من الآثار البادية لتطبيع الأنظمة على الشعوب

تشير بعض المعطيات إلى أن حمّى التطبيع مع الكيان الإسرائيلي التي ضربت العالم العربي في السنتين الأخيرتين، قد بدأت تجد صداها وتفعل في بعض الأفراد فعلها الذي يجعلهم يتقبلون هذا التطبيع وتوابعه. وبات هنالك من يتبنى سردية المطبِّعين وموقفهم من العمليات الفدائية التي ينفذها أبناء الشعب الفلسطيني بين الفينة والأخرى، لدرجة أن هنالك من أخذ يطلق عليها تسمية “عنف”، متناسياً أن هذا الـ “عنف” ليس سوى رد فعل على الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني. وإذ يستمر التعويل الدائم على مناعة الشعوب ضد موجات التطبيع التي بدأت مع اتفاقات كامب ديفيد بين مصر والكيان الإسرائيلي، سنة 1978، فإن قراءةً للمزاج الشعبي في السنوات الأخيرة، تشير إلى أن هذا التعويل لم يعد في محله في بعض المفاصل والحالات. ويمكن لهذا المزاج أن ينساق مع موجات التطبيع، إذا لم تظهر موجات معاكسة صادة ورافضة له ودائمة الفعل، وخارجة عن سياق المتاجرة بالقضية الفلسطينية التي درجت عليها الأنظمة العربية منذ النكبة، ومن ثم النكسة التي تلتها.

لا يجب أن يمنع المزاج المتعاطف مع القضية الفلسطينية الذي ساد بعد اغتيال الشهيدة شيرين أبو عاقلة، في 11 مايو/ أيار الماضي، والسخط الذي ساد ضد الإسرائيليين، أن ينسيانا ما سبقهما من تعليقات لمواطنين عرب من دول عربية عديدة على صفحات التواصل الاجتماعي حول العملية الفدائية التي وقعت في مستوطنة “أرئيل” في الضفة الغربية، في 30 أبريل/ نيسان الماضي، والتي نفذها شابان فلسطينيان، وأرديا خلالها حارس المستوطنة، وتعليقاتهم على عمليات مشابهة أخرى. وكان من اللافت، وربما المفاجئ، معارضة بعض المعلقين لعملياتٍ من هذا القبيل، وإدراجها ضمن سياق “العنف” الذي لا يحقق أي مكاسب للشعب الفلسطيني. وبغض النظر عن جدوى هذه العمليات، إلا أن ردود بعض المعلقين تُظهر قدراً كبيراً من الاستسلام، وربما الهزيمة، التي تعكس مدى العجز الذي وصل إليه المواطنون في دول عربية كثيرة. وهو عجزٌ انعكس سلباً تجاه الموقف من القضية الفلسطينية ككل، وتناسى حقيقة احتلال الإسرائيليين أراضٍ عربية وقمع سكانها وقتل أبنائها. وهنا تطرأ الأسئلة الإشكالية حول أسباب هذه المواقف، على ندرتها، وحول أسباب وصول مواطنين عرب إلى مرحلة العجز والتسليم بالأمر الواقع. وهو في النهاية موقف سلبي له تبعاته التي قد لا يعرف هذا المواطن مدى جديتها، ومدى خطورة إطلاق أحكام ترفض هذا الشكل من المقاومة، في الوقت الذي تمارس فيه قوات الاحتلال الإسرائيلي القتل علناً وتصادر أراضي الشعب الفلسطيني، وتمنعه من بناء دولته على ما أبقت له من أراضٍ متناثرة.

لا يمكن في أي حال من الأحوال عزل هذه المواقف عن موجة التطبيع الأخيرة، التي قاربت شكل الحمّى، بعد التسابق العربي للانضواء ضمنها، خصوصاً بعد التوقيع الجماعي لدولتين عربيتين، هما البحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة، اتفاقية أبراهام للتطبيع مع الإسرائيليين، في واشنطن، في 13 أغسطس/ آب 2020. وكذلك بعد ما شهدناه، في 28 مارس/ آذار الماضي، من حجٍّ جماعيٍّ لوزراء خارجية مصر والمغرب والإمارات والبحرين إلى دولة الاحتلال، واجتماعهم في النقب مع وزير الخارجية الإسرائيلي برعاية وزير الخارجية الأميركي، ثم الكلام عن احتمال تطبيع السعودية مع الكيان الإسرائيلي بعد زيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، السعودية، في 16 يوليو/ تموز الجاري. وكون هذه الموجة لم تقابَل بالرفض الشعبي المفترض، ولو بنسبة ضئيلة، مقارنةً بالرفض الشعبي العارم الذي لاقته اتفاقية كامب ديفيد، يمكننا الاستنتاج أن المواطن العربي يخسر يوماً بعد يوم حصونه الصادَّة، والتي هي قدرته الداخلية على الرفض والاحتجاج، ويتجه إلى التسليم بما يقرره له حكامه بعدما أوصلوه إلى مرحلة اليأس التي تلت البؤس الذي صيَّروه عليه. لذلك ربما من الطبيعي ملاحظة هذه العقلية الجديدة، أو المواقف السلبية المستجدة لبعض الأفراد، ممن لم يكن يتوقع اتخاذهم مواقف من هذا القبيل، لأنهم عادة ما يكونون ضحايا هذه الأنظمة التي تطبع حالياً مع عدوهم، بعد أن كانت تتَّخذ من هذا العدو فزّاعةً لتبرير سياساتها القمعية المزمنة بحق شعوبها، وتبرر عبره امتناعها عن تنفيذ سياسات تنمية مستدامة، وهو ما أنتج فقراً وتخلفاً في قطاعات التعليم والصحة وفي القطاعات الاقتصادية.

وإذ يتَّخذ البعض هذه المواقف (نكاية) بأنظمة بلدانهم التي تاجرت بالقضية الفلسطينية، وأوقفت عملية التطور الاقتصادي والاجتماعي، بحجة حشد كل الطاقات لمواجهة العدو الإٍسرائيلي، يبقى غريباً تماهي هذا البعض مع سردية الأنظمة المطبعة، والتي لا تتوانى، في إطار تطبيعها الشامل، السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني والثقافي، عن تمجيد قتلى جيش الاحتلال الإسرائيلي وتكريمهم في إحدى العواصم العربية. فهذه الأنظمة التي كانت ترفع سيف القمع بوجه من يعارض سياساتها السابقة، ترفع هذه الأيام السيف ذاته في وجه من يعارض تطبيعها. لذلك يصبح المواطن العادي الذي كان ضحية هذه الأشكال من القمع، أسيرَ هذه السردية ويتبنى بلا وعي منه التبريرات والحجج التي تقف خلف سَوقها، ويصبح ناطقاً بها ومروِّجاً للثقافة التي تريد نشرها، علاوة على معارضته كل ما يزعج هذا العدو فتصبح لديه مقاومة الاحتلال عنفاً ومقاطعته تخلفاً وبعداً عن الواقعية.

وإذا كانت موجات التطبيع قد أدخلت بعض الأوهام إلى من هم بعيدين عن بؤرة الصراع، وأسمعت بعض الأصوات التي تتقبله، فإن هذه الموجة قد لاقت احتجاجاً كبيراً على وسائل التواصل الاجتماعي يوم التوقيع على اتفاقات أبراهام في الدول البعيدة عن هذه البؤرة والدول القريبة منها، على السواء. غير أن هذا الاحتجاج قد فترَ خلال اجتماع النقب، ربما بسبب الاعتقاد الشعبي أن هذا التطبيع سيبقى حبراً على ورق، ولن يلقى القبول لدى الشعوب العربية، كما كان حال اتفاقات كامب ديفيد أو وادي عربة من قبله، على الرغم من أصوات النشاز التي تؤيده.

ومع ذلك، وفي ظل الإصرار الإسرائيلي على فرض التطبيع أمراً واقعاً على الشعوب العربية، قبل فرضه على الأنظمة، وعِلم الإسرائيليين المسبق أن ركون الشعوب إلى هذا التطبيع سببه قمع الأنظمة، وليس التغير في الموقف والمزاج الشعبيين تجاه دولة الاحتلال، مع كل هذا، وجبَ التذكير الدائم بأن التطبيع قضية تخالف الضمير الأخلاقي لدى الشعوب، وتخالف عقيدتها الدينية ومبادئها التاريخية التي تشكلت لديها بفعل ما تراكم من جرائم إسرائيلية وانتهاكات متواصلة بحق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية في مصر والأردن وسورية ولبنان. عندها يصبح ما يُعتقد أنه “رأي آخر” بشأن العمليات الفدائية واعتبارها عنفاً، صوتاً ناشزاً، لا يستحق الاعتراف بحرية اتخاذه، بقدر ما يجب تصنيفه أنه تطبيع ثقافي، يكون عادةً أخطر من أي تطبيع سياسي وأفعل.

عن مالك ونّوس

كاتب صحفي ومترجم سوري

شاهد أيضاً

العدوان على غزة: أجندة إسرائيل السياسية والأمنية

في صباح السابع من تشرين الأول 2023 شنت حركة حماس هجوماً مسلحاً على مواقع وبلدات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *