في الشهرين الأخيرين أنهيت قراءة ثلاث روايات للكاتب الجزائري الحبيب السايح هي ” أنا وحاييم ” و”تلك المحبة ” و ” الموت في وهران ” ، ولم أكن قرأت له من قبل ، نظرا لأن أعماله لم تتوفر في مكتبات فلسطين ، ونظرا أيضا لأن دور النشر الفلسطينية لم تعد طباعة أعماله ، فقد اقتصرت طباعتها على أعمال الطاهر وطار وأحلام مستغانمي وواسيني الأعرج وفضيلة الفاروق ، وربما أيضا نظرا لعدم قراءة مراجعات لرواياته في صحفنا المحلية ، ولأنه ليس كاتبا جزائريا كلاسيكيا كتب بالفرنسية وترجمت أعماله إلى العربية مثل كاتب ياسين ومالك حداد ومحمد ديب ، والأخيرون عرفناهم من خلال دور نشر عربية ومن خلال تركيز أحلام مستغانمي على تجربتهم في ثلاثيتها ” ذاكرة الجسد و فوضى الحواس وعابر سرير ” .
أول مراجعة لأحد أعمال الحبيب السايح قرأتها كانت مراجعة واسيني الأعرج لرواية ” أنا وحاييم ” ، فقد خصها بمقال أتى فيه على كتابة السايح عن يهود الجزائر ومدح صنيعه ، وكان علي أن أقرأ الرواية لاهتمامي بالموضوع .
وأنا أقرأ ” الموت في وهران ” تذكرت الروايات والقصص الجزائرية التي أتت على حرب التحرير من ١٩٥٤ إلى ١٩٦٢ ، ومنها ” الطعنات “و” الشهداء يعودون هذا الأسبوع ” و” اللاز ” و “الزلزال ” لوطّار ، و ” الدار الكبيرة” و”الحريق” و”النول ” لمحمد ديب . إن “الموت في وهران ” تستحضر أيضا أجواء حرب التحرير . غير أن ما تذكرته أيضا هو رواية إميل حبيبي ” اخطية ” .
لا تأتي ” اخطية ” على تفاصيل حرب ١٩٤٨ ، ولكنها تأتي على تذكر كاتبها مدينة حيفا في زمن العرب وترصد التغيرات التي طرأت على المكان وتهويده من خلال تغيير أسماء شوارع حيفا وتبدل عوالمها ؛ ما كانت عليه وما صارت إليه ، وهذا نلحظه أيضا في رواية الحبيب السايح ، فهو غالبا ما يذكر أسماء الأماكن في زمن الاستقلال ويشير إلى ما كانت عليه في زمن الاستعمار الفرنسي ويأتي على ذكر مواطنين فرنسيين عاشوا في المدينة أيام استعمارها .
عندما كتبت ملاحظة عابرة حول هذا الموضوع عدها الحبيب السايح ملاحظة ظريفة ونبيهة ، وأعتقد أنا أنها قد تشكل مدخلا لكتابة رسالة ماجستير أو دكتوراه في باب التوازي بين التجربتين الجزائرية والفلسطينية والأدبين الجزائري والفلسطيني ، وقد كان هذا موضوعا محببا للفلسطينيين في المناطق المحتلة بعد العام ١٩٦٧ ، وأذكر أنه في العام ١٩٧٧ عقدت في مكتبة بلدية رام الله ندوة لمناقشة رواية ” اللاز ” ومقارنة التجربة الفلسطينية بالتجربة الجزائرية اتكاء على الرواية ، بل إنني شخصيا أشرفت على رسالة ماجستير عن تأثير الرواية الجزائرية على الرواية الفلسطينية .
ما الذي ذكرني برواية حبيبي المذكورة ؟
في ” الموت في وهران ” غالبا ما يذكر السايح أسماء أمكنة ؛ شوارع وأحياء ، في الزمنين ؛ زمن الاستعمار وزمن الاستقلال ، وغالبا ما يضعها بين قوسين ، ويبدو الأمر لافتا للنظر منذ الصفحات الأولى :
– كان هو الذي أوصلني أول مرة إلى مدرستي في حي اللوز ( ليزامندبي ، سابقا ) …
– قبل عام كنت سحبت ذينك اللباسين وطويتهما ووضعت فوقهما التنيسة في كرتون قدمته لحارس المدرسة في ( سان بيارة، سابقا )
– أقمنا في غرفتين منها مطبخ وحمام في الطابق السفلي ، واقعة في حي سيدي الحسني ( صناناس، سابقا ) .
– وغالبا ما كنت كسرت الشارع إلى الأسفل نحو رصيف سوق ( ميشلي ، سابقا ) . …. الخ
ويبدو الأمر جليا واضحا في رواية حبيبي ” اخطية ” أيضا منذ الصفحات الأولى :
– انتهجت ، إذا، طريق ” حيفا الفوقا” . وذلك بعد أن عبرنا ” جسر شل ” الذي أصبح ” جسر باز ” ( والبترول واحد ) ، من تحته . فشارع ” هجيبوريم ” -يعني الأبطال الذين ” طردوا ” عرب روشيميا من بيوتهم وأكواخهم ، فجسر روشيميا ( من فوقه ) . ثم شارع ” هحالوتس “.
– سموا هذا الشارع باسم ” هحالوتس ” ومعناه ” الطليعي ” .فلا يجوز لنا، تاريخيا، ترجمته إلى اللغة العربية كما فعل إخواننا اليهود بالعديد من الأسماء العربية العريقة في هذه المدينة، أو بدلوها تبديلا، حتى أصبح شارع الناصرة شارع ” إسرائيل بار يهودا ” ، وأصبح منبعه – ميدان الملك فيصل- أمام محطة سكة حديد الحجاز – ” شارع خطيبات جولاني ” ، وهو خط عربي ركيك يقصدون به الاسم العبري ” حتيفات جولاني ” ، أي فرقة ” الصاعقة ” العبرية الشهيرة باسم قائدها الأول جولاني … . والأمثلة كثيرة .
ثمة إشارة أخيرة يمكن ملاحظتها في أثناء قراءة الروايتين تكمن في أن حبيبي لم يلجأ إلى العامية الفلسطينية والتراث الشعبي الفلسطيني إلا نادرا ، بخلاف الحبيب السايح الذي وظف الموروث الشعبي الجزائري ما كان أحيانا حائلا دون فهم القارئ غير الجزائري بعض مقاطع من الرواية . هل أقول إن السايح عرب الأماكن ولكن ” جزأر ” بعض أجزاء من الرواية؟
الأمر يستحق التفكير والمساءلة والتعمق .
تم النشر بإذن من الكاتب