مريم جمشيدي
ترجمة: محمود الصباغ
لقد تلاعبت الدولة بقواعد الاشتباك لخدمة مشروعها الاستعماري في فلسطين. ويجب على الفقهاء القانونيين مواجهة الحقائق وجهاً لوجه
انتقد الباحث القانوني ناز. ك. موديرزاده، في مقال له نُشر في الشتاء الماضي في مجلة القانون الدولي التابعة لجامعة هارفارد Harvard International Law Journal، الباحثين المعاصرين الذين يعملون في مجال قوانين الحرب، مشيراً إلى أن أبحاثهم تقع في مطارح” بعيدة ومجردة”، وتخلوـ غالباً، من أي سياق سياسي أو خلفية تاريخية على حد سواء، و يؤكد موديرزاده، متأسفاً، أن مثل هذه الدراسات “لا تشير إلى.. الناس، ولا إلى تجربتهم في الحرب، ولا إلى مسؤوليتنا السياسية عن الحرب التي [يعيشونها]، أو لإدراكنا الأساسي والبسيط لكيفية تعامل القانون الدولي معهم وكيف ينبغي أن ينظر لهم”. ويناشد موديرزاده، إزاء هذا الوضع، المختصين أن يباشروا في لأعمال كتابية أكثر “عاطفية” “تعكس نوعاً من موقف أخلاقي، وتبدي استعداداً بأن تأخذ على عاتقها الأخلاقيات المهنية والأخلاقية على محمل الجد من خلال الكتابة عن القانون الدولي والحرب على الجماهير التي لديها القدرة على اتخاذ قرارات بشأن الحرب”. وآمل بدوري، هنا، أن استجيب لما دعا إليه موديرزاده وذلك على خلفية الهجوم الإسرائيلي الجديد ضد الفلسطينيين في غزة، بحيث أتمكن من الحديث عن التوظيف الإسرائيلي الشديد للقانون الدولي، ليس من موقع الحياد الأكاديمي، بل من داخل سياق استعماري جعل من جرائم إسرائيل المتكررة في غزة، وكذلك في باقي فلسطين التاريخية، أمراً ممكناً. إذ لطالما كان هذا الواقع -أي واقع أكثر من سبعين عاماً من الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي والتطهير العرقي – واضحاً تماماً للفلسطينيين أنفسهم، وللباحثين الفلسطينيين، وكذلك للإسرائيليين، الذين يدعم الكثير منهم هذه السياسات. لقد بدأ مثل هذا الحديث، في الولايات المتحدة، يشق طريقه الآن داخل المناقشات الإعلامية الرئيسية عن فلسطين. بيد أن معظم التحليلات القانونية الغربية عن العنف الإسرائيلي في غزة ما زالت تتجاهل هذه الخلفية الاستعمارية، فضلاً عن تجاهله للطبيعة المناهضة للاستعمار التي تتبناها المقاومة الفلسطينية في مواجهة هذا العنف. ويعدّ مثل هذا السياق هام وحيوي لفهم تلاعب الحكومة الإسرائيلية بالقانون الدولي بما بجعاها تتهرب من التزاماتها الإنسانية في غزة وتمارس عمليات القتل ضد الفلسطينيين الذين يعيشون في القطاع المحاصر.
الهجوم على غزة، من جديد
سوف يكون من لضروري وضع الأزمة الحالية في سياقها من أجل تقدير الانحرافات القانونية التي تقوم بها إسرائيل وعلاقة ذلك بمشروعها الاستعماري. كان الدافع المباشر للهجوم الأخير على غزة هو ما قامت به إسرائيل في القدس الشرقية المحتلة خلال الأسابيع القليلة الماضية. فقد داهمت الشرطة الإسرائيلية المسجد الأقصى في شهر نيسان\ أبريل الماضي، والذي يعد ثالث أقدس موقع في الإسلام، وتصادف ذلك مع الأيام الأولى من شهر رمضان، ثم قامت قوات الشرطة بمحاصرة ساحة باب العامود، وهي مكان تجمع شعبي -مما حد بشدة من المساحات العامة المتبقية للفلسطينيين في المدينة. كما انضمت السلطات الإسرائيلية إلى مجموعات المستوطنين الإسرائيليين اليهود التي حاولت إخلاء وتهجير العائلات الفلسطينية التي تعيش في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية. وقامت القوات الإسرائيلية، طيلة نيسان \ أبريل وأوائل أيار\مايو بالتضييق على هذه العائلات المستهدفة وقمعت، بوحشية، الاحتجاجات والاعتصامات التي نُظمت في الشيخ جراح لدعم جهود الفلسطينيين للبقاء في منازلهم. ومع استمرار عمليات القمع هذه، صعّدت القوات الإسرائيلية الأحداث بشكل أكبر، ابتداءً من يوم السابع من أيار\ مايو، واستمرت طوال الأيام الأخيرة من شهر رمضان، من خلال مهاجمة المسجد الأقصى مرة أخرى، حيث أطلقت القنابل الصوتية والرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع، بما في ذلك المصلين داخل المسجد. وأثارت هذه الأحداث المختلفة مجتمعة احتجاجات تضامنية نظّمها الفلسطينيون عبر فلسطين التاريخية. وعلى الرغم من صعوبة تحديد التاريخ الدقيق، يبدو أن هذه المظاهرات قد زادت بشكل كبير في أوائل أيار\ مايو، قوبلت هذه المظاهرات برد عنف ومميت على يد الشرطة والقوات العسكرية الإسرائيلية، بالإضافة إلى المجاميع المسلحة من المستوطنين الجوّالين، واشتمل الرد أيضاً على اقتحام المنازل، والقيام بحملة اعتقالات، في الضفة الغربية وكذلك في مدن مختلفة داخل إسرائيل نفسها. قامت حماس( التي فازت بالسلطة السياسية في غزة في انتخابات العام 2006) في الرابع من أيار\ مايو بتحذير للحكومة الإسرائيلية من مغبة استمرارها في مهاجمة ضد المواطنين الفلسطينيين لأنها سوف تواجه مقاومة مسلحة. لكن إسرائيل لم تصغ للتهديد فما كان من حماس إلا أن أطلقت يوم العاشر من أيار\ مايو ( بعد أيام قليلة فقط من تحذيرها إسرائيل)، صواريخها البدائية غير الموجهة على إسرائيل. وتشير المعطيات الميدانية إلى تصدي منظومة القبة الحديدية الدفاعية لمعظم هذه الصواريخ، وقامت إسرائيل بقصف غزة بتكنولوجيا عسكرية متقدمة. وأسفرت الأحداث التي استمرت حتى العشرين من أيار \ مايو إلى مقتل نحو 243 فلسطينياً، من بينهم 66 طفلاً. كما أدى العنف الإسرائيلي إلى إصابة ما يقرب من 1،900 فلسطيني وتشريد 90،000 من سكان غزة. وكانت صواريخ حماس قد قتلت 12 إسرائيليا بينهم طفلان.
غير أن هذا ليس كل الحكاية، فحتى هذه الأحداث الأخيرة لا تروي القصة كاملةً. حيث يتطلب فهم العنف الإسرائيلي داخل غزة اليوم منظوراً أوسع لفهم كيف يمكن للاحتلال والاستعمار أن يحوّل المنطقة إلى موقع متطرف لعنف الدولة الإسرائيلي.
وبالعودة إلى الوراء، نعلم أن المجتمع الدولي أقرّ، منذ حرب الأيام الستة عام 1967، بأن إسرائيل تحتل غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية. وبالنظر إلى الطبيعة الأوسع وغير المحددة لهذا الاحتلال – بما في ذلك المستوطنات الكبيرة في القدس الشرقية والضفة الغربية – فقد بدأ مسؤولو الأمم المتحدة في الإشارة إلى هذه الاحتلال على أنه “احتلال بطريقة الضم”. وبينما تؤكد إسرائيل أن احتلالها لغزة انتهى بانسحاب المستوطنات من هناك في العام 2005، فمن الواضح أن هذا الادعاء يرفضه المجتمع الدولي وتكذبه الحقائق المفرطة على الأرض. كما أن حماس تحتفظ هناك بسلطة سياسية اسمية لا غير، بينما لاتزال السيطرة الفعالة على المنطقة بيد إسرائيل، وأكملت الحكومة الإسرائيلية احتلالها لغزة بفرض حصار اقتصادي وعسكري عبى القطاع منذ العام 2007 والذي مازال مستمراً حتى يومنا هذا، فضلاً عن السيطرة على حدود غزة الجوية والبرية والبحرية، وبالتالي، تهيمن إسرائيل على جميع جوانب الحياة الفلسطينية في غزة، بدء من الغذاء والدواء إلى الكهرباء. ونتيجة لهذا الاحتلال والحصار، حولت إسرائيل غزة فعلياً إلى “سجن شديد الحراسة” غير صالح للعيش حسب تقارير الأمم المتحدة 2020. ويعيش داخل هذا السجين، أي قطاع غزة، ما يقرب من مليوني فلسطيني في مساحة تبلغ 260 كلم مربع فقط، مما يجعله واحداً من أكثر مناطق العالم كثافةً بالسكان. وتعود هذه الكثافة بأسبابها إلى الاحتلال الإسرائيلي والحصار الحالي – فمغادرة القطاع تبدو شبه مستحيلة- بالإضافة إلى التطهير العرقي الذي قامت به إسرائيل في حرب 1947-1948 التي خاضتها القوات الإسرائيلية ضد السكان الفلسطينيين الأصليين وحلفائهم العرب، وقد كان الهدف من تلك الحرب تأمين أكبر مساحة ممكنة من فلسطين التاريخية بأقل عدد ممكن من الفلسطينيين من أجل دولة إسرائيل المستقبلية. ولتحقيق ذلك اتبعت القوات الإسرائيلية، كما يوضح المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، سياسة رسمية للتطهير العرقي وتشريد السكان الأصليين، نتج عنها فرار حوالي 80% من الفلسطينيين من منازلهم، لجأ جزء كبير منهم إلى غزة التي وقعت تحت السيطرة المصرية بعد الحرب. وهناك، اليوم، ما يقرب من 1.4 مليون فلسطيني في غزة – حوالي 70 في المائة من سكان القطاع – هم من اللاجئين أو أحفاد اللاجئين الذين شردتهم سياسات الإقصاء الإسرائيلية هذه.
ومازالت إسرائيل تمارس سياسات الإخضاع ضد الفلسطينيين حتى يومنا هذا، وقد وثّقت العديد من المنظمات – الفلسطينية (بما في ذلك مؤسسة الحق، من بين عدة منظمات أخرى)، والإسرائيلية (بتسيلم)، والدولية (هيومن رايتس ووتش) – السياسات التي اتبعتها الحكومة الإسرائيلية بشكل منهجي للفصل العنصري المتمثلة في عزل الفلسطينيين وتمييزهم عن منازلهم وتهجيرهم. عبر كل فلسطين التاريخية لعقود. ولعل هذه السياسات الإسرائيلية، من قهر وتطهير العرقي، تظهر في أكثر صورها بشاعة على الإطلاق في قطاع غزة. وكان مجلس الوزراء الإسرائيلي قد نظر، في العام 1969، في خطة لنقل الفلسطينيين من غزة إلى باراغواي، بينما أعلن اسحق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، في العام 1992، عن أمله في ” رؤية غزة تغرق البحر” (ومع ذلك ينظر البعض داخل إسرائيل إلى رابين على أنه من رجال السلام). ويبدو أن حلم رابين الوحشي تحول في العام 2007 إلى سياسة دولة إسرائيل. وقد عملت إسرائيل، كجزء من حصارها لغزة، بشكل هادف للتأثير سلباً على صحة ورفاهية سكان القطاع. وهي تراقب وتسيطر، استكمالاً لهذه الجهود ولحلم رابين، على السعرات الحرارية التي يحصل عليها الفلسطينيون في غزة، مما تسبب في سوء تغذية مزمن (ومتعمد) للسكان هناك. وارتفعت معدلات وفيات الأطفال حديثي الولادة في غزة سبع مرات عن مثيلها في إسرائيل بسبب الحصار. كما منعت السلطات الإسرائيلية بشكل منهجي من دخول المعدات الطبية والأدوية الحيوية، بما في ذلك لقاحات COVID-19، وجعلت من المستحيل، تقريباً، على الفلسطينيين في غزة المغادرة لتلقي الرعاية الطبية في مكان آخر. وهذا الوضع يجعل “الوقاية والعلاج والإدارة.. والأمراض المزمنة أصعب بكثير ويتسبب في حالات لا يمكن تجنبها من العجز والموت” على حد قول طبيب يعمل في غزة. لكن ، كل هذا لاشيء إزاء المجازر الشاملة التي ارتكبتها إسرائيل في غزة – بما في ذلك هجوم الأخير، بالإضافة إلى الهجمات الضخمة الأخرى التي شنتها في الأعوام 2008 و 2012 و 2014 -، فقد أدت هذه المذابح إلى سقوط آلاف القتلى مما جعل الهجوم الإسرائيلي على حياة الفلسطينيين في غزة أكثر وضوحاً وتأثيراً من غيره. وتشترك سلسلة الحروب الطويلة، من نواحٍ مختلفة، ضد غزة في الكثير من القواسم المشتركة مع الحروب الاستعمارية التي شنتها القوى الإمبريالية الأوروبية في القرن التاسع عشر – بما في ذلك التلاعب القانوني الذي تقوم به إسرائيل لتبرير وشرعنة هجماتها ضد الفلسطينيين.
إعادة كتابة إسرائيل لقوانين الحرب
يتمتع هذا المنظور التاريخي بأهمية قصوى لفهم الطريقة التي تجنبت بها إسرائيل القانون واستغلته في الوقت نفسه لتسهيل استخدامها العنف ضد، فهي أنكرت، من ناحية، أن أفعالها في غزة ينطبق عليها قانون الاحتلال – وهو فرع من فروع القانون الدولي الإنساني يتضمن معايير حقوق الإنسان ويتألف من أحكام من اتفاقية لاهاي للعام 1907 ، واتفاقية جنيف الرابعة للعام 1949، والبروتوكول الإضافي الأول للعام 1977 -، واعتمدت، من ناحية أخرى، على الحجج الاستعمارية حول قوانين الحرب لتبرير أفعالها ضد الفلسطينيين في غزة. وحاولت إسرائيل، من خلال هذه الجهود، وضع علاقتها بغزة ضمن نموذج الحرب، مما يتيح لها مرونة أكبر بكثير مما كانت ستحصل عليه بموجب قانون الاحتلال في حال انخراطها في هجمات عسكرية واسعة. ويُنظر إلى المزاعم الإسرائيلية بشأن الدفاع عن النفس كمثال بارز على ديناميكيات الجهود هذه. وتذرعت إسرائيل مراراً، في سعيها لتبرير هجومها الواسع على غزة، بحق الدفاع عن النفس، الذي تعترف به المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وفي إطار القانون الدولي اللذان يسمحان للدول بحق الدفاع عن النفس ولكنه حق مشروط ومشروط بعدم إطلاق العنان للقوة العسكرية ضد دولة أخرى. وثمة، هناك، العديد من المشاكل في الحجة الإسرائيلية للدفاع عن النفس فيما يتعلق بغزة. فأولاً، حق الدفاع عن النفس، كما أكدت محكمة العدل الدولية، يكون فقط موجّه من دولة ضد دولة أخرى. ولا تتفق إسرائيل والولايات المتحدة مع هذا الرأي، بينما يؤيد آخرون موقف محكمة العدل الدولية، ولا تزال دول أخرى تتخذ رؤية وسطاً. وعلى الرغم من أن القضية لا تزال غير محسومة، إلا أن ثمة سلوكاً ما انفك راسخاً، جزئياً، في ممارسات الدول الاستعمارية الأوروبية يتيح استخدام الأعمال عسكرية ضد الجهات الفاعلة غير الحكومية بذريعة حق الدفاع عن النفس. فعلى سبيل المثال، يمكن النظر في القضية المعروفة باسم قضية [السفينة] كارولين في العام 1837، عندما هرب المتمردون الكنديون، الذين كانوا يقاتلون ضد الحكم الاستعماري البريطاني، ولجأوا إلى الولايات المتحدة، فطاردتهم القوات البريطانية داخل الأراضي الأمريكية، حيث هاجمت السفينة كارولين التي يستخدمها المتمردون وأنصارهم، وزعم البريطانيون، حينها، أنهم كانوا يتصرفون وفقاً لمبدأ الدفاع عن النفس في سياق تبرير أفعالهم للحكومة الأمريكية. وغالباً ما يتم الاستشهاد بهذه القضية، المنغمسة في المصالح الاستعمارية للتاج البريطاني، لتبرير الزعم الذي يسمح للدول، في ظروف معينة، مهاجمة الجهات الفاعلة غير الحكومية المقيمة على أرض ذات سيادة أخرى. وبدى هذا الزعم صحيحاً لاسيما منذ هجمات 11 سبتمبر / أيلول 2001، عندما تحول حق الدول في الفاع عن نفسها ضد الأطراف الفاعلة غير الحكومية ضرورة ملحة متزايدة. كان للضغط الذي أعقب 11 سبتمبر، مثلما كان عليه الحال في قضية كارولين، للاعتراف بمثل هذا الحق أصداء استعمارية. وفي حين تم تأطير الرد على 11 سبتمبر على الفور من منظور الحرب والدفاع عن النفس، فإن قرار تبني مثل هذا الإطار، يعكس، كما يرى أنتوني أنغيه، وجهة النظر القائلة بأن “تهديد الإرهاب لا يمكن معالجته إلا من خلال إعادة بناء نظام إمبريالي جديد “. ويمكن، من خلال تأطير هذه الحرب للدفاع عن النفس، “استبعاد” الإرهابي “، مثل” الآخر” الاستعماري، من مجال القانون، ومهاجمته، وتحريره، وهزيمته، وتحويله – وهي النتائج التي ظهرت بوضوح من خلال إنشاء نظام الاعتقال العسكري في خليج غوانتانامو ، فضلاً عن سياسات الولايات المتحدة الأخرى لمكافحة الإرهاب. ولكن حتى لو كان هناك حق في الدفاع عن النفس ضد الجهات الفاعلة غير الحكومية الموجودة على أراضي دولة أخرى تمثل طرفاً ثالثاً، فهذا الحق لا ينطبق، على الأقل بمعناه التقليدي، ضد الجماعات التي تخضع لسلطة احتلال الدولة التي تتذرع بهذا الحق. وعلى الرغم من أن بعض قضاتها خالفوا هذا الموقف، إلا أن محكمة العدل الدولية رفضت في رأي استشاري صدر في العام 2004، حجة إسرائيل بأنها يمكن أن تتذرع بحق الدفاع عن النفس ضد الشعب الفلسطيني. كما رأت المحكمة، لأن إسرائيل تمارس سيطرتها على الأراضي الفلسطينية والتهديد المزعوم لها “ينشأ من داخل تلك الأرض وليس خارجها”، وبالتالي لاينطبق عليها مبدأ حق الدفاع عن النفس. وتوسعت نورا عريقات الباحثة القانونية والمحامية في مجال حقوق الإنسان مع آخرين بهذا الوضع بالقول أن قانون الاحتلال يقتضي أن تدافع قوات الاحتلال عن نفسها من خلال استخدام سلطات الشرطة التقليدية. وسلطة الشرطة هذه “مقيدة بأقل قدر من القوة اللازمة لاستعادة النظام والسيطرة على العنف”. وبرغم وجود بعض المواقف التي يمكن فيها استخدام العنف المميت، إلا أنه عليه أن يكون “تدبير الفرصة الأخيرة”. وبينما يجوز السماح باستخدام القوة العسكرية في ظروف استثنائية، فيجب “تقييدها بالاهتمام بالسكان المدنيين غير المقاتلين”. وكما يجادل عريقات، فإن استخدام إسرائيل لحق الدفاع عن النفس بصوره الأكثر اتساعاً قد يحمي “سلطتها الاستعمارية”، لكنه يأتي على “حساب حقوق المدنيين غير المقاتلين” بموجب قانون الاحتلال.
تلاعب إسرائيل بالقانون الإنساني الدولي
يبدو تفسير إسرائيل للقانون الدولي الإنساني له دلالات استعمارية بطريقة مشابهة لمقاربتها لمبدأ حق الدفاع عن النفس. ومن المعروف أن الدول الأوروبية أصرت على أن القانون الدولي الإنساني/ منذ ظهوره في القرن التاسع عشر” لا ينطبق على “غير المتحضرين” -غير الأوروبيين والملونين غير الغربيين – وبالتالي، لا ينطبق على حروب أوروبا بهدف الاستيلاء على أراضٍ أجنبية من خلال احتلالها، وهذا يعني وضع شعوب الجنوب العالمي خارج القانون، مما يعطي المستعمرين الأوروبيين لأنفسهم تفويضاً مطلقاً لشن الحرب كما يحلو لهم ضد هؤلاء السكان. ورغم أن هذا الاستبعاد الصريح لغير الغربيين قد تلاشى خلال القرن العشرين، إلا أن بعض الدول لا تزال تمارسه بأشكال أخرى، وعلى الأخص من قبل الولايات المتحدة في سعيها لسياسات الحرب على الإرهاب. ووسعت الحكومة الإسرائيليةـ أيضاً، الإرث الاستعماري للقانون الدولي الإنساني من خلال إنشاء فئات قانونية جديدة وتفسير عناصر القانون الدولي الإنساني بطرق تهدف إلى منح نفسها سلطة مطلقة لاستهداف السكان الفلسطينيين. ويمكن التعرف على هذه الجهود في كتاب كريغ جونز الجديد(2021) ” محامو الحرب الولايات المتحدة وإسرائيل والحرب القضائية The War Lawyers The United States, Israel, and Juridical Warfare
، والذي يوضح، جزئياً، إلى أي مدى استغلت إسرائيل ومحاميها العسكريون القانون الدولي الإنساني وأعادوا كتابته ليناسب غايات وأهداف إسرائيل الاستعمارية. وكان أول ابتكار رئيسي لإسرائيل هو خلق نوع جديد تماماً من “النزاع المسلح”. يصنف القانون الدولي الإنساني النزاعات المسلحة إلى نزاعات دولية أو غير دولية. ولكن، وكما يوضح جونز، اخترع المحامون العسكريون الإسرائيليون في العام 2000، فئة جديدة أطلقوا عليها اسم “النزاع المسلح دون الحرب” وذلك بهدف إطلاق العنان للقوات العسكرية الإسرائيلية للهجوم ضد الفلسطينيين الذين تحتلهم إسرائيل، وعلى الرغم من أن كتاب جونز لا يفكك السبب المنطقي الأساسي، إلا أن المخطط مصمم، ليعبر عن جهود إسرائيل لاستدعاء حق الدفاع عن النفس، من أجل صرف النظر عن قانون الاحتلال، الذي يضع قيوداً على القوة التي يمكن لإسرائيل استخدامها، والتأكيد بدلاً من ذلك على الفئات الأوسع والأكثر مرونة من القانون الدولي الإنساني التي من المحتمل تطبيقها في حالة النزاعات المسلحة، وتتمحور هذه الفئات حول أربعة مبادئ أساسية: الضرورة العسكرية، التي تقصر الهجمات على أهداف عسكرية بحتة؛ التمييز، الذي يسمح فقط للمقاتلين والأشخاص العسكريين بالقيام بعمليات هجومية ويتطلب تمييزهم عن المدنيين والأطراف المدنية؛ التناسب ، الذي يحظر الهجمات التي قد تسبب خسائر غير متناسبة أو مفرطة للمدنيين أو الأطراف المدنية مقارنة بالميزة العسكرية المتوقعة للهجوم؛ الإنسانية، والتي تعني هنا حظر المعاناة أو الإصابة أو التدمير غير الضروري لتحقيق أهداف عسكرية مشروعة. وكما يصف كتاب جونز، أدخل الجيش الإسرائيلي هذه المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني في اختبار من ست نقاط لقتل الفلسطينيين في ظل نظامه المحدد حديثًا “النزاع المسلح دون الحرب”. وينبغي، في ظل هذا الاختبار، استيفاء عدة شروط.
أولاً، يجب أن تكون الميزة العسكرية المكتسبة من القتل متناسبة مع الخسائر المدنية المتوقعة وتدمير أهداف الحياة المدنية.
ثانياً، يمكن فقط استهداف المقاتلين وأولئك المنخرطون في “المشاركة المباشرة” في الأعمال العدائية.
ثالثاً، إذا كان القبض على “إرهابي” مشتبه به أمراً ممكناً وليس قتله، فيجب محاولة اعتقاله [لا قتله].
رابعاً، الالتزام بالاعتقال بدلاً من القتل ينطبق فقط على من هم تحت “السيطرة الأمنية الإسرائيلية”.
خامساً، يجب على وزير الدفاع أو رئيس الوزراء الإسرائيلي تقديم الموافقة قبل الهجوم المخطط له.
سادساً، يجب أن تستهدف الهجمات “الإرهابيين” الذين يخططون للقيام بأعمال عنف في “المستقبل القريب”.
وقد حددت المحكمة الإسرائيلية العليا – الهيئة القضائية العليا في إسرائيل – في العام 2006 اختبارها الخاص لعمليات القتل خارج نطاق القانون التي يرتكبها الجيش، وتبنت هذه الفئات على نطاق واسع. قد يعتقد أحدنا، للوهلة الأولى، أن هذه الأطر\الاختبارات تتوافق مع التزامات إسرائيل لقانون الاحتلال. حيث يبدو كأنها تجمع، في نهاية المطاف، بين المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني والالتزام بشرعة حقوق الإنسان بالاعتماد، أولاً وقبل كل شيء، على الشرطة المدنية. ولكن، نظراً لأن إسرائيل تدعي أنها لا تحتل غزة ولا تسيطر فعلياً على القطاع، فإنها لا تعتبر نفسها ملزمة، على الإطلاق، بأعراف الشرطة. و كما يوضح كتاب جونز-من جديد- تتضمن أطر الاختبار على عدد من المشكلات الأخرى عند النظر إليها بمقتضيات قوانين الحرب، بما في ذلك اعتماد تعريف فضفاض لما يعنيه العنف المخطط له في “المستقبل القريب” (وهي نقطة أوضحتها عريقات أيضاً). لكن ربما يكون الجانب الأكثر إشكالية في سياسة القتل خارج نطاق القضاء الإسرائيلية هو تعريفه “للمشاركين المباشرين”، فضلاً عن وجهات نظره الأكثر عمومية حول من يعتبر مقاتلاً في غزة، فهؤلاء “المشاركون المباشرون” لا يشملون، من وجهة نظر إسرائيل كما يوضحها جونز، القادة والقادة وجنود المشاة فحسب، ولكن يضاف إليهم، حسب قرار المحكمة العليا الإسرائيلية للعام 2006 ، أي شخص يقدم “الدعم” لهؤلاء الأفراد.، ويمكن أن يشمل هذا الدعم، حسب جونز، مجموعة من الأنشطة، من شخص يعمل ببساطة كناشط سياسي مؤيد لحماس إلى أولئك الذين يقدمون “الدعم السياسي أو الديني” للجماعات التي تصنفها إسرائيل على أنها أعداء.
تقوم قاعدة تصنيف المقاتلين وتتعزز وتتوسع من خلال منهج قواعد الاشتباك الإسرائيلية – التي يعرّفها القانون الدولي الإنساني والتي توفر إرشادات أكثر تحديداً للقادة والجنود حول متى يمكن استخدام القوة -. صدر في العام 2005 عن منظمة “كسر جدار الصمت”- المؤلفة من جنود إسرائيليين متقاعدين في الخدمة الفعلية وكشفوا جرائم إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة – تقريراً يوضح تفاصيل قواعد الاشتباك للهجوم الإسرائيلي الكبير الأخير على غزة في العام 2014. ووفقاً لذلك التقرير، قال الجنود الإسرائيليون عنه ” أوامر قادتهم بالتعامل مع جميع الفلسطينيين في مناطق القتال على أنهم تهديد محتمل، سواء كانوا يلوحون بالسلاح أم لا. فالأفراد الذين تم رصدهم في النوافذ والأسطح – خاصة إذا كانوا يتحدثون على الهواتف المحمولة – غالباً ما يُنظر إليهم على أنهم وحدات استطلاع ويمكن إطلاق النار عليهم”.
ربما يكون هذا التعريف الواسع للمقاتلين هو الطريقة الأكثر وضوحاً لمواءمة مقاربة إسرائيل القانون الدولي الإنساني مع النهج الاستعماري. كما يلاحظ فريديريك ميغري: يمكن القول في هذه المرحلة أن التمييز الذي تم إلغاؤه على مستوى القواعد العملياتية الفعلية للحرب يطل برأسه من جديد ليضع نفسه في قلب حرب القوانين. ويتحول سؤال “كيف يجب أن يتعامل المرء مع” المتوحشين “في الحرب؟” ليصبح “من هو المقاتل؟” (والإجابة الضمنية.. ليست “المتوحش”). وقامت إسرائيل، كجزء من مقاربتها الاستعمارية الموسعة لتعريف المقاتل من غير المقاتل، بتعريف الحياة الفلسطينية نفسها على أنها تهديد محتمل. وهذه السياسة متجذرة في الأيديولوجية الصهيونية، التي تعامل الفلسطينيين كتهديد ديموغرافي لوجود إسرائيل بوصفها دولة يهودية، وقد تم تفعيلها من خلال جهود الحكومة الإسرائيلية المضنية لجعل الهوية الفلسطينية مرادفة للإرهاب – وهي كلمة رئيسية أخرى في اختبار إسرائيل ذو نقاط القتل الستة.
لقد عملت إسرائيل، جاهدةً، منذ أوائل السبعينيات على الأقل، لتحويل “الإرهاب” من مصطلح وصفي محايد لنوع معين من التكتيكات العنيفة إلى سلاح خطابي مشبع معيارياً ومرادفاً للشر غير المقبول والتدمير الوجودي. وكان هدف إسرائيل، كما لاحظ العديد من المختصين، في إعادة توجيه الإرهاب لاستخدامه لنزع الشرعية عن المقاومة الفلسطينية للعنف والاستعمار والاحتلال الإسرائيلي. لقد أصبحت حملة نزع الشرعية هذه تشمل جميع أشكال المقاومة الفلسطينية السلمية والدعوات المطالبة بحقوق الإنسان الفلسطيني. وعلى سبيل المثال، أصرت وزارة الشؤون الاستراتيجية والدبلوماسية العامة الإسرائيلية، في تقرير لها صدر في شباط\ فبراير 2019 على أن الدعوة الفلسطينية السلمية ترقى إلى مستوى الإرهاب في شكل جديد، فيقول التقرير: “ترى المنظمات الإرهابية النضال” المدني “ضد إسرائيل – المظاهرات والمسيرات وجمع التبرعات والضغط السياسي وما يسمى بأسطول” السلام “- على أنه جهد مكمل لهجماتها المسلحة ضد دولة إسرائيل”. وبالنسبة للحكومة الإسرائيلية، لا تعد المقاومة الفلسطينية المسلحة أو السلمية فقط هي التي تمثل شكلاً من أشكال الإرهاب، بل أن الحياة الفلسطينية نفسها ترتبط، بما تسميه مايا مكداشي “البنية التحتية المدنية للإرهاب”، حين كتبت: لستَ مضطراً إلى حمل سلاح في فلسطين لتكون ثورياً أو “عدواً” لإسرائيل. ليس عليك الاحتجاج أو إلقاء الحجارة أو رفع الأعلام لتكون خطيراً. لستَ مضطراً إلى الاعتماد على الأنفاق تحت الأرض للحصول على الغذاء وأدوية السرطان حتى تُعتبر جزءً من البنية التحتية المدنية للإرهاب. فأسهل طريقة لأن تكون تهديداً لإسرائيل هي أن تكون فلسطينياً فقط.
إن الأعداد الكبيرة غير المتناسبة للمدنيين الفلسطينيين الذين قتلوا في أكثر الهجمات الإسرائيلية دموية على غزة هي المظهر الحتمي لهذه السياسات. بلغ عدد قتلى العام 2008، حوالي 759 مدنياً من أصل 1391 قتيلاً فلسطينياً في غزة. وفي العام 2012، قُتل 87 مدنيا من أصل 167 ؛ وفي العام 2014، وصل العدد إلى 1،462 من أصل 2،104. وعلى النقيض من ذلك، قُتل ثلاثة مدنيين إسرائيليين فقط في العام 2008 و أربع في العام 2012، وسيعة في العام 2014 . وأهمية هذه الحقائق واضحة.
الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على سكان غزة جزء لا يتجزأ من الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي وسياسات التطهير العرقي. وتستند إلى وجهة نظر الحكومة الإسرائيلية التي ترى بأن جميع الفلسطينيين، لاسيما من يعيشون في قطاع غزة، يمثلون تهديداً محتملاً أو فعلياً لإسرائيل. وترتكز وجهة النظر هذه على إضفاء الطابع غير السليم، بل المرضي، على الحياة الفلسطينية والتقليل من قيمتها. ويتم كل ذلك من خلال استخدامات وإساءة استخدام شرعنة سلطة القانون.
من غير المقبول لأصحاب الضمير إنكار هذه الحقائق أو تجاهلها – خاصة في الولايات المتحدة ، حيث غذت أموال دافعي الضرائب والدبلوماسية جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين وحمتها من المساءلة لعقود. بات من الواجب علينا، كأميركيين، أن نتحمل مسؤولية تواطؤنا.
العنوان الأصلي: How Israel Weaponizes International Law