة لمناقشة لكتاب نظمتها حركة south/south movement) كما أشاد به نقاد بارزين مثل غدعون ليفي، حين اعتبره كمن “يضع الإصبع على الجرح”؛ أو كما أشار إيلان بابييه عن تحويل الخبرات العسكرية والأمنية الإسرائيلية إلى مشروع تجاري عالمي.

يقول ليفي عن الكتاب: “نحن أمام كتاب رائع موثق بصورة وافية عن جانب لا يعرفه كثيرون عن طبيعة الاحتلال، وأحد الكتب القليلة في التاريخ؛ التي شرحت استغلال المحتل للاحتلال دونما تكلفة يدفعها”… ويتابع “إنه يرسم صورة لإسرائيل، كواحدة من أكبر عشرة مصدرين للأسلحة في العالم لمن يرغب، وتتاجر بالموت والمعاناة”. انتهى الاقتباس.

تجدر الإشارة هنا إلى أن مبيعات إسرائيل من الأسلحة وصلت إلى 11.3 مليار دولار في العام 2021؛ وهي الأعلى على الإطلاق في تاريخها؛ بارتفاع وصل إلى 55% عن العامين السابقين.

ويرى إيلان بابييه أن الكتاب يكشف “الجانب الخفي والمروع من الاستعمار الإسرائيلي للفلسطينيين” كما يعتبر قراءة الكتاب فرصة لفضح “الطريقة التي تستغل بها إسرائيل اضطهادها لفلسطين بهدف تعزيز صناعاتها العسكرية والأمنية؛ وتصديرها.. وهو ما يعدّ إسهاما مهماً في كشف انتهاك إسرائيل لحقوق الإنسان”.  انتهى الاقتباس.

 القسم الأول/تشريح الكتاب

يتألف الكتاب من مقدمة وسبعة فصول وقائمة بالمصادر والملاحظات. ورغم وعورة مواده والتشابكات السياسية والأخلاقية لموضوعه؛ واستطراداته النصية- إلا أنه يمتاز بمحتوى موثق لعمق اعتماد إسرائيل على تقنيات القمع الرقابية المتطورة، دون إغفال الإشارة المباشرة للأسماء والأرقام والرموز والمغامرات وقصص تروى عن حدث أو حوادث، على لسان المتسببين بها والمتضررين منها. مع التركيز على دور الشركات الإسرائيلية في تطوير تقنيات المراقبة الرقمية المتقدمة وبرامج التجسس والتعاون الوثيق بين الدولة وشركات المراقبة لإنتاج تقنيات تجسس وبرامج اختراق الهواتف الذكية تستهدف الأفراد والصحفيين والنشطاء.

وتكمن أهمية المواضيع المطروحة بالكشف عن شبكة العلاقات المشبوهة التي تربط إسرائيل بدول عدة (معظمها أنظمة غير ديمقراطية حسب تصنيف الغرب) بذريعة الأمن ومكافحة الإرهاب. ويمكن التعرف على القسم الأكبر من هذا التعاون بسبب أنشطة الشركات الإسرائيلية التي تصدر فنون “إدارة” الصراع إلى أكثر من 130 دولة عبر العالم، كما تكشف فصول الكتاب -بطريقة عميقة ومتسقة- نجاح إسرائيل في أن تصبح من بين أهم المنتجين لتقنيات القتل الرقمي عن بعد والتجسس والمراقبة وبناء الجدران الذكية، وغيرها من وسائل القمع وأدوات تكريس الاحتلال الذي تحول إلى مختبر دائم لتطوير تقنيات المراقبة والتعرف على الوجه وبرامج التجسس، وكيف أسهم الدعم الغربي لإسرائيل في ترسيخ قوتها في هذا المجال مع استمراها بالإفلات من العقاب والمساءلة.

وعلى هذا؛ لم يعد واقع الاحتلال مجرد حالة سياسية مؤقتة -كما يقول الكاتب-، بل تحول إلى جزء أساسي من منظومة اقتصادية ربحية تستحق مثل هذه المغامرة القائمة على صناعات تقنية متنوعة تعتمد على تكنولوجيا يتم اختبارها وتطويرها في الأراضي المحتلة. وعلى هذا لم يعد المنتج الرقمي مجرد أداة تقنية؛ بل تحول إلى ذراع أمني ووسيلة استراتيجية عالية القيمة لتحقيق مآرب سياسية ودبلوماسية وأهداف أمنية؛ مثلما ذكرنا في المقدمة عن برنامج بيغاسوس الذي تأسس عليه نشاط شركة NSO منذ تأسيسها في العام 2010 (أسسها شاليف هوليو وعمري لافي، وانضم إليهم الموظف السابق في الموساد وعميل المخابرات العسكرية نيف كرمي).

من ناحية أخرى تتمتع وزارة الدفاع بسطوة قوية وقبضة محكمة على هذه الشركات، بما يشمل حماية أصولها وبراءات الاختراع والملكية الفكرية، وهذا يعني “سيطرة شبه كاملة” للتحكم “في أصول الملكية والحقوق المادية وحق النقض على المساهمين والمالكين والمشغلين، كما تتحكم أيضاً في التكنولوجيا وبراءات الاختراع والملكية الفكرية وحماية التكنولوجيا بطريقة لا يمكن هندستها عكسياً، أي استنساخها.”

وتساعد هذه السيطرة بتعزيز دور الشركات في تحقيق الأهداف الأمنية والدبلوماسية عبر تسويق برامج التجسس والمشاركة في المعارض التجارية الدولية المتخصصة في الأنظمة الدفاعية. ولهذا السبب لا يمكن للحكومة الإسرائيلية الضغط على هذه الشركات لأنها في الحقيقة تنفذ أوامرها وتعمل بتوجيهاتها، على عكس الدعاية الصاخبة التي روجت لها الأوساط الحكومية للنظر إلى هذه الشركات بصفتها محض مشاريع رأسمالي ذات خصوصية تسويقية وتجارية حرة، في حين أنها كانت دائما أدوات حاسمة تخدم التوجهات الحكومية.

وللتأكيد على ذلك يشير الكتاب إلى أحد أقسام وزارة الدفاع الإسرائيلية  المسؤول عن الأمن يدعى ملمب מלמב باللغة الإسرائيلية وعمله يشبه عمل أجهزة الاستخبارات بسبب تحقيقاته الخاصة وحماية المعلومات السرية المتعلقة بالمجال الدفاعي وتأمين البنية التحتية للجيش والمؤسسات الأمنية ومراقبة الأشخاص الذين يعملون في المشاريع والأنشطة الحساسة، بالإضافة إلى مهام أخرى في مكافحة التجسس وضمان عدم تسرب أسرار التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية المتقدمة وحماية الأنشطة الدفاعية سواء داخل إسرائيل أو في مشاريع مرتبطة بالخارج؛ وله تاريخ في إخفاء وثائق أرشيف الدولة مثل الوثائق ذات الصلة بأحداث العام 1948.

والمعنى العملي أن هذه الشركات -رغم مظهرها التجاري- هي امتداد للسياسات الإسرائيلية الأمنية وتخضع لرقابة صارمة لدرجة أنه يمكنها -على سبيل المثال- منع شخصية بمستوى الرئيس التنفيذي لشركة NSO من التجشؤ أمام كاميرة أي صحفي أجنبي أو إسرائيلي، دون موافقة قسم ملمب”.

ومن هنا؛ يتخذ الكاتب موقفاً نقدياً واضحاً فيبدو الكتاب كأنه محاكمة للفكر الصهيوني ولإسرائيل من وجهة نظر يهودي تربى في بيئة صهيونية “ناعمة”. فيصف الصهيونية كإيديولوجية قائمة على التفوق العرقي “الأبيض” المتمركز قومياً (كما يحلو للمؤرخين الجدد وصفها)، وبوتقة صهر لمشاعر مشتركة لدى معظم اليهود الصهاينة على حد قوله. وانطلاقاً من هذه الخلفية يحدد الصورة؛ بالأحرى الصور القاتمة للمعيش اليومي للفلسطينيين مع التركيز -بطبيعة الحال- على تقنيات الهيمنة العسكرية والمراقبة التي هي جوهر مادة الكتاب.

وللتأكيد على وجهة نظره، يروي في ثنايا الكتاب العديد من الشواهد العامة والشخصية لممارسة التمييز الرسمي والقانوني بصفته بنية أو أداة جوهرية للهيمنة العسكرية والسياسية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، لا سيما المراقبة اليومية الروتينية. ويكشف بدقة عن هذا التفاعل (مثلما هي التفاعلات في المختبر) بين التقنيات الأمنية الإسرائيلية والفلسطينيين في أماكن سكنهم وعملهم وحركتهم ـ

ويرصد المؤلف أحد الأمثلة الحية على هذه الهيمنة بوصف المشهد اليومي لهندسة القمع التكنولوجي على حاجز قلنديا بين القدس ورام الله، حيث يعيش الفلسطيني كابوساً ضمن فضاء مصمم للإذلال وهدر الكرامة والحط من القيمة الإنسانية من خلال إجراءات فحص ومرور عبر بوابات دوارة (كتلك الموجودة في ملاعب كرة القدم ولكنها هنا مصنوعة بشكل متعمد لتكون أصغر حجماً مما تسبب ضغطاً شديداً وتخلق شعوراً بالضيق وعدم الراحة).

وقبل العام 2004 كان هناك نوعاً من الاحتكاك المباشر بين عناصر الجيش والمواطنين الفلسطينيين؛ ولكن بعد ذلك تحول الحاجز -بصفته معيار ضغط نفسي وجسدي- إلى ما يشبه صندوقاً يتم فيه “تعليب الفلسطيني” حرفياً حيث يتحول الحيز إلى فضاء مغلق تماماً. ويقف الجنود بعيداً يفصلهم عن المواطنين نوافذ سميكة مقاومة للرصاص. يلقون أوامرهم بالصراخ عبر مكبرات الصوت ويطلبون وضع الحقائب على أجهزة النقل المتحركة وآلات الأشعة السينية، وعلى المواطنين إظهار جوازات السفر أو الهوية عند النافذة، ثم ينتقلون إلى البوابة الدوارة، وطوال الوقت يتم تصويرهم وتوجيهم “اذهبوا إلى هنا”، “اذهبوا إلى هناك”، “تحركوا”.

يجسد هذا المشهد تأثير المنظومة الأمنية الإسرائيلية المدمر على الفلسطينيين بالمزج بين السيطرة التكنولوجية والإخضاع النفسي (يذكرنا هذا بمصطلح كيّ الوعي الذي مارسته إسرائيل داخل الخط الأخضر في زمن سابق) لترسيخ عبثية الحياة والوجود لدى الفلسطينيين؛ وتعميق شعورهم بالخسارة والهزيمة في أعمق نقطة في وعيهم.

وفي المقابل تتعامل إسرائيل مع هذه التدابير كمثال تسويقي ناجح لـ “المنتج الأمني” لبيع وتصدير المعدات العسكرية، وتكنولوجيا المراقبة، وتقنيات الحرب الإلكترونية وأدوات عمل أجهزة الشرطة، باعتبار ذلك عملاً ريادياً في “صناعة الأمن العالمي”. وينظر الكثير إلى هذه التقنيات وإلى هذه الإسرائيل بإعجاب -إن لم يكن بغيرة- وهي تقف منفردة في محيط مليء بالأعداء، لتستعرض دون خجل أو مواربة أسلحتها ومنتجاتها الأمنية أثناء العمل على الأرض؛ واستخدام فرط القوة للحفاظ على وجودها.

ويقتبس ليفنشتين لهذا المعنى ما يقوله معهد القدس للاستراتيجية والأمن العبارة التالية: “نمو الصناعات الدفاعية الإسرائيلية هو قصة نجاح لا ينفصل عن تاريخ دولة إسرائيل والمشروع الصهيوني بأكمله؛ وهي مصدر فخر وطني”.

يعتبر ليفنشتين أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي سوف يؤدي حتماً إلى نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين؛ بالإضافة إلى تحول الاحتلال بحد ذاته إلى سلعة قابلة للتصدير. ويشير في هذا الصدد إلى ما طرحه أستاذ علم الاجتماع باروخ كيمرلينج في كتابه الصادر في العام 2003؛ “الإبادة الجماعية السياسية: حرب شارون ضد الفلسطينيين” عن السياسة الإسرائيلية الداخلية والخارجية لتدمير الوجود السياسي والاجتماعي الفلسطيني، بما يتجاوز مجرد السيطرة العسكرية إلى محاولة تفكيك الكيانية الفلسطينية برمتها كهدف مركزي يقوم على “الإبادة السياسية للشعب الفلسطيني؛ أي القتل السياسي هدفه النهائي تفكيك وانحلال وجود الشعب الفلسطيني ككيان اجتماعي وسياسي واقتصادي شرعي. وقد تشمل هذه العملية أيضاً -ولكن ليس بالضرورة- التطهير العرقي الجزئي أو الكامل من الأراضي المعروفة باسم أرض إسرائيل”.

لقد كانت التوجهات السياسية، على الأخص بين بعض النخب العسكرية والسياسية العليا، تؤيد تفريغ البلاد من العرب بطردهم قسراً إلى البلدان المجاورة، كما لم تكن بعيدة عن طرح كيمرلينج؛ بمعنى جعل العرب إما يختفون، أو -إذا لم يكن ذلك ممكناً- جعلهم غير متساوين على أمل دفعهم إلى الهجرة بحثاً عن حياة أفضل.

ربما كان بوسع كيمرلينغ إضافة كيف تحول القتل السياسي إلى أداة قابلة للتسويق لمن يرغب في محاكاة “النجاح” الإسرائيلي. رغم ما يمثله انتشار هذا النموذج من الجمع بين السيطرة المطلقة (على الفضاء المكاني الفلسطيني) وتجريد السكان من إنسانيتهم؛ ناهيك عن تسليع أدوات القمع السياسي، مما يجعل من هذه الأدوات جزء من الصناعة العالمية المتجددة في الرقابة والأمن السيبراني على المستوى العالمي.  

 لقد استثمرت صناعة الأمن أدواتها واستراتيجيتها بشكل فعال، مستندة إلى تجارب ميدانية أظهرت أن إبقاء الفلسطينيين والإسرائيليين بعيدون عن بعضهم البعض هو الحل العملي الأمثل على المدى القصير أو المتوسط على أقل تقدير. ويؤكد كيمرلينغ أن دعاة النزعة الانفصالية هذه يريدون “عكس التطهير العرقي ولكن سيكون لهذا الأمر نتائج عملية ونفسية مماثلة. إنه متجذر في مزيج من المشاعر المتشابكة: عدم الثقة والخوف وكراهية العرب، إلى جانب الرغبة في إخراج إسرائيل من بيئتها الثقافية المباشرة”.

وتبرز هنا استراتيجية “الخنق البطيء المتواصل” للضفة الغربية بمئات المستوطنات وبالجدار، والمراقبة المستمرة بالمسيّرات، والهجمات الصاروخية المتقطعة، وغلق الحدود الحضرية للمدن والبلدات، فضلاً عن الحالة التي آل إليها قطاع غزة الآن، وكذلك الإجراءات القمعية والتعسفية الموجهة ضد الفلسطينيين داخل الخط الأخضر.

وتسهم هذه الإجراءات بتطوير واختبار تكنولوجيا قمعية لمراقبة السكان والسيطرة عليهم وتعميق الاحتلال وصلت إلى مستوى يجعل قتل الفلسطيني أسهل من عملية شراء رقمية، كما يقول العقيد أورن ماتزلياخ حين اعتبر أن الجيش وصل إلى مرحلة من التحكم والسيطرة “الرقمية” تجعل من قتل الفلسطيني يشبه طلب منتج ما عبر تطبيق إلكتروني مثل شراء كتاب من أمازون أو طبق بيتزا من مطعم، وكان يشير بذلك إلى الأمر الصادر للجيش في العام 2020 الذي يسمح لأي قائد ميداني إرسال تفاصيل حول الهدف المطلوب تصفيته على جهاز إلكتروني إلى القوات العاملة في الميدان التي ستقوم بعد ذلك بـ “تحييده” بسرعة.

وإذن؛ يحمل الكتاب رسالة تحذير قوية تركز على المعاملة الوحشية التي يتعرض لها السكان بسبب الاحتلال، مشيراً إلى أن هذه الوحشية لم تعد تقتصر على الفلسطينيين وحدهم؛ بل انتقلت العدوى إلى بلدان أخرى. وإذا كان الفكر الاستشراقي قد حولنا إلى محض مقولات أنثروبولوجية خالية من الصفات الإنسانية، فإن ما تقوم به إسرائيل الصهيونية هو أشد عمق وتطرف حين تحول الفلسطينيين إلى موضوعات objects تجارب مخبرية؛ وهذا على كل حال جزء من عقلية استعمارية لطالما استخدمت “الجنوب” العالمي كحقل تجارب لمشاريعها النووية والصيدلانية والهندسة الاجتماعية وتوجهات الناشيونال جيوغرافيك (نستطيع ذكر ما كان يحدث من تجارب التكنولوجيا الرقمية في مخيمات اللجوء في القارة الأوروبية قبل عدة سنوات وما زال لجهة إجبار اللاجئين على مسح القزحية البيومتري أو الترحيل ضمن إجراءات رقابية ذات طابع استعماري).

وتعد شركة إلبيت Elbit التي تأسست في العام 1966، أكبر منتج خاص للأسلحة في إسرائيل اليوم، ومورداً أساسياً لمعدات الدبابات والطائرات الإسرائيلية، وهي تبيع منتجاتها لمن يرغب سواء كانت دولاً ديكتاتورية أم أنظمة ديمقراطية، وعملت بشكل وثيق مع الجيش الأمريكي ومجموعة من الدول الأخرى لتطوير مجموعة من المعدات، شملت طائرات مسيرة وأجهزة رؤية ليلية وأنظمة مراقبة أرضية وذخائر فتّاكة. ولا تزال إلبيت حتى اليوم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمؤسسة الأمنية الإسرائيلية. ومن بين “إنجازاتها” تأمين تقنية المراقبة لعسكرة الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، بالإضافة إلى شراكتها مع الاتحاد الأوروبي حيث زودت الوكالة الحدودية للاتحاد المعروفة باسم “فرونتكس” بطائرات دون طيار لمراقبة الحدود وكبح تدفق اللاجئين…

وهكذا يتواصل “تطبيع” المعدات الأمنية الإسرائيلية؛ ففي العام 2020 اشترت كندا طائرات دون طيار من شركة إلبيت من طراز Hermes 900 بقيمة 28 مليون دولار؛ علماً أن هذه الطائرة استخدمت واختبرت أول مرة خلال العدوان على غزة في العام 2014.  لكن كندا زعمت أنها ستستخدم الطائرات لأغراض المراقبة في القطب الشمالي “للكشف عن تسربات النفط وأعمال مسح الجليد والمواطن البحرية”. وستساعد هذه المعدات في “الحفاظ على نظافة وسلامة مياهنا”.

صحيح كان نشر طائرات هيرميس لأغراض مدنية، لكن شراءها سيعزز بلا شك شركة أسلحة إسرائيلية تصنع طائرات دون طيار لمراقبة واستهداف المدنيين الفلسطينيين تحت الاحتلال. وبالكاد تطرقت وسائل الإعلام إلى هذه الصفقة.

وفي العام 2022 أعلنت إسرائيل عن استخدامها طائرات مسلحة دون طيار في عمليات قتل مستهدفة في الضفة الغربية.

ويتجلى نزع الصفات الإنسانية في الترويج لتقنيات القتل هذه على موقع IsraelDefense حيث يتم تصوير التطبيقات كأنها خدمات روتينية مثل طلب طبق بيتزا. وبينما تمتلئ شوارع المدن والعواصم الغربية والعالمية الآن بالمتظاهرين للمطالبة بوقف الإبادة الجماعية في قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان، تستغل الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية وقطاع الصناعات الدفاعية والتكنولوجية والسيبرانية العدوان لتسويق سلعهم.

ونشرت إسرائيل لقطات فيديو للوحدة 212 كوماندوز الاستطلاعية (Sayeret Maglan) وهي تستخدم قذيفة هاون جديدة عيار 120 ملم تسمى “اللدغة الحديدية Iron Sting“، المعلن عنها على موقع شركة إلبيت والمستخدمة في سلاح المشاة الإسرائيلي. وتتميز القذيفة بنظام توجيه مزدوج يعتمد على الليزر ونظام تحديد المواقع (GPS)، مما يسمح بتوجيه ضربات عسكرية دقيقة في المناطق الحضرية، وتزعم الشركة أن الهدف من صنعها تقليل مخاطر الأضرار الجانبية في المناطق المكتظة بالسكان، وحرصت على توثيق ذلك بتقديم نماذج من طرق استخدامها في الأراضي المحتلة. وتعتقد الشركة أن استخدام القذيفة الموثق بالصور والفيديو فرصة مناسبة لجني أرباح مستقبلية بفضل اختبار تقنيتها على أرض الواقع.

وإذن، لا يمكن لمختبر فلسطين هذا أن يزدهر ما لم تؤمن به دول عديدة، ولذلك ليس من المستغرب سعي بعض الأنظمة إلى تقليد القمع الإسرائيلي، باستخدام التكنولوجيا ضد شعوبها ومعارضيها وخصومها. ولعل هذا يمثل أحد الأسباب المهمة لتطور قطاع الصناعات الأمنية والسيبرانية أكثر من الصناعات الدفاعية العسكرية التقليدية الإسرائيلية، نظراً لسهولة بيع تلك المعدات وصعوبة كشف انتهاكها الصريح لحقوق الإنسان ومواثيق القانون الدولي الإنساني.

وهذا ما جعل الكاتب يعبر عن شعوره بالخجل والعار من الممارسات التي تجري باسمه وباسم كل يهودي: “فخلال 20 سنة من وجودي هنا في حي الشيخ جراح بالقدس أجريت -يقول الكاتب- مراجعات وسط وعي عالمي يتشكل حول إسرائيل بتحولها إلى دولة أبارتيد مستمد تماماً -إن لم يكن أسوء حالاً من نظام جنوب أفريقيا السابق”.

في الواقع استفادت الشركات الإسرائيلية من الاحتلال الإسرائيلي بصفته “مختبراً” تجريبياً لتطوير تقنيات المراقبة واختبار أدوات التجسس على الأرض في ظروف واقعية وصعبة، فتحولت مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة إلى بيئات تجريبية مثالية لاختبار هذه التقنيات، ما سمح بتطويرها وتعديلها لتلبية الاحتياجات الأمنية في مواجهة الفلسطينيين. كما وفر الاحتلال بيئة تحدٍ أمنيٍّ غنية بالبيانات وذات مستويات عالية من تطبيق تقنيات المراقبة مثل اختراق الهواتف والتنصت وتتبع المواقع الجغرافية في أماكن التجمعات السكانية وحركتها في القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة.

وانتقلت هذه الخبرة إلى مجالات أوسع عندما استخدمتها وكالة المراقبة الأوروبية، لمعرفة حركة اللاجئين والمهاجرين في البحر الأبيض المتوسط، في تجارب تجسس مشابهة لما يحدث في المناطق الحدودية الإسرائيلية.

وبهذا، قدم الاحتلال الإسرائيلي أداة اختبار فريدة لتطوير أنظمة السيطرة الاجتماعية مع إمكانية تصديرها إلى مواقع أخرى عبر العالم لا تشبه بالضرورة الحالة الفلسطينية، مما يعني مرونة هذه الأنظمة وقابلية تطبيقها في بيئات مختلفة في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وغيرها من بلدان العالم. وهذا ما يجعل إسرائيل تتشبث في بقاء هذه الشركات وضمان هيمنتها العالمية من خلال تقديم الدعم اللازم للشركات ومراقبة صادراتها.

إن عالم التكنولوجيا السيبرانية هو عالم خفي كما وصفه بابييه. وقد استطاعت إسرائيل تحويل فلسطين إلى مختبر حقيقي ومثالي ابتداءً من المراقبة المستمرة وهدم المنازل والسجن إلى أجل غير مسمى، والتوحش التقني في تجريد الفلسطيني من إنسانيته وإنزال مرتبته إلى درجة “حيوان تجارب” لتحقيق أعلى درجات التقنية التطبيقية في تكنولوجيا التجسس والأجهزة الدفاعية.

وسوف يكون الاحتلال أداة التسويق المثالية، وفلسطين كمختبر. وسوف تكون دولاً أخرى مثل المكسيك والهند وميانمار والإمارات العربية المتحدة والسعودية والمغرب وهاييتي وتشيلي ورومانيا والبحرين وبيلاروسيا والفيليبين ونيجيريا وأوغندة وغينيا الاستوائية والاتحاد الأوروبي وروسيا وأذربيجان والولايات المتحدة أسواقاً رئيسةً لهذه التكنولوجيا، وما سيسفر عنه من تعاون أمني سيبراني واستخباراتي بين الشركات الإسرائيلية -ومن خلفها الحكومة الإسرائيلية- وشخصيات مختلفة مثل محمد بن سلمان وفيكتور أوربان ومحمد بن زايد وناريندرا مودي ونظام الحكم في غواتيمالا والطبقة العسكرية في ميانمار إلى استهداف شخصيات مثل جيف بيزوس وجمال خاشقجي وآلاف الروهينغا  فضلاً عن الطائرات المسيّرة التي يستخدمها الاتحاد الأوروبي لمراقبة اللاجئين في البحر المتوسط.

كل هذا سنجده في ملخصات موجزة ومبسطة في الكتاب لسجل إسرائيل الإجرامي في السياسة الخارجية منذ إنشائها، من دعم الأنظمة القمعية حول العالم في تشيلي وإيران (زمن الشاه)، وإندونيسيا (زمن الجنرال سوهارتو بين عامي 1965- 1966، خلال أعمال الإبادة التي أدت إلى قتل واختفاء أكثر نصف مليون إندونيسي) إلى مليشيا الكونترا في نيكاراغوا وحكومة جنوب إفريقيا خلال حقبة نظام الفصل العنصري وجنوب السودان.

القسم الثاني/مختبر الأراضي الفلسطينية

تستخدم إسرائيل بالتعاون مع شركة AnyVision تقنيات مراقبة متقدمة في الضفة العربية؛ عبر مئات الكاميرات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، وتقنية التعرف على الوجه باستخدام طريق القياسات البيومترية الحيوية في عشرات نقاط التفتيش والحواجز. لا تعترف إسرائيل ولا الشركة بمواقع هذه الكاميرات؛ وتدعي الشركة أنها تطور منتجات تقنية “أخلاقية” لبناء عالم “أكثر أماناً بوساطة الذكاء البصري” لا تعتمد على السمات الإثنية/ العرقية أو الجنس. ولا تصرح الشركة بدورها الحقيقي في الضفة الغربية أو بطبيعة عملها. لكن بعض التقارير تشير إلى استهداف مشروع Google Ayosh الفلسطينيين من خلال قواعد البيانات. كما تواصل الشركة الاستفادة من الاحتلال لتطوير أنظمة المراقبة الجماعية، مع التركيز على محاولات وقف الهجمات الفلسطينية. وتعمل الشركة في أكثر من أربعين دولة، منها روسيا والصين (هونغ كونغ) والولايات المتحدة، وفي مواقع لا حصر لها مثل الكازينوهات ومراكز التصنيع وحتى مراكز اللياقة البدنية. وقد غيّرت اسمها إلى Oosto في أواخر العام 2021 وجمعت 235 مليون دولار كاستثمارات لمواصلة تطوير أدوات المراقبة المدعومة بتقنية الذكاء الاصطناعي. ويعمل معها تامير باردو الرئيس السابق للموساد (2011-2016) بصفة مستشار، ومعظم موظفيها من خريجي الوحدة 8200 الاستخباراتية الإسرائيلية.

يذكر أن ميكروسوفت استثمرت في AnyVision 74 مليون دولار في العام 2019 قبل أن تضطر إلى الانسحاب إثر تعرضها لانتقادات عنيفة.

لم تكن AnyVision الشركة الوحيدة التي تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي في المراقبة. فشركة Cor-sight المملوكة جزئياً لإسرائيل والمتخصصة في تقنيات التعرف البيومتري تعمل مع أقسام الشرطة المشهورة بوحشيتها في المكسيك والبرازيل وكذلك مع الحكومة الإسرائيلية. ودخل العقيد السابق في الجيش الإسرائيلي، داني تيرزا، في عقد شراكة مع الشركة لتطوير كاميرا لجهاز الشرطة يمكنها التعرف الفوري على الأشخاص ضمن الحشود، حتى لو كان الشخص يغطي وجهه، ويمكن لهذه الكاميرة مطابقة صورة الشخص مع صور سابقة له في مراحل عمرية مختلفة. يعيش تيرزا هذا في مستوطنة كفار أدوميم في الضفة الغربية وهو أحد المهندسين البارزين الذين خططوا لبناء جدار الفصل في الضفة الغربية كما لعب دوراً أساسياً في وضع البنية التحتية الأمنية في الضفة العربية، وأحد الذين وضعوا خرائط الأراضي أثناء المفاوضات مع الفلسطينيين. ويروج تيرزا لتقنية التعرف على الوجه عند نقاط التفتيش الإسرائيلية لأنها تقلل من “الاحتكاك” بين الجيش والفلسطينيين وتسهل عملية المراقبة.

ويستخدم الجيش الإسرائيلي تقنية التعرف على الوجه البيومترية من خلال زرع شبكة واسعة من الكاميرات وصور الهواتف المحمولة لتوثيق الحالة الراهنة والسابقة لكل فلسطيني في الضفة الغربية.

وابتداء من العام 2019، استخدم الجنود تطبيق Blue Wolf لالتقاط صور لوجوه الفلسطينيين ومقارنتها مع قاعدة بيانات أطلق عليها “فيسبوك الفلسطينيينFacebook for Palestine“. وطُلب من الجنود التنافس في التقاط أكبر عدد من الصور للفلسطينيين لتخزينها دون موافقة أصحابها طبعاً. وتستخدم هذه التقنية في مدينة الخليل على سبيل المثال بدقة عالية لدرجة أنها تستطيع مراقبة الأشخاص داخل بيوتهم وغرف نومهم في بعض الأحيان، ويزعم الجيش أن البرنامج مصمم “لتحسين نوعية الحياة للسكان الفلسطينيين”.

وفي العام 2022، قامت إسرائيل بتركيب نظام تحكم عن بعد لتفريق الحشود في المدينة قادر على إطلاق الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي والقنابل الصوتية؛ بالإضافة إلى محطة ذكاء اصطناعي من صنع شركة سمارت شووترSmart Shooter الإسرائيلية للتعرف على الهدف والتنبؤ بتحركاته من خلال المعالجة المتقدمة للصور. وتتكون المحطة من أسلحة خفيفة يتم التحكم فيها عن بعد (LRCWS)، وتدعي الشركة استخدامها الناجح لتقنية الذكاء الاصطناعي للمساعدة في العثور على الأهداف بدقة. وتواظب الشركة على الوجود المنتظم في عروض منظومات الدفاع الدولية وقد باعت معداتها إلى أكثر من اثنتي عشرة دولة. مع كتالوغ إقناع شديد الوضوح، أي مشاهد حقيقية من تجريب هذه المعدات على أرض الواقع في الضفة الغربية وقطاع غزة.

يمثل تطبيق بلو وولف Blue Wolf نوعاً من “الاحتلال الرقمي” باحتوائه على أدق التفاصيل الشخصية تقريباً لكل فلسطيني في الضفة الغربية مثل الوضع التعليمي والصور الشخصية والمستوى الأمني وتاريخ العائلة.

وفي العام 2022، صدرت تعليمات صارمة لكل جندي يخدم في الضفة الغربية بإدخال تفاصيل وصور لخمسين فلسطينياً على الأقل في نظام بلو وولف Blue Wolf في كل وردية مناوبة حتى لو لم يكن هناك سبب أو داعٍ لذلك. وأصبح هذا السلوك جزءً من استراتيجية توثيق الحياة الفلسطينية، بطريقة تشبه الإعدادات والترتيبات المستخدمة في الصين ضد الإيغور في مقاطعة شينجيانغ، غير أن ما تقوم به إسرائيل لم يحظ بتغطية أو نقد أو إدانة كما هو الحال مع الصين.

وخلال مسيرات العودة (بين آذار 2018 وكانون الثاني2019) في قطاع غزة استخدم الجيش طائرات دون طيار مسلحة بقنابل أو حاويات غاز مسيل للدموع كانت تلقيها على المتظاهرين (أطلق الجيش على هذه التقنية اسم “بحر الدموع” فيما أطلق عليها ليفنشتين “المختبر المثالي للبراعة الإسرائيلية في الهيمنة”). كانت تلك المسيرات تجربة ميدانية في الزمن الحقيقي لاختبار التقنيات الدفاعية لدرجة أن الجيش الإسرائيلي نشر تغريدة في 31 آذار 2018 مفادها: “بالأمس رأينا 30 ألف شخص هنا؛ وقد وصلنا ونحن على أتم الاستعداد؛ ومجهزين بتعزيزات دقيقة. لم نقم بأي عمل طائش، كل شيء كان تحت المراقبة والسيطرة؛ كل شيء كان دقيقاً ومقاساً، حتى أننا كنا نعرف كل رصاصة أين سقطت”. (حذف الجيش تغريدته فيما بعد)

 قتلت إسرائيل في مسيرات العودة 223 فلسطينياً معظمهم من المدنيين؛ وأكثر من ثمانية آلاف مصاب برصاص القناصة، جزء منهم أصيب بعاهات دائمة.

كان لحصار القطاع دورٌ بارزٌ في تطوير تقنيات المسيرات من شركة Xtend الإسرائيلية، بحيث يمكن التحكم بالطائرات عن بعد باستخدام تقنية الواقع المعزز والافتراضي، بهدف اعتراض أهداف جوية معادية (مسيرات) عن طريق رمي الشباك حولها من مسافة قريبة، وأدار الجيش الأمريكي برنامجاً تجريبياً مشابهاً في العام 2020 وكان المختبر غزة.

يقول أفيف شابيرا مؤسس الشركة: نحن نختصر عامين من التدريب إلى خمس دقائق… يصل الجنود هنا، وفي غضون 10 دقائق من التدريب يبدأون في إسقاط البالونات”. وتؤكد الشركة على كفاءة برنامجها من خلال التحقق منه وإثباته هنا في إسرائيل، حيث استطاعت المسيرات اعتراض أهداف حارقة تحلق فوق حدود غزة أرسلتها المنظمات الإرهابية”.

وهدف البرنامج الأساسي -حسب شابيرا- التصدي للمسيرات الانتحارية “الغبية”، بسبب “صعوبة اعتراضها بتقنيات أخرى مثل تداخل الإشارة، لذلك كان القبض المادي على الهدف هو الحل الوحيد”. وأعطت تقنية الواقع المعزز والافتراضي شعوراً للمتدربين بأنهم داخل الطائرة تماماً مما مكنهم من التفاعل الفعلي والدخول إلى واقع غير تلامسي والاشتباك مع الأهداف بفعالية وأمان.

وبناء على ما سبق اشترى البنتاغون عشرات الطارات من شركة Xtend في العام 2021؛ لا سيما النموذج المخصص للعمل في المناطق الداخلية والحضرية، لاستخدامها -فيما بعد- في سوريا وأفغانستان. كما استخدمتها ألمانيا وكندا وبريطانيا وأستراليا في عمليات عسكرية مختلفة. ولا يعرف على وجه الدقة عدد الأشخاص الذين قتلوا بالمسيرات الأمريكية منذ 11 أيلول 2001. وتشير بعض التقديرات إلى عدد يتراوح بين 9000 و17000، من بينهم نحو 2200 طفل على الأقل. علماً أن منظمة الشفافية Airwars البريطانية نشرت تقريراً بمناسبة الذكرى العشرين لـ 9/11 ووجدت أن الولايات المتحدة قد أطلقت ما لا يقل عن 91,340 غارة عبر سبع مناطق حرب رئيسة وبلغ عدد القتلى المدنيين بين 22,679 و48,308.

تعد مراقبة السكان المدنيين أولوية قصوى تتبعها شركة Mer Security وقد حصلت الشركة في العام 1999، على عقد تركيب مئات الكاميرات في البلدة القديمة في القدس لمراقبة الفلسطينيين. ويؤكد حاييم مير، أحد قدامى المحاربين في الوحدة 8200، ورئيس مجلس إدارة الشركة، إن “الشرطة بحاجة إلى نظام يسيطر فيه “الأخ الأكبر” ويسمح برؤية شاملة للأحداث في منطقة المدينة القديمة” ويشير مثل هذا التعميم الأورويلي إلى أهمية نظام المراقبة الجماعية في نجاح الشركة على الصعيد العالمي، ويرجع هذا النجاح بالدرجة الأولى إلى تركيب الشرطة الإسرائيلية لكاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة CCTV مما سمح بعرض مشاهد على العملاء المحتملين لرؤية العمل وتوثيق فعالية نظام المراقبة.  كما استفادت الشركة من خبرات الوحدة 8200 في تطوير أداة تحليل وجمع المصادر المفتوحةOpen Source Collection Analysis and Response (Oscar)، لمسح حسابات وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت بحثاً عن صلات وروابط مفتوحة المصدر للتعرف على الأفراد أو الجماعات المشتبه فيهم. دون الأخذ في الاعتبار لخصوصية المواطنين في معيشهم اليومي وأماكن عملهم وغيرها من مظاهر الحياة اليومية.

وما هو أكثر غرابة، إعجاب هيئة الأمم المتحدة بأنظمة المراقبة الإسرائيلية؛ فأبرمت في العام 2020 عقوداً مع شركات ” Mer Security ” و” Elbit ” و” Israel Aerospace Industries ” لحفظ الأمن في قواعد المنظمة في مالي، وتشمل تركيب كاميرات CCTV وتأمين مسيرات وأنظمة كشف التهديدات المحتملة، علماً أنه صدر تقرير عن الهيئة الأممية في شباط 2020 عن الشركات العاملة داخل المستوطنات الإسرائيلية “غير القانونية” في الضفة؛ من بينها 94 شركة لها مقرات في إسرائيل و18 شركة في ست دول أخرى. وحثت المنظمة هذه الشركات على التوقف عن العمل في الأراضي المحتلة، ومع ذلك تجد المنظمة الأممية نفسها زبوناً للشركات الإسرائيلية في مشاريع أمنية في أفريقيا.

لقد تطور المختبر الفلسطيني ليصبح شاشة عرض كبيرة تروج للحروب بأنواعها كافة؛ بطريقة سينمائية عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة. وبسبب خشيتها من انقلاب الرأي العام في بعض الدول الغربية ضد أعمالها العسكرية، ابتكرت الأجهزة الأمنية تقنية جديدة تدعى “إنستاوور instawar “وهي مبادرة رقمية تبث بشكل مباشر العمليات العسكرية والرسوم البيانية على منصة تويتر، للإعلان عن مقتل أو اعتقال هذا العضو أو ذاك من حماس أو غيرها من “الإرهابيين” الفلسطينيين”. 

كان الهدف من هذه الجملة الحركية الإعلامية ذات الطابع النسقي تهيئة الظروف للتطبيع الذهني والنفسي الأوسع حيث تقدم أنشطتها العسكرية وتصوير وضعيات الجنود وجاهزيتهم الميدانية كأننا نشاهد فيلم أكشن هوليوودي؛ بهدف إيصال رسالة للعالم أن إسرائيل في حالة دفاع، وأن هذه العمليات العسكرية تأتي في سياق مكافحة الإرهاب.

وبهذه “الهسبارا” المشبعة -بفائض حماس قومي انفعالي مؤثر- سعى الجيش إلى استغلال الإنترنت لنشر صور جماعية متجانسة لأدوات الحرب يمكن للغير تقليدها بسهولة.

ففي عملية “عمود السحاب” 2012، حث الجيش مؤيدي إسرائيل على مشاركة مشاهد قتل “إرهابيين” ونشرها بفخر، وتذكير الجمهور العالمي بأن إسرائيل هي المعتدى عليها. ويمثل هذا الجهد شكلاً من أشكال التجنيد الجماعي لخدمة أجندة الحرب من خلال “تسليح” وسائل التواصل الاجتماعي لتعزيز صورة إسرائيل كضحية دائمة وشرعية وجودها وحقها في الدفاع عن نفسها ونفي كونها “دولة احتلال” استعمارية.  

لاقى هذا النهج الإعلامي استحساناً عند المسؤولين الأمريكيين فنسخوه كما هو تقريباً، عندما أطلقت وكالة المخابرات المركزية حملة -في العام 2021- بعنوان Humans of CIA لجذب وتجنيد أفراد من شرائح أكثر تنوعاً.

وتبدو هذه الاستراتيجية الإسرائيلية بمنزلة محاولة متطورة لربط عمليات الجيش بالقيم الغربية، أو على الأقل بالسياسات التي تدعم الرد العسكري على الإرهاب، على أمل إيجاد تأييد عالمي لجهودها، فحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحة حرب حقيقية؛ أو كما يقول العقيد المتقاعد أفيتال ليبوفيتش مؤسس وحدة وسائل الإعلام الاجتماعية في الجيش الإسرائيلي ومدير اللجنة اليهودية الأمريكية في إسرائيل.. هذه المنصات “هي منطقة حرب بالنسبة لنا هنا في إسرائيل”. مما يسمح باستعراض مكاسب الحرب أمام الملأ، أي استعراض الضحايا الفلسطينيين وتقديمهم كأعداء لتأسيس سرديات غنيمة شديدة الوضوح تنظر إلى الفلسطينيين كإرهابيين وإلى إسرائيل كضحية دائمة ولا ضحية سواها.

ويتمثل الهدف المضمر لاستراتيجية التلاعب الإعلامي بن الجمهور المؤيد في استخدام تجربة الصدمة اليهودية لتأبيد الاحتلال. حيث يظهر تكتيك استعراض أعداد كبيرة من المنشورات والصور بطريقة دلالية، خطوة أولية نحو تسويق التضحيات الإسرائيلية في معاركها المتواصلة ضد الفلسطينيين، ويعني هذا التلاعب المعتمد على استخدام التعابير الدلالية memes  وأدوات الإعلام الرقمي إضفاء حالة “عادية” أو “طبيعية” على القتل ونقلها للمتلقي بشكل مبتكر عبر أفكار يجمعها معنى واحد ورسالة واحدة قد تكون نصاً أو صورة أو رمزاً أو مقطع فيديو أو تسجيل صوتي… وما إلى ذلك وتكرار استخدام هذه التعابير الدلالية والعمل على نشرها بكثافة بحيث يعيد الجمهور نشرها وتداولها الواسع؛ وسوف تفترض الجهات الإسرائيلية أن هذا التكتيك يتيح لها التأثير على المتلقي بحيث يتبنى هذه التعابير وتتحول عنده إلى قناعة تكرس الطبيعة الإرهابية للفلسطينيين وظهورهم كمعتدين لا شرعية لمقاومتهم الاحتلال أو حتى لاعتراضهم أو غضبهم، مما يسهم في ترسيخ الرسالة الدعائية وتعزيز تأثيرها وصولاً إلى تكوين رأي عام أو صورة ذهنية معينة تخدم تكتيك الجيش وعملياته في الأراضي المحتلة، بل والإصرار على ضرورتها وأهميتها وتحويل السجال حولها إلى جزء من النقاشات اليومية، مما يجعلها تتأصل تدريجياً في ذهن المتلقي.

ستجذب هذه التجربة المثيرة بمضامينها الإيديولوجية دولاً أخرى، غير قادرة –في معظمها على مضاهاة إسرائيل في السرعة والتطور التكنولوجي في حروبها الخاصة مع المتمردين أو المعارضين المحليين، وسوف يحافظ نقل أو شراء أو تقليد هذا التكتيك على الجوهر الأساسي في جميع الحالات: نشر المزيد والمزيد من المنشورات والتغريدات أو التعابير الدلالية memes  كرد سلبي على تغريدة أو منشور على فيسبوك لا يلقى استحساناً، بهدف إغراق الإنترنت بالضوضاء والمعلومات المضللة لتشويش الرأي العام والتخفيف من التأثير السلبي للمحتوى غير المقبول، بحيث يتم نسيان المنشورات السابقة بسرعة (على مبدأ نشاط الذباب الإلكتروني).

القسم الثالث/من قصص الكتاب

القصة الأولى من تشيلي

يتطرق ليفنشتين إلى دور إسرائيل في دعم نظام بينوشيه، فيتحدث عن دانيال سيلبرمان الذي كان طفلاً صغيراً عندما وقع الانقلاب الذي أطاح بسلفادور ألليندي. غادر دانيال مع عائلته إلى إسرائيل في العام 1977، وكان والده دافيد سيلبرمان قد اعتقل في سانتياغو ثم تعرض للاختطاف في العام 1974 من السجن، واختفى منذ ذلك الحين، ويعتقد أنه تعرض للتصفية. وبعد عودة الديمقراطية إلى تشيلي في العام 1999، اعترفت لجنة حكومية بتورط النظام العسكري في اختطاف دافيد سيلبرمان، دون تقديم تفاصيل. وكشفت وثائق نُشرت في عهد الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في العام 1999، عن دور وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) في الأحداث. ورغم غموض دور إسرائيل إلا أنها ترفض حتى الآن الكشف عن أي تفاصيل، وتكشف الوثائق التي رفعت عنها السرية عن علاقة إسرائيل بالمجلس العسكري التشيلي، وبالأخص تدريب أنصار بينوشيه وتزويدهم بالأسلحة بمعرفة الولايات المتحدة. كما تشير برقية من السفارة الأمريكية في تشيلي تعود للعام 1980 وأخرى من العام 1984 عن دور إسرائيل كمورّد سلاح بارز للنظام؛ ويشرح تقرير استخباراتي أمريكي يعود إلى العام 1988، بالتفصيل نوعية تلك الأسلحة المتطورة التي كانت ترسلها إسرائيل إلى المجلس العسكري الحاكم في تشيلي مثل الصواريخ والدبابات والطائرات.

رفع دانيال في العام 2015، رفقة ناجين آخرين دعوى قضائية طالبوا فيها بالكشف عن علاقة الدولة بالمجلس العسكري التشيلي.

ادعت الحكومة في البداية عدم وجود مراسلات بين إسرائيل ونظام بينوشيه، ثم اعترفت بوجود نحو 19 ألف وثيقة من تلك الحقبة لكنها غير مفرزة وغير منقحة ولا يمكن -بالتالي- اطلاع الجمهور عليها؛ وأوصت بتعيين موظفين لتدقيق هذه الوثائق وفحصها؛ ووضع جدول زمني لتحديد نوع وعدد الوثائق التي يمكن الإفراج عنها خلال مدة زمنية محددة، ثم -بعد حوالي عام- قدمت المحكمة 12 صفحة تضم وثائق غير ذات صلة بالقضية وتعود للعام 1981. وبعد ذلك زعمت أنها فحصت حوالي أربعمائة وثيقة ولم تجد ذكراً لعائلة سيلبرمان.

استأنف دانيال ومن معه الدعوى أمام المحكمة العليا في العام 2019 بعد سماع إشاعات شائعات حول نقل الحكومة للوثائق من أرشيف الدولة إلى أرشيف الجيش؛ وهذا يعني عدم السماح بتاتاً الاطلاع على الوثاق لأن أرشيف الجيش ليس متاحاً لطلبات حرية المعلومات. لكن المحكمة العليا رفضت الاستئناف وتذرعت بالحساسية الأمنية للقضية كسبب نهائي لعدم مشاركة المعلومات علناً.

القصة الثانية من غواتيمالا

دعمت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية انقلاباً في غواتيمالا في العام 1954، ممهدة الطريق لسلسلة طويلة من الفوضى والعنف والاستبداد اليميني لعقود قادمة. وانشغل النظام الحاكم في ذلك الوقت بمحاولة السيطرة على الريف؛ وعمد إلى بناء “قرى نموذجية” أجبر السكان الأصليين على السكن فيها. وما بين الأعوام 1960 1996 قُتل نحو 200 ألف شخص في حرب أهلية طاحنة. 

بدأ التعاون بين إسرائيل والنظام في غواتيمالا بتركيب وتشغيل مركز تنصت حاسوبي من شركة تاديريان الإسرائيليةTadiran Israel Electronics Industries؛ ابتدأ تشغيله أواخر العام 1979 لتأسيس قاعدة بيانات لنحو 80% من مجموع السكان. وروّج الإعلام الإسرائيلي آنذاك بأن الهدف هو “متابعة تحركات حرب العصابات في العاصمة”، وأن هذه المنشأة مرتبطة بالقيادة الجنوبية للجيش الأمريكي في منطقة قناة بنما.

مثل النظام الحاسوبي ثورة حقيقة في تقنيات المراقبة آنذاك، لدرجة أنه كان بمقدور مشغّليه التعرف بدقة عالية على متغيرات استهلاك الطاقة أو المياه في المنازل بهدف الكشف عن تحركات الأفراد أو أي نشاط معادٍ للحكومة.

تعززت العلاقة في الثمانينيات بين إسرائيل والرئيس إفراين ريوس مونت الذي تولى السلطة بين عامي 1982 و1983، في وقت كانت تشهد البلاد أعمال عنف جماعي ضد السكان الأصليين راح ضحيتها حسب بعض التقديرات ما يزيد عن 75 ألف شخص. وفي الأثناء، كانت التقارير الإعلامية الإسرائيلية تشير إلى تورط المستشارين العسكريين الإسرائيليين في انقلاب آذار 1982 وهو ما ذكره ريوس نفسه بقوله إن الانقلاب كان نجاحاً ساحقاً “لأن العديد من جنودنا تدربوا على يد الإسرائيليين”. وتظهر الوثائق التي رفعت عنها السرية أن إسرائيل كانت تأمل توليد دعم يؤيد احتلالها للضفة الغربية واستيطانها هناك، بالإضافة إلى دفع نظام ريوس لنقل سفارته إلى القدس. وفي العام 2013 أدين ريوس بالإبادة الجماعية، وحكم عليه بالسجن ثمانون عاماً. ثم أعيدت محاكمته في العام 2018 بعد وفاته.

نجحت إسرائيل في مساعدة النظام بالسيطرة على البلاد وهزيمة المعارضة المسلحة بفضل مشورتها ومعداتها العسكرية النوعية والأنشطة التدريبية للعناصر؛ استناداً إلى تجربتها في الضفة الغربية وقطاع غزة.

كانت استراتيجية النظام تهدف إلى التدمير المنهجي للحياة المجردة للسكان الأصليين من قبائل المايا بطريقة مشابهة لما تقوم به إسرائيل؛ وزعم بعض المؤيدين المحليين للمجلس العسكري الغواتيمالي أنه جرت عملية “فَلَسْطَنة” لقبائل المايا. وعلى هذا الأساس كان عليهم أن يألّبوا الفلاحين ضد بعضهم البعض بتشكيل ميليشيات خاصة لكل جماعة بهدف الكشف عن الأنشطة الثورية المفترضة، وكانت هذه الخطوة بحد ذاتها وصفة سحرية تؤسس للعنف والتوتر بين الطوائف السكانية المحلية؛ كما دُفعت قبائل المايا للهجرة القسرية؛ واختفى العديد منهم وتعرض بعضهم للتعذيب والقتل.

وقعت المذبحة الأكثر شهرة في قرية دوس إيريس الصغيرة في 6 كانون الأول 1982، راح ضحيتها 300 شخصاً ذُبحوا بوحشية وحُطمت جماجم بعضهم بالمطارق الثقيلة وألقيت الجثث في بئر. وإثر استخراجها من قبل لجنة الحقيقة التابعة للأمم المتحدة UN Truth Commission في العام 1999؛ ذكر التقرير الصادر عن اللجنة أن “الأدلة من جميع المقذوفات الموجودة تتوافق مع شظايا مقذوفات بنادق “غليل” Galil، الإسرائيلية”.

يذكر أن إسرائيل ترفض حتى الآن نشر أي وثاق عن نشاط الحكومة أو الشركات الإسرائيلية في غواتيمالا.

القصة الثالثة من كولومبيا

وصلت بنادق “غليل” إلى أيدي أباطرة المخدرات الكولومبيين في أواخر الثمانينيات. وكانت الأسلحة، التي صنعتها شركة الصناعات العسكرية الإسرائيلية، جزءً من وجود إسرائيلي أكبر في كولومبيا، يؤكده المحقق الأمريكي إي. لورانس بارسيلا جونيور في العام 1990 حين أشار إلى ضرورة تحلي الحكومة الإسرائيلية بمزيد من الوعي حول كيفية وصول أسلحتها إلى كولومبيا؛ فقد كانت هذه الأسلحة جزءً من صفقة بين المرتزقة الإسرائيليين ورئيس كارتل الكوكايين في ميديلين خوسيه غونزالو رودريغيز غاشا بهدف الانقلاب على السلطة في البلاد.

وبدت رغبة الإسرائيليين في مساعدته منطقية، بالنظر إلى نوعية عمل الجيش الإسرائيلي في أمريكا اللاتينية في السبعينيات والثمانينيات.

وبعد عقود، ظلت النخب الكولومبية خاضعة للابتزاز الإسرائيلي. وكشفت برقية من السفارة الأمريكية في بوغوتا في العام 2009 نشرتها ويكيليكس عن وجود شركة إسرائيلية تدعى Global Comprehensive Security Transformation (Global CST) أسسها “يسرائيل زيف” وهو لواء متقاعد ورئيس سابق لإدارة العمليات في الجيش، حصلت على عقود عمل لمساعدة الجيش الكولومبي في حربه ضد جماعة فارك FARC.

يقول نص البرقية: “على مدى ثلاث سنوات، شق زيف طريقه لنيل ثقة وزير الدفاع [الكولومبي] السابق [خوان مانويل] سانتوس من خلال الوعد بتقديم نسخة أرخص من المساعدة الحكومية الأمريكية دون فرض ما نفرضه من قيود [حسب نص البرقية]. علمنا نحن وحكومة كولومبيا أن Global CST ليس لديها خبرة في أمريكا اللاتينية وتبدو مقترحاتها مصممة لدعم مبيعات المعدات والخدمات الإسرائيلية أكثر من تلبية الاحتياجات داخل البلاد”.

وفي مقطع فيديو ترويجي للشركة يعود للعام 2011، أشاد سانتوس في حديث له لبرنامج تلفزيوني إسرائيلي بدور Global CSTوخبرتها العميقة، وعبر عن حماسه للمدربين الإسرائيليين الذين تستخدمهم الشركة بقوله: “لقد اتهمنا [الكولومبيون] بأننا إسرائيليو أمريكا اللاتينية، وهو أمر يجعلني شخصياً أشعر بالفخر حقاً”. وأشار البرنامج إلى غارة كولومبية على الإكوادور في العام 2008 ومقتل الرجل الثاني في القوات المسلحة الثورية الكولومبية بول رييس. وأثنى مقدم البرنامج على المهمة بقوله: “فجأة، بدأت الأساليب التي أثبتت فعاليتها في نابلس والخليل تتحدث الإسبانية”.

القصة الرابعة من سريلانكا

شهدت بداية القرن الحالي واحدة من أنجح حملات مكافحة التمرد الدموية، كان مسرحها سريلانكا حين أنهت الحكومة تمرد جماعة نمور التاميل المسلحة، كان لإسرائيل دور بارز فيها.  وإن لم يكن بصورة معلنة تماماً. ونجح التعاون بين البلدين على مدى ربع قرن في القضاء التام على الجماعة وقتل قائدها في العام 2009، في حملة حكومية أسفرت عن مقتل واختفاء أكثر من 200 ألف شخص، معظمهم من التاميل.

باعت إسرائيل طائرات مقاتلة من طراز كفير ودربت فرقة العمل الخاصة التابعة لجهاز الشرطة السريلانكية. وفي المراحل الأخيرة من الحرب؛ قلّدت سريلانكا استراتيجيات العمل الإسرائيلي، متجاهلة دعوات المنظمات غير الحكومية ومنظمات حقوق الإنسان وبعض الحكومات لوقف العنف.

وبعد القضاء على التمرد دعمت إسرائيل الحكومة وساعدت أجيال من السياسيين السنهاليين على بناء تجمعات وجيوب سنهالية في شمال وشرق سريلانكا، وهي المناطق التي يعيش فيها أغلبية تاميلية، لإنشاء مناطق عازلة وتأسيس احتلال غير رسمي على غرار المستوطنات الإسرائيلية. استمرت هذه الخطط بعد العام 2009 ولم يتوقف الاستعمار السنهالي المشتق مباشرة من الوجود الإسرائيلي في الضفة الغربية، كما وقعت إسرائيل صفقة بقيمة 50 مليون دولار مع سريلانكا في العام 2021 لتحديث طائرات كفير في البلاد.

القصة الخامسة من ميانمار

اتهمت الأمم المتحدة ميانمار، في العام 2018، بارتكاب جرائم إبادة جماعية موثقة ضد أقلية الروهينغا المسلمة، شملت عمليات حرق متعمد واغتصاب وقتل مباشر. لكن هذا لم يمنع إسرائيل من التوقيع مع ميانمار في ذات العام على اتفاق تعاون تعليمي في مجال “تطوير برامج لتدريس الهولوكوست ودروسها للتخلص من العواقب السلبية للتعصب والعنصرية ومعاداة السامية وكراهية الأجانب”.  ولكن الضغط الشعبي أجبر وزارة الخارجية الإسرائيلية على التخلي عن الاتفاقية في العام 2019.

في العام 2015 زار وفد من ميانمار إسرائيل سراً وعقد عدة جلسات مع شركات الصناعات الدفاعية الإسرائيلية، كما زار بعض القواعد البحرية والجوية للتفاوض على صفقات طائرات دون طيار، وأنظمة اختراق الهواتف المحمولة، وشراء بنادق، وتدريب عسكري، وسفن حربية.. وما إلى ذلك. وكان من بين أعضاء الوفد قائد جيش ميانمار مين أونغ هلاينغ الذي التقى، في الأثناء، بالرئيس الإسرائيلي ورئيس أركان الجيش. وكان هلاينغ واحداً من ستة أفراد ذكرت بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في ميانمار مسؤوليتهم عن انتهاكات حقوق الإنسان.

ورغم الحظر الدولي لبيع الأسلحة إلى ميانمار ورغم تهم الإبادة الجماعية لأركان القيادة السياسية والعسكرية فيها، إلا أن هذا لم يمنع كبار ممثلي ميانمار من حضور أكبر مؤتمر للأسلحة والأمن الإسرائيلي في تل أبيب في العام 2019. وبعد أن كتب عدد قليل من الصحفيين عن الزيارة، وكشفوا أيضاً عن حضور مسؤولين من جنوب السودان، وافقت إسرائيل على مضض على عدم السماح لممثلين من ميانمار لحضور معارض الأسلحة الإسرائيلية أثناء فرض حظر عالمي على الأسلحة. ورغم زعم إسرائيل توقفها عن بيع أي معدات إلى ميانمار في العام 2018، إلا أن هذا لم يكن دقيقاً أو صحيحاً بما يكفي بسبب السرية الشديدة التي تحيط بصفقات الأسلحة في إسرائيل.

وظلت العلاقات بين البلدين قوية، حيث كان سفير ميانمار لدى إسرائيل إحدى الشخصيات الأجنبية القليلة التي حضرت احتفالاً في العام 2017 في كتلة غوش عتصيون الاستيطانية في الضفة الغربية لإحياء ذكرى مرور خمسين عاماً على الاحتلال الإسرائيلي. واعترف سفير ميانمار لدى إسرائيل لوسائل الإعلام الإسرائيلية في العام 2017 بأن إسرائيل لم تفرض أي قيود على الأسلحة المبيعة لهم.

لم يكن الموقف الإسرائيلي هنا مدفوعاً بالربح التجاري فقط، بل برغبتها في الحفاظ على علاقات مع الأنظمة العسكرية حول العالم، لاسيما التي تدعم سياسات الاحتلال والاستيطان، فبعد انكشاف الوضع المأساوي للأقلية المسلمة هناك دعت العديد من دول العالم -إسرائيل ليس من ضمنها- ميانمار إلى السماح للاجئين الروهينغا بالعودة بأمان من مخيمات اللاجئين في بنغلادش. ومن الطبيعي ألا تتورط إسرائيل؛ وتنضم لبقية العالم في مثل هذه الدعوة لأنها لا تنوي السماح للاجئين الفلسطينيين الذين هجروا قسراً في العام 1948 بالعودة إلى ديارهم.

القصة السادسة من المكسيك

وتتعلق بأول استخدام عالمي لنظام بيغاسوس.

تبدأ القصة عقب اغتيال الصحفي خافيير فالديز كارديناس في 15 أيار 2017؛ وكان كارديناس معروفاً بتحقيقاته حول قضايا الفساد والجريمة والمخدرات. وعقب اغتياله بدأت زوجته الصحفية غريسيلدا تريانا تتلقى رسائل نصية على هاتفها دون معرفة مصدرها، لتكتشف لاحقاً عدة محاولات مصدرها أطرافاً حكومية لاختراق هاتفها بنظام بيغاسوس. 

ورغم ادعاء الحكومة وشركةNSO باستخدام بيغاسوس لمكافحة الإرهاب والجريمة، لكن ما حصل يكشف زيف هذه المزاعم. وتعتبر تريانا أن استهدافها كان بسبب احتمال وصول العصابات إلى معلومات حول التحقيق في مقتل زوجها. ولم تقدم المكسيك حتى اليوم أي إجابة حول سبب اختراق هاتفها أو أي تقدم في محاكمة القاتلين.

وللمكسيك مكانة بارزة هنا باعتبارها الدولة الأولى التي امتلكت تطبيق بيغاسوس، في وقت كانت تخوض فيه الحكومة حرباً طاحنة ضد عصابات المخدرات راح ضحيتها مئات الآلاف من المدنيين. في ذلك الوقت (2011)، كان اختراق نظام الهاتف المحمول بلاك بيري أهم إنجاز لبرامج التجسس. وفي العام 2013 ثبتت الحكومة المكسيكية برنامج بيغاسوس في ثلاث وكالات مكسيكية على الأقل مع أجهزة وبرامج بقيمة 15 مليون دولار أمريكي، كما باعت الشركة الإسرائيلية للحكومة المكسيكية حزمة خدمات بقيمة 77 مليون دولار سمحت بالمراقبة الشاملة لأفراد معنيين كانوا هدفاً للحكومة في عهد الرئيس فيليبي كالديرون.

اكتسب تطبيق بيغاسوس شهرة كبيرة في المكسيك واستخدم على نطاق واسع، كأداة حيوية لنجاح العمليات الأمنية التي أسهمت في القبض على زعيم المخدرات “إل تشابو” مرتين في عامي 2014 و2016.

ورغم ادعاء الشركة أن نظام بيغاسوس مخصص بيعه للحكومات فقط؛ فقد تبين أن العملاء الذين استخدموه كانوا من بيئات عمل وشركات مختلفة ترغب في اختراق هاتف أحد الصحفيين، أو المدافعين عن ضريبة الصودا المستخدمة لمعالجة الكمية الهائلة من المشروبات السكرية التي يستهلكها المكسيكيون. وكان من الواضح أن هؤلاء الأشخاص المستهدفين بالمراقبة لا صلة لهم بالجريمة أو المخدرات أو الإرهاب. وعلى مدى عقد من الزمان، أنفقت المكسيك أكثر من 160 مليون دولار على برنامج بيغاسوس الذي كان القاسم المشترك بين عصابات المخدرات وبعض المسؤولين الفاسدين لاستخدامه ضد الأعداء المشتركين، أو التخلص منهم من خلال رشىً كبيرة للمسؤولين.

ورغم مزاعم NSO بأن المراقبة الإلكترونية صناعة منظمة تماماً، إلا أنه لا يوجد ما يثبت خضوع تطبيق بيغاسوس للمراقبة للتأكد من عدم حدوث اختراقات غير قانونية محتملة لحظة تثبيته.

ومنذ العام 2010، تحول تصويت المكسيك في الأمم المتحدة ليكون أقل انتقاداً للسياسات الإسرائيلية. في الوقت الذي تزايدت فيه حالات اختراق هواتف الصحفيين المعارضين لنهج الحكومة في محاربة الفساد؛ وانتهى المطاف ببعضهم إلى الموت، من بينهم الصحفي المستقل سيسيليو بينيدا بيرتو الذي قتل في العام 2017 بعد ساعات فقط من نشره مقطع فيديو مباشر على فيسبوك يتهم فيه مسؤولين محليين وبعض أفراد من الشرطة بالعمل مع أحد رجال العصابات. وكان هاتفه قد اختير قبل ذلك بأسابيع قليلة، من قبل الحكومة كهدف محتمل لأداة بيغاسوس.

كان هذا مجرد غيض من فيض لضحايا تطبيق بيغاسوس، حيث كشفت البيانات المسرّبة بين عامي 2016 و2017 (التي تم الكشف عنها في عام 2021) إدراج أكثر من خمسة عشر ألف مكسيكي كأهداف للمراقبة. وما لا يقل عن خمسين شخصاً على صلة بالرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، من بينهم عدد من أفراد عائلته المقربة.

القصة السابعة كوفيد -19

كانت استجابة إسرائيل لكوفيد-19 غير مسبوقة في تتبع ومراقبة حالات الإصابة والمخالطين المحتملين. وعمل الشابك على تتبع منشورات وسائل التواصل الاجتماعي بحثاً عن أي دليل على التجمعات الاجتماعية غير المصرح بها، ولاقى هذا التصرف معارضة وسائل الإعلام وبعض السياسيين؛ وعبّروا عن غضبهم لمراقبة المواطنين الإسرائيليين بطريقة مشابهة لما يحدث في الأراضي المحتلة لجهة مراقبة وتقييد حركة الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وبالتالي من المحتمل تحول هذا النظام لمراقبة اليهود الإسرائيليين بطريقة مشابهة.

ربما لم يتم التعبير عن غضب هؤلاء بطريقة مباشرة وصريحة، لكن المعنى الضمني كان واضحاً: “افعلوا ما شئتم لمراقبة الفلسطينيين واجعلوا حياتهم جحيماً لا يطاق ولكن لا تطبقوا الأمر علينا”. ولعل عدم الانتقاد المباشر ينبع من دور إسرائيل الريادي في تصدير هذه التقنية، حيث كان العديد من المنتقدين غير قادرين أو ربما غير راغبين في الربط بين استجابة الدولة لكوفيد-19 والشركات المكلفة بالقيام بذلك. إذ ثمة قاعدة ذهبية في الإيديولوجية الصهيونية تطلب من كل مواطن إسرائيلي وطني أن يكون “سفيراً ومبشراً بإسرائيل” أينما كان وحيثما يحل

مثلت جائحة كورونا نقطة تحول ثمينة استفادت منها الشركات الإسرائيلية قدر ما تستطيع لجذب الأعمال التجارية وإضفاء الشرعية الرسمية على أعمالها وتعزيز وجودها في الأسواق العالمية، ففي العام 2020، أعلن وزير الدفاع نفتالي بينيت مشاركة الحكومة في مكافحة الوباء مع شركة NSO. كما استعانت الدولة بشركات خاصة لتقديم خدمات مراقبة إضافية لوقف انتشار الوباء، بهدف تتبع المخالطين، وكانت هذه فرصة لإظهار قدرات الشركات الإسرائيلية في تتبع الأفراد ومراقبتهم. ونشرت وزارة الدفاع قائمة بالشركات الإسرائيلية المتخصصة في المراقبة، مثلElbit وNSO، وروجت لها كحلول مناسبة في أوقات الطوارئ.

وبحلول نيسان 2020، ادعت شركةNSO   قدرة أنظمتها على التنبؤ بمواقع انتشار الفيروس وأماكن الإصابات المحتملة، والمناطق المحتاجة إلى أجهزة تنفس اصطناعي، وموعد خروج مناطق معينة من عمليات الإغلاق. وأشارت في إطار الدعاية إلى حماية الخصوصية خلال العمل على مكافحة الجائحة، لكن إيال وايزمان مدير منظمة التحقيقات Forensic Architecture البريطانية كشف في أواخر عام 2020 عن أدلة تبين استخدام بيانات كوفيد -19 الشخصية في عدة دول مختلفة مثل البحرين والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وإسرائيل ورواندا؛ وهي دول اشترت واستخدمت أداة برامج التجسس بيغاسوس التابعة للشركة.

