في برنامج ( مراسلون بلا حدود ) في تلفزيون فرانس 24 استوقفتني ظاهرة منتشرة بكثرة في اليابان وهي الاختفاء الطوعي أو الإرادي لعدد كبير من اليابانيين – من مختلف الأعمار – حتى أنهم يسمون هذا الاختفاء الطوعي ( التبخر ) . لكن تبين أن هذه الظاهرة المتزايدة عالمياً ( أي الاختفاء الطوعي ) ليست محصورة في اليابان وحدها بل في دول كثيرة في العالم والإحصاءات تدل على زيادة أعداد المختفين طوعياً .
المختفون طوعياً وبإرادتهم هم أشخاص قرروا قطع كل صلة لهم مع حياتهم بكل جوانبها ( العمل ، الأهل ، الأصدقاء ، المكان ) يتركون كل شيء ، حريصون ألا يتركوا أي دليل على مكان رحيلهم ، لا مبالين بالألم الكبير الذي يسببونه لأسرهم وأصدقائهم ، البعض منهم يترك ورقة لأهله كتب فيها أنه قرر الرحيل إلى الأبد وأنه سيبدأ حياة أخرى . الشرطة اليابانية لا تعتبر ظاهرة الرحيل الطوعي مشكلة كبيرة ، فهؤلاء رحلوا ولم ينتحروا ( ربما بعضهم انتحر ) تعتبر الشرطة اليابانية أن الرحيل الطوعي قرار شخصي غير خطير كالانتحار مثلاً . لكن في دول كثيرة تُعتبر ظاهرة الرحيل الطوعي مشكلة كبيرة وتأخذها الحكومة على محمل الجد . مئات الآلاف يختفون كل عام من أسرهم وعالمهم يقطعون كل صلة بالماضي ويرحلون دون إعلام أسرهم أين هم ؟ ولا يتواصلون مع أسرهم أو معارفهم أبداً . وغالباً يمضي العمر ( سنوات طويلة ) ولا تعرف الأسرة أي شيء عن ابنهم أو ابنتهم بعد الرحيل .
بينت الدراسات النفسية والاجتماعية ( خاصة في اليابان ) أن هناك تقديساً للعمل وللنجاح ، وأن الفشل كلمة مُرعبة تعني النبذ الاجتماعي ، أي أن العامل في اليابان يعيش تحت ضغط نفسي كبير يعجز عن تحمله هو خوفه من الفشل ومن عدم إنجاز عمله كما يجب في ساعات عمل طويلة ومرهقة ، إضافة لتقديس الفردية في اليابان ، ومؤخراً أصبحت معظم حالات الزواج في اليابان (الرجل يبقى في شقته والزوجة في شقتها ) أي تمجيد الفردية وازدراء – أو التقليل من قيمة العيش المشترك والأسرة – . بالمقابل في أميركا مثلاً التي زرتها أربع مرات للمشاركة في مؤتمرات أدبية عالمية لاحظت وقرأت عن الضغوط غير المُحتملة للعمل في كل المجالات ، الأنظمة الرأسمالية تستنزف طاقة الإنسان على العمل والإنتاج ، وتجعله في حالة توتر وقلق دائمين ألا يخسر وظيفته ، وأن عليه أن يبذل جهوداً خارقة ليُنجز المطلوب منه وإلا يتم فصله من الوظيفة ويجد نفسه في الشارع ( خاصة أنه عاجز عن تسديد أقساط بيته للبنك ) . في أميركا لفت نظري لافته كنت أجدها في كل الشوارع والمحلات هي ( اركض على مدار الساعة ) عبارة تُلخص الحياة الأمريكية واللهاث المستمر للعمل بلا توقف مهما كان السبب ، التعب ممنوع ، الإنسان في المجتمعات الرأسمالية أداة إنتاج إن قصرت قليلاً تُستبدل بغيرها ، وعلى مدى شهرين كنت أساعد طبيب عيون أميركي من أصل أرجنتيني في عملياته العينية ( لأن النشاطات الثقافية كانت تبدأ الثانية ظهراً ) كان علي التواجد في المشفى وفي غرفة العمليات السابعة صباحاً ، كان الطبيب يجري على الأقل خمسة عشرة عملية ماء زرقاء ( ساد ) بشكل متواصل مع استراحة ربع ساعة وقت الغداء كنت أحسه على وشك الانهيار ، وصار يحدثني عن ضغط العمل وتأثيره على نفسيته وحياته ، ولما سألته : لماذا لا تخفف عملك ؟ قال : يستحيل العمل هنا في أميركا منافسة شرسة ، إذا اختصرت عدد عملياتي سيأتي طبيب آخر ويأخذها وسوف تستغني عني إدارة المشفى . حين تتحول الحياة والعمل إلى ( ركض على مدار الساعة ) ، وحين يشعر الإنسان العامل مهما كان عمله أنه ممنوع أن يُقصر أو يتخاذل أو يتعب ، حين يرافقه قلق دائم يدمر أعصابه خوفاً من خسارة الوظيفة ، فإن الكثير من هؤلاء يختارون الهروب من عبودية الرأسمالية وضغط العمل الذي يفوق طاقتهم على التحمل ، يهربون من جحيم العمل والقلق والخوف من المستقبل ، يقطعون كل صلة لهم بحياتهم ويرحلون إلى بلدان بعيدة حريصون ألا يعرف أحد من المقربين عنهم أي شيء ، ربما عذرهم أنهم أيضاً يتألمون كثيراً . قرأت منذ أيام عن طبيب فرنسي ( طبيب تخدير ) مبدع في عمله ، متزوج ولديه ثلاثة أطفال ، يمارس رياضة الركض كل يوم لمدة ساعة ، يبدو سعيداً مع زوجته وأطفاله ، وربما الكثيرون يحسدونه ، هذا الطبيب اختفى فجأة اختفاء طوعياً تاركاً عمله وأسرته ، أي تبخر ( كما يقولون في اليابان ) زوجته وأولاده في حالة ذهول من اختفائه دون أن يكتب لهم رسالة أو يخبرهم بنيته . ولأننا في علاقاتنا الإجتماعية لا نرى إلا قمة جبل الجليد ، الله أعلم أية معاناة يعانيها طبيب التخدير الناجح الذي يشرف على قسم التخدير في أهم مشافي باريس ، أي توتر نفسي يحس وأيه ضغوط يعاني ، لدرجة انكسر وقرر الهروب الإرادي إلى بلد بسيط ، ربما يُفضل أن يكون مزارعاً أو عاطلاً عن العمل . يريد أن يعيش بدون ضغوط تفوق التحمل .
العديد من أصدقائي ومعارفي في باريس لديهم شهادات عالية ( دكتوراة ) يعملون في شركات عملاقة بأجور عالية نسبياً لكن تلك الشركات تستنزفهم إلى أبعد حد ، الكثير منهم يعمل منذ الصباح وحتى الواحدة بعد منتصف الليل ، ودوماً مدراء الشركات يُشعرونهم بالتقصير ، أحدهم أصبح لديه انهياراً عصبياً ، والآخر لم يتمكن من إنجاز كل المهام المطلوبة ، في معظم هذه الحالات تقوم الشركات الرأسمالية بإنهاء التعاقد مع مبدعين ذوي خبرة مهمة وتستبدلهم بشباب جامعيين حديثي التخرج براتب يعادل ربع أو ثلث راتب الموظف ذو الخبرة .
إحدى الشابات الطموحات وهي سورية فرنسية تعمل في مصرف مهم عملها في معظم الأحيان ينتهي الواحدة ليلاً . هي تعيش على الأدوية المضادة للاكتئاب . أن تكون عبداً للعمل هي عبودية بامتياز تُفقدك إنسانيتك وكرامة روحك وتجعلك تعيش خوفاً من خسارة العمل ومن إحتمال أن تتعب أو تمرض فأنت يجب أن ( تركض على مدار الساعة ) .
وستزداد تلك الظاهرة ( الهروب الطوعي ) بدخول الذكاء الاصطناعي والروبوتات حيث يمكن عندها الاستغناء عن آلاف العمال . وفي غياب برامج الدعم النفسي الجدية للإنسان مهما كانت ظروف حياته ، حيث الوحدة قدره في عالم يُقدس الفردية والعمل ، وحيث دفئ العلاقات الأسرية في تضاؤل كبير بسبب ساعات العمل الطويلة . كل تلك العوامل ستزيد من ظاهرة المختفون إرادياً . يتركون كل جحيم العمل المهين لكرامتهم الإنسانية ويتبخرون في أرض الله الواسعة .