وصلت السيارة إلى الحدود اللبنانية السورية الثامنة مساء، تلك الحدود التي تُسمى العريضة، كانت الكاتبة سناء عائدة إلى وطنها سوريا بعد غياب ستة أشهر لدى أسرتها في باريس، ترجل السائق من السيارة ليختم جواز سفر الدكتورة سناء من قسم الأمن على الحدود، لكنه سرعان ما عاد مهرولاً ينزل درجات السلم بشكل مضطرب، انحنى قرب نافذة السيارة وقال لها بصوت مرتجف: قصتك مش خالصة يا دكتورة، الشباب يريدونك شخصياً. تفتق الهلع القديم المُختزن في هيولى خلاياها وغمر جوفها، صعدت الدرج وهي تتحزر ما الموضوع الذي يريدونها من أجله، كان قد سبق لها أن مُنعت من السفر مرتين واستدعيت إلى العديد من أجهزة الأمن مراراً وكل تلك الإجراءات بسبب كتاباتها في الصحف والمجلات، أما هذا الاستقبال الحافل ما أن تدخل الأراضي السورية فلم تتوقعه !تخيلت وهي تقترب من الحاجز أنه لو توجد سيارة تنقلها للتو إلى باريس لعادت فوراً، لكن خيالها اصطدم بمجموعة من الموظفين يطلبون إليها ضرورة والإسراع في مراجعة أمن الدولة والأمن السياسي، تحاول أن تضبط أعصابها وتسأل عن السبب لكنهم يُصرون أنهم لا يعرفون السبب وبأن مهمتهم مجرد إبلاغها، قالت لهم بسخرية واضحة: أهكذا تستقبل سوريا أبناءها بعد غياب طويل، لم يبال أحد بما قالته كأنهم لم يسمعوا، انتظرت حوالي نصف الساعة كي يتم تحضير أوراق مراجعتها لفرعي الأمن، حاولت أن تحزر سبب أو احتمال استدعائها لكنها لم تُوفق، تبخرت فرحة الشوق للعودة إلى سوريا بل لعنت الساعة التي قررت فيها العودة، ومن حدود العريضة حتى مدخل اللاذقية أكثر من أربعة عشرة حاجزاً أمنياً كلهم يرتشون من السائقين، ومن يتجرأ ولا يدفع يفبركون له مخالفة أو يجعلونه ينتظر حتى يدفع، ومن السيارة اتصلت بابن عمها المحامي إذ يستحيل أن تراجع فرع أمن الدولة أو الأمن السياسي من دون توصية ثقيلة العيار بها وإلا يتركونها تنتظر لساعات. طمأنها ابن عمها المحامي اللامع أنه سيتوصى بها وهو الواسع العلاقات والمعارف، فكرت كيف تبددت مشاعرها بين لهفتها وفرحتها للعودة للوطن الأم سوريا وبين المشاعر السلبية الخانقة التي ضغطت على صدرها تكاد تخنقها. يا له من استقبال! أن تعود لوطنك مثخناً بالشوق فيكون الاستدعاء لأجهزة الأمن أول ما ينتظرك! وصلت بيتها الكئيب أحست برغبة في البكاء لكنها لجمتها استنجدت بالدواء المنوم ونامت نوماً مُتقطعاً، استيقظت مبكرة وجسدها يؤلمها وبدأت تجهز نفسها لزيارة فرع الأمن السياسي أولاً كما أخبرها المحامي ثم فرع أمن الدولة، تعجبت ألا يكفي أن يستدعيها فرع واحد! كانت عدة وساطات قد تحركت لمساعدتها حين مثولها أمام المحقق في الأمن السياسي أو أمن الدولة، ومنهم لواء متقاعد تربطها صداقة بابنه، أوصلها نقيب المحامين وابن عمها المحامي إلى مبنى الأمن السياسي وتركاها تجتاز الحواجز