جميع السوريين (خاصة سكان اللاذقية) التي كانت تستحق بجدارة لقب (عروس الساحل السوري) مُروعين ومصدومين من الانتهاكات التي تعرضت لها اللاذقية. كانت اللاذقية تتمتع بسلسلة من المقاهي البحرية الساحرة بمستوى البحر، وكانت قريبة جداً من مركز المدينة، كانت المُتنفس لكل السوريين – خاصة أهالي اللاذقية – وكانت عبارة (روح بلط البحر) عبارة تعني المستحيل، منذ اتخاذ قرار مسح تلك المقاهي البحرية وتسويتها بالأرض، وبدأت آلات عملاقة في ردم مكان المقاهي واستبدالها بكتل كبيرة من الباطون والرمل، وصار البحر بعيداً، حتى أحد أجمل المباني رائعة الجمال (الكازينو) التي كانت بمستوى البحر ومتنفس سكان سوريا فقدت سحرها وهويتها بعد نفي البحر بعيداً عنها. لم يُقدم لنا النظام أي تفسير لجريمة إزالة أروع مقاهي بحرية على شاطىء المتوسط في اللاذقية. أذكر الوجوه الذاهلة لسكان اللاذقية وهم يقفون أخرسهم الحزن والقهر يتفرجون على الآلات العملاقة تسحق المقاهي البحرية وتنفي البحر حتى أصبح صوت زبده أشبه بالأنين نسمعه حين تتوقف للحظة تلك الآلات الجهنمية عن سحق المقاهي وتحولت المساحة كلها إلى بحر من الإسمنت. الحجة التي قُدمت لنا: أن هناك خطة لتوسيع مرفأ اللاذقية!! لكن الكل تساءل: لماذا لم يتم توزيعه في مكان آخر بعيد عن رئة المدينة وبدون هدم سلسلة من أجمل المقاهي البحرية !!!لا جواب. جريمة تبليط بحر اللاذقية جرح يستحيل أن يندمل، أو وشم في الدماغ بحجم الذاكرة. صور اللاذقية القديمة بالأبيض والأسود تبدو لمدينة أخرى. المرفأ الجميل، المقاهي البحرية ساحرة الجمال بمستوى البحر، المشفى الوطني في اللاذقية كان قمة في الجمال كأنه قصر سقفه قرميد ومُحاط بغابة من الأشجار الجميلة، تحول إلى بناء بشع كجبل من رخام، يبدو أن صفقة الرخام كانت مربحة كثيراً للمسؤولين وثمة سلاسل حديدية ثخينة وأبواب حديدية وحراسة مشددة عند مدخل المشفى، اختفت الأشجار وتعرض المشفى لتشويه فظيع إذ استبدلت أبوابه الخشبية المتينة بأبواب هشة كأنها من الورق المقوى، ووضعت شباك حديدية على كل نوافذ غرف المرضى، أصبح منظر المشفى الوطني كأنه سجن.
ثم بدأت عمليات هدم الأماكن والبيوت الأثرية في اللاذقية، وحسب القانون ممنوع هدم بناء أثري لكن يجب صيانته، قصر بيت سعادة، والرحمة والنور للأستاذ العظيم في علم الآثار والموسيقى (جبرائيل سعادة) الذي كان مؤثراً في أهل اللاذقية، بغنى مكتبته بكتب نادرة ومؤلفاته عن مدينة أوغاريت الأثرية وغيرها، وكان يعشق أم كلثوم ويستضيف كل من يرغب أن يعرف موسيقى أم كلثوم (الحجاز، النهاوند، الخ) كانت وصيته أن تُهدى مكتبته الكبيرة بكتبها المتنوعة النادرة إلى جامعة تشرين في اللاذقية كي يستفيد منها الطلاب. لكن ما لم يتوقعه أحد أن معظم كتب مكتبة الأستاذ جبرائيل سعادة غرقت، ولم نعرف ما سبب غرقها في الجامعة!!
تم هدم قصر سعادة، وقصور أخرى مُصنفة أثرية مثل قصر الدكتور شدياق، وتمكن رجل فاحش الثراء ومسؤول كبير لا يُحاسبه القانون من هدم قصر الدكتور شدياق وبنى بناية عملاقة من ثلاثين طابقاً في شارع ضيق.
مدرسة جول جمال التي كانت تحفة معمارية ومحاطة بغابة من الأشجار والتي درس فيها أهم الأساتذة، وتخرج منها طلاب أصبح معظمهم من النوابغ، تحولت حالياً إلى ثكنه عسكرية، تخلعت أبوابها ونوافذها، وصارت مُحاطة بسلاسل حديدية ثخينة وبحواجز ضخمة متلاصقة من الإسمنت. لم يبقى ما يُسمى (اللاذقية القديمة) فما بقي من البيوت الأثرية القديمة أصبحت آيلة للسقوط مُحاطة بهضاب من القمامة، لم يبقى من بيوت أثرية سوى زقاق ضيق مُهمل احتله أصحاب محلات الألبسة المُستعملة (بالات متلاصقة تغص بالناس)
لكن تم بناء مقاهي فخمة جداً في شارع الأوقاف وفي الكورنيش الجنوبي الذي ضم مقاهي مفرطة في السخاء والغلاء الفاحش ومعظمها لمسؤولين لا يُحاسبهم القانون على أي فعل، وهذه المقاهي الفخمة في الكورنيش الجنوبي المطلة على بحر بعيد هي على أطراف اللاذقية يرتادها الأثرياء، وثمة مقاهي بسيطة يمكن لسكان اللاذقية (وسوريا) ارتيادها، بشرط أن يتجاهلوا رائحة المجرور الخانقة الذي يصب مباشرة في البحر لصق المقاهي البسيطة.
دور السينما الرائعة التي حضر أهل اللاذقية فيها أجمل الأفلام ، وذرفوا الدموع على الأفلام الهندية وسينما أوغاريت استضافت مطربين مشهورين أجانب ، تحولت منذ سنوات إلى سكنه عسكرية مُحاطة بجنود للحراسة وحولها عشرات البسطات التي تبيع ألعاباً رخيصة وأشياء عجيبة غريبة لا قيمة لها ، معظم دور السينما في اللاذقية هُدمت وبُني مكانها أبنية عملاقة ، السينما الوحيدة التي رُممت بشكل سيء هي سينما الأهرام ، وهي لا تعرض أفلاماً إلى ما ندر لكن كل سنه تُقيم وزارة الثقافة أسبوعاً سينمائياً يعرض الأفلام ذاتها لأكثر من سبع سنوات والأفلام هي : بيت الأرواح – رسائل شفهية – سيرانو دو بيرجراك – المواطن مصري .
أي استخفاف بعقول الناس عرض الأفلام ذاتها كل سنة!!
ومنذ أسابيع قليلة تعرضت اللاذقية لقصف من إسرائيل أدى إلى حريق كبير ودمار بعض البيوت ولا نعرف من قُتل! وحالياً في 31 تشرين الأول اشتعلت حرائق ضخمة في غابات كسب وفي الحفة والقرداحة، وتأخرت فرق الإطفاء في إطفائها (ربما ينقصها الماء)
لم يبق من اللاذقية الحبيبة سوى حنين الذاكرة لأماكن لم تعد موجودة إلا في صور قديمة بالأبيض والأسود، وفي ذاكرة سكانها.
اللاذقية التي كانت (عروس الساحل السوري) أصبحت أرملة الساحل السوري فقد مات وقُتل آلاف السوريين فيها وفي سوريا
وجع الذاكرة ووجع الحنين لا شفاء منهما.