أفكار منتصف النهار (39): علاج تناذر ما بعد الصدمة

يحتل موضوع العلاج ما بعد الصدمة اهتماماً كبيراً من قبل اختصاصيين في الطب النفسي وفي علم الإجتماع، أيضاً نشأت جمعيات خاصة أو بمساعدة دول عديدة لعلاج المُصابين بالصدمة المُروعة التي تسببت بها الحروب الوحشية التي يراها الجميع على شاشات الفضائيات، والتي تُعيد مراراً المشاهد المُروعة من دمار وجثث وأشخاص عالقين تحت الأنقاض ونزوح مُهين. حتى لغة الأخبار أصبحت مُشاركة في الصدمة مثل استعمال عبارة (حمام الدم) والتقرير اليومي عن عدد القتلى في غزة وصور وبعلبك (ولبنان كله) وأيضاً في سوريا حيث تنهال الضربات الإسرائيلية على دمشق وعلى اللاذقية ومناطق غيرها ويسقط قتلى لا نعرف بدقة عددهم.

تعرض لنا شاشات التلفزيون أيضاً برامجاً تستقبل فيها ما يسمونهم اختصاصيين بعلاج تناذر بعد الصدمة خاصة للأطفال (أضاحي الحروب)، يتكلمون ويتكلمون محاولين رفع معنويات المُشاهد (المُروع من هول الإجرام والذي يحتاج بدوره لدعم نفسي، خاصة من استشهد لهم أشخاص من أسرهم). لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة وجدية وبتفكير علمي: هل حقاً ينفع العلاج ما بعد الصدمة!! أو إلى أي حد ينفع هذا العلاج؟ ما شاهدته بشكل عام منظر أطفال فوق أنقاض بيوتهم ومعظمهم مات أهلهم أو إخوتهم ويسمعون طوال الوقت أصوات الصواريخ وأدوات القتل، لكن ثمة من يشجعهم على اللعب بالكرة (كرة قدم للأطفال فوق الأنقاض!) أو يشجعونهم على الرسم، أو يقيمون لهم خيمة فوق الأنقاض لتدريسهم بعض الدروس، والكثير من الخيم تُنسف بالقصف، فلا يوجد على الإطلاق مكان آمن في الحرب الوحشية على غزة ولبنان وسوريا (رغم أن الكثير من العائلات اللبنانية نزحت إلى سوريا، لكن الحقيقة أن الحالة في سوريا غير آمنة). المشكلة أن ما يُسمى ( علاج تناذر بعد الصدمة ) يفتقر لأهم عنصر هو الأمان والثقة ، فالمعالجين ( مهما كان اختصاصهم وبعضهم متطوعين أي خبرتهم ضعيفة جداً في علم العلاج بعد الصدمة ) يعالجون الأطفال ( خاصة ) في منطقة الحرب فوق الأنقاض والجثث ورائحة الموت ، ويحكون أو يقرؤون للأطفال قصصاً فوق الدمار المُروع ، بينما هؤلاء الأطفال يحتاجون إلى مكان يشعرون فيه بالأمان ، وتبدو المدارس محتشدة بالعائلات التي قصدتها هرباً من القصف والموت ، لكن إسرائيل تقصف المدارس والمشافي وحتى أطقم الإسعاف وسيارات الإسعاف ، نرى أطفالاً يلعبون في ساجة المدرسة بالكرة لكن في اللاوعي عندهم صدمة مُروعة يعجز جهازهم العصبي عن تحملها ، وكي يحمي الأطفال أنفسهم من هول الصدمة النفسية يتبعون ( في اللاوعي ) طريقة الإنكار فنراهم واقفين فوق الدمار والأنقاض بشعورهم المُشعثة يُغطيها الغُبار وملامح وجوههم تشي بالبؤس والجوع والخوف لكنهم يبتسمون للكاميرا ويرسمون بأيديهم علامات النصر . وقمة احتقار الطفولة أن يُستخدم الأطفال المُروعين من الحرب وهم يعيشون في قلب الحرب الوحشية الدائرة في الكلام أنهم أقوياء وسينتصرون، وغالباً الإعلام لا يبالي بالحالة النفسية للطفل، فهو مجرد مسكين عاجز عن المحاكمة ويسهل عليه تلبية طلب أو أسئلة المذيع أو المُراسلين، حين سألت مراسلة لإحدى القنوات الفضائية طفلاً فلسطينياً: ماذا تريد أن تكون حين تكبر وتُصبح شاباً؟ أجابها الطفل بصدق وعفوية: نحن أطفال فلسطين لا نكبر، نحن نموت أطفالاً. ربما يعتقد البعض أن عرض مشاهد للأطفال النازحين في خيم النزوح وقد طافت الخيمة بماء المطر وتحول التراب إلى وحل والأطفال يغوصون في برك الماء والوحل وبعضهم يبتسم للكاميرا، والبعض يبكي على أم ماتت أو يبكي من الجوع والخوف. هؤلاء الأطفال وعيلهم يُقدمون أرباحاً كبيرة للقنوات التلفزيونية، لكن واقعهم لا يتغير بل يزداد سوءاً خاصة أن أمراض كثيرة تنتشر في هذه الظروف البائسة من العيش (الجرب، القمل، الكوليرا، التهاب القصبات، والتهاب السحايا، الإنتانات المعوية… الخ) أيه سخافة علاج تناذر ما بعد الصدمة لدى هؤلاء الأطفال (وهم الأكثرية وهم أكثر من يُعاني في الحروب). القاعدة الأولى في علم النفس لمساعدة المريض النفسي (خاصة في حالة صدمة مُروعة ولا يحتملها جهاز عصبي) هو العيش في مكان آمن أي الخروج من الخيمة، والمدرسة التي يُمكن أن تُقصف في أيه لحظة، حتى من أماكن العبادة (الكنيسة أو الجامع) لا تترك إسرائيل شبراً من الأرض إلا وتريد تدميره، تدميرها لأروع الأثار في مدينة صور الأثرية التاريخية في لبنان وفي بعلبك جريمة هي تريد محو الذاكرة والتاريخ. البرامج المُتكاثرة عن علاج ( تناذر ما بعد الصدمة ) لا تُفيد إطلاقاً أو ربما فائدتها كمن يريد أن يروي غابة من أشجار يابسة تتوق للمطر بكوب من الماء ، وفي علم النفس يُصنف الصدمات إلى صدمات قابلة للعلاج مثل حالات الطلاق أو موت عزيز أو فشل في عمل أو حب ، لكن ما نشهده من أهوال طوال عام من حرب مجنونه غايتها محو كل ما له علاقة بالحياة وتدمير البشر والحجر والتاريخ والجغرافيا وتهجير السكان وموت معظمهم ، والأهم ( العامل الذي يساهم إلى حد كبير في هول الصدمة النفسية ) هو موت الضمير العالمي ، حتى أن أحدهم كتب ( كلمة ضمير تُشتق من الضمور ) لا أحد يدافع عن المظلوم ، معظم الدول تتبع مصالحها ، وللأسف مصالحهم مع الأقوى حتى لو كان سفاحاً ، ماذا قدمت الدول العربية لفلسطين وللبنان ولسوريا ، بقيت صامتة صمت وخيانة يهوذا للمسيح حتى أُحرجت وقدمت بعض المساعدات التي يُسرق الكثير منها . لا يُمكن نسيان الكلام الذي قالته إحدى المُراسلات لقناة عربية بأنها تمكنت من دخول غزة (رغم أن إسرائيل تمنع معظم المراسلين من دخولها وقتلت أكثر من مئتي صحافي ومراسل حربي عرب) لكن تلك المُراسلة لفضائية عربية قالت إنها تمكنت من دخول غزة لأنها كانت إلى جانب قوات إماراتية!!

علم النفس يصف حالات كثيرة لتناذر ما بعد الصدمة، ثمة أطفال يختارون النوم طوال الوقت هروباً من الواقع، أطفال آخرين يصبحون عدوانيين، أو تنتابهم كوابيس باستمرار، أو يدمنون على المخدرات ويحتاج علاجهم لسنوات والأهم أن يكونوا في مكان آمن.

كل المؤتمرات والاجتماعات في دول كثيرة لم تنجح في وقف الحرب، بل هي مجرد مؤتمرات لإيهام الناس والمظلومين أن هناك من يعمل لأجلهم.

أشبعنا ببرامج تذكرنا بكتاب القصيمي (العرب ظاهرة صوتية) عن علاج تناذر ما بعد الصدمة.

About هيفاء بيطار

Check Also

أفكار منتصف النهار (37): انسداد الأفق

بداية أحب أن أشير أنني أحترم كل الناس مهما تباعدت أفكاري وتناقضت مع أفكارهم ، …