الإسمنتية الضخمة وتمشي مسافة طويلة حتى تصل إلى المبنى الخاص الذي سيحقق معها كمجرمة. استقبلها الضابط المحقق في مكتبه مفرط الفخامة بعد أن انتظرت حوالي نصف الساعة في غرفة ضيقة لا أحد فيها، كان الضابط المحقق وسيماً ولبقاً ولم يجلس وراء مكتبه بل جلس مقابلها وبينهما جريدة الحياة الذي نشرت فيه مقالها الخطير والذي تجرأت فيه وتجاوزت الخطوط الحمراء شعرت بالدم يهرب من وجنتيها ودب صقيع ونمل في يديها، وأخذت أسنانها تصطك ببعضها كما يحصل معها في لحظات الذعر القصوى، أشعل سيجارة أنيقة وسألها: هل أنت راضية عن هذا المقال! كيف تجرئين وتمسين شخصية القائد الخالد. جمدها الذعر ولم تستطع أن تدور كلمة واحدة في فمها، تابع الضابط قائلاً: في الواقع أنا لا أصدق أن هذه كتابتك حقاً، لا شك، بل بالتأكيد بعض الأشخاص في الجريدة يتدخلون بكتابتك ويدسون بعض العبارات في مقالاتك أليس كذلك! حدق فيها بنظرة ثاقبة فعرفت ذل الوضاعة والخيانة حين ردت بصوت واهن: ربما. أحضر ورقة وقلماً ووضعهما على الطاولة الصغيرة جانبها وقال لها ستكتبين الآن ما أمليه عليك، لم يكن بوسعها سوى أن تطيع وتعجبت كيف قبضت على القلم وكيف تكتب، وبدأت الكتابة كما يُملي عليها الضابط تماماً بأن تتعهد ألا تكتب في هذه المجلة أبداً وبأن هذه المجلة تدس بعض العبارات المؤذية والتي لم تكتبها هي وبأنها ملتزمة بهذا التعهد مدى حياتها، كانت رواية 1984 لجورج أورويل تحضر بذهنها بقوة لدرجة شعرت أنها تتماهى مع بطل الرواية، قال لها بأن البلاد تمر بمرحلة أزمة خطيرة ومن واجب الجميع مواجهة هذه المؤامرة القذرة على سوريا، شعرت وهو يملي عليها ما تكتبه أن قدماً عسكرية خشنة ووحشية القسوة تسحل عنقها الرقيق وتمنت من كل قلبها لو بقيت في باريس، ما الذي عاد بها إلى وطن الذل وسحق الكرامة، وأي ذل وخنوع يجعلها توافق الضابط بأن تلك الجرائد تدس عبارات في مقالاتها عبارات لم تكتبها هي، صارت تلهث بعبارة: ما أنا سوى حشرة، ما أنا سوى حشرة وهي في حضرة الضابط إذ تعطل عقلها عن التفكير، لكن الذي أذهلها أكثر من موقف الضابط هو موقف والد صديقها الضابط المتقاعد الذي كان يظهر لك كل الود والاحترام لكنه سمح لنفسه أن يصرخ بوجهها ويقول بأن هذه المجلات الحقيرة تدس عبارات في مقالاتها لم تكتبها هي ولدهشتها لم تعترض، لأنها تشعر أنها تعيش في غابة وحوش وهي عزلاء لا معين لها.
وفي فرع أمن الدولة حقق معها الضابط في المقال نفسه فتشجعت وقالت له: لقد حققوا معي في المقال نفسه منذ ساعتين في فرع الأمن السياسي! فقال: نعرف لكن لكي يحصل تطابق، تعجبت من هذا التعبير وسألت: ماذا تقصد بتطابق قال: كي نقارن المعلومات بعضها مع بعض. بعد خمسة أشهر من إقامتها في باريس الحرية ها هي تعود إلى الوطن الحبيب سوريا ليكون أول يوم لها في فرعي أمن الدولة والأمن السياسي، كانت مصدومة صدمة عظيمة لم تعرف كيف تقدرها، لكنها شعرت كأن أحداً قطع يدها اليمنى وعاقبها على كتابتها، كيف يجرؤ مواطن سوري أن يمس شخص القائد المفدى!! أي جنون دفعها كي تكتب مقالاً بعنوان غرفة (لا) حيث تحكي عن تجديد البيعة للرئيس الخالد وكيف كانت توجد غرفتان غرفة نعم وغرفة لا المقفلة دوماً وتساءلت في المقال عن معنى إغلاق باب غرفة (لا) طالما لا أحد يجرؤ على دخولها !هل كانت تتوقع أن يكون الثمن باهظاً وكارثياً لهذه الدرجة بل أكثر ما أطاش صوابها تلك الفكرة الجهنمية بأن صحفيين ومحررين في تلك المجلة التي نشرت مقالها يقومون بتشويه كتابتها ويدسون جملاً لم تكتبها هي. وهي الكاتبة المرموقة التي كتبت أكثر من ستة وثلاثين كتاباً تتحول إلى غنمة في حضرة المحقق في أجهزة أمن الدولة وتُمنع مراراً من السفر ويتم استدعاؤها مراراً إلى الأجهزة الأمنية. أية حياة حقيرة وذليلة هذه ويتشدقون بالحرية والديمقراطية! بينما فر كل المثقفين المُعارضين لسياسة الاستبداد من سوريا، وهي ما الذي يدفعها للعيش في اللاذقية وكل أسرتها في فرنسا حيث بإمكانها أن تنعم بالحرية بلا حدود ولا مُساءلة. لا تملك جواباً سوى الحنين وعشق بحر اللاذقية وأزقتها المفروشة بالقمامة، وها أنت ترين نتيجة العيش على هامش الحرية، مجرد مقال يقيم الدنيا عليك ولا يُقعدها وتُهددين صراحة ويجبرونك على كتابة إملاء بأن كتابتك تخضع للتزوير وأنت عارفة حقارتهم ونفاقهم ومع ذلك تكتبين لأن الخوف يكبلك. وقمة المهزلة أن المحقق في الأمن السياسي قد أعطاها رقمه الخاص كي تتصل به إذا أزعجها أحد! تمنت لو تملك الجرأة وتقول له: لا يزعجني أحد غيركم . الأصدقاء يتوارون ويهربون أمام هكذا مشاكل، لم يتفقدها أحد إلا صديق شهم وذو نخوة زارها حاملاً وروداً حمراء وبيضاء وقال لها: الحمد لله على سلامتك قلقت عليك جداً، اللعنة عليهم هل يُعقل من أول يوم لوصولك وبعد غياب خمسة أشهر أن يستدعيك فرعين من أمن الدولة والأمن السياسي، الله يلعن هذا العيش يا ريت أقدر أن أ هج من هذا البلد، شكرته على الزهور وقبلته من وجنتيه امتناناً ومحبة لشجاعته وشهامته في تفقدها. كانت صداقتهما حديثة العهد لكنه كان شجاعاً وشهماً، تذكرت صديقتها أو من كانت تعتقد أنها صديقة عمرها كيف خذلتها ذلك اليوم المشؤوم حين كانت ممنوعة من السفر ولم يسمحوا لها بالمغادرة وعبور الحدود، عادت مخذولة ومهزومة إلى اللاذقية وتبخرت الدعوة إلى البحرين من قبل وزيرة الثقافة التي كانت تُقيم مهرجاناً ثقافياً في البحرين وكانت هي ضيفة الشرف.
