أسفار مكثفة وقصص مختزلة وحكم وأمثال ومقولات وخواطر وقصائد لم ترتق إلى رضا صاحبها عنها أو لم تتوسل فعل التمزيق..
ونثريات مقطرة من ماء اليقظة ـ والقصيدة تولد في الليل من رحم الماء ـ تنز من صلب الصبوة، وتسقط فينا فتتشظى وخزات ألم ومتوالية من أسئلة الحسرة..
هل هي يوميات محمود درويش أم إرهاصاته الشعرية وأسئلته وهواجسه وأفكاره وخواطره.. وحدسه المتراكم لغة وتأملات في إيقاعاته وموسيقاه الداخلية التي لا تعزف لحن الحياة منفردة، بل تتفجر دفعة واحدة في قصيدة هي تلك التي تسمى درويشية؟
أبعاد فلسفية
في «أثر الفراشة» أبعاد فلسفية يبلورها درويش من يومياتنا، فتعيدنا إلى بدء الكلام لنتأتئ في سرنا أسئلة عن غياب دهشتنا طيلة بحثنا عن «أثرها» ونعيد بحثنا المعرفي والجمالي عن مفاهيمنا ومشاهداتنا.
يقول درويش في «وجهة نظر»: (الفارق بين النرجس وعباد الشمس هو الفرق بين وجهتي نظر: الأول ينظر إلى صورته في الماء ويقول: لا أنا إلا أنا.. والثاني ينظر إلى الشمس ويقول: ما أنا إلا ما أعبد .. وفي الليل يضيق الفارق ويتسع التأويل).
وثمة هذيان فلسفي صوفي يتمرد على السائد والمسلمات ويحاول الانفلات من أثر الفراشة إلى جنس أو لون آخر لم تصله بعد لا قصائد النثر ولا نثرية الشعر، كما في «أكثر وأقل»: (حتى لو لم تكوني ما أنت عليه من حضور باهر، سأكون أنا ما أنا عليه من غياب فيك.. باطن وظاهر. شفاف حضورك بلوري أرى ما وراءه من حدائق فأخطف إلى متاهات عليا لا يبلغها خيال تبهجه سعة المجاز ويخرجه فقر الكلام المتداول).
ولا يتوقف تمرد درويش على المسلمات في الدلالات والمعاني والمفاهيم… بل يتمرد على لغة لا تكتب كما تلفظ، فيعيدنا إلى طفولتنا وتصير أخطاؤنا الإملائية ذكريا من حكم وقواعد نحو وصرف جديد حين يضيف للألف همزة مثلاً في: الشمس تضحك للتلال .. المشهد هو هو .. الدخان يتصاعد مني .. ألحياه حتى آخر قطرة .. الحقيقة أنثى مجازية .. لكنه يترك « ألف» البنت / الصرخة دون همزة.
مكر المجاز
يعيد درويش في «أثر الفراشة» لأمكنة صبوتها، ولأطلال رونق المحو، ويضفي على أمكنة مغايرة أثرا لشخوص ما… وبمكر المجاز يعيد لمصطلحات شائكة الملمس سم الندى حين تبحث حيادية التأويل عن أثر الفراشة، فهو الذي لم يكن حاداً كعادته في سبر التباينات وفصل الألوان حين تحدث عن قصيدة النثر.. ماذا يقول عنها الآن في «كقصيدة نثرية» ؟
(صيف خريفي على التلال كقصيدة نثرية. النسيم إيقاع خفيف أحس به ولا أسمعه في تواضع الشجر. العشب المائل إلى الاصفرار صور تتقشفن وتغري البلاغة بالتشبه بأفعالها الماكرة. لا احتفاء على هذه الشعاب إلا بالمتاح من نشاط الدوري، نشاط يراوح بين معنى وعبث ..).
أما الأمكنة فولوجها مصحوب بالدلالات المتداخلة كما الأزقة والمتباينة كما الفصول .. وثمة غربة واغتراب وشوق وحنين، وتاريخ وذكريات.. والقلب يتدحرج ككوز صنوبر من جبل لبنان إلى رفح، و« في قرطبة»: (أبواب قرطبة الخشبية لا تدعوني إلى الدخول لإلقاء تحية دمشقية على نافورة وياسمينة. أمشي في الأزقة الضيقة في نهار مشمس سلس. أمشي خفيفاً كأني ضيف على ذاتي وذكرياتي، كأني لست قطعة أثرية يتداولها السياح..).
في مدريد اقتربت منه سيدة أنيقة وقالت له أنا حفيدة لوركا، فعانقها ليشم ما تسرب من ذراعي لوركا إليها.. وفي مدينة الرباط المرفوعة على أمواج الأطلسي العالية، يمشي الشاعر على الشارع بحثاً عن مصادفة المعنى وعن معنى المصادفة، يعرف النخيل جيداً ويسأله المارة عن أسماء الأشجار الأخرى، بينما في خريف إيطاليا: (أغنية تفتقر إلى كلمات ايطالية. يا له من خريف. السماء لا هي زرقاء ولا هي بيضاء ولا رمادية، لأن الألوان وجهات نظر تختلف وتأتلف..).
وفي بيروت: (شمس ومطر. بحر أزرق/ أخضر وما بين اللونين من قربى ومصاهرة. لكن بيروت لا تشبه نفسها هذه المرة..).
ولكن ثمة ألوانا متباينة الرؤية لأمكنة واحدة، وثمة أشخاص يصبغون الأمكنة بألوانهم الخاصة، فها هو سليم بركات في سكوغوسن ضاحية من ضواحي ستوكهولم انتقى عزلته بمهارة المصادفة التي تهب بها الريح على المصائر، وصادق طيور الشمال (صادقها ريشاً ومنقاراً وذيلاً وهجرة، ومنحها صفات كردية من مشتقات القلق، لا ليكسر العزلة، بل ليؤثث شروط الإقامة في البعيد.. بعيداً عما يفعله الكتاب بالكتاب إذا غاروا من بلاغة المنفى…).
هاجس الموت
اللافت في هذا الكتاب أن الفراشة تترك أثرها في أكثر من «نثرية» بين سطور الكلمات المعبرة عن الموت لغوياً ومجازياً، وعن الموت كأسئلة وعن الموت كجنائز ومقابر، وأيضاً ذكريات كما في فكاهة الخلود، ويصل هذا الهاجس إلى طلقة الرحمة:
(أغار من الحصان، فإذا انكسرت ساقه وأحس بإهانة العجز عن الكر والفر في الريح.. عالجوه برصاصة الرحمة. وأنا إذا انكسر شيء فيّ، جسدي أو معنوي أوصي بالبحث عن قاتل ماهر حتى لو كان من أعدائي..).
وثمة وصية بعد الممات أيضاً:
(صدقت أني مت يوم السبت، قلت علي أن أوصي بشيء ماّ، فلم أعثر على شيء.. وقلت: علي أن أمضي إلى قبري لأملأه فلم أجد الطريق وظل قبري خالياً مني..).
ولكن الشاعر محمود درويش / ضمير الأمة، لا تغرقه هواجس الموت هذه في ذاتيته وفهمه الخاص للموت وفلسفته له، بل يؤرقه أيضاً القتل اليوم في فلسطين والعراق ولبنان، وأي موت مجاني في العالم.. كما نلحظ في «ذباب أخضر»: (المشهد هو هو. صيف وغرق، وخيال يعجز عن رؤية ما وراء الأفق، واليوم أفضل من الغد. لكن القتلى هم الذين يتجددون، يولدون كل يوم، وحين يحاولون النوم يأخذهم القتل من نعاسهم إلى نوم بلا أحلام..).
واللافت أيضاً في هذا الكتاب أنه يجدد لدرويش قدرته الفائقة على إضافة الجديد لو كتب في أي شيء وعن أي شيء، وبأي لغة كانت وبأي جنس أو لون أدبي كان .. فثمة جمل تشكل بحد ذاتها قصائد، وثمة عناوين أو جمل أو مقاطع تكثف بكلماتها المعدودة قصائد مكتملة، إضافة إلى أن ثمة أثراً واضحاً للقصة القصيرة في هذا الكتاب، فيوميات درويش العادية كجلوسه أمام التلفاز أو في القهوة الرصيفية أو لممارسة طقوس الكتابة … تنفلت منها أجواء مشهدية تحيك بتداعياتها قصصا قصيرة تحقق تسميتها وتحدد جنسها دون رتوش أو أثر لأي فراشة شعر أو نزوة خاطرة.. وهي متنوعة ومتعددة، منها البنت/ الصرخة، حنين إلى نسيان، ومواعيد سرية..
لروحه الرحمة والسلام.. ومات محمود درويش، كما تنبأ، يوم السبت 9 أغسطس. وقد كان الموت يطارده ويلقى بظلاله الثقيلة على معظم قصائده وكتاباته في سنواته الأخيرة، ومنها ” أثر الفراشة “..