هكذا قال بدر ذات برهة (لا مستحيل حين تكون إرادة الفعل أقوى من الخوف).
في الواقع من الصعب علي أن أكتب عن نص من عدة صفحات قليلة أرسلها لي الصديق ابن وطني (من جبلة الساحرة ببحرها وناسها). الصفحات القليلة التي كتبها المسرحي المبدع بدر زكريا هي فكرة المسرحية التي سيقدمها في مدينة ليون الفرنسية التي يسكنها مع أسرته بتاريخ 17 كانون الثاني 2024 وأنا سأحضر المسرحية. لكن النص (من الصعب) الذي قرأته لبدر زكريا أحدث زلزالاً في أعماقي فهو ليس مجرد حديث عن السجن (بدر زكريا أحد سجناء الرأي سًجن حوالي ثماني سنوات في الثمانينات)، وليس فكرة إبداعية رائعة كيف أبدع ورفاقه سجناء الرأي مسرحيات في السجن، بل الحقيقة أن كتابة نص (من الصعب) هو شهادة حق ونزاهة وشجاعة لكل السوريين. فالمشاعر التي يعيشها سجين الرأي داخل السجن من خوف وعدم أمان وخذلان وحتى أحلام يتمنى لو تتحقق يعيشها –طبق الأصل– المواطن السوري خارج السجن. فلا أحد من السوريين يحس بالأمان أو يثق أن دوره قد يكون قريباً جداً ويُسجن بتهم قد لا يعرف عنها شيئاً . ببساطة السوريون الذين لم يُسجنوا –باعتقادي– لسبب وحيد هو بالصدفة. وكل سوري مُتهم حتى يثبت العكس، وكل سوري يشعر أنه مُطالب بتقديم براءة ذمة تجاه الدولة.
سأكتب عن نص بدر زكريا (من الصعب ) بحياد وبمعزل عن صداقتنا المديدة. ولو أردت أن أختار عنواناً آخر لما كتبه بدر لوضعت عنواناً (لا مستحيل حين تكون إرادة الفعل أقوى من الخوف) .
يبدأ بدر الكتابة: (ليس كالضوء ما يهزم العتمة. ليس كالمسرح ما يهزم الموت. أن تمتلك الجرأة في اقتراف المسرح بينما قلبك يرقص من خوف اكتشاف جريمتك يعني الجنون بعينه، إنه اجتراح الحياة في سجون الموت وحيث يُصبح التنفس عطاء من القائد).
يكتب بدر ببساطة وعمق واختزال ودون أي تعابير عاطفية كأنه لا يُطالب القراء بالتعاطف معه ومع زملائه سجناء الرأي، يكتب عن فكرة يعيشها سجين الرأي (وكل سوري خارج السجن يسكنه الخوف، لأن الخوف هو السجن الكبير الذي نعيشه ونتنفسه نحن السوريون منذ عقود. يكتب بدر (فكرة أن نصنع حياة في ظل حكم بالإعدام والإقصاء نحن سجناء الرأي، خلقنا لأنفسنا حياة جديدة مليئة بالجمال والحب والإبداع).
بدر زكريا عاشق المسرح والذي كتب مسرحيات عديدة قدمها في جبلة واللاذقية ولعب دوراً في بعضها تحدى المُستحيل حين آمن مدعوماً بكل طاقة الحب بالمسرح أنه يُمكن أن يُقدم مسرحيات في السجن هو يذكرني بمقطع من قصيدة لمحمود درويش: (وقال: وإذا مت قبلك –أوصيك بالمستحيل– سألت: هل المستحيل بعيد؟ – فقال: على بُعد جيل) .
وتحقق المستحيل بفضل الإيمان بعظمة الفن والمسرح ويقول بدر: (نحن سجناء الرأي بحثناً عن أحلامنا في العالم السفلي بأسطورة تُشبه أسطورة العودة من الموت إلى الحياة). وبدأ المُستحيل يتحقق في السجن وتعاون بدر زكريا مع صديقه (علي الكردي) وهو كاتب وصحفي وسيناريست وحولوا رواية (اللجنة) لصُنع الله إبراهيم إلى مسرحية وتمكنا من إقناع بعض السجناء من المشاركة في المسرحية التي نجحت نجاحاً باهراً، وأصبح الكلام عن المسرح يحتل جزءاً كبيراً من كلام السجناء بدل الحديث الحزين والأشجان. وشهد بدر تحقق حلمه بعرض مسرحية (اللجنة) المأخوذة من رواية اللجنة لصُنع الله ابراهيم وساهم العرض المسرحي بتحويل الموت المعنوي البطيء للسجناء إلى حياة ممكنه .
ما أدهشني لدرجة الانبهار المستوى الثقافي العالي جداً لدى بدر زكريا وزملائه سجناء الرأي إذ قدموا المسرحيات التالية في عروض ناجحة جداً وهي :
-مسرحية الدولاب
-مسرحية اللجنة ( رواية الكاتب صنع الله إبراهيم)
-مسرحية الزيادة (للكاتب الإيطالي دينو بوتزاني )
-مسرحية الأوراق (عن نص للكاتب التركي الساخر عزيز نيسن)
– مسرحية النظارة (النص من كتابة سجين رأي المهندس محمد إبراهيم )
– مسرحية هيروسترات (للكاتب غريغوري غورين)
– مسرحية المنزل الذي شيده جوناثان سويفت (الكاتب غريغوري غورين)
وكان الخبز هو العجينة السحرية لتشكيل عدة المسرح يشرح بدر طريقة ابتكار العجينة السحرية: خبز مع كرتون البيض وقليل من الملح والسكر وورق الجرائد، يُنقع الخليط في الماء لأيام ثم يُغلى على النار لتتجانس المواد، ويشكلون منها ديكورات ضرورية للمسرح .
هو المُستحيل فعلاً أن يتمكن عاشق مجنون بالمسرح مثل بدر زكريا من الإيمان أن المسرح هو المُنقذ من الموت الروحي، ومن الزمن المُتخثر في السجن، من تجاوز أهوال طرق التعذيب المُروعة مثل الدولاب والصعق بالكهرباء والتحقير والتجويع… إلخ.
تحدث أدب السجون باستفاضة عن طرق التعذيب التي كان معظمها ينتهي بالموت أو إعاقات جسدية ونفسية، المسرحيات العظيمة لأهم كتاب المسرح التي قدمها سجناء الرأي في سجن صيدنايا حدث أشبه بمسرح اللامعقول، أشبه أن تؤمن أن النملة يُمكن بذكائها أن تهزم الفيل، وأن الفن الراقي ينقذ الروح من الموت المعنوي ويُلطف ألم الانسلاخ الذي لا يُحتمل للأحبة، للأولاد والزوجة والأم والأصدقاء، للشارع والبحر والمقهى، للشروق والغروب.
نخبة رائعة من سجناء الرأي انتصروا على القدر المحتوم (الموت المعنوي أو الموت الحقيقي، انتصروا على الجنون والاكتئاب) بالفرح؛ فالإبداع الحقيقي الراقي فرح والفرح قوة، أن تتمكن من تحقيق حلمك في سجن صيدنايا وتبدع أروع المسرحيات هو انتصار (أذكر عبارة “أندريه جيد”: غاية الحياة هي الفن) .
يكتب بدر: (كان علينا اقتراف الفرح سراً، فالفرح تهمة خطيرة في السجن، فرحك يعني أنك تقاوم، عندها يا للويل من غضب السجان).
لكن كل الطرافة أن عرض المسرحيات في سجن صيدنايا يتطلب امتلاك السجين بطاقة للدخول! وهي قطعة ورقية يُكتب عليها عنوان المسرحية وتاريخ عرضها ثم تُمهر بختم مصنوع بعناية من الخشب وكما يقول بدر: (لمشاهدة عرض مسرحي كنا ندفع أكثر من ثمن بطاقة الدخول يا سادة، كنا ندفع أجسادنا لتستمر أرواحنا). أما الكتب القيّمة فكان أغلبها متوفر من سجناء قدامى أو في مكتبة السجن. موجعٌ ومُخزٍ ورائعٌ في الوقت نفسه أن نتخيل عرض أرقى المسرحيات وأروع كتّاب المسرح وغيرهم تحت الأرض في أقبية السجون السورية، وكانت عدة المسرح العجينة السحرية (الخبز)؛ إذ أن الخبز يصير في السجن غذاء للجسد والأهم للروح، بينما فوق سطح الأرض يُعرض النفاق والابتذال والتصفيق الإجباري والمقالات المنافقة.
أغلب السوريون يعرفون الكثير من ممثلي المسرح والسينما الذين حولوهم بقرار سياسي إلى نجوم هم متعاونين مع أجهزة المخابرات ويكتبون تقارير مؤذية عن زملائهم، وكيف ننسى طرد أكثر من مئتي ممثل وممثلة ومخرج ومخرجة من قبل رئيس الفنانين في بداية الثورة السورية. يستحق بدر زكريا أن يكون هناك في سوريا مسرحاً باسمه ليس لأنه قمة في الموهبة والثقافة فقط بل لأنه كان مستعداً أن يدفع حياته ثمناً لإيمانه وعشقه للمسرح وأن يلوي ذراع السجان وذراع المستحيل بتحقيق حلمه تمثيل مسرحيات عظيمة في السجن وهو يعرف أن السجان لو عرف بنشاطه المسرحي لعرضه لأقسى أنواع التعذيب وربما القتل. الإيمان بالموهبة لا يختلف عن الشهادة في سبيل الحرية، لولا المسرحيات التي قدمها بدر زكريا وزملائه في سجن صيدنايا لذبلت أرواحهم وماتوا روحياً . هو الفن الراقي (المسرح) الفن الشافي من ذل العيش والقهر والظلم، هو الإيمان أن الأحلام يُمكن أن تتحقق حتى في أقبية السجون ورغم التعذيب الوحشي، هو الإحساس بنشوة الانتصار على الجلاد بالفرح، الفرح الحقيقي بنشوة الإبداع، حيث يخرج المارد من قمقم الخوف ويحلق طائر الفينيق عالياً.
بدر زكريا سًجن حين كان عمر ابنه الوحيد عشرين يوماً وسأنقل ما كتبه: (بدأت القصة في سيارة اللحمة أي سيارة نقل المساجين من تحويلي إلى فرع فلسطين (يا للعجب !!) إلى سجن صيدنايا العسكري فرع 235. انقلب تفكيري في مستقبلي مع زوجتي وطفلي.
بعد عام من موت مسرح سجن صيدنايا فتحت الأبواب على مصراعيها لكن ليس إلى الحرية بل إلى لجة العتمة والظلام. وكان بدر يرسل إلى زوجته الحبيبة كل المسرحيات كي تشعر أنه لا يزال ينتمي إلى الحياة لكن للأسف احترقت كل تلك الأوراق.
كل الاعتزاز والفخر بك بدر زكريا عاشق المسرح المؤمن أنه ليس كالمسرح ما يهزم الموت. لستَ وحدكَ من تكتب نصاً عنوانه (من الصعب) الكثير الكثير من السوريين من الصعب جداً أن يكتبوا.
لكن كما قلت: لا مستحيل حين تكون إرادة الفعل أقوى من الخوف.