منذ تلك الواقعة التي لم تدرك سناء كم أثرت بها وخربت أعماقها ما عاد باستطاعتها الكتابة، أي ذل أحقر من الإملاء على كاتب بأن يكتب في فرع الأمن بأن مقالاته تتعرض للتشويه والتزوير ويتم دس عبارات مسيئة لسياسة سوريا وللخطوط الحمر، هل تأذت إلى درجة أصابتها حالة من الشلل الفكري والكتابي فما عادت قادرة على الكتابة ولا على القراءة حتى، ما معنى الحياة الكريمة إذاً ! ما معنى حرية التفكير والكتابة ! إنها تعيش في أسوأ وطن في العالم، وطن تحكمه أجهزة الأمن مطلقة الصلاحية يتحكمون بالبلاد والعباد كما يريدون، يمنعونها من الفر ببساطة ويجرجرونها إلى فروع الأمن متى شاؤوا، فما معنى العيش في هذا السجن الكبير، وأي ذل أكبر من أن تجلس في حضرة الضابط يملي عليها ما يريد وهي محوقة الكرامة مدمرة من الذعر تكتب بيد مرتجفة ما يمليه عليها، ثم يعطيها رقم هاتفه الخليوي ويقول لها: إذا أزعجك أحد خبريني سأساعدك فوراً ! هل أكثر من هكذا وقاحة أو جنون! ومن يزعجها غيرهم غير أجهزة الأمن التي تسببت لها بصدمة نفسية عظيمة هي نفسها لم تعرف مقدارها، بأية نفسية سوف يبدع الكاتب في وطن مثل سوريا حيث يتم الإملاء على الكاتب ما يكتبه ويُسجن ويمنع من السفر ويتعرض لكل أنواع المضايقات الشديدة. خرجت من مبنى الأمن دائخة لا تعي شيئاً لا الزمان ولا المكان وتعطل تفكيرها من هول الذل والصدمة، في الواقع كانت تتوقع كل شيء ما عدا ظاهرة الإملاء. ولمع وجهه بذهنها صديقها الرائع الطبيب والذي كان أستاذ مادة التشريح في جامعة تشرين، كان طلابه يعبدونه لفهمه ولباقته وحبه لهم وإخلاصه في عمله، الطبيب الغالي تم قطع رزقه وفصلوه عن الجامعة بتهمة التوقيع على اتفاقية دمشق بيروت ولأنه تحدى أحد المحاضرين في مدرج الجامعة وكان شبيحاً منافقاً وقاطعه معلقاً على كلامه، وجد نفسه صديقها على قارعة الطريق فاقداً مهنته وكرامته ولا يعرف كيف سيعيل أسرته! استطاع بعد مدة أن يجد عملاً في جامعة خاصة قرب مدينة النبك لكن أجهزة الأمن ضغطت على الجامعة الخاصة حتى طرد منها. وجد نفسه من جديد بلا عمل وكان يملك بيتاً صغيراً في قرية قرب طرطوس صار يقضي معظم وقته فيها وتحول إلى مزارع، يعتم بالنباتات والحيوانات. من أهم أساليب التحقير في سوريا قطع الأرزاق، ومصادرة الأملاك وحده ارتسم وجهه في خالها وهي خارجة من مبنى الأمن العسكري محطمة لدرجة بدا لها الموت رحمة، الموت ولا المذلة، أجمل شعار رفعته الثورة السورية. هل تجرؤ على كتابة كلمة واحدة في سوريا بعد هذا اللقاء والإملاء! ولماذا تركت باريس وعادت إلى اللاذقية! جوابها الحنين والأمكنة أرواح وهي تحب وطنها ولغتها العربية والناس البسطاء المسحوقين، لكن حين يتحول الحنين إلى حبل مشنقة فلا معنى له ومن الأفضل استئصاله من جذوره والبقاء في الغربة والكتابة بحرية، ما أصعب هذا الخيار، إنهم قادرون أن ينفوك ويمنعونك من العيش في وطنك! صارت تمرر الأيام كيفما اتفق مدمنة على الأركيلة التي تساعدها في سحق الزمن السوري الذي يسحقها بدوره ويُشعرها أنها لا شيء وبأنهم انتصروا عليها ومنعوها من الكتابة طالما هي في سوريا السجن، اعتقدت أن الحالة مؤقته وبأنه قريباً ستعاود الكتابة، لكن الأسابيع تمر وهي تطحن الزمن ولا تفعل شيئاً، لا تحاول الكتابة ولا القراءة بل تسمح لهم أن يعاقبوها أيضاً عن بعد من خلال حالة الشلل التي أصابتها بعد أن كتبت ما أملاه عليها الضابط، أحست أن خطوة واحدة تفصلها عن الاعتقال عاشت عمرها ومنذ ربيع شبابها مرتعبة من الاعتقال، كانت أعماقها تتقصف ذعراً وهي تتخيل هذا الاحتمال، ولا ينفك تفكيرها عن تخيل حياة أصدقاء لها في السجن بسبب فكرة! وبعضهم سجن من عشر سنوات إلى عشرين سنة، هل تنسى أيقونة الألم أم حسان التي سجنوا لها شابين جامعيين بتهمة الإنتماء إلى رابطة العمل الشيوعي الأول سُجن عشر سنوات والآخر ثماني سنوات، فقدت الأم نظرها من شدة البكاء وتحولت إلى عمياء بالكاد تميز طريقها في بيتها، كانت تتنفس الذعر مع الهواء، وهي تستعيد وجوه الشبان والشابات الجامعيات الذين اعتقلوا وقضوا على مستقبلهم وتحس أنها تعيش رعب الاعتقال، كما لو أن لسان حالها يقول: لم يبقى سوى تلك الخطوة، بل أحياناً كانت تؤمن أنها حقاً قادمة فتتمنى الموت، أحد أصدقاءها المعتقلين أعتقل ثلاث سنوات لأنه لم يخبر عن أخيه، كيف ستتحمل فكرة أن يبلغ أخ عن أخيه إلا وتشعر أن الجنون أصابها، والأخ المسكين سُجن ثلاث سنوات فقط لأنه لم يكن مُخبراً عن أخيه، وتستمر الحياة ويعيش الناس كحيوانات في قفص شعارهم الحيط الحيط ويا رب السترة .
وطن هو سجن كبير يسجن الإنسان في وطنه ويعتقل روحه، كانت سناء تشعر دوماً أن روحها سجينة ومُعتقلة وأن الأجهزة الأمنية تحركها من خيوط وهمية كما تحرك الدمى، ربما ما أصابها بعد كتابة الإملاء صدمة هزت عمق كيانها فأعاقتها عن الكتابة وعن القراءة واستسلمت للعبث الذي صار عنوان حياتها، كانت تتجول من مقهى إلى مقهى تجلس وحيدة غالباً مع الوجوه الذابلة حولها تستمع لأحاديث عن صعوبة العيش وعن أزمة البنزين والغاز تنفث دخان الأركيلة عارفة كم هي ضارة لكن ما باليد حيلة فالزمن يجب أن يمر، والأركيلة ساعة الزمن، وغالباً ما كانت تغادر المقهى الأول لتقصد لتوها مقهى آخر وتطلب الأركيلة أيضاً، متحملة ضيق التنفس والضجر القاتل والإحساس العميق بالمهانة والفشل، لماذا طالت هذه الأزمة هكذا! ألم تستطع معالجة نفسها وبث شحنات الأمل والحماسة من جديد للكتابة وهي المعروفة بغزارة الإنتاج، لكن يبدو الصدمة مدمرة أصابتها بالشلل، شلل عقلها وقلمها وفكرها، لعل التقاعد فاقم الأزمة فقد تقاعدت قبل أن تبلغ الستين ورغم بؤس الوظيفة فإنها كانت تشغلها وتسمح لها بلقاء ناس كثر وسماع قصصهم، الآن يبتلعها الفراغ وتحطمها صدمة مروعة، هيمنت على حياتها كلها حتى صار عنوان حياتها عبث الأركيلة، حتى صداقاتها عُطبت فالبعض من ضعاف النفوس ابتعدوا عنها والآخرين مشغولين بالأمور اليومية وبتهريب أولادهم والدفع للمهرب آلاف اليوروهات كي يهرب ابنهم إلى أحد الدول الأوروبية، كانت هذه هي الأحاديث المتداولة والتي تحتل معظم الحديث، الأهل والأولاد مسعورين يجب أن يهربوا بأقصى سرعة وإلا سحبوا إلى الجيش وإما عطبوا أو تحولوا إلى شهداء أبطال، مجتمع مسعور على حافة الجنون، كل شيء يدفع للجنون رتل السيارات الطويل بانتظار تعبئة البنزين، هستيريا الانتظار والازدحام لساعات أمام الأفران للحصول على أرغفة خبز أرخص قليلاً من السعر السياحي، هستيريا التعليم والدروس الخصوصية صفوف المدارس خاصة الشهادة الثانوية خاوية تماماً والأهل مضطرين للجوء إلى المدرسين الخصوصيين في البيت وغالباً ما يأخذون قرضاً أو يبيعون أغراضاً من بيتهم لتلبية أجور الأساتذة الخاصين، انهيار مروع لليرة السورية وغلاء فاحش، قذارة ما بعدها قذارة حيث تطفح حاويات القمامة بمحتوياتها أو تتكوم الزبالة عند مداخل الأزقة والشوارع وتبقى لأيام، محلات البالة المتكاثرة بشكل سرطاني، حتى أنها أطلقت على شعب سوريا شعب البالة، حالة الحصار الخانقة إذ لا توجد دولة تعطي فيزا إلى سوري إلا فيما ندر، هل يمكن أن نسمي كل ما سبق حياة! لا جمال ولا حرية ولا نظافة ولا تعليم وأزمات متلاحقة، أهكذا تكون الحياة! ولكن الناس مضطرة أن تعيش بالوهم أو الأمل، من أجل أولادهم ومن أجلهم كي لا يشعروا أنهم أموات فعلاً وبأن ثمة هامش من الفرح ممكن. أكثر ما يؤلم ذبول الصداقات والعلاقات الإنسانية إن لم يكن انقطاعها، هل تحولت المودة إلى لا مبالاة والحب إلى كره، ما أن بدأت الثورة السورية حتى بدأت علاقات الناس مع بعضهم تتشوه ما عاد أحد يطيق الآخر أو يتحمل خلافه عنه، فوراً تحل القطيعة والنفور. هل تصاب الصداقات بالسكتة القلبية فتموت؟ هذا ما كانت تحاول فهمه وهي تتفرج على موت عدة صداقات في أقل من سنة، وكانت تتألم كثيراً لموت صداقاتها وتحلم دوماً بالذكريات الطازجة الجميلة بينها وبين صديقاتها لكنها لم تستطع تحديد الأسباب الدقيقة لموت هذه الصداقات، ربما لأن كل واحدة منهن صارت تمثل مرآة الأخرى بما تعنيه هذه الحقيقة من مرارة وهزيمة وألم وخسارة، ربما موت هذه الصداقات نوع من كره الذات والهروب منها، كمن يهرب من التاريخ الذي جمعه بناس يشبهونه جداً ويتفق معهم جداً، لكن أين النخوة يبدو أنها ماتت بدورها، ما حدا لحدا صار الكل يحمل هذا الشعار، لا عزاء ولا تعاطف ولا نخوة، الكل يعيش في شرنقة وحدته وهزيمته ولا أحد مستعد أن يسمع شكوى الآخر وألمه وهمومه، تكفيني مصائبي وهمومي هذا لسان حال الجميع، ولم يخف عنها كيف يمثل الكل على الكل، فإحدى صديقاتها تحتضر من الضجر والفراغ لكنها تتظاهر أنها بحالة جيدة، هي دخلت اللعبة معهن، إذ تعمدت أن تخفي ألمها وهزيمتها أمامهن وتتظاهر أنها قوية وبخير، لماذا يمثل الناس على بعضهم البعض؟ هل الاعتراف بالحقيقة موجع إلى هذه الدرجة، لكنها لم تفقد صفة الاندفاع دوماً في خدمة الغير المتألم والمصاب بمشكلة أو كارثة، كانت تحب أن تشعر بإنسانيتها من خلال هذا الاندفاع والمساعدة حتى الحدود القصوى للمتألمين والمرضى من المعارف والأصدقاء وتبتهج وهي ترى الرضى والشكر العميق والمحبة في عيونهم، كانت تشعر أنها هي تشكرهم بدورها لأنهم –بمصابهم– يجعلونها تشعر بإنسانيتها، ما معنى إنسان إن لم يمارس إنسانيته ويدعم من حوله بكل محبة ودون انتظار مقابل، لكنها كانت تُصعق من فتور وبرود ردود الأفعال للأصدقاء الذين بذلت نفسها أمامهم لتساعدهم وتدعمهم، تذكر إحدى الصديقات وكانت مريضة مرضاً خطيراً كيف دعمتها على مدى شهرين وترافقها من عيادة طبيب إلى طبيب وتدللها وتسمعها أرق الكلام وتغدق عليها حنانها ومحبتها وكيف أن هذه الصديقة كانت ممتنة للغاية من سلوكها وتمتدحها دوماً أمام الجميع لكنها حين مرضت ووجدت نفسها ساقطة في مستنقع الكآبة لم تهب تلك الصديقة لمساعدتها كانت شحيحة العواطف وتكتفي بلهجة باردة أن تتفقدها هاتفياً كل بضعة أيام، لم تعاتبها ولم تمننها أو تلمح لها مجرد تلميح كيف تعاملت هي معها في مرضها وكيف تعاملت معها تلك الصديقة، التي لم يخطر لها مرة واحدة أن تزورها وتتفقدها، كم كانت تتألم من الشح العاطفي وعدم المبالاة التي يتعامل بها الكثيرون معها خاصة هؤلاء الذين تفانت في حبهم وخدمتهم. وكانت تعاني من آلام نفسية عميقة جراء سلوكهم لكن كبرياء الصمت لا يسمح لها بمعاتبتهم. ما أصعب نهاية الصداقات خاصة أن مخزون ذكرياتها يظل يقض مضجعنا كل يوم بل كل ساعة، كم كتنت تبصرهم في مناماتها فتفيق وطعنة ألم في صدرها كأنها وعت معنى نهاية صداقة، وكلما طالت مدة الهجر كلما صار التراجع أصعب والعتب أصعب، كما يُقال: العتب على قدر المحبة. وتمر الأيام والأشهر والسنوات وتبقى ذكرى تلك الصداقات كطعنة ألم في القلب والروح لماذا لا يعلموننا في المدارس علم الحب وصيانة الصداقات، هذا ما كانت تفكر به واقفة على أطلال ذكريات صداقات كانت جميلة وغنية إلى حد الإيمان أنها ستدوم مدى الحياة. فإذا بها تنهار كنصب أو عمارة ضخمة تتهاوى .
كل شيء يعوم في العبث، عليها أن تملئ ساعات يومها الأشبه بكيس فارغ، لديها هاجس بكتابة رواية، لكن جف حبر قلمها –هكذا تشعر– مذ أملى عليها الضابط أن تكتب تعهداً ألا تكتب في تلك الصحف الحقيرة كما وصفها، وهي كانت تكتب كل كلمة يقولها، لا أمل بكتابة حرة في سوريا، تسحلها ساعات يومها ولا تتمخض كتابة أبداً، تشعر بألم لا يوصف، ألم سحق الكرامة والهزيمة، هل يمكن لعينها أن تقاوم مخرز أجهزة الأمن، تهرب من نفسها ومن الشاشة البيضاء إلى المقهى تطلب الأركيلة وتنفث احتراق روحها ألماً وخزياً، لا تعرف كