أفكار منتصف النهار (20) الفرائص التي تتقصف ذعراً

لو أردت وصف حالة الخوف السوري ستكون عبارة ( الفرائص التي تتقصف ذعراً ) ولا أبالغ أبداً بتلك العبارة . تحديداً السوريون الذين يعيشون داخل سورية ، فعدد الكلمات التي تثير حالة الذعر لديهم وتجعلهم يصمتون تماماً ولا يتجرؤون أن يُعلقوا بكلمة على اسم ( السويداء ) مثلاً . أصبحت أيه كتابة عن الحراك السلمي في السويداء خطر يصل لحد الخوف من الموت ، كلمة ( السويداء ) وحدها تجعل فرائص السوريين تتقصف رعباً وإلى أي حد يُمكن تبرير كل هذا الذعر في نفوسهم فمعظمهم يتابعون التلفزيون السوري والمذيعة ( الناطقة باسم النظام ) تقول وتؤكد وتسخر بأن الشاب في السويداء يحصل على 25 دولاراً مُقابل التظاهر ، والشابة في السويداء تحصل على ( 30 دولاراً ) مٌقابل التظاهر . وقد كتبت لي إحدى الصديقات تسألني : لماذا الشابة في السويداء تقبض أكثر من الشاب ؟ أجبتها : ربما لتشتري ماكياج . ربما بعض السوريين المُروعين من الخوف على مدى عقود يميلون أو يُجبرون أنفسهم أن يُصدقوا أن الحراك السلمي في السويداء ومطالبه مُحقة هو حراك شيطاني تموله دول خارجية شريرة ، ظاهرة الإنكار تعطي راحة نفسية حتى لو كانت مُخادعة لأن مواجهة الحقيقة القاسية قد تؤدي لانهيار الإنسان أو حتى انتحاره .

حين شاركت خبراً على صفحتي على الفيس عن محاضرة ترفيهية ثقافية في سجن طرطوس المركزي بعنوان ( علم الأحرف وارتباطها بالتوضعات الفلكية ) ألقتها خبيرة الأرقام والأبراج الباطنية نورا علي . لم يجرؤ أحد من السوريين في الداخل  أن يُعلق بكلمة ، وصلتني بعض الرسائل على الخاص . الصورة للمحاضرة تُدمي القلب المُحاضرة الأنيقة وبجانبها ضابط تثقف سجناء سجن طرطوس المركزي بمحاضرة عنوانها يثير الذهول ( علم الأحرف وارتباطاتها بالتوضعات الفلكية ) وأيضاً هي خبيرة في الأبراج الباطنية !! وحشد من الرجال قمة في البؤس ( السجناء ) ينصتون للمحاضرة الثقافية الترفيهية .

العديد من السوريين في الداخل يحاولون مؤاساة أنفسهم على تحمل حياة الذل والفقر والخوف بعبارة ( الوطن ليس فندقاً ) أي أنهم أوفياء ومخلصين لوطنهم مهما جار عليهم ، ويُعزيهم إتهام من خرج من سوريا بقلة الوطنية والخيانة وهم يعرفون الظروف وحشية القسوة التي دفعت أكثر من ثلث الشعب السوري للنزوح إلى دول عدة ، صارت عبارة ( الوطن ليس فندقاً تعبيراً عن خيانة السوريين في الخارج ، اضطررت أن أرد على هؤلاء بعبارة : الوطن ليس سجناً ، وقبل أن تقولوا : الوطن ليس فندقاً عليكم أن تقولوا الوطن لا يجب أن يكون سجناً أيضاً ، المؤلم والمُخزي أن هؤلاء لديهم أبناء وأقارب وأحبة سُجنوا لسنوات طويلة وهم في ريعان الشباب بسبب رأي ( سجناء الرأي ) والبعض من هؤلاء الشباب ماتوا تحت التعذيب ، ورغم هذا الجرح الذي يستحيل أن يندمل مدى الحياة يكررون عبارة ( الوطن ليس فندقاً ) ليهربوا من الهزيمة ، هزيمة الكرامة تسحق الروح وتنزلها إلى مرتبة أدنى كثيراً من كلمة إنسان ، هم يفلسفون خوفهم والذعر الذي يعيشونه أنه قمة الحكمة والأمان . إحداهن كتبت : الوطن أم ، لكن أمهات سوريا معظمهن أمهات ثكالى مات أولادهم في حرب لا يريدونها أو ماتوا غرقاً في البحر في قوارب الموت ،

حتى اسم الشابة الرائعة الإيرانية ( مهسا أميني ) التي قتلتها شرطة الأخلاق في إيران لأن حجابها غير مناسب أصبح يثير الذعر في نفوس السوريين ، فـ “مهسا أميني” أشعلت ثورة حقيقية عظيمة ليس لدى نساء إيران فقط بل لدى الشعب الإيراني وامتد تأثيرها إلى دول أخرى ، صارت مهسا أميني أيقونة الثورة في إيران ضد الحكم الظالم الاستبدادي ، لكن السوري لا يجرؤ أن يقول رأيه بمهسا أميني ولا حتى أن يلفظ اسمها لأن إيران لها نفوذ كبير وصاحبة قرارات وامتيازات في سوريا ، أي يتحول إسم ( مهسا أميني ) في الداخل السوري كأنه تمرد على الوجود الإيراني في سوريا ، وإيران صديقة حتى نخاع العظم وهي تُهيمن حتى على الثقافة في سوريا فجائزة ( قاسم سليماني ) السخية ( ستون ليرة ذهبية ) دليل على الهيمنة الإيرانية ، وقد تم تقبل العزاء بوفاة قاسم سليماني في منزل شاعر الياسمين الدمشقي والحب نزار قباني .يبلغ الخوف السوري لدى السوريين خاصة داخل سوريا حداً أشبه بمسرح اللامعقول إذ أنهم يذهبون بعيداً في إظهار الولاء التام والطاعة المُطلقة للنظام ولأصدقاء النظام ، فهناك احتفالات لمناسبات وطنية روسية (عيد العلم الروسي )إذ شارك مئات من الأطفال والشبان والشابات في احتفالات عارمة في ساحة الأمويين في دمشق وهم يحملون العلم الروسي . يشعر السوري أن عليه إرضاء أصدقاء النظام ( روسيا وإيران ) وفي نقاش مع صديقة شيعية من لبنان وهي حاصلة على دكتوراة في الإعلام وكنا نتحدث عن الوضع السياسي السوري واللبناني وفي سياق الحديث ذكرت اسم ( حسن نصر الله ) غضبت واستاءت وقالت : يجب أن تقولي سماحة السيد حسن نصر الله !!! لم أجادلها لأنني أعرف أن الجدل في أمور تتعلق بالمعتقدات الدينية عقيم ، لكنني صُعقت أن إنسانة مثقفة حاصلة على دكتوراة في الإعلام من أهم جامعات أميركا تفرض علي أن أقول ( سماحة السيد حسن نصر الله ) !!!

جميل حقاً أن يكتب البعض أقوالاً لفلاسفة أو كتاب عظماء ، يستشهدون بأفكارهم الإبداعية الإنسانية ، لكن أن تكون هذه الكتابات في حقيقتها تُعبر عن عجزهم وخوفهم من كتابة رأيهم في بؤس حياتهم وانعدام الحرية والكرامة والمجاعة ورداءة التعليم والفساد ، فيلجؤون للاستشهاد بكتابات العظماء لأنهم بحاجة أن يشعروا بوجودهم  موهمين أنفسهم أن لهم رأياً وحضوراً وجمهوراً يتفاعل معهم لكن أي منهم لا يجرؤ أن يكشف حقيقة روحه وأفكاره . أما غزارة الصور عن اللاذقية الجميلة ( التي بلطوا بحرها ومسحوا أجمل سلسلة مقاهي بحرية ) وهدموا معظم بيوتها الأثرية ، وبنوا أبراجاً إسمنتية من ثلاثين طابقاُ في شوارع ضيقة ، اللاذقية التي تشوهت كثيراً ، كلها صور لأمكنه محدودة جداً في اللاذقية لا تزال تحتفظ بجمال زمن مضى ، لكن إغراقنا بصور الغروب الساحر في بحر اللاذقية نوع من الإذعان ، أتمنى لو أجد صوراً لبحر الإسمنت بعد أن بلطوا البحر ، ولأكوام الحجارة والخراب والزبالة في المدينة الرياضية التي كلفت الملايين ، أصبحت اليوم خرابة ، يُمكن أن نرى قضبان الحديد تثقب الإسمنت ، لو يصور لنا الغوالي صور مدرسة جول جمال العريقة كيف أصبحت ثكنه عسكرية واهترأت وتخلعت نوافذها وأبوابها وأصبحت محاطة بعدة أسيجة من كتل باطونية ضخمة جداً وأيضاً سلاسل حديدية ضخمة ، لو يتكرم أهل اللاذقية بتصوير التشويه المُخيف لمبنى الكازينو ، تشويه يجعلك تتخيل أن هناك مسابقة لمن يبتكر أقبح مكان أو يشوهه ، لا أحد يُصور هضاب الزبالة المنتشرة في كل شوارع اللاذقية ، خاصة منطقة الرمل الفلسطيني وقنينص ، هي هضاب بلا مبالغة من الزبالة تنغل فيها الجرذان التي تفوقت بحجمها على القطط . لست ضد تصوير الجمال ولا سحر الغروب في بحر اللاذقية ، لكن تجاهل الجانب الآخر – الحقيقي أكثر والأصدق والأكثر تعبيراً عن حياتنا – تجاهل بحر الإسمنت الذي طرد بحر اللاذقية ومدرسة جول جمال والكازينو والمشفى الوطني وغيره الكثير من المباني والأمكنة التي تشوهت كثيراً ، هذا الإصرار أو التعمد على تجاهل انتهاك المكان هو إذعان وجبن إن لم أقل قلة وفا وخيانة . هو نوع من طأطأة الرأس لنظام يجعل الفرائص تتقصف رعباً فيما لو نشر البعض صور مدرسة جول جمال أو سينما أوغاريت التي صارت معتقلاً أو هضاب الزبالة . لو يتحدث البعض بشفافية عن مأساة أطفال سوريا الجياع المُهددين بنقص النمو الجسدي والعقلي لكن يتحفنا فرع طلائع البعث في اللاذقية بمُلتقى الأدباء الصغار بعنوان ( أدباء صغار ، غرس وثمار ) في مقر اتحاد الكتاب العرب في اللاذقية . لكن هؤلاء الأطفال ( الغرس والثمار يموتون من الجوع ) .

About هيفاء بيطار

Check Also

أفكار منتصف النهار (38) العنف والإجرام عند الطفال والمراهقين .

كل مدة نسمع عن جريمة مروعة قام بها مراهق ( أحياناً أطفال 8 سنوات مثلاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *