سوريا مجتمع فتي أي يشكل الأطفال حوالي نصف عدد السكان تقريباً ( تدل الإحصائيات أن 70 بالمئة من عدد سكان سوريا هم تحت 24 سنة. قبل أن أتحدث عن ظروف أطفال سوريا من واجبي الأخلاقي أن أذكر تلك الكارثة وأتمنى لو يسمع بها العالم كله وأـمنى أكثر لو تصير فيلماً وثائقياً .
أعود إلى الماضي الذي حصلت فيه تلك الكارثة المُروعة يوم تم السماح بدفن النفايات النووية لبعض الدول في سوريا وتقرر ردفنها في منطقة قرب تدمر، لكن كيف دخلت تلك النفايات النووية إلى سوريا !؟ في الواقع دخلت عن طريق ميناء طرطوس على شكل علب دهان للجدران ولا أعرف إن كان مكتوب عليها علب دهان، معظم العمال في مرفأ طرطوس اعتقدوا أنها علب دهان فاخر وببساطة أخذ معظم العمال علبتين أو ثلاثة لدهن جدران بيوتهم المهترئة، وفرح العمال وأسرهم بمنظر الجدران الأبيض اللماع خاصة أنهم حصلوا على علب الدهان مجاناً. أذكر في ذلك الوقت انتشر خبر أن عبد الحليم خدام هو من أبرم صفقة دفن النفايات النووية في سوريا، ثم ترددت إشاعات أن شخصية أهم بكثير من عبد الحليم خدام هي التي سمحت بدفن النفايات النووية على خطورتها على الناس والبيئة. النتيجة كانت أن هؤلاء العمال المساكين ( الذين يزيد عددهم عن 300 عامل ) لم يخطر ببالهم إطلاقاً أنهم دهنوا جدران بيوتهم بمواد نووية كان لها تأثيراً كارثياً على صحتهم وعلى DNA خلاياهم خاصة المبيضين والخصيتين، باختصار خلال ثلاثة أشهر تمت ولادة مئات الأجنة في مشفى صافيتا بدون جمجمة، أي أ ن المرأة الحامل تلد في نهاية الشهر التاسع للحمل طفلاً بدون جمجمة أي يملك فقط وجه، هذا الطفل يموت بعد ساعة على الأكثر. أنا شخصياً اطلعت على دفتر المرضى في مشفى صافيتا التي كنت أزورها كثيراً بسبب معرفة مع طبيب هناك. الكارثة مُروعة ولا يُمكن السكوت عنها أن يُولد خلال ثلاثة أشهر أكثر من 300 طفل بدون جمجمة شيء يفوق أفلام الرعب، بل أظن أن أهم المخرجين لأفلام الرعب لن يخطر ببالهم تلك المأساة. وعُرف السبب فكل الأطفال الذين وُلدوا بدون جمجمة وماتوا للتو كان والدهم قد دهن جدران البيت بما اعتقد أنه دهان للجدران غير عارف أنه نفايات نووية. العديد من الأطباء الخلوقين رفعوا شكوى إلى وزارة الصحة في دمشق وأرفقوا شكواهم بصور ومستندات عن الأطفال وأهاليهم. اعتقد الأطباء أن لجنة من وزارة الصحة سوف تأتي لتحقق في الكارثة، لكن رد الوزارة كان حاسماً وتهديداً بأن يخرسوا تماماً وألا يتحدث أحد بهذه الكارثة وإلا سيتعرض لعقوبات. لا يُمكنني أن أصف الانهيارات العصبية للأمهات خاصة وهي ترى طفلها الذي حلمت به بوجه فقط وبدون جمجمة، كذلك الآباء الذين مرمرهم القهر والندم لاعتقادهم أنهم حصلوا على غنيمة ودهنوا جدران بيوتهم بالبويا، المُروع أن لا أحد من المسؤولين في مرفأ طرطوس منع أو نبه هؤلاء العمال أن ما يحملونه ليس دهاناً بل نفايات نووية. ربما لم يتوقعوا أن يكون تأثير تلك النفايات مُروع ( ولادة أطفال بدون جمجمة ). الحادثة طمست ولم يتحدث عنها أحد في الإعلام. وربما لولا زياراتي الكثيرة إلى صافيتا وعلاقتي الوثيقة بأطبائها لما عرفت بتلك الجريمة.
أعود الآن إلى ظروف أطفال سوريا بشكل عام حتى قبل 2011. وضع معظم المدارس بائس جداً من ناحية التمديدات الصحية والنظافة، وعادة كل ثلاثة أطفال يجلسون في مقعد، ومع احترامي للمعلمين لكن غالبية المعلمين للمرحلة الابتدائية تحصيلهم العلمي ضعيف جداً إذ غالباً من يكون مجموعه ضعيف في البكالوريا الأدبي ( لأن طلاب البكالوريا العلمي عادة متفوقين أكثر من طلاب البكالوريا الأدبي ) أي أن من يكون مجموع علاماته ضعيف جداً في البكالوريا الأدبي ينتسب إلى الصف الخاص ( أي معهد لمدة سنة دراسية أي تسعة أشهر) لُيدرس بعد تخرجه أطفال المرحلة الابتدائية، ولأن أمي أستاذة الفلسفة التي أعطت على مدى خمسة عشر عاماً دروساً في علم نفس الطفل في الصف الخاص وكانت تُخبر المعلم أو المُعلمة أنها ستحضر درساً في صفها، وكنت أعترض على أمي وأقول لها: لا يجب أن تخبريهم أنك ستحضرين الدرس، رغم ذلك شهدت حالات مُروعة من مدرسات ومدرسين يوحدون المخارج لطلاب الصف الثاني الابتدائي أو الثالث خطأ !! فتضطر أمي أن تُكمل الدرس للطلاب. إحدى المعلمات كانت تعطي الطلاب درساً عن البيضة وتقول أجزاء البيضة ( القح والقاح )!! بينما اسم صفار البيضة ( الُمح ) والبياض ( الآح )
اليابان التي خرجت مُدمرة تماماً من الحرب العالمية الثانية حققت خلال سنوات قليلة تطوراً جعلها من أهم دول العالم والسبب يعود أن راتب أستاذ الابتدائية في اليابان كان أعلى من راتب وزير (أي أعلى راتب في اليابان) لأن أستاذ المرحلة الابتدائية هو من يبني الأجيال. وكان يحمل شهادات جامعية مهمة. أما راتب أستاذ ألصف الخاص في سوريا فهو راتب هزيل لدرجة لا يكفيه أجرة مواصلات في الميكروباصات المهترئة فيما لو كان تعينه في إحدى القرى. الفساد التعليمي كان في أوجه أيضاً ففي كل مدرسة هناك مكتبه فيها (أو يُفترض أن يكون فيها قصصاً للأطفال وبعض الألعاب) وثمة مسؤولة عن المكتبة اسمها أمينة المكتبة كانت تأتي مرة أول كل شهر لقبض راتبها فقط. وتظل المكتبة مٌغلقة كل السنة. وبالطبع تكون الموظفة ( امينة المكتبة مدعومة ومحسوبة على مسؤول عالي المرتبة في الدولة).
أما القصص والشعر الذي يدرسه أطفال سوريا فهو قمة التخلف على مدى عقود بقيت أشعار سليمان العيسى هي المقررة (كلبي كلبي يمشي جنبي لا ينساني عو عو عو) أو قصيدته (خالي فلاح) لا يوجد أي حس جمالي أو إبداعي. كذلك قصص مازن ورباب… إلخ.
في معظم المدارس الابتدائية فإن حصص الموسيقى والرسم غير موجودة ولا توجد مادة لقراءة قصة تُفتح شهية الطفل على المعرفة وتحرض ذائقته الأدبية.
حالياً (أي السنوات الأخيرة من 2012 إلى 2023) أخبرتني العديد من مدرسات المرحلة الإبتدائية اللاتي أوجه لهن كل محبة وتقدير لحرصهن أن يتعلم الأطفال، فكن يقصدن المركز الثقافي في اللاذقية (أو دار الأسد للثقافة) حيث توجد مكتبة خاصة للأطفال أخبرنني أن قصص الأطفال كارثة فمعظم الشخصيات المرسومة في القصص طفلات منقبات أو محجبات والكثير من القصص عن عذاب الآخرة وجهنم. ولا زلت أذكر مواضيع الإنشاء التي كانت إما وصف الربيع أو :اكتب رساله إلى صديقك. كان 99% من الأطفال يبدؤون موضوع الإنشاء بعبارة ( استيقظت على زقزقة العصافير) بينما هم يستيقظون على جعير المولدات لكن المُدرّسة كانت تُملي عليهم كيف يجب أن يفكروا ويتخيلوا.
أما الأهم من كل ما كتبته هو الجوع وهو عمالة الأطفال والتسول وإدمان معظم الأطفال المتسولين على مادة الشعلة (هي مادة صمغية تُستعمل للصق الأحذية ) لكنها يمكن أن تُذوب في الماء أو عصير ويشربها الطفل المتسول فتخرب خلايا دماغه وتجعله في حالة هبل كي يستطيع أن يصمد أكثر من ثماني ساعات يتسول. آلاف طلاب المدارس في المرحلة الإبتدائية ما أن يدخلوا الصف حتى يصرخون نحن جياع. فتضطر المعلمة أن تجمع بعض المال من زميلاتها ومن المديرة ويُرسلون الآذن ليشتري الخبز (الذي لا يؤكل) والحلاوة حتى أكل الطلاب (شيء سريالي أن يكون طعام الأطفال التلاميذ هو نفسه طعام السجناء!) إحدى المُدرسات أخبرتني أن أخت وأخيها التوأم يتناوبان على قلم واحد. وأن الإحصائيات دلت على نقص النمو الجسدي والعقلي للأطفال وثمة معلومة طبية هامة أن اللحم الأحمر خاصة يحتوي على ثمانية بروتينات رئيسية لنمو العضلات والدماغ وهي متوفرة في اللحم فقط. 90% من أطفال سوريا لا يأكلون البيض ) سعر البيضة ألف ليرة سورية ) ولا السمك ولا الفاكهة. معظمهم ينام جائعاً والكثيرون منهم ينبشون في القمامة ليأكلوا (هم وأهلهم). وسأذكر تلك الحادثة التي هزت اللاذقية وسوريا فثمة شاب في الأربعين ثري خلوق جداً أراد أن يهب معظم ثروته من أجل مكافحة تسول الأطفال، وتكفل بمصاريف أكثر من أربعين طفلاً (كانوا نشالين ومدمني مادة الشعلة وشحاذين) اضطر أن يعطي أهل الأطفال مالاً كي يسمحوا لأطفالهم بالذهاب إلى المدرسة، هو مسيح عصرنا أو مسيح سوريا، وهو ابن عائلة عريقة ومبدعة، فجأة داهم بيته عناصر من الأمن وشحطوه إلى أحد أقبية الأمن وانهالوا عليه ضرباً مُبرحاً لحجة غريبة أنه لا يحق له دعم الكثير من الأطفال بدون موافقة أمنية. وحين صرخ محاميه في وجه القاضي: كيف تعذبونه وتضربونه وأنا المُكلف بالدفاع عنه؟ رد القاضي ضاحكاً: بسيطة اعتبرها حفلة استقبال.
أخيراً أحب أن أختم بتلك القصة كنت لا زلت أعمل طبيبة اختصاصية بأمراض العين في المشفى الوطني في اللاذقية حين راجعني طفل في الصف السادس الابتدائي مع والده (هما فقراء) الطفل يشكو أن نظره ضعيف جداً وحين طلبت منه أن يقرأ على لوحة القدرة البصرية لم يرى أي حرف. كان لديه 30 درجة نقص نظر وشبكية عينيه مهددة بالانفصال. وسألته: كيف وصلت إلى الصف السادس وأنت لا ترى أي شيء ( بالكاد يرى اليد على بُعد متر واحد) قال لي ببساطة: دكتورة كل ما أرسب ينجحونني لأنه ممنوع الرسوب في المرحلة الإبتدائية.
لكن سوريا بخير. لافته تجدها حال دخولك الأراضي السورية وترافقك العبارة حتى اللانهاية .