يعدُ بناء الشخصية الروائية عنصراً أساسياً في التقنيات التي تعطي للحدث- الأحداث الروائية، طاقة التعبير عن الانسجام التكاملي بين مضمون العمل الروائي، قضيته، وبين شكل تقديم أحداث الرواية في السرد، متعدد الأصوات، أو سرد الصوت الواحد على حد سواء.
رواية “في غبار الماضي” لسمير الزبن، تقدم للقارئ انسجاماً تكاملياً واضحاً بين مضمون العمل(موضوعه وفكرته) وبين بناء الكاتب لشخصيات عمله. وسنجد في رواية ” في غبار الماضي” أن هندسة الكاتب لشخصيات عمله كانت منسجمة مع البناء، الذي اكتمل بتدرج بطيء أحياناً، ومفاجئ في أحيان أخرى. فالبناء المتقن يقتضي هندسة مناسبة لمحمولات كل شخصية.
لقد لفتني، واستوقفني، في مسألة هندسة الشخصيات، في الرواية موضوع هذا المقال، اختيار الكاتب لأسماء شخصياته الأساسية، والصلة الدلالية بينها وبين تجلياتها في السرد الروائي.
في روايات نجيب محفوظ نلحظ أهمية اختيار أسماء الشخصيات، فجاءت مطابقة لطبيعة الشخصية ومؤهلاتها وسلوكها ومواقفها، مثل “أمينة” في الثلاثية، وسي السيد أيضاً، أو متناقضة مثل ” سعيد مهران” في اللص والكلاب. كما أن الطيب صالح في روايته عرس الزين، اختار اسم”الزين” مطابقا لبنية الشخصية. أما جبرا إبراهيم جبرا، في ما أظنها أهم رواياته، جعل من هندسة الاسم جزءا من السرد والحوار الداخلي لشخصية وليد مسعود، ذلك الاسم الذي اختاره وليد لنفسه متخلياً عن اسم ” خميس” الذي أطلقته عليه أمه حين ولادته، فكانت تقنية السرد بارعة في تسويغ اختيار اسم بديل. ولقد قدم الطيب صالح روايته” عرس الزين” بشخصية أساسية في الرواية تطابق الشخصية وما انبنت عليه محمولاتها في الرواية فأطلق اسم “الزين” على الشخصية الأساسية في روايته.
يرجح عدد من النقاد أن اختيار الكاتب لأسماء شخصيات روايته- رواياته، لا يأتي جزافاً، فاختيار الاسم هو جزء من هندسة البناء للشخصية الروائية. وهو ما نلحظه في شخصيات رواية” في غبار الماضي” لسمير الزبن.
يمكن اعتبار ” هالة” أنها الشخصية المحورية الأولى في الرواية. ويحمل اسم هالة دلالات ومعاني تحيل إلى أثر الشخص صاحب الاسم أكثر مما تحيل إلى الشخص ذاته. فالهالة هي حضور يحيط بالكائن، ويعرف المهتمين به بخصائصه . وحرف الهاء المتبوع بحرف الألف يصدران من أعماق الجهاز الصوتي للإنسان. زد على ذلك أن حرف الهاء هو حرف الهمس الذي لا يشبه حروف العربية الأخرى. أعتقد أن اختيار الكاتب لاسم هالة- هالا، هو ما دشن به الكاتب هندسة شخصياته.
لقد ورد اسم هالة في الجملة الأولى للرواية، لكنه جاء سردياً ليعلمنا بنهايات الرواية: “عندما استقرت هالة سعيد على مقعدها في الطائرة الإيطالية… في طريقها إلى الولايات المتحدة الأميركية”.
وحين وصلت الطائرة، ونزلت ” نفضت هالة شعرها بهز رأسها باتجاه اليمين واليسار بقوة، بحركتها رسم شعرها دائرة في الهواء..”، وهي التي بدت للقارئ، خلال تطور الحدث الروائي، ملتزمة بالحجاب وبالقيم السائدة في بلدها سوريا، وبيئتها الحموية.
ولعل هندسة الشخصية الروائية، تحيل في أحد معانيها إلى التصميم الذي تم من خلاله رسم الشخصية وتقديمها للقارئ في السرد الروائي، وهو ما برع به الكاتب في رسم شخصياته الأساسية، التي تكفلت، وفق تصميمها ورسمها الذي وضعه الكاتب، بتطور الأحداث على أكثر من مستوى.
بالإضافة إلى هالة، يقدم الكاتب، في متن السرد الروائي، شخصيات تتصل أسماؤها بما يطلق عليه في التنظير الروائي” هندسة الشخصيات”.
“فداء”، شقيقة هالا، هو الاسم النسائي الثاني الذي يحمل المعنى الدال على شخصية فداء، وعلى مواقفها من الأحداث التفصيلية الهامة في الرواية. وهنا يشكل اختيار الكاتب لاسم الشخصية، تحديا للسائد في الميدان الحقوقي والقانوني والقيمي . وإذا كانت الصفات المذكورة تدل على بناء الشخصية فدلالة الاسم تحيلنا إلى هندسة ذلك البناء. فهل نتخيل كيف سيكون حال الشخصية لو اختار لها الكاتب اسم” إعتدال” أو” سلمى” أو ” ليلى” على سبيل المثال؟
فداء التي تعمل في الترجمة الفورية، تعيش بمفردها في دمشق بعيدا عن مدينتها حماة. تحمل عبء إعالة أسرتها بعد وفاة والدها، تمتلك حريتها العاطفية والجسدية، تحتضن شقيقتها هالة، تتمرد على شكليات المجتمع وعاداته، وتكون فداء من أجل نفسها في تجربة نادرة حين تأخذ قرارها بقبول الزواج من مسيحي أميركي، دون أن تتشبث بضرورة تغيير ديانته ليصبح مسلما، كما يملي قانون الأحوال الشخصية في سوريا.
إدوارد وحسني وعامر، ثلاث شخصيات روائية، تحيل صفات كل واحدة منها إلى علاقة ما بين الاسم وبين طبيعة الشخصية .
الأول وهو أميركي، واثق من موقفه ومتمسك به، رافضاً تغيير ديانته من المسيحية إلى الإسلام، ليتاح له الزواج من فداء. وأستطيع المغامرة بالقول: إن إيقاع اسم ادوارد يحيل إلى الحزم والثبات والجدية. فحرف” الدال”، الذي يحضر مرتين في حروف الاسم، هو حرف ليس رخوا أو مرناُ، علماً أن معنى الاسم، حسب بعض المقاربات، ” حارس الرخاء والسعادة أو الحارس الثري”. لم ينطلق موقفه من الزواج من فداء من إيمانه بالمسيحية أو تشبثه بها، ولا باستخفافه بالإسلام كديانة سماوية.
يطلعنا الكاتب في سرده على شخصية ادوارد وموقفه الرافض للزواج الديني، وقناعته الراسخة بالفصل بين الدين والعلاقات الإنسانية” الحب والزواج”. حبه لفداء كان جامحاً، ومع ذلك لم يخضع لقوانين وأعراف المجتمعات الإسلامية، إذ تمنع قوانين الأحوال الشخصية زواج المسيحي من المسلمة إلا إذا غيَر ديانته. صدمه كلام فداء عن الإجراءات الضرورية لإتمام عقد الزواج. ردَ على فداء بهدوء: ” ماعلاقة زواجي بإسلامي أو مسيحيتي أو يهوديتي أو بوذيتي، هل هذا ضروري من أجل زواجنا… أنا أتزوجك لأنك أنت فداء ليس لأنك مسلمة أو مسيحية أو أي شيء آخر، أنا أحبك أنت…”. ويكون اقتراحه على فداء” الزواج القبرصي” أي المدني، حلاً وافقت عليه فداء بعد معاناة مع نفسها في حوارها الداخلي وحوارها مع إدوارد.
أعود إلى ” اسم الشخصية” ومكانته في هندسة بنائها. وهنا نأتي على اسم” عامر”، وما يوفره لنا السرد من صفات للشخصية ومواقفها، فحبه لهالة لم ينته إلى الزواج منها. فبدت شخصيته رخوة وضعيفة في خضوعها لموقف أسرته المتزمتة، التي تدين بالمسيحية. فهو لم يقاوم إطلاقاً ضغط والدته وشقيقه” حازم” ووالده. وهنا أجد أن تشكيل الاسم” عامر”، من حروف رخوة وضعيفة، جاء منسجما في هندسة الشخصية مع بنيتها الفكرية والاجتماعية. وهو ما سبب صدمة لهالة، أدت إلى انهيارها العصبي. حتى أنه لم يقترح عليها زواجا مدنيا كما فعل ادوارد مع فداء.
حسني هو الرجل الثالث الذي حضر في السرد الروائي. وجاء حضوره بمساحة محدودة في صفحات الرواية البالغة( 339) صفحة. وفي تلك المساحة ظهر صوت حسني سارداً يتذكر تجربته السياسية التي أوصلته إلى السجن. بقية السرد تحمله الكاتب نفسه، وتخلل السرد القليل من الحوارات وبعض التداعيات من ذاكرة الشخصيات.
اسمه الكامل” حسني فاضل”، وفيه هندسة لبناء الشخصية، كشفت عنه مواقفه وقيمه الأيديولوجية والاجتماعية. فهو صادق وصريح ويؤمن بالعدالة ويطمح إلى التغيير. أحبته هالة رغم علمها أنه متزوج من امرأة تدعى هيام(
لاحظوا أن حرف الهاء تشترك به ثلاث شخصيات نسائية” هالة وشقيقتها هدى ثم هيام زوجة حسني”). حتى اللقب ” فاضل” له دلالة على وفائه لزوجته هيام رغم حبه العارم لهالة، ولم يقدم على تحقيق رغبة هالا بالزواج منها، ولو زواجاً سرياً. لم يقل لها أريد أن أتزوجك.
لا تتوقف هندسة الشخصيات عند اختيار الكاتب لأسماء المشاركين في السرد الروائي، فهو قدم بناء شخصياته بهندسة متتدرجة تتناسب من تحولات الأحداث وتطور موقع الشخصيات فيها، وكان تقديما بارعاً ومتقناً بسلاسته وانسيابية السرد المشوق للقارئ.
هالة على سبيل المثال، ذهب بها الكاتب أولاً بأول لينقلها من وعيها البسيط الخاضع للقيم المتخلفة السائدة في المجتمع( سوريا بين حماة ودمشق ومشتى الحلو). لتصبح إنسانة أخرى بعد أن عركتها تجارب الحياة، ولتنفض عن كاهلها طبقات الغبار الخانق التي كانت تحاصرها.
رواية في غبار الماضي فيها الكثير، فنياً وفكرياً، وما اختياري في تناولي لها لموضوع هندسة الشخصية الروائية إلا لأنني تلمست وأدركت ثم عرفت أن الكاتب جعل من اختياره لأسماء الشخصيات دليلا على قدرة فنية عالية. فهل ذهبت في ذلك إلى الصواب ؟.