الورقة الخامسة: في فضاءات دمشق. روائح المدينة.
إنها المرحلة التي امتلكت فيها حريتي الأولى في الذهاب بمفردي إلى دمشق “النزول” كما كان الجميع، صغاراً وكباراً يقولون: “نازل عالشام”.
علاقتي صارت مفتوحة مع دمشق، على عكس المراحل السابقة حين كنت مقيداً بمرافقة أبي، عندما كان يأخذني معه إلى سوق الحدادين” ليسقي فولاذ شوكته المعدنية” حتى تكون جديرة بفتح ثقوب في صخر جبال المعضمية، لوضع البارود في تلك الثقوب، ثم إشعال الفتيل، لتتفجر الصخور.
أحياناً كنت أرافق أمي إلى مستوصف وكالة الغوث في سوق ساروجة. برفقتها تمتعت بركوب الحنتور من شارع النصر، أوساحة المرجة، لنصل إلى المستوصف. فكم كان مدهشاً ذلك الحنتور، خاصة ذلك الذي كان يجرّه حصانٌ لونه سنجابي، له ذيلٌ طويل وغزير، ولم تخلُ بعض مشاوير الحنتور من صهيل لذلك الحصان، لازالت نغماته في ذاكرتي، فكنت أتمنى دائما أن تكون الرحلة معه. أما أمي فكم كنت ألاحظ سعادتها داخل المستوصف عندما تأخذ “النيرس جانيت” أخاً لي من بين يديها، لتكشف عليه، وتزنه وتلقّحه، وتنادي على النساء الموجودات، وتطلب منهن أن ينظرن إلى ترتيب أمي لثياب طفلها ونظافتها، وطريقة استخدام الحفاضات القطنية، وتقول لهن: “اعملوا متل صبحية، شوفوا الترتيب والنظافة.. وتطلب منهن الاقتراب لشم رائحة أخي في عمر الأشهر وزمن الحفاضات”، لأن البودرة والكولونيا الخفيفة، موزعة على جسده الصغير، فتطفح من وجه أمي علامات السعادة، وتلمع عيناها بالفرح.
في الحالتين، برفقة أبي، أو بمشوار ساروجة مع أمي، كنت ملزما بالسير وفق مقتضيات مشاويرهم، بطريق رسموه هم حسب حاجتهم ومقاصدهم من الذهاب إلى المدينة، وأخطو بذات ايقاع خطوهم بطئاً أو سرعة.
في الصف السادس صارت مدرستي في دمشق، وكان عليَ الذهاب بدون رفقة والدي إليها. موقع مدرستي” أم الفحم” في منطقة البحصة، (وسأعرف في وقت لاحق أنها، أي “البحصة”، مسقط رأس القاص السوري الكبير زكريا تامر) قبل أن تنقل إلى القنوات. كنت أمشي إلى المدرسة من آخر موقف لباص كفرسوسة في منطقة الإطفائية، عند مكتب دفن الموتى في حينه، أجتاز شارع خالد بن الوليد، وأنحدر إلى المرجة، ومنها أنحرف قليلاً من جانب “الفندق الكبير”، الذي يقابل بناء مسجد يلبغا، ببنائه القديم، (والجديد لم يكتمل بناؤه بعد، وبمحاذاة الفندق قبالة يلبغا، أنشأوا مقر المستشارية الثقافية الإيرانية في دمشق حديثة العهد” في الثمانينات”)، لأدخل الشارع الرئيسي لمنطقة البحصة، ثم من زقاق سكني ضيق يقع على يسار شارع البحصة، أعبر نحو بناء المدرسة، وهو بيت دمشقي قديم، يتألف من طابقين، وفيه عدة صفوف، موزعة بين “تحت وفوق”. ورائحة المدرسة كانت “نارنجية”، من شجرتي نارنج فواحتين إما بأزهارهما، أو ثمارهما البرتقالية، خشنة القشور، ويتخلل غزارة تلك الرائحة عطر زهر شجرة ياسمين، تمتد من حوض في الطابق الأول حتى جدران الطابق الثاني.
أن يمشي المرء بمفرده، دون الأب أو الأم، على ما في رفقتهما من حب وحرص وامتيازات، فهو يستطيع الوصول إلى مكانه المقصود من أكثر من درب، كما يمكنه التوقف حيث يشاء قبالة واجهة محلات أسواق دمشق، أو يطيل النظر على العابرين، ويركض حيث يشاء، يقفز من جهة لأخرى ليستطلع مافيها وما عليها.
لم تألف حاسة شمّي، قبل العبور اليومي في شوارع دمشق، رائحة الشواء. كنا في العيد فقط نتناول وجبة لحم مشوي في المنزل، ثم تغيب تلك الرائحة سنة كاملة، إلا ماندر.
في حي البحصة المتصل بالسوق العتيق، كنا نواجه مشكلة الاشتهاء للمشاوي، فهي تهاجم أنوفنا طوال وقت مرورنا من السوق العتيق، وما فكرنا في شراء اللحم المشوي، فهو فوق استطاعتنا، فنقضي شهوتنا بسندويشة “فشة مشوية” ومعها قطع من “الدرن” أو الشحم، ولتحسين المذاق كان البائع يغمر الرغيف بالبقدونس المفروم مع البصل ورشة توابل، والثمن عشرة قروش فقط. نأكل سندويشتنا ولا نشبع، في اليوم التالي نستنجد بسندويش الفلافل من أول محل لفلافل “المصري” في دمشق، قبالة زاروب مدرسة أم الفحم.
كم كانت شهية فلافل المصري تلك!
ثمة رائحة أخرى لوجبة من “مشتقات” الذبائح، تفوح عن بعد مئات الأمتار، لا نعرف مكوناتها، فهي مفرومة حتى التلاشي، لكن التوابل التي ينزلها البائع فيها تثير الشهية، عندما تتقلب في المقلاة الواسعة “الصاج” ، والقرص الواحد بخمسة قروش “فرنك”. هناك على زاوية مدخل السوق العتيق، كان محل صغير، يقلي فيه البائع أقراص”الكالينا”، نشتري رغيف خبز منقوش أو تنوري، ونضع فيه قرص الكالينا أو اثنين، ونسد شهوتنا لللحوم. نتمتع جداً. عرفنا لاحقاً أن تلك الأقراص الشهية عبارة عن زوائد الذبيحة التي لا تصلح للأكل إن قدِمت بقوامها الطبيعي.
رائحة أخرى، في طريقنا إلى المدرسة، كانت تجذبنا، ولم نعرفها في البداية. هناك في آخر نزلة شارع رامي الواصل بين شارع النصر وساحة المرجة، كانت رائحة مدهشة تملأ فضاء الشارع، احترت بأمرها، فهي ليست طعاما، ولا هي عطورات نسائية أو رجالية. كنت اتجه إلى حيث شدة انطلاق الرائحة، فأصل إلى “خمارة سركيس”، وكان هناك خمارة أخرى أيضا. عند سركيس يدخل من الصباح الباكر زبائنه من العمال، ليحتسون، وقوفاً أو جلوساً على كراسي صغيرة ومقعدها ضيق، قبالة البار، ويشربون بأقداح صغيرة، سائلا أبيض كالحليب، وعلى وجاق الخمارة كانت صحون صغيرة فيها حبات قضامة صفراء، هي “المازة” فقط، وبسرعة عرفنا أنه العرق، ثم يمضون إلى أعمالهم، وغالباً يشتغلون في ورشات البناء، بمهن مختلفة. لم نكن نفكر بالدخول عند سركيس في حينه، لكنني كنت أتمتع برائحة اليانسون الذي يدخل في عملية صناعة العرق”التقطير”.
ذات الرائحة، لكن المختلطة بروائح عرق الأجساد في دور سينما “القاع”، ذات السعر الرخيص، كانت تفوح داخل الصالة بعد أن تطفأ الأضواء ويبدأ ظهور بطل الكاوبوي على الشاشة، أو ذلك البطل الذي يصرع بمسدس واحد أكثر من عشرة خصوم، وكانت سينما أميّة، القريبة من مدرستي في البحصة متخصصة في هذه العروض. وكلما أدى البطل دوره العنيف والسوبرماني، كانت تفوح أكثر رائحة اليانسون، لنكتشف أن عدداً من رواد سينما القاع، يجلبون معهم “بطحاتهم” ليسكروا في الصالة، (البطحة وما أدراك ماالبطحة، مصممة لتوضع في جيب القميص أو الجاكيت بسهولة) ومن سكرهم كان بعضهم، أحياناً، يصرخ بأعلى صوته: عيدوا… رجاع عالمنظر اللي قبله، فيستجيب مشغِل العرض ويعيد بعض اللقطات، دون أن يقول: “الجمهور عايز كده”.
في دور سينما القاع، ومنها سينما أمية القريبة على مدرستي في الإعدادية، كان بعض روادها، يستخدمون المكان للتحرش الجنسي بالفتيان الصغار، فما نلبث، ونحن نشاهد الفيلم في منتصفه، أن نسمع جلبة وصراخ وشتائم، يتحول إلى عراك بين فتى تعرض للتحرش ورجل حاول ملامسة جسد الفتى الصغير، فيلوذ الرجل بالفرار منسحباً من الصالة، أو أن يقوم الفتى بتبديل مقعده مبتعداً عن مقعد المتحرش، والأكيد أن ليس كل الفتيان كانوا يمتلكون الجرأة، لخوفهم أو خجلهم، فينسحبون من الصالة، مفضلين خسارة ثمن البطاقة على خسارة” شرفهم” بين أيدي “اللوطيين”. في بعض الأحيان ينجح اللوطي في إغواء الفتى، ويخرجان معاُ في نهاية العرض. لم يكن التحرش دائماً هو طريق اللوطيين ” لصيد” ضحاياهم، فبعضهم كان يأتي ومعه الفتى، الذي أغواه أو استدرجه أو غرر به، فيدخلان صالة السينما معاً، ويقضيان مدة العرض منشغلين بما ينشدانه. في هذه الحالة، كانت الصفوف الأخيرة من مقاعد الصالة، أو الزوايا الملاصقة للحائط، مرتعاً مناسباً للتستر والتخفي عن عيون الحاضرين.
لم أكن عدوانياً، ولا شرساً، غير أن بعض المواقف تجعلك شخصاً آخر. ذلك ما حصل عندما تعرض أحد زملائي من التلاميذ لتحرش من أحد اللوطيين، وكان يجلس بذات الصف من المقاعد التي شغلناها نحن التلاميذ الأربعة، عند الطرف، فسمعنا شتيمته للمتحرش، ووقف ليضربه، فحاصرنا المتحرش، وأخرج واحد منا” مفكاً”، كنا نتسلح به، وطعنه بذراعه، وانهلنا نحن عليه بالضرب، فحضر عامل الصالة، ولاذ المتحرش بالفرار، طاردناه حتى باب الخروج من السينما، ونال ” نصيبه” منا، من الشتائم واللكمات والبصاق”.
دور السينما الثلاثة المتبقية ( سينما غازي وعائدة والنصر، التي صارت لاحقا سينما سوريا). كل منها كان له اختصاصه. سينما غازي، وكانت تقع خلف وزارة الداخلية، كان اختصاصها بالأفلام العربية القديمة، ولفيلم “سلامة” الوقت الأطول من السنة، فيقصدها عشاق أم كلثوم. وكان الإعلان على بوابتها كالآتي: ” سينما غازي أقوى العروض، بإدارة أبوحاتم شخصيا”، إلى جانب صورته بطقم كلاسيكي وشاربين هتلريين. والسينما الثانية، عائدة، كان اختصاصها أفلام هندية قديمة جداً، أو أجزاء من أفلام، غناؤها وصفة لمن يشتهي الحزن والاكتئاب. الثالثة من صالات العرض، ابتكر أصحابها دمج السينما مع عرض حي للرقص الشرقي، خلال الاستراحة . ولم نتجرأ على دخولها إلا بوقت لاحق، فهي ذات سمعة سيئة بسبب الرقص الذي تقوم به راقصة من العيار الهابط، المهم أن تكون مرتدية لباس الرقص الشرقي وبشكل سافر، زبائنها أكثرهم من المجندين الأغرار، وعمال سوق الهال والحريقة” العتالين”. وأكثر الحاضرين كانوا يغادرون الصالة عندما تنتهي من “حصة الرقص” وينتظرون خروجها من باب السينما باتجاه فندق ما تقيم به، فيزدحم طريق مرورها بعشرات الرجال، حتى تدخل الفندق.
في الجهة الأخرى من المدينة كانت تنتظرنا روائح أخرى. هناك في سوق الحميدية، خاصة في السوق الفرعي المتعارف، عليه بسوق النسوان، أو سوق العرائس، كان لنا أن نطوِر أنواع الروائح التي تغزو أنوفنا، أو تلك التي نتقصد استنشاقها عند بائع عطورات، أو عندما نمر بجانب امرأة تفوح منها رائحة تفرض نفسها على حاسة شمنا، إما لعبقها الأخَاذ، أو لأنها صاعدة من ثياب امرأة. في مرحلة لاحقة، أيام الثانوية، واحد من “شلتنا”، كان يفضل الذهاب إلى سوق العرائس- النسوان، على التجوال في دروب مدارس البنات، وكانت تسكنه القناعة أن الفوز بامرأة ناضجة، ومجربة، أكثر سعادة من البنات الصغيرات” 15 إلى18″، بمصطلحات شقاوتنا في تلك الأيام” الفرافير”، أي الصغيرات. وكانت فكرته تنم عن خبرة حياة مالبثنا أن اقتنعنا بها، ولكنني لم أفز بأي امرأة من سوق العرائس، فزت فقط بمكياجهن وحركة أجسادهن وغنجهن عند محلات بيع الألبسة النسائية، وعندما تقبض امرأة على واحد منا يزرع نظراته على قامتها أو وجهها، تقول: ” ولي عليكن لسا ما فقستوا من البيضة” يعني لم ننضج بعد.
ثمة رائحة كانت تجتاح أوسع مسافة في طريقي إلى البحصة، وتلغي الروائح الأخرى. إنها رائحة تحميص القهوة، في أشهر محل لصناعتها وتوضيبها، واسمه” بُن بوبس” في الجزء الأخير من شارع النصر.
قبل تعرفي لسوق البزورية، كانت محمصة بن بوبس تحتكر المهنة والصنعة والفضاء والزبائن. كان الدخان الصاعد، من المحمصة إلى الشارع، يتشكل كسحابة تتحرك مع اتجاه الريح، وتهطل رائحتها على امتداد الشارع، من عند الإذاعة القديمة، وصولاً إلى سوق الحميدية.
في سوق البزورية العريق، في دمشق العتيقة، كان للرائحة شأن آخر. روائح من كل نوع. القرفة والزعتر والزهورات المختلفة، وماء الزهر المقطر، وينافسه ماء الورد. أما محامص البزورات الطازجة فكانت تنافس أنواع البن بروائحها النفاذة. وثمة رائحة أخرى، ليست معروضة في السوق، تلك كانت رائحة بيوت دمشق القديمة، المشادة من الخشب والطين والقش. وحين تختلط مع رائحة نشارة الخشب، في سوق النجارين، يكتمل عالم الروائح التي لامثيل لها على الإطلاق. ومن داخل البيوت رائحة الطبخ داخل المنازل، تتسلل من النوافذ العالية والأبواب.
كانت أفران” التنور” منتشرة في كل حي، ولخبز التنور، تنور الحطب تحديداً، رائحة يسيل لها اللعاب، فكيف وتلك الرائحة ترافق روائح الطبخ في بيوت دمشق العتيقة. بعد هذا التجوال مع الروائح كان يهاجمنا جوع شديد من اشتهائنا للروائح، فنسرع بالعودة إلى بيوتنا لنلتهم ما تيسر من الطعام. ولقد كانت مواسم العلت والخبيزة والعكوب، طويلة في نظامنا الغذائي، وكنا نمل من تكرارها، وفي منتصف نيسان يجتاح الفول الأخضر مطابخ الحي، بأسعاره الرخيصة، ويستمر حتى أوائل حزيران، قبل أن يقسو “ويتكحل بالسواد”. المفارقة، أن ماكنا نملّ منه في موائد طفولتنا، نشتهيه اليوم، لندرته في ألمانيا.
في المرحلة الإعدادية، آخر الخمسينيات وأول الستينيات، كان نظام الدوام المدرسي، على مرحلتين، ثلاثة أيام لمنتصف النهار( الأحد والثلاثاء والخميس)، والباقي من الأيام ( السبت والإثنين والأربعاء)، دوام كامل على مرحلتين، يتخللهما مدة ساعتين فرصة لنا لتناول الغداء والعودة إلى مقاعد الدرس.
في ساعتي الفرصة، أيام السبت والإثنين والأربعاء، وبعد أن نأكل زوادتنا من طعام الغداء، الذي نحمله معنا من بيوتنا، أو مانشتريه من سندويش الفلافل والمشاوي الرديئة، نقصد “التروماي” المتجه إلى المهاجرين عبر بوابة الصالحية، نصعد ولا ندفع، فنضطر للنزول عندما يقترب قاطع التذاكر، ونعود راجعين، نكرر هذه اللعبة المجانية أكثر من مرة.
” الأسانسير” كان اكتشافا مدهشا، وأظن أن أول مصعد كهربائي في دمشق، كان في بناية “الحايك” المطلة على نهر بردى، عند جسر فكتوريا، قبل أن يغطوه بالإسمنت، وقبالة بنك سوريا ولبنان. كنا نحجز المصعد صعوداً وهبوطاً لوقت طويل، مندهشين به كيف يرتفع بكبسة زر وينخفض نزولاً بكبسة أيضاً، كانت لعبة مغرية وساحرة. مرة هناك من اشتكى لناطور البناية أن المصعد مشغول دائماً، فراح يطاردنا من طابق إلى آخر، ويدق بيده عندما نصل لطابق ما، ولم نكن نمتثل، إلا بعد أن نروي عطشنا من هذه اللعبة الجديدة في مدينة دمشق.
اشتهاؤنا لشوارع دمشق، ودروبها وأسواقها وروائحها المتنوعة، لم ينته، ولقد لازمنا في المرحلة الثانوية، فوسعنا مجالنا “الحيوي”، لنكتشف عوالم الفرجة والملاعب وكل الفضاءات التي ترضي رغبتنا في معرفة تفاصيل المكان.