ويقول ضابط المخابرات الإسرائيلي السابق تال ديليان، المقيم في قبرص ورئيس شركة Intellexa، وهي شركة مراقبة إلكترونية تعمل مع وكالات الاستخبارات في أوروبا وجنوب شرق آسيا. بأن معدات شركته لتتبع كوفيد 19 تكلّف ما بين 9 ملايين إلى 16 مليون دولار، وأقر بأن التعامل مع الوباء كان مجرد البداية لإظهار قدرات وفائدة منتجاته، مضيفاً “إن أدوات المراقبة من شركته يمكن استخدامها في محاربة التجسس وتعزيز الأمن”. علماً أن تطبيقات Intellexa تملكها عناصر الميليشيات المتحاربة في السودان.

القصة الثامنة الاتحاد الأوروبي

يعد الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لإسرائيل بنسبة تصل إلى نحو 29% من تجارتها في العام 2020. ونظراً لخبرة إسرائيل التقنية والميدانية في أنظمة المراقبة ونظراً لحاجة الاتحاد الأوروبي إلى عسكرة حدوده القارية في مواجهة اللاجئين والمهاجرين، لا سيما بعد العام 2015،

فقد أبرم عقود شراء وتشغيل أنظمة دفاعية إسرائيلية، وبالأخص المسيرات، إذ كانت الشركات الإسرائيلية المصنعة لها تستحوذ على 60 % من السوق العالمية، فأعلن الاتحاد الأوروبي في العام 2020 عن توقيع عقود بقيمة 91 مليون دولار مع شركة إيرباص الأوروبية وشركة الصناعات الفضائية الإسرائيلية (المصنعة لطائرة هيرون) وشركة إلبيت الإسرائيلية (المصنعة لطائرة هيرمس) لتأمين وجود دائم للمسيرات فوق المتوسط. علماً أن طائرتي هيرميس وهيرون شارك بهما الجيش الإسرائيلي خلال العدوان المتكرر على غزة منذ العام 2008.

ودخلت المسيرة هيرون الخدمة لمصلحة وكالة الحدود التابعة للاتحاد الأوروبي Frontex بإدارة شركة إيرباص ابتداء من أيار 2021، بعد اختبارها في جزيرة كريت في العام 2018. ويمكن لها حمل كمية كبيرة من المعدات مثل كاميرات الرؤية والتصوير الحراري، ومعدات الذكاء الاصطناعي للكشف عن الأهداف المتحركة، وتحديد موقع الهواتف المحمولة، كما يمكنها البقاء في الجو على نحو متواصل لمدة لا تقل عن 24 ساعة. ويتم التحكم بالطائرة عن بعد دون احتكاك مع الهدف.

غير أنه يكمن وراء هذه الميزة غير التلامسية هدفاً سياسياً واضحاً، فهذه المسيرات “لا يمكنها إنقاذ الأشخاص من الغرق؛ بل يقتصر عملها على التقاط الصور؛ فإذا اقترب زورق مسلح أو سفينة مشبوهة، يقوم مشغل الطائرة بتنبيه زورق الدورية، الذي سيصل إلى مكان الحادث، ولكن إذا بدا وكأنه قارب على متنه لاجئين، لن يكون مشغل الطيارة مضطراً لإخبار الدورية بالأمر أو ربما يخبره متأخراً بحيث تصل الدورية إلى المكان بعد فوات الأوان. هذا هو الفرق الرئيس والسبب الحقيقي في أن هذه الطائرات تمنح فرونتكس خيار ترك اللاجئين يغرقون. وقد أدى استخدام المسيرات لتحديد مكان اللاجئين إلى فقدان العديد من الأرواح في البحر. وهذا هو بالضبط بيت القصيد، حسبما قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في تشرين الأول 2021 إن سياسة الاتحاد الأوروبي في التحكم أو الحد من الهجرة لن تكون عن طريق زرع “أسلاك شائكة وجدران” [على الأرض الأوروبية] لمنع المهاجرين، ولعلها تقصد؛ يكفيها موتهم غرقاً في البحر. بما يوحي ضمناً -على سبيل التخمين- بقبول هذه “الوفيات” كأضرار جانبية لا يمكن تفاديها.

استفادت الوكالة الأوروبية للسلامة البحرية المكلفة بمراقبة السواحل والبحار من طائرات هيرميس الإسرائيلية. وأصبحت أيسلندا في العام 2019 أول دولة أوروبية تنشر هذه المسيرات لمراقبة أراضيها.

وتستطيع هيرميس حمل ما يصل إلى أربعة قوارب نجاة تحت أجنحتها، لكنها لم تستخدم على هذا النحو فوق المتوسط. وتسمح المسيرات التابعة لفرونتكس بمراقبة الحدود ودعم عمليات الإنقاذ لفترات زمنية أطول.

تبدو المعدات الإسرائيلية جزءً مركزياً، وإن لم يكن الوحيد من نظرة أوروبا لمستقبلها الدفاعي والأمني. وقد سُمح لإسرائيل في العام 2021 بالانضمام إلى برنامج Horizon Europe لدعم الابتكار والبحث، لمدة سبع سنوات، بقيمة 95.5 مليار يورو؛ ويشمل ذلك أنظمة مراقبة حدود ذات تكنولوجيا عالية من صنع شركات إسرائيلية.

ولكن هناك جانباً يتغاضى عنه الاتحاد الأوروبي عند التعامل التجاري مع إسرائيل؛ فثمة جزء من الأموال الأوروبية التي تجنيها الشركات الإسرائيلية يعود بالنفع على المستوطنات “غير القانونية” في الضفة الغربية التي لا يعترف بها الاتحاد الأوروبي رسمياً. ورغم إدراك دول الاتحاد هذا الأمر إلا أنها لم تتخذ أي خطوات ملموسة على هذا الصعيد، بل تبدو كمن يغرس رأسه بالرمل حين تحاول دول الاتحاد إقناع نفسها، وربما غيرها، بوجود انفصال سياسي حقيقي بين إسرائيل والضفة الغربية؛ والتغاضي عن المقاربة الإسرائيلية التي تنظر إلى فلسطين بين النهر والبحر كإقليم ديموغرافي وجيوسياسي واحد.

في الواقع لم يقم الاتحاد الأوروبي بأي إجراء يذكر منذ العام 2013 للنظر في العقود والاتفاقيات الثنائية مع إسرائيل لاستبعاد المستوطنات من أي عقد أو اتفاق. بل إنه من شبه المؤكد “احتمال أن تفيد غالبية الاتفاقيات الثنائية الأوروبية مع إسرائيل مستوطناتها وشركاتها وسكانها – بما في ذلك ما يتعلق منها بالضمان الاجتماعي، والأحكام الضريبية، والتعاون المتزايد في مجالات البحث والتطوير”.

ومن بين أكثر من 260 اتفاقاً استعرضها المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، لا يتضمن سوى عدد قليل منها تعريفاً لنطاقها الإقليمي؛ وغالباً ما تحتوي على بنود مبهمة أو غامضة مثل تعريف الأراضي الإسرائيلية وفقاً لـ “قوانين دولة إسرائيل” أو “الأراضي التي تفرض فيها الضرائب” وهي أوصاف يمكن أن تبرر إدراج المستوطنات الإسرائيلية في العقود والاتفاقيات.

أما على صعيد المراقبة الرقمية؛ نذكر هنا دور شركة المراقبة الإسرائيلية Cellebrite التي تنتج أنظمة استخراج البيانات الرقمية الخاصة من خلال اختراق الهواتف (يذكر أن منتجات هذه الشركة منتشرة في أكثر من 150 دولة، من بينها روسيا والإمارات العربية المتحدة والبحرين).  وتقدم الشركة بعض أنظمة التجسس لمراقبة طالبي اللجوء في الاتحاد الأوروبي، على افتراض أن الهاتف المحمول يمثل جزءً أساسياً من مقتنيات أي مهاجر. ووفقاً لمندوب مبيعات سيلبرايت في العام 2019، وصل 77% من اللاجئين إلى الاتحاد الأوروبي دون وثائق، نصفهم تقريباً كان يحمل هاتفاً ذكياً. وهذا ما يفتح الباب واسعاً أمام الشركة لإبراز تقنيتها في استخراج بيانات الهاتف المحمول مثل تحديد مسارات الرحلة وتاريخها وتفاصيل الاتصالات الأخيرة، دون الأخذ في الاعتبار أن مثل هذه الإجراءات قد تثير تساؤلات قانونية وأخلاقية، وتمثل انتهاكاً لحقوق المهاجر، لا سيما لو حصلت عملية اختراق الهاتف دون علمه أو موافقته (في معظم الحالات، لا يدرك المهاجر طبيعة هذه الإجراءات).

كما جددت فرونتكس عقوها مع شركة ويندوارد Windward الإسرائيلية في العام 2020، للاستفادة من نظام تحليل للبيانات البحرية يمكنه “القبض على الأشرار” على حد زعم الشركة. وكانت الشركة قد تلقت دعم المستثمرين لوجود الجنرال الأمريكي المتقاعد والرئيس السابق لوكالة المخابرات المركزية ديفيد بترايوس ضمن مجلس إدارتها، فضلاً عن رئيس الأركان الإسرائيلي السابق غابي أشكنازي الذي يعمل لديها بصفة مستشار.

يذكر أن ويندوورد أسسها ضابطان سابقان في المخابرات البحرية الإسرائيلية في العام 2010، وتستخدم الشركة تقنية التجميع الرقمي، وتقويم تتبع السفن، وبيانات المراقبة البحرية لتتبع السفن في البحار.

تحاول أوروبا من خلال المسيرات وبرنامج المراقبة الرقمية وأنظمة التحليل البحري أن تجعل يديها نظيفتين كما قال وزير العدل الليبي السابق صلاح المرغني، فالبرنامج الذي يقوده الاتحاد الأوروبي، والذي تشكل المسيرات الإسرائيلية عنصراً أساسياً فيه، يدور حول جعل الدول الوسيطة -مثل ليبيا أو تونس أو مصر-هي الشريرة لإبعاد الأنظار عن سياسة الاتحاد الأوروبي إزاء قضية المهاجرين.

القسم الرابع/الخاتمة

يستعرض الكتاب دور إسرائيل في تصدير تكنولوجيا المراقبة الرقمية حول العالم. ويتناول بعض الشركات الإسرائيلية التي تبيع تقنيات التجسس مثل اختراق الهواتف المحمولة ومراقبة البيانات الرقمية، ودورها في خدمة السياسة الخارجية الإسرائيلية وتعزيز علاقاتها مع بعض الأنظمة الحاكمة في دول مختلفة، بما في ذلك دول عربية وأفريقية.

كما يبرز الكتاب طريقة عمل هذه الشركات تحت إشراف حكومي غير مباشر، وتأثير منتجات هذه الشركات في قضايا حقوق الإنسان بسبب استخدام هذه التقنيات للتجسس على الأفراد سواء في الدول الديمقراطية أو الاستبدادية. وتداعيات هذه الممارسات على السياسة الدولية، خاصة بعد أن أدت فضائح مثل قضية قتل الصحفي جمال خاشقجي إلى تعزيز التدقيق العالمي في دور هذه الشركات.

ولكن رغم هذه الانتقادات، تظل الشركات نشطة بسبب الدعم الذي تتلقاه من الحكومات، بما في ذلك الحكومة الإسرائيلية، التي تعتبرها جزءً من استراتيجيتها الأمنية والدبلوماسية. دون الأخذ في الاعتبار بعض المضامين القانونية والسياسية المترتبة على أنشطة شركات تكنولوجيا المراقبة والتجسس الإسرائيلية، بما في ذلك الإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة في 2021 ضد NSO.

هل يقف الأمر هنا؟

قطعاً لا.. فإبداع الإرهاب التجريبي الإسرائيلي وصل إلى مطارح يعجز الشيطان نفسه عن مجرد التفكير بها..

سأقرأ عليكم ما كتبه إيهودا شاؤول؛ وهو جندي إسرائيلي سابق أمضى جزء من خدمته في مدينة الخليل، وهو أحد مؤسسي منظمة كسر الصمت الإسرائيلية في العام 2004، والتي تنشر انتهاكات جنود الاحتلال ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة من خلال جمع شهادات الجنود المسرحين من الخدمة. يقول الجندي شاؤول:

” ثمة وحدة عسكرية جديدة في المدينة.. أنت لا تريد أن يكون نشاطهم الأول حقيقياً… لندعهم إذن ينفذون عملية اعتقال وهمية على سبيل التجربة، لذا ليس عليك سوى إرسالهم للقيام بذلك وسوف تختار مكاناً تجريبياً مناسباً، لتكن على سبيل المثال أكثر القرى الفلسطينية هدوءً وسلاماً في المنطقة التي خدمت فيها.. وبعد ذلك تجري اتصالاً بعناصر الخدمة السرية للاستعداد..

وسوف نختار -بطبيعة الحال- منتصف الليل كوقت مناسب لإجراءات الاعتقال والتفتيش. فتأتي الوحدة وتحاصر المنزل، وتقبض على الشخص المطلوب وتخرجه مكبل اليدين؛ معصوب العينين، أمام أهل البيت حيث يبدو الأمر لهم كما لو أنهم اعتقال حقيقي -في واقع الأمر لقد اعتادوا على سلوك الجيش هذا- وبعد مرور عدة دقائق… خمسة أو ربما عشرة أو عشرين دقيقة، يأتي صوت عبر جهاز اللاسلكي لعناصر الوحدة.. انتهى التمرين.. أطلقوا سراح الرجل وعودوا إلى القاعدة.. هيا عودوا واستريحوا وناموا.

يتابع شاؤول فيقول: نحن تعلم أن هذا الشخص بريء؛ ولكن لماذا نفعل ذلك؟ هذا يحصل لسببين رئيسين.. الأول هو التدريب.. إذ يبدو التدريب على أرض الواقع أفضل بما لا يقاس من التدريب النظري في القاعدة. لكن السبب الثاني هو الأكثر إثارة للاهتمام.. فكروا في الأمر.. الاعتقال الوهمي وسيلة متقدمة أخرى لإضفاء الشعور على وجودك المادي “أمامهم”..  عليهم أن يشعروا حتى في أحلامهم إنك هنا.. بالضبط هنا في كل مكان.. فالحركة العسكرية في القرية.. تجعلهم ينتبهون أنك هنا.. يرونك تعتقل شخصاً هم يعرفون أنه برئ؛ لأنهم في الواقع ليسوا أغبياء، غير أن الأمر يأخذ أبعاداً أخرى فرغم إدراكهم ببراءته، لكنهم يرونك تطلق سراحه… كيف هذا؟ اعتقال ثم إخلاء سبيل. هكذا بسرعة، طيب ليش؟ هل هو متعاون من الأجهزة الأمنية. هل هو عميل؟ نعم أم لا؟ تبقى هذه الأسئلة ترن في الفضاء دون إجابة مقنعة، وهذا ما يجعلهم أكثر خوفاً

فعندما تعرف ما ينتظرك.. يمكنك التصرف بمقتضى الأمر.. ولكن عندما لا تستطيع تكون أدنى فكرة عما ينتظرك ستشعر برعب حقيقي… أليس كذلك؟ … يتابع شاؤول: فالمنطق المثالي هنا يعني انعدام المنطق تماماً وذلك عندما يكون الهدف هو التخويف. حماية نفسك تعني أن تستمر في نشر الخوف المتواصل بينهم جميعاً خوف متواصل ومستمر بلا توقف دون اعتبار للمكان والزمان.. خوف للجميع.. في كل مكان.. وفي كل وقت.. ولا شئ يمكن للفلسطيني أن يفعله ليتجنب كل هذا الترهيب “..

ومثلما كانت الثورة الرقمية وبالاً على الفلسطينيين؛ يمكنها أن تكون نافذة أمل في نشر الصور ومقاطع الفيديو التي توثق الانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين بما يساعد إيجابياً في نقل الواقع الفلسطيني كما هو على حقيقته.

مما لا شك فيه أن الوعي العالمي بفظائع الاحتلال قد ازداد، وساعد في ذلك جزئياً الرؤية الخام “غير المحررة” للفلسطينيين وهم يواجهون قطعان المستوطنين المتطرفين أو الجيش وتقنياته الأمنية المتعددة. مما يعني كشف زيف الصور المرئية التي تختار عرضها الجهات الإسرائيلية لإنكار حقيقة ما يقول الفلسطينيون عن معاناتهم.

يزعم الإسرائيليون أن الفلسطينيين يكذبون بشأن ظروفهم رغم ما نراه ويراه العالم “الحر وغير الحر”. وفي الواقع، لن تؤدي القدرة على رؤية الفظائع الإسرائيلية ضد الفلسطينيين الغرض منها -حتى لو كانت موثقة- عند من لا يرون الفلسطينيين بشراً، بل جماعة إثنية/ عرقية” طارئة على التاريخ لا يشكل موتهم أو قتلهم فرقاً، وقد بدأت هذه الصورة الأخيرة تتعمق أكثر في المجتمع الإسرائيلي تحديداً مع تآكل الفروق الإيديولوجية بين اليسار واليمين وانتقال غالبية المجتمع إلى اليمين.

هذا الصراع بين الحقيقة التي تكشفها التكنولوجيا وحقيقة العقلية الاستعمارية الراسخة، التي تتبناها إسرائيل، هو ما يواجه الفلسطينيين في محاولاتهم المستمرة لفضح الظلم الذي يتعرضون له.

وفي نهاية المطاف، قد تكون المعضلة التي يواجهها الإسرائيليون هي ذاتها المعضلة التقليدية للمستعمِر؛ أي الحفاظ على الهيمنة العسكرية والسياسية على شعب آخر، مع محاولات مستمرة لتبرير هذا الاحتلال أمام العالم، إذ يمكن -على عدة مستويات- تحليل المنطق وراء محاولة المستعمِر إثبات نفسه أمام المستعمَر في واقع غير متكافئ يفتقر إلى شروط التحدي المتساوي بسبب الفجوة الكبرى بين القوة العسكرية لسلطة الاحتلال وواقع الفلسطينيين الذين يعانون من انعدام المساواة في جميع الأصعدة، من القوة العسكرية إلى الحقوق الإنسانية.

لا يستطيع المستعمِر (إسرائيل) إثبات ذاته بطريقة عادلة أمام شعب أضعف منه بكثير من حيث الموارد العسكرية والسياسية. ويخلق هذا الوضع تناقضاً في الممارسات، حيث يكون الاحتلال مدفوعاً بضرورة الاستعراض المتواصل للقوة المفرطة، وهو ما يجعله دائماً في موقع “المنتصر”، رغم أن النصر العسكري لا يترجم بالضرورة إلى أهداف سياسية أو استراتيجية محققة. فحتى لو نجح الاحتلال في قمع الفلسطينيين على الأرض، يبقى السؤال قائماً: ماذا سيحقق المحتل من هذا القمع؟

وطالما بقي الشعب الخاضع للاحتلال يرفض عمداً الخروج من التاريخ العالمي؛ لن تستطيع القوة العسكرية، مهما عظمت على إزالة الحقيقة السياسية والاجتماعية العميقة بأن الاحتلال هو الحدث الطارئ على التاريخ وليس الشعب.. ناهيك عن عدم مشروعيته إزاء أي مشروعية طبيعية وإنسانية أخرى.

من ناحية أخرى؛ لا يمكن لأي واحد منا إثبات نفسه أمام من هو أضعف منه بما لا يقاس (لنتخيل محمد علي كلاي يستعرض قوته أمام طفل صغير ويتحداه لمنازلته)، ولو قام بذلك فلن يحقق أي مكسب في الحقيقة؛ سوى وضع نفسه في موقع الخاسر حتماً، لأنه سيواجه مسارين لا ثالث لهما، إما أن يقتل خصمه ويتحول إلى وغد (وهذا أبسط توصيف وأكثره أدباً) أو يدعه يقتله فيتحول إلى أحمق (وهذا أيضا أبسط توصيف وأكثره أدباً).

هذا هو مأزق الإسرائيلي في مواجهة الفلسطيني سواء من كان منهم يقاتل في غزة أو جباليا أو طولكرم أو على حاجز قلنديا أو من يقف وسط بلدة حوارة أو نابلس أو القدس أو من يعمل مقاول أمني بالباطن مع الموساد أو الشاباك…

هذه هي المعضلة التي تجعله وغداً إذا استخدم قوته المفرطة؛ أو أحمقاً إذا فشل في تحقيق هدفه أو أهدافه. فهذه القوة، التي لا تكفل لإسرائيل نصراً سياسياً ولا استقراراً أمنياً، تسهم في خلق تناقض نفسي وأخلاقي، تعكسه بعض الحالات الخاصة في رفض بعض الجنود الإسرائيليين الخدمة أو حتى في حالات الانتحار التي نسمع بها من حين لآخر بين أفراد الجيش. فالقوة العسكرية ليست هي العامل الوحيد الذي يحدد النجاح أو الإخفاق في تاريخ الاستعمار العالمي.

ولكيلا نسرح بخيالنا بعيداً، لا أعتبرُ هذ القول أو تلك النتيجة رهاناً من أي نوع، بقدر ما هو / هي استقراء لوقائع نراها أمامنا كل يوم، وهذا لا يعني أن الجيش الإسرائيلي على وشك الانهيار أو هو أسوء من غيره قياساً بتجارب استعمارية مشابهة؛ لكنها تعكس ضغوطاً نفسية وأخلاقية عرفتها قوى الاحتلال والاستعمار في مناطق أخرى وأزمنة سابقة تبدو كأنها حصلت لحسابات أكبر بكثير من مقاربة معضلة الوغد والأحمق، لكن تبقى هذه المقاربة قائمة بدرجة ما بدلالتها العملية كونها انعكاساً لضغوط واقعية.

فحينما يستخدم الاحتلال قوته المفرطة ضد السكان الأضعف، ويعجز في الوقت ذاته عن تحقيق أهدافه السياسية، سيظل في دوامة العجز عن تحقيق أهدافه بسبب تفاقم التوترات الداخلية، وهي حالة مألوفة سوف تقود إلى تصدعات في بنية الاحتلال، مما يسهم في عزلته، والتراجع البطيء لشرعيته، وفقدان الهدف السياسي لوجوده وتآكل المعيار الأخلاقي لبنيته الاجتماعية؛ مما سيؤدي في النهاية إلى تهديد البنية الاستعمارية برمتها.

وباعتباري في عمر زمني يضعني- أو ربما هكذا أراني- ضمن أبناء الجيل الأخير أو ما قبل الأخير الذي شهد وعايش وأسهم بطريقة ما في انهيار حلم تخليص فلسطين ببعدها القومي العروبي من استعمارها الصهيوني؛ فلعل ما ورد في هذه الخاتمة درسٌ لأجيال آتية من أبناء منطقتنا أو لأي تجارب استعمارية مشابهة.

إن قدرة الشعوب على الصمود ليست وهماً أو تفكيراً مرغوباً فيه، بل هي جوهر التحولات التاريخية الكبرى. ومهما بدا لنا الاحتلال قوياً وصلباً في المنظور الحالي، فثمة ضغوط داخلية وخارجية ستكون عوامل مؤثرة في تحولات الصراع.

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

العدوان على غزة: أجندة إسرائيل السياسية والأمنية

في صباح السابع من تشرين الأول 2023 شنت حركة حماس هجوماً مسلحاً على مواقع وبلدات …