ديوان ( مغطس بالشوكولا ) للشاعر والكاتب السوري ماهر راعي ، الحائز على منحة آفاق للثقافة والفنون عام 2019
قرأت بانبهار وتأثر شعر ماهر راعي *( مغطس بالشوكولا ) الحائز على منحة آفاق للثقافة والفنون2019، هو شعر الحياة ،خاصة الحياة في سوريا ، حيث أن كل فكرة أو صورة مهما بدت عادية وبسيطة فهي تحفر في القلب وتُعبر ما يشعر به المواطن السوري من ألم وأمل ، من يقرأ ( مغطس بالشوكولا ) لا يشعر فقط بالتأثر والإعجاب ، بل يشعر أنه قد شارك ماهر راعي في الكتابة ، فهو يُصور الحياة في سوريا بكل جوانبها كما لو أن شعره موشور نرى من خلاله حياتنا في سوريا ، وكل وجه من وجوه الموشور يُرينا جانباً من حياة السوريين ، ماهر راعي لا يلجأ أبداً لتجميل صوره أو ابتكار صور من خياله لإبهار القارئ بفتنة اللغة ، بل نشعر أن كتابته تنبع من الأرض ومن الشجر وكأنه مجرد وسيط يترك الأحياء والناس والطبيعة يتكلمون ، هو لا يعتمد اطلاقاً على غواية اللغة بل يعتمد على غواية الحقيقة ، الحقيقة المؤلمة ، لكن من بذرة الألم يزهر الأمل والفرح . في مقطع من مغطس بالشوكولا بعنوان ( يُشبه أن أكتب البلاد …) :
يشبه سوسنة مدهوسة – ويشبه نوماً بأغطية مبلله بأمطار تسقط في شارع ليس قريباً – يشبه مقهى مزدحماً بالقش والحجارة – وبمعدات البناء التي لا تلزم – ومزدحماً بأصوات مستعارة – وتنهدات مستعارة – وأصابع مستعارة – وبشر حقيقين وعراة حتى العظم – إنهم – يا للهول – يضحكون مثل قنافذ في قصة أطفال – قديمة – لم أعد أذكر اسمها –أذكر أن البرد كاد يقتلهم – بينما تمنعهم مسافة الشوك الناشب من الالتصاق – يُشبه سنونوة أتت في غير موسمها – لتجرب حركة فاتنة نسيت أن تنفذها الربيع الفائت – يُشبه حطباً في مركبة فضائية – حمله رجل مهووس بالحنين – وبرائحة الكرة الأرضية – – ويشبه عاشقة تمر في شارع مريب – حيث لمحت قديسين بجدائل – يقضمون سجائر مطفأة – ويستندون إلى حلمات زوجاتهن – يشبه أنني أكتب البلاد من أولها إلى أولها ) .
ماهر راعي يكتب سوريا فعلاً ( البلاد ) ، السوريون المروعين من رداءة الحياة من الجوع والجوع ذل ، وهم بشر حقيقين يقاومون كل القهر والبؤس وانعدام الحرية ، هم المهوسين بالحنين لربيع حلموا به وتاقوا إليه وماتوا في سبيله لكنه لم يأتي ، كم تحفر في القلب عبارة ( بشر حقيقين وعراة حتى العظم ) عبارة تُشبه لوحة تجسد المأساة السورية التي أُطلق عليها اسم مأساة القرن .
مقطع آخر من ( مغطس بالشوكولا ) :
( أكتب في أوقات مناسبة تماماً – أشياء لا تمت لي بصلة – أشياء لا أصدقها – أشياء قالها صديقي لعدوي – أشياء قالتها جدتي ولم تكن تعني ما تقوله تماماً – أكتب من على سطح المبرد وفي قلب المبراة – على قضبان الدبق وفي لعاب الضباع – وقرب وبر كلب هرم –وفي هاوية حفر – وفي لجة الجب – وعلى مجداف يابس غير موثوق فيه – وأكتب ما أراه يصلح للدفن السريع في أي وقت – اليوم أو من السنة – وأبقى مبتسماً
أكتب في أوقات غير مناسبة – حين يُلقي علي السلام صيادون بثياب صيد أنيقة – يمرون بقربي – مرحين – صاخبين – أصواتهم تشبه مبرداً قاسياً – أترك لهم ابتسامات مخدوشة قرب الحشائش – وأحياناً قرب الشجرة الكبيرة يستريحون في طريق عودتهم – إن عادوا – كما أترك كل مرة لهم باروداً مبللاً لكنهم لا يعيرون إنتباهاً –وكثيراً ما يتبولون عليه بالخطأ – وأرمي في دربهم كتاباً وألبوم صور عن عصافير لا تحط-كذلك لا يأبهون له أبداً –يعاملونه كما يعاملون كلب صيد هرم – ثم يقهقهون في طريق العودة – إن عادوا –
يحضر بحر اللاذقية أمامي وكنت أدهش من كثافة الصيادين الصابرين أن يكون البحر كريماً كي يتذوق أطفالهم طعم السمك ، كي يعرفون كيف يرسمون سمكة حين تطلب منهم المعلمة أن يرسموا سمكة ، كي ينسوا لدقائق طعم الخبز الرديء ورغيف الخبز العاري الذي يفطرونه أو يتقاسمونه مع رفاقهم في المدرسة ، هؤلاء لم يكونوا أصلاً صيادين بل آباء جياع لأطفال جياع يصبرون ساعات تحت شمس الصيف الحارقة أو تحت المطر والبرد ، وتماماً كما وصفهم ماهر راعي – بأصواتهم التي تشبه مبرداً قاسياً – قسوة الحياة والقهر ، وهم لا يلتفتون إلى شيء ، فقد جفف ذل الجوع وسحق الكرامة أرواحهم ، هم يقهقهون ويضحكون ساخرين من أنفسهم عسى السخرية تُلطف الألم ، وقد لا يعودون .
يكتب ماهر راعي كما لو أنه يُصور الحياة في سوريا ، كأنه يترك الأشياء تكتب عن نفسها أو ينقل كلامها بأمانة ، وهو يكتب في هاوية الحفرة ، فالمدن الفقيرة بالفن والنظافة والجمال والحرية والكرامة تصبح أشبه بحفرة ، أشبه بأرض بور لا يُمكن أن تتفتح فيها بذور الحياة والفرح والحرية ، لكن هوى الشعر وهوى وطن يعشقه بكل جوارحه ( سوريا الحبيبة تجعل ماهر يخلق خلطة سحرية في كتابته وصدقه فيتحول كل الألم والقهر إلى جمال ، والجمال قوة ، والجمال مُنقذ يعبر بنا من ضفة اليأس إلى ضفة الأمل ، الشعر الإبداعي هو عبور من التفاهة ورداءة العيش إلى الأمل وتنتعش البراعم الذابلة في الروح وتتفتح بالشعر المبدع ، فالكلمة تشفي ، وفي البدء كانت الكلمة ، والكلمة حق .
من يقرأ ( مغطس بالشوكولا ) يحس بنبض الحياة في سوريا ، كنبض الدم في العروق ، كنبض النسغ في قلب الشجرة ، هو شعر الحياة بأدق تفاصيلها ، ديوان رائع أشبه بموشور كل سطح منه يُرينا حياتنا في سوريا ، أحسست حين انتهيت من قراءة ( مغطس بالشوكولا ) أنه مكتوب بالروح ، فالروح تملك لغة عالية وإبداعية للتعبير عن الإنسان في كل ظروفه وفي مأساته .
شعر الحياة هو ما يكتبه ماهر راعي وسأختم بهذا المقطع :
( كما تذكرت ما رواه لي أبي : كنت بمثل عمرك – أسافر إلى مدينة مجاورة – لنبيع بضائعنا ونجلب غيرها مما نسوقه هنا – كنا ننحشر في حافلة عجوز ومملة تخنقها أنفاسنا – وروائح ثيابنا – وفي الطريق توقفنا فجأة إذ لمحنا – حافلة في أسفل الوادي كأنها حافلتنا – وبضائع مبعثرة ورجال ممددين قربها كأنهم نحن – كان الدمار مخيفاً – هبطنا بلهفة – وما أن وصلنا حتى صعقنا لمشهده – رجل يجلس القرفصاء على صخرة – بكل بساطة وهدوء – يدير ظهره لكل ذلك الدمار المهول حوله – في يده سكين صغيرة – يقشر بطيخة يبدو أنها مثله كذلك نجت وحدها ….
*ماهر راعي شاعر سوري، يعمل في تدريس مادة الفلسفة له العديد من المقالات المنشورة في المنصات المختلفة، وله أعمال شعرية مطبوعة ، منها:
-ديوان ” مرمية هكذا في الهواء” 2014
-ديوان ” مغطس بالشوكولا” 2019
-سيناريو فيلم قصير ” شلل”: إخراج آرام عبد الرحيم 2020