إني فتحت لموطني شباك جرحي..
حوار على قارعة الوجع الفلسطيني، ذلك الوجع الممتد منذ قدوم أول محتل!!..
نقاش بدأ بحديث الساعة (فايروس كورونا) وسلالته المتحورة في الهند، تلك البلد التي تكاد تشاهد فيها المرض وهو يتجول في الشارع كشخص عادي، والتي ربما باتت الآن الدولة الأولى في عدد السكّان. وهنا تفرّع الحديث عن التعداد السكاني، فالصين التي تتصدر القائمة رسمياً، ربما تتجاوزها الهند، فهناك الملايين منها غير مقيدين في سجلات الدولة. والصين نفسها هناك فيها من هو غير مقيد بسجلات الدولة المدنية، أدرجت مثال لصديقي: أن أحد التجار الذي يستورد البضائع الصينية، ذهب لاستلام بضاعته فاصطحبه مسؤول الشركة الصينية إلى قرية بعيدة، حيث سكان تلك البلدة يعملون على صناعة ذلك المنتج، فسأله التاجر، لماذا لم تصنعوها بالمصتع الخاص بكم؟!.. فأجابه: إن هذه القرية بعيدة وسكانها غير مسجلين بكشوفهات الدولة، لذلك فهم أدنى أجراً، و نبتعد عن أعين الضرائب!!.. وهناك مئات الألوف أيضاً من اللاجئيين الذي تحولوا إلى لاجئين غير مقيدين!!.
يقول لي صديقي أن هذا يحصل في كل مكان، فقد كان سكان مخيم إربد للاجئين الفلسطينيين، يقومون بعمل مشابه بالإتفاق مع التجار، مثل فرط جوز القلب، وتغليف السكاكر، وتربيط المكانس، وصنع أكياس الورق، وتجميع ملاقط الغسيل.. إلخ.. وبدأت الذاكرة تتفرع، تأخذنا إلى تفاصيل الوجع الفلسطيني عنوةً.. بعد أن تطرقنا لمعاناة الناس من جائحة كورونا.. ومعاناة حتى التجار، استعدنا زمن بقجة الأونروا، وبُقج سوق البالة الأرخص، والتي في متناول اليد.. مستذكرين، كيف أن أحد أقاربه وجد في بقجة البالة، التي اشتراها، بطاقة لسيدة ألمانية، كتب عليها : ” من يريد مساعدة الإتصال على هذا العنوان”، وكتبت عنوانها عليها، فاحتفظ بها ذلك الشخص.
يروي صديقي، متوغلاً في تفاصيل النكبة الأبشع في هذا العالم والمستمرة تفاصيلها حتى هذا اليوم.. أن قريبه هذا وهو من المهجرين، لم يتحمل صفة اللاجئ الجديدة التي بدأت جماهير المهجّرين تُوصف بها، فقرر التسلل والعودة إلى البلاد.. بعد أن تجاوز النهر، وتوغل غرباً، تم اعتقاله في احدى المدن الفلسطينية العربية، ومكث في السجن مدة من الزمن، وكان حينها (الحابل داخل بالنابل)، والمعظم من العرب الفلسطينيين ،في الأراضي المحتلة عام 48، وحتى اللاجئين في مناطق الشتات ليس لديهم هوية، فكان الكيان الصهيوني يريد حلاً لعدم ازدواجية الجنسية ومخرجاً لكل من يقيم على أرض فلسطين المحتلة عام 48، فأجبرهم على الجنسية الإسرائيلية، وحصل هذا الشخص المتسلل على الجنسية بعد خروجه من السجن!.
يأتي صوت محمد عبد الوهاب بأغنيته التي لحّنها هو وكتبها الشاعر أحمد رامي:
” يالوعتي ياشقايا ياضنى حالي
ضاع الأمل من هواي وانشغل بالي
جاد الزمن بالتلاقي من بعد طول البين
لقيت حبيبي رعاني والعين تناغي العين
بين الجناين قابلته وكنت حيران عليه
وحنّ قلبي طاوعته ورحت مايل إليه
وكان سلام التلاقي أصبح سلام الوداع.”
يأتي الصوت متجاوزاً لخط الهدنة الذي يفصل أرضنا عن أرضنا، عبر أثير تردده 48 هيرتزل.. يذكرنا بلوعة الفراق وذل اللجوء، يأتي طارقاً جدران الخيمة وألواح الزينكو، لاحقاً واصلاً صميم القلب.. تلتف حوله ملايين الأذان تنتظر رسائل الأهل والأحباب من كل مكان.. منتهية تلك الرسائل والدموع تملأ المأقي بـ ” إحنا بخير.. طمئنونا واطمئنوا”
العلاقات مقطوعة بين الكيان الصهيوني والمحيط العربي، وخط الهدنة اللعين يرتسم مقسماً أرضنا الى شطرين، أحدهما محرم تختبئ به كل قذارة العالم وإمبرياليته واستبداده بدءً من الكيان الصهيوني الذي جاءت به بريطانيا مروراً بأمريكا وانتهاءً بجميع دول العالم التي صوّتت على ضياع فلسطين وإحلال الإحتلال.. وآخرين يعيشون جرائر النكبة. تقطعت أوصال الشعب الواحد ولم يعد أحدٌ قادراً على الوصول للأرض السليبة أو لأقربائه وأحبائه وأصحابه الذين حال خط الهدنة بينهم.. كانت الإذاعات وبرامج رسائل شوقها، عندما ينبعث منها “وسلامي لكم يا أهل الأرض المحتلة يا منزرعين بمنازلكم”، هي الوحيدة التي كان يتم التواصل بين أبناء الشعب الواحد من خلالها.. إلى جانب بوابة ماندلباوم، وهي عبارة عن حاجز سابق بين الجانب الصهيوني و الجيش الأردني الذي لا يزال في القدس عقب النكبة واستمرت هذه البوابة ما بين أعوام 1949 حتى 1967، وتقع إلى الشمال مباشرة من الطرف الغربي للبلدة القديمة في القدس وعلى طول الخط الأخضر، وقد أصبحت البوابة رمزاً لحالة تقسيم المدينة. تمت تسمية هذا المعبر على اسم منزل ماندلباوم، وهو مبنى مكوّن من ثلاثة طوابق كان موجوداً في هذا المكان من عام 1927 إلى عام 1948 .. وتم بناء المنزل من قِبل تاجر يهودي يُدعى سيمحا ماندلباوم، والذي قام بتربية أطفاله العشرة في المدينة القديمة، ولكنه احتاج إلى منزل أوسع لاستيعاب أبنائه المتزوجين وضيوفه. وبدلاً من البناء في المناطق الأكثر سكاناً مثل شارع يافا أو رحافيا، اختار أن يبني المنزل على قطعة أرض في نهاية شارع شموئيل هانافي، بالقرب من موقع الجدار الثالث الموجود منذ وقت الملك أغريباس. وعلى الرغم من أن ماندلباوم أراد أن يكون قدوة لباقي اليهود للبناء في هذه المنطقة وتوسيع الحدود الشمالية للقدس.
كانت هذه هي البوابة الوحيدة ونقطة العبور الوحيدة التي كان مسموح بها مرور البعثات الدبلوماسية بين شطري فلسطين.. ومن لقاء أبناء الشعب الواحد من تقطعت بهم الأوصال من دون أن يلمس أحدهم الأخر!!.
نعود الى ذلك اللاجئ المتسلل والذي اختار البقاء في فلسطين المحتلة، أرضه وأرض آباءه وأجداده، رافضاً أن يتم وسمه بـ (لاجئ)، حاول هذا الشاب عبثاً الوصول إلى أهله اللاجئين في مخيم إربد شمالي الأردن، وانعدمت السبل أمامه، فتذكر البطاقة التي عثر عليها في بقجة البالة للسيدة الألمانية والتي ظلّ محتفظاً بها، و قرر أن يحاول التواصل مع تلك السيدة لعل وعسى أن تكون صادقة، أرسل لها رسالة، شرح بها حالته وصعوبة الوصول الى أهله بعد أن فرقهم الإحتلال، وطلب منها أن تكون محطة بريد لاستقبال وإرسال الرسائل الخاصة به بينه وبين أهله، وأن تحول لهم مبلغ معين كل شهر مقابل أن يردها لها، وبالفعل تم التواصل واستجابت تلك السيدة الألمانية لطلباته وأصبحت أحد مكاتب البريد للاجئيين الفلسطينيين!.
يبدع اللاجئ الفلسطيني، دائماً، في الخروج من المازق الذي فرضه الإحتلال كأمر واقع، فنحن نحب الحياة ماستطعنا إليها سبيلا!!.. يقول صديقي الذي عايش جزء من تفاصيل تلك المرحلة، أن اللاجئين في خيامهم والذين لهم أقارب في أراضينا المحتلة عام 48 تمكّنوا من اختراق خط الهدنة واختراق الفصل الذي فرضه الإحتلال على أبناء الشعب الواحد، بأنهم كانوا يرسلون رسالتين (رسالة تُغّلف رسالة)، الرسالة العلوية تكون لدولة محايدة لها علاقات مع الإحتلال مثل قبرص أو اليونان، ويتم فتحها بالبريد هناك في تلك الدولة ويكون بداخلها رسالة أُخرى للعنوان المطلوب في أراضينا المحتلة عام 48.. وهكذا كان يتم إرسال واستقبال الرسائل..
في تفاصيل أخرى عن بوابة ماندلباوم… خلال الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، وقف منزل ماندلباوم بين الأحياء اليهودية والمنطقة التي تقع تحت السيطرة الأردنية. وتخلت أرملة ماندلباوم، إيستر ليبا، وأعضاء أسرتها عن المنزل بموجب إخطار من قِبل الهاغانا. بعد ذلك، استولت مجموعة الهاغانا على المبنى وصدت الهجمات الأردنية في الأحياء المجاورة حتى تم التوقيع على وقف إطلاق النار. وخلال هذه الفترة، كان سطح المنزل “محمياً” بواسطة قطع خشبية مطلية مصممة لتبدو من الأعلى مثل المدافع المضادة للطائرات. ووفقاً لاتفاق الوضع الراهن، ظل المنزل على الجانب المُحتل من المدينة. وفي يوليو عام 1948، هاجم الجيش الأردني المسيطر حينها على تلك الأحياء المنزل بكمية ضخمة من المتفجرات وانهار المبنى وبداخله 35 عضواً من الهاغانا. وبقي جزء من الجدار الأمامي مع بوابة مدخل المنزل حتى العام 1967 كنصب تذكاري لتقسيم القدس. وخارج هذه البوابة، كان يوجد المعبر الرسمي بين إسرائيل والأردن.
بعد بضعة أيام من حرب الأيام الستة، واحتلال القدس في يونيو عام 1967، أرسل المسمى بعمدة المدينة الصهيوني تيدي كوليك معدات ثقيلة لهدم ما تبقى من منزل ماندلباوم. “عندما سأله أحد الصحفيين لماذا قمت بهذا الفعل، على الرغم من أن سلطاتك ربما لا تسمح باتخاذ مثل هذا القرار، أوضح أن هذه الفترة كانت فترة فوضى من حيث توزيع المسؤولية، وأنه لم يرد أن يترك هذا المعلم الجغرافي وجعل المنطقة بلا صاحب )مهجورة ). وكان يجهل تماماً قصة المنزل، باستثناء معرفته ببوابة ماندلباوم. وعندما سُئل عما إذا كان يعرف من هو ماندلباوم، هز كتفيه وأجاب: ” أعتقد أنه طبيب ألماني”.