ميناء القش ( كما رواها الصيادون والذين يعيشون في الظل ) / قصص

الكاتب : يوري رحال

الناشر : دال للنشر والتوزيع – الطبعة الأولى 2023

فن كتابة القصة القصيرة من أصعب أنواع الكتابة ، فالقصة إما أن تكون أو لا تكون ، لأن القصة القصيرة تشبه الومضة التي تُضيء العقل والإحساس .

الكاتب السوري الشاب ( يوري رحال ) الذي يعيش في اللاذقية أبهرني بالقصص ذات الفنية العالية ( احدى عشرة قصة – 222صفحة ) فهو يمتلك موهبة مصقولة بتجارب الحياة ، ولغة غنية تأسر القارئ . كل القصص تُعبر عن الحياة ( الأدق اللا حياة ) في سوريا بسبب الحرب في قصة ( القلق ) ثمة عبارات تجعلك تتوقف عندها وتتأمل روحك : ( في المعركة فقط تمتلك صورة هويتك يا رجل ، شاحب ، قبيح ، مندهش ، جاحظ بعيون باردة ، غير مبالية ) وأيضاً في نفس القصة يكتب يوري ( هذه البلاد ومدارسها آسنة يا رجل ، حفرة كبيرة من القذارة والسيان والعفن ! عليك أن تمر بها وتنتقل إلى حفرة أكبر فأخرى أكبر ) وهو يعيش في مدينة تتسع لآلاف اللصوص والقتلة لكن لا زاوية فيها أو ثقباً في الجدار يتسع لألمك أو الأفكار التي تخنقك كل مساء .

ويكتب في القصة ( القلق ) في هذا البلد الذي تجاهد فيه باحثاً فقط عن لقمة العيش والحياد ، صار الخوف طريقة حياة ، نخاف أن نُصبح قتلة أو مجانين نخاف أن ننتمي إلى ما كنا نهرب منه طوال حياتنا . ونسأل السماء كل يوم ألف سؤال دون أن نرى إجابة سوى الموت .

في كل قصص يوري رحال نحس بالهول ، فما يعيشه السوريون هو الهول ، الموت والقتل الوحشي والدمار هيمن على حياتنا يكتب في قصة ( ميناء القش ) : ( مشى الزمن ومشينا معه وفي كل يوم يمر تسقط قناعة من الرأس وحجر من هذي البلاد التي بدا جمر رمادها عند هبة أول رياح ) يصف ببراعة آسرة هول المعاناة والفساد في المرفأ والميناء وكيف دخل اللصوص المجرمين إلى الميناء واشتروا القوارب الكبيرة رغم أن أصحابها لا يريدون بيعها ويعترف ( لعقت أحذيتهم لأرى صورتي ) . يبدع يوري في وصف الخوف الذي لا يُشبه شيء في الوجود ، وكتابته خالية من أي تفجع أو السقوط في إغواء اللغة ليكتب ويصف هول معاناة السوريين من الفقر والخوف والموت ( من مات حظي بالسلام ، ومن بقي فهو إما ينتظر الموت أو أنه ميت يجتر الطعام والدهشة ) . أسلوب يوري رحال في الكتابة شيق وآسر يبدو مُحايداً لكن الكلمات كالجمر تحت رماد حياة أيام بلا معنى ، هدر وجودي مثالي يكتب ( في السجن تمر الأيام بلا فائدة كما هو الحال خارجه ) . لا توجد رشة أمل أو فرح في كل قصص يوري رحال ليس لأنه لا يحب الفرح بل لأن ولاؤه للحقيقة مُطلقاً ، وحقيقة العيش في سوريا مُرة وفوق قدرة العقل على الاستيعاب ، في قصة ( يدي التي لا تنسى ) يكتب : دائماً سيخطر في بالك السؤال : ما هو الشيء الذي يستحق كل ما يحدث ؟! ولماذا لا يتدخل الله ويوقف هذا الحضيض ؟! وهو يبدع في وصف حجم النفاق والكذب الذي يعيشه السوريون ( فقط الجدران ظلت تحمل آثار الرصاص والحكايات الصادقة غير القابلة للتأويل ، آثار الرصاص على الجدران رسمت بوضوح حقيقة التاريخ الموغل في الكذب ، ومُستقبلاً يقتات على الجذور الآسنة المُشبعة بالتلفيق ، ومعظم الفتوحات محارق ومذابح ) . يصف الكاتب بأسلوب مُحايد بلا غضب ولا مُبالغة حالة الذهول التي يعيشها السوريون ( خاصة الشبان منهم الذين اضطروا أن يحملوا السلاح للقتال في حرب كانوا فيها أضاحي ، ويحكي عمن يسمونه العدو فيتساءل بطل القصة : ( لعله مثلي – يقصد العدو – هل كان يتمنى أن يحدث هذا لنا أم أنه مثلي لا يُدرك أية عواصف رمت بقاربه في بحر الدماء هذا ؟ يصف كيف طُلب للالتحاق بالجيش ليُقاتل لكنه لا يريد أن يحمل سلاحاً ولا يريد أن يقتل ، وفي قصة ( بنادق بعدد الأحلام ) يبرع في وصف دمار الروح الذي تسببه الحرب والمجازر والصواريخ والدمار والموت يكتب ( نعم يا صديقي لقد ذُبحت هذه البلاد بينما كان أهلها الغافلون ينتظرون الفجر – الآن بعد سنوات الحرب الطويلة أجلس هنا في المجهول الذي لا ترى نهاية لحلكته وقد فقدت معظم أصدقائي أجلس وحيداً على طاولة صغيرة أنتظر بلا جدوى أن أرى شيئاً بعد هذا العدم كله ) .

ورغم أن كل سوري ( تحديداً ) يقرأ قصص ( ميناء القش ) ليوري رحال يعرف أنه يعرف كل حادثة كتب عنها يوري ، ويعرف كل المجازر التي ارتكبت طوال سنوات من حرب مجنونه أدت لموت الملايين ونزوح أكثر من ثلث الشعب السوري ، رغم أن كل سوري يقرأ قصص يوري رحال التي أبدع في وصف الحياة والمعاناة والموت السوري والنزوح السوري ، فإنه يُصاب بالدهشة ، دهشة الإبداع الذي يخلق حياة موازية لحياتنا ، دهشة الإبداع الذي يجعلنا نشهق غير مُصدقين أننا فعلاً عشنا ونعيش هذا الهول ، وكيف استطعنا تحمل كل هذا الموت والكذب والذل لدرجة شارفنا على هاوية الجنون . لا معلومات جديدة ولا حقائق خافية في قصص يوري رحال ، إنه يكتب بشرف الحقيقة ونزاهة الكتابة الحرة الصادقة عن حياة السوريين ويحكي عن النازحين وعن خيبة الأحلام واليأس ، هو نجح في كتابة الهول بعمق وبراعه كما لو أنه أدخل حياة السوريين تحت عدسة المجهر الإلكتروني ، لكن قراءة ما عشناه ونعيشه نحن السوريون يُحدث فينا صدمة إيجابية ، كتلك الصدمة الكهربائية للدماغ المريض ، وأظن أن مهمة الكاتب الأساسية هي إحداث تلك الصدمة في عقول الناس ودفعهم إلى التساؤل : أية حياة نعيش ؟ وكيف ارتضينا رغماً عنا كل هذا الذل والخوف والموت ؟ وكيف خُدعنا بأن موتنا انتصاراً !!! ومجدنا الرصاص وزغردنا لاستشهاد الشباب !!! الكتابة الإبداعية هي التي تجعل من القارئ شريكاً لها ، كل سوري يقرأ قصص ( ميناء القش ) ستحدث هزة قوية في روحه سببها إدراكه فظاعة الهول الذي يعيشه خاصة بعد أن تعب الناس من القتل والمجازر والذل والفقر وأصبح الخوف نمط حياة ، بعد قراءة القصص أكاد أجزم أن الكثير من السوريين سيمسكون أول الخيط ليخنقوا الخوف والذل ، وسيحسون بالغضب من أنفسهم كيف أذعنوا وخضعوا ( ولعقوا الأحذية ) .

أخيراً لا بد من توضيح أن الكاتب الشاب ( يوري رحال) الذي يعيش في اللاذقية لم يحدد أبداً أطراف الحرب ، لم يُسمي الخصوم بأسمائها ، لم يكتب اسماء المجرمين ، هو فقط كتب بالإيحاء ، والضباب يُغلف أسماء السفاحين والمجرمين ، كنت أتمنى لو يكشف ستارة الحقيقة كاملة ويسمح لنور الحقيقة المُبهرة أن تُضيء القصص ، لكنني ألتمس له عذراً أنه يعيش في اللاذقية . وأن الكتابة المُواربة نوع من الأمان وأن الكتاب – خاصة في الداخل – يضطرون مُرغمين لاستخدام الفعل المبني للمجهول .

شكراً إبن وطني سوريا وإبن مدينتي ( اللاذقية ) على إبداعك العالي وتمكنك من كتابة القصة القصيرة ، شكراً لنبلك ووفائك في الكتابة عن معاناة شعبك السوري ،وأتمنى أن تحذف تلك العبارة من روحك الجملة التي بدأت بها كتابك ( الذاكرة ، هي الجزء الأكثر إيلاماً في الحياة وأنا أكرهها جداً )

أجل صديقي الذاكرة مؤلمة لكن لا يجب أن ننسى أبدأ أدق تفصيل من الهول السوري .

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *