بتاريخ 19 شباط 2024 حصل طوفان غزير جداً في اللاذقية بسبب غزارة تساقط الأمطار . والفيديو الذي صور الطوفان كان أشبه بالخيال العلمي أو مسرح اللامعقول . وجد أهل اللاذقية نهراً من اسطوانات الغاز تسبح في نهر عددها حوالي ( 38 ألف أسطوانة ) وكان تعليق الإعلام السوري أنه تم قطع الكهرباء بسبب طوفان المطر الغزير !!! وكأن الكهرباء ليست مقطوعة طوال الوقت ، كما قال الإعلام السوري أنه تم إنقاذ سبعين أسطوانة غاز ( سعر أسطوانة الغاز الفارغة مليون ليرة سورية ) . وللتو حرضت عبارة ( تم إنقاذ 70 أسطوانة غاز ) ذاكرتي التي استعادت بخزي وألم موت شابة سورية من اللاذقية غرقاً في مجرور . أما الأبنية العشوائية الكثيرة في اللاذقية والتي تم بناؤها بموافقة من مهندسين ومتعهدين ومسؤولين فاسدين كانوا يعطون رخص البناء لمن يدفع الرشوة ، معظم هذه البيوت انهارت وقت حصول الزلزال في سوريا وتركيا ولم يتم إعطاء أي تعويض للسكان الذين تهدمت أو تضررت كثيراً بيوتهم . الغلاء المتصاعد بشكل مرعب لكل السلع وللطعام حيث وصل سعر كيلو اللحم إلى أكثر من 200 ألف ليرة سورية ، كذلك تضاعف عدة مرات أسعار الأدوية . كل هذا المشهد السوري المأساوي واللامعقول يُقابل بالصمت من قبل المواطن . لا أحد يجرؤ أن ينتقد بل تشكلت قناعة لدى الكثيرين بأن ( القادم أعظم ) ، السوريون الضحايا الذين يموتون بسبب الغارات الإسرائيلية المتواصلة على دمشق وغيرها لأنهم يسكنون في أبنية يعيش فيها الإيرانيون ( غالباً الحرس الثوري الإيراني ) ما ذنبهم يقتلون ولا أحد ينطق بكلمة سوى الرحمة لأرواحهم ، وربما البعض يعتبرهم شهداء . المواطن السوري لا يملك الحق أن يرفض أن يكون شهيداً ومعظم الشهداء فقراء ، لم نجد ابن مسؤول سوري التحق بالجيش السوري ليقاتل ولم يستشهد أحداً منهم . هذا الصمت هو الموت الروحي تماماً وأحب أن أستعير وصف طبيب الأعصاب الفلسطيني من خان يونس وهو اختصاصي أمراض عصبية ومعالجة الصدمات النفسية وهو نفسه اقتلع من بيته ويسكن خيمة قال : ما ألاحظه أن وجوه الناس أصبحت فارغة من الحياة ، إنها أقنعة الخوف واليأس والخدر العاطفي . هذا الوصف ينطبق تماماً على وجوه السوريين الصامتين ويا لقدرتهم الخارقة على تحمل الذل وعلى تحمل رداءة العيش التي تزداد يوماً بعد يوم حتى أن العديد منهم فقد الأمل نهائياً بانفراج في هذا النفق المظلم من المعاناة وقالوا : استسلمنا . هذه الكلمة : استسلمنا هي حالة الخدر العاطفي التي تحدث عنها طبيب الأعصاب ومعالجة الصدمات في غزة . معظم السوريين الذين أتواصل معهم يقولون ( ما باليد حيلة ونخاف أن ننتقد تعتير حياتنا حتى لا تهبط علينا تهمة مثل المس بهيبة الدولة ) أو إهانة شرف وزارة الداخلية .
حين يُصيب داء الخرس شعباً فلا أمل بالإصلاح والتغيير ، الحالة السورية – داء الخرس – تشبه تماماً مرض العمى الذي أصاب كل الشعب في الرواية العظيمة ( العمى ) لجوزية ساراماغو حيث فقد الجميع الرؤية ، وفي سوريا أصاب الناس داء الخرس ، وأحب أن أذكر تلك القصة فمنذ يومين ( 20شباط ) وكنت أمشي في باريس في منطقة قريبة من سان ميشيل طنت أذني بكلمة الحرية ، كلمة أحسستها تزلزل الأشجار والمباني الفخمة وروحي ، وكانت هناك ندوة في الهواء الطلق لناشطات وكاتبات من إيران ( معارضات للنظام الإيراني ) وعدة طاولات تعرض كتباً لناشطات إيرانيات وكاتبات معظمهن سُجن لسنوات في سجون إيران بسبب مطالبتهن بالحرية والمساواة وحرية اختيار الملابس الخ . كانت هناك صوراً كثيرة كبيرة لشباب ومراهقين إيرانيين تم إعدامهم ، وصورة مهسا أميني تحتل جداراً وصورة السيدة مريم رجوي زعيمة منظمة مجاهدي خلق الإيرانية المُعارضة . وصور لنساء عظيمات إحداهن ماتت في السجن . الشعار الذي استوقفني هو الإصرار على إلغاء الأصولية الدينية . . وبكل حماسة وإعجاب بنساء إيران ، نساء الحرية والشجاعة شاركت صور الندوة على صفحتي على فيس بوك . لم يجرؤ سوري من الداخل أن يبدي رأيه أو يضع إشارة لايك . هو الموت الروحي والصمت ، وفي الصمت تُدفن الحقيقة وتُدفن المشاعر . وعبارة : تكلم لأعرفك أكبر خطر في سوريا خاصة إذا قال المواطن حقيقة مشاعره وأفكاره بل هو في حالة ذعر دائم لأن للحيطان آذان .
هل الوجود الإيراني في سوريا لا يسمح لأي مواطن سوري في الداخل أن يُعجب بنساء إيران المُطالبات بالحرية وحرية اللباس وحرية نزع الحجاب وحرية التعليم المختلط ، ألم يشهد العالم كله مقتل الشابة مهسى أميني على يد شرطة الأخلاق لأن حجابها غير مناسب ، النظام الإيراني قال أنها ماتت بالسكتة القلبية ، وهي العبارة المُوحدة في كل فروع الأمن حين يقتلون المعتقلين تحت التعذيب .
أين عزة النفس السورية ؟ أحياناً أتساءل : ترى الإحساس بالكرامة مُكتسب وأن ظروف القمع والخوف تقتله أو يذبل ويموت كما درسنا في الطب ( العضو الذي لا يُستعمل يضمر ) . ولأن داء الخرس السوري أدى إلى تدني كبير للإحساس بالكرامة وعزة النفس فأصابهم الخدر العاطفي والتقوقع في شرنقة العزلة عن العالم .
المؤلم أن العالم كله نسي أو يتجاهل معاناة السوريين التي تفوق التحمل ، في بداية الربيع العربي أطلق على سوريا اسم ( مأساة القرن ) وهي فعلاً مأساة القرن . فعلاً القادم أعظم كل يوم أسمع عن شابات عازبات تركن سوريا وسافرن إلى دول الخليج للعمل فقدن الأمل بالزواج لأن معظم شباب سوريا هجوا أو ماتوا غرقاً أو في المعارك . ومن المؤسف أن المعايير الأخلاقية تغيرت أيضاً لأن شابات سوريات كثيرات غامرن بالزواج من رجال يعيشون في دول أوروبية تعرفن بهم عن طريق الفيس بوك ، قالت لي إحدى الأمهات : قلبي يحترق على ابنتي ستسافر وتتزوج رجلاً في ألمانيا لا نعرف عنه أي شيء ربما كل كلامه كذب ، وقد يكون متزوجاً وقد يكون مريضاً نفسياً لكن ابنتي وصل بها اليأس إلى درجة تقول لي مهما كان المهم أن أسافر وأن أحصل عن طريق هذا الزواج على الجنسية بعدها لو حصل الطلاق لا أبالي . مؤلم ومخزي تغير المعايير الأخلاقية لجيل من الشياب والشابات بسبب انسداد الأفق في وطنهم بسبب الفقر واليأس والخدر العاطفي .
أخيراً أجدني أتخيل بمرارة أنه تم إنقاذ 70 اسطوانة غاز من أصل ( 380 ألف أسطوانة سابحة في نهر المطر الغزير ) ولم يتم إنقاذ شابة ماتت غرقاً في مجرور في اللاذقية .