استهلال
يحتفي مركز الجرمق للدراسات بالناقد الكبير، الراحل يوسف سامي اليوسف، في ذكرى وفاته الثامنة ( أيّار\ مايو 2003), وسوف يقوم المركز بنشر المقالات المعدّة في هذه المناسبة توالياً, ومفتتحها ستكون مقدمة من طرف ابنه الأكبر السيد وليد يوسف المقيم في كندا، وأحد الأعضاء المؤسسين لمركز الجرمق للدراسات
بادئ ذي بدء هذه لمحة موجزة عن سيرة حياة يوسف اليوسف كما وردت في موقع الشخصي على بكة الإنترنت ( تم وضع رابط الموقع في نهاية المقالة)
وُلد يوسف سامي اليوسف، في قرية لوبية- من أعمال طبرية- فلسطين سنة 1938. لجأ عام 1948(عام النكبة الفلسطينية) إلى لبنان مع أسرته. استقرّ بهم الحال في مخيم “ويفل” في ضواحي مدينة بعلبك، ثم انتقلت الأسرة في عام 1956 إلى سوريا، واستقرّت في دمشق. في عام 1960 درس في جامعة دمشق، كلية الآداب_ قسم اللغة الإنكليزية، و تعيّن مدرساً في مدارس الأونروا، لمادة اللغة الإنكليزية حيث كان لا يزال طالباً في الجامعة. أنهى دراسته الجامعية في عام 1964. عاش حياته في مخيم اليرموك جنوبَ مدينة دمشق. بدأت بواكير أعماله بالظهور إلى العلن عام 1973 على شكل مقالات في المجلات والجرائد السورية، ثم صدر أول كتبه “مقالات في الشعر الجاهلي” عام 1975، وبالتدريج بدأت تظهر كتبه الأخرى في حقول النقد الأدبي إلى أن أصبح متميزاً عن سواه بمنهج خاص به، يكاد أن يكون طريقة فريدة في التعامل مع النص المدروس، شعراً كان أو نثراً. منذ أواسط السبعينات أصبح بيته المتواضع في مخيم اليرموك ملتقى لكثيرٍ من المبدعين السوريين و الفلسطينيين والعرب المقيمين في سوريا. كانوا يستمعون له، ولآرائه بكتاباتهم الإبداعية. بل ويحفظون بعضاً من مفرداته اللغوية التي أصبحت وكأنها “ماركة مسجلة” باسمه. ونذكر منها: “البرهة الطللية” و “تهجّس أسرار الوجود” و “حوزة السداد” و “تسريح النفس” و “الألطاف الحسنى”. ألف أكثر من ثلاثين كتاباً في الأدب العربي و نقد الشعر العربي و التاريخ ، بالإضافة إلى الترجمات عن اللغة الإنكليزية. كما كتب مئات المقالات في بعض الصحف اليومية و بعض المجلات الأدبية الدورية. مع مطلع الألفية الثالثة نشر بضعة أعمال عن التاريخ الذي عايشه سواء المدينة التي سكن فيها ما يزيد عن ستين عاماً و أسماه ” دمشق التي عايشتها ” أو شهادته عن العصر منذ ولادته حتى مماته و ذلك في كتاب من أربعة أجزاء أسماه ” تلك الأيام “. وفي خضم الأحداث الدامية التي حصلت في سوريا بدءاً من ربيع 2011 هاجر إلى مخيم النهر البارد في طرابلس _لبنان أواخر سنة 2012، وبسببٍ من أمراض مزمنة في قلبه و في رئتيه، وبسببٍ من أن الله عز وجل يحبه ولا يريد المساس بكرامته كلاجئ في سنٍّ عالية، توفي في شهر أيار من سنة 2013 بعد أن ترك العديد من الكتب التي تغطّي مناحيَ كثيرةً في العلوم الإنسانية، منها ما هو في النقد الأدبي ومنها ما هو في التأريخ والترجمة، فضلاً عن كتاباته الأدبية والشعرية.
……………….
نص المقال،
أزعم أن يوسف سامي اليوسف كان بمثابة الأب للجميع، خاصة للكثير من أبناء جيلي الذين عملوا في حقل الثقافة والإبداع، وربما أخشى أن تكون شهادة الابن في هذا السياق مجروحة، وربما لا تعطيه الحق أن يتصدى لمهمة تقديم ملف كهذا عن إنسان كبير قبل أن يكون ناقداً يشار له بالبنان بأنه أيضا يحتل أبوة نقدية بين أقرانه .
وأنا إذ أتوجه بالشكر لكل من شارك في هذا الملف من الأساتذة الكتّاب أشير إلى أن الظروف الموضوعية وفي مقدمتها التشتت الذي نعيشه بعد الخروج من مخيم اليرموك في تغريبة جديدة، وهيمنة هاجس الكورونا حالا دون مشاركة الكثير من أصدقائه ومحبيه جنباً إلى جنب مع هذه الأقلام الباذخة في جمالها.
ولأنني لا أملك نعمة النقد العالي التي تمتع بها الأستاذ يوسف ولا أضع نفسي في مصاف المقيّم والمقوّم للأعمال الأدبية، فسأكتفي بإضاءة جوانب من الإنسان الذي أحببته في والدي.
في النصف الثاني من آب/ أغسطس عام 2012، جاء عيد الفطر السعيد. كنت قد غادرت سوريا مع زوجتي وأبنائي، وكذلك فعل أخوتي مع عائلاتهم، وبقي الأستاذ يوسف وأمي وأختي في دمشق. أخبرني عمي ابراهيم على الواتساب ذات مرة، مستذكراً، قال: جئت إلى أبيك صباح العيد (وهذه عادة أعمامي في أول أيام العيد)، وجدته مستلقياً على أريكة، حزيناً ومهموماً، قلت له: مابك يا أبا الوليد؟ وكأنك في جلسة عزاء. قال: تنهّد تنهيدة طويلة وزفرها من أعماق قلبه، وقال تعليقاً واحداً: “الله يحرمه أولاده اللي حرمنا أولادنا”. قال عمي ذلك، وأحسست حشرجة صوته، على الطرف الآخر من الهاتف.
وأيضا كان لي صديق وجار قديم منذ الطفولة، كبرنا معاً على مقاعد الدراسة. وبعدما أنهينا المرحلة الطلابية، ذهب هو في بعثة دراسية لصالح منظمة التحرير الفلسطينية إلى بلغاريا، وعرفت أنه حصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية. لكننا انقطعنا عن بعضنا كلياً.
بعد وفاة الوالد بحوالي يومين اتصل بي إلى كندا، وقال إنه يتصل ليعزيني، وإنه يتكلم بصفتين، الأولى بصفة شخصية كصديق لي، وخاصة أن الوالد كان أستاذنا في مدرسة القسطل في مخيم اليرموك لمادة اللغة الإنكليزية. وبصفة رسمية مكلفاً من الرئيس محمود عباس. فسألته: وما علاقتك أنت بالرئيس محمود عباس؟ قال أنا من سكرتاريا الرئاسة. وأضاف أن السيد الرئيس خاطب السفارة في بيروت، بأن “يأخدو بالخاطر”. فأنا بدوري اتصلت بأمي رحمها الله أيضاً وسألتها: هل جاء أحد من السفارة الفلسطينية في بيروت؟ قالت: نعم، جاء وفد من مجموعة رجال. فسألتها: هل سوف يعملون له تأبين رسمي؟ قالت: لا، على الأقل لم يذكروا ذلك. واعتبرتها لفتة جيدة، لكنها غير كافية، وتحتاج إلى خطوات عملية في حفظ أعمال الوالد ونشرها، فمؤلفات المبدع هي القضية الجوهرية التي تعبّر عن تكريمه. وبعد بضعة أسابيع من ذلك، أنتج تلفزيون فلسطين في برنامجهم الأسبوعي الذي اسمه (أصل الحكاية) فيلماً تقريرياً، على شكل ريبورتاج، لم يعجبني العمل أبداً، فحواه أن سيدة أو آنسة مقدمة برامج تسير في شوارع رام الله تحمل ميكروفوناً أمام الكاميرا، وتسأل المارة في مقابلة لا تطول أكثر من خمس ثوانٍ مع كل شخص، بسؤال وحيد: هل تعرف شخصاً اسمه يوسف سامي اليوسف؟ ومن الطبيعي أن أغلب الإجابات كانت: “لا، لا نعرفه”، وبعض الإجابات القليلة كانت بنعم. ثم تنتقل (بعد المونتاج المعمول على الفيلم) إلى مقابلات مع ناس متخصصين بالثقافة، قالوا عنه كلاماً منصفاً، وهذا ما خفّف من سوريالية وغرائبية القسم الأول الذي بدا مثل برنامج مخصص لعمل حزازير تطرح على الناس في الشارع لتسلية الصائمين في رمضان.
أما بخصوص اتحاد الكتاب العرب ووزارة الثقافة السورية، فلم يقدما أي شيء في هذا الموضوع، ولا حتى التلفزيون السوري بقنواته جميعها، لأن جميع القنوات يوجد فيها برامج مخصصة للثقافة والأدب. وأحياناً أحمد الله أنهم لم يضعوا في رقبتنا هذا الدين. لكني سمعت وعرفت أن الكثير من المثقفين والفنانين السوريين اتصلوا بعمي حسن وأخذوا بخاطره، ولكن بصفتهم الشخصية”.
عندما غادر الأستاذ يوسف من دمشق إلى لبنان، كانت أمي وأختي معه. قالت لي أختي ذات مرة، بعد وفاته: إننا عندما عبرنا الحدود السورية، وقبل وصولنا إلى الحدود اللبنانية، إنه لوّح بيده من خلف زجاج النافذة وقال: “وداعاً يا سوريا، وداعاً لا لقاء بعده”. كأنما يستبصر مشيئة إلهية لابد من وقوعها، وهذا ما كان بعد بضعة شهور، وأظن أن جرح سوريا النازف قد سارع من موته. فحسب علمي أنه لم يحب بلداً بقدر محبته لسورية إلّا فلسطين. وهذا نعرفه في العائلة جيداً، ويشهد عليه الأصدقاء. وها هو يراها تتدمّر ويُقتل شعبها ويُهجر إلى المنافي البعيدة أمام أعين جميع العالم.
من كثرة الأحداث والمواقف، التي كان رحمه الله طرفاً فيها، أجد نفسي حائراً بانتقاء الحدث الأوضح كي أضع شهادتي عليه. فهناك بعض المواقف التي قد يكون من الجيد روايتها. ففي منتصف الثمانينات، تبرع بجزء كبير من مكتبته لصالح مركز الخالصة الذي كان تقريباً حديث العهد (نسيت متى افتتحوه)، وأنا عرفت ذلك القرار متأخراً قليلاً، بعد أن أعطى كلمته. وطالما أنه وعد، فلا يمكن لقوة على الأرض مهما كانت أن تمنعه من تنفيذ وعده، فقد كنت أعرف أنه لن يتراجع. لكني كرهت أن يتبرع لصالح مركز الخالصة تحديداً. فسألني: ما سبب موقفك السلبي من تبرعي لمركز الخالصة بالكتب؟ قلت له بسبب مواقف أحمد جبريل، وأنا أعتبر تنظيم أحمد جبريل ليس تنظيماً فلسطينياً، ويكفي موقفهم من حرب المخيمات في لبنان، فقال يعني موقفك بسبب أحمد جبريل؟ قلت نعم. فقال: وهل تظن أن أحمد جبريل أو أولاده أو حتى أحفاده سوف يقرؤون هذه الكتب؟ قلت: لا أظن. قال: بل أنا متأكد أنهم لن يلمسوها، وأنا تبرعت بها لأبناء هذا المخيم. ثم تكرر التبرع بالكتب عدة مرات، كان أهمها، تبرعه لصالح مكتبة المنتدى الديمقراطي، التابع للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، التي تقع بالقرب من جامع صلاح الدين.
إن كانت حياته الشخصية جداً موضع اهتمام أي أحد، يمكنني أن أصف موجزاً بعض أوقات يومه. فقد كان يومه منظّماً جداً. وحياته تشبه حياة رجل أفنى عمره في الجيش. فكان ينام في وقت ثابت لم يتغير، وموعد نومه بين الساعة الثانية عشرة ليلاً والواحدة بعد منتصف الليل أو ما بينهما، حسب ما بيديه من أعمال. لكنه يذهب إلى فراشه بين هذين التوقيتين مهما كان السبب. حتى لو سهر خارج البيت كان يعود بين هذين التوقيتين إنْ تأخر. وموعد استيقاظه بين السادسة والسابعة صباحاً. كان يحضّر قهوته الصباحية عند الاستيقاظ بنفسه. وبعد ذلك بساعة أو بساعتين تستيقظ أمي وتجهز طعام الفطور لهما أو لمن حضر أيضاً. وبالعموم كانت كمية طعامه قليلة. ويجب أن يأخذ فترة قيلولة بعد الغداء، وهي غالباً أقل من ساعة. أما خارج أوقات النوم أو الطعام، لا يمكن أن تراه إلّا إمّا يقرأ أو يكتب.
من مواقف الصرامة التي تعلّمتها منه، وخاصة تلك المرتبطة بالنزاهة. أذكر مرة كنت في الصف التاسع، وكان هو أستاذ مادة اللغة الانكليزية لشعبتنا أو لصفنا. وكان في كل شهر يعمل للطلاب امتحاناً شهرياً بالدروس التي تعلمناها خلال الشهر. وأذكر كانت العلامة القصوى خمسة وعشرين. لي صديق، وهو جاري في المقعد (رحمه الله، فقد توفي منذ فترة طويلة)، كان لا يعرف من اللغة الانكليزية حتى الفرق بين الفعل والفاعل، لا يعرف شيئاً من هذه الطلاسم التي تختلف كثيراً عن العربية. لكنه جاري في المقعد ورفيقي في الحارة. فأحببت أن أساعده. وسمحت له بأن يكتب مثلما أنا أكتب. بعد مدة، عند توزيع العلامات، كانت علامتي خمساً وعشرين درجة (هذه علاماتي المتكررة مع اللغة الانكليزية) ونتيجة رفيقي كانت أربعاً وعشرين، ناداه بعد توزيع الأوراق علينا، وسأله: يا يوسف (كان هذا اسمه)، كيف حصلت على هذه العلامة؟ قال: درست أستاذ. قال: طيب إذا أعدت لك الامتحان الآن، كم تتوقع أن تكون نتيجتك؟ قال أستاذ نسيت كل الذي درسته. قبل أن ينتهي من كلامه، كان قد أحضر العصا، وقال له: افتح يديك، فأنا سوف أضربك ليس بسبب الغش بل بسبب الكذب أو تقول لي كيف حصلت على هذه العلامة. فقال له: غششت من ورقة وليد. قال: تعال يا وليد وأحضر ورقتك معك. وأعطانا كل واحد علامة الصفر طبعاً. بعد ذلك عندما حانت الفرصة أو الاستراحة صارت مشكلة وصلت إلى الشجار ثم العنف بيني وبين رفيقي، لكنها ليست جديرة بأن تُروَ هنا. المهم فيها أن رفيقي برر عمله أمامي، بأنه كان يظن أن والدي سوف يسامحنا نحن الإثنين عندما يعرف أنني طرف في الجريمة، لكن هذا لا يكون عند يوسف اليوسف.
عندي الكثير من قصص الحياة اليومية، التي يمكن أن أضيفها لهذه الشهادة. فعشنا معاً حوالي نصف قرن. وعرفت في رحيله أننا خسرنا كنزاً حقيقياً، صعب أن يُعوض بسهولة. فعلى الرغم من معرفتنا خلال حياته، بقيمته وموقعه، وخدماته لمجتمعه وللثقافة العربية عموماً، لكني بعد مماته عرفت صفاتٍ له لم أسمعها خلال حياته. فأول لقب عربي سمعته له، نقلاً عن الشاعرة سلمى الخضراء الجيوسي، عندما أسمته “شيخ النقاد العرب”، أو “كبير النقاد العرب”، و قامت هي أو مؤسستها الأمريكية التي اسمها بروتا PROTA بترجمة بعض أعماله إلى اللغة الانكليزية.
بعد فترة، قرأت مادة نقدية، أو مقالاً نقدياً عن شعر أدونيس، للصديق الشاعر حسن النيفي، وقال عن يوسف اليوسف بأننا كنا نطلق عليه صفة “هيغل العرب”. واضح أنه وصف قوي. وبعد هذا المقال تحدثت مع الأستاذ حسن من خلال برنامج الدردشة، وشكرته على توصيفه هذا الذي لم أكن قد قرأته مكتوباً سابقاً، مع أني سمعت شفهياً أوصافاً قريبة من هذا الوصف. وبصراحة، لا أخفي أنني شعرت بالفخار حينها.
ولن أصادر ما قيل أو كتب من توصيفات وألقاب عن نتاجاته وسأدع ذلك لهذا الملف وما قيل وسيقال عنه لاحقا.
أخيراً، لكوني الابن الأكبر ليوسف سامي اليوسف، ولكوني واحد من فريق مركز الجرمق، أشعر بأنني مدين بالشكر لجميع الأصدقاء الذين شاركونا أفكارهم وشهادتهم لأننا فقط نبحث عن الحقيقة، الحقيقة فقط، لا أكثر ولا أقل.
ترتيب المواد في الملف جاء حسب ورودها إلينا ولا علاقة له بأفضلية مادة على أخرى.
أخيراً هنا، أودّ أن أضيف أننا منذ حوالي سنة تقريباً، أنشأنا موقعاً الكترونياً خاصاً به، ويمكن للزائر أن يحمّل ما يريد من كتبه إكراماً لروحه، وعنوان الموقع هو:
رحمة الله عليه كان رجلاً قبل الأوان، قارىء عميق الفكر، وناقد رائد،
لي الشرف أنه كان أستاذي في إعدادية المالكية 1969, وجاري في حارة اللوابنة 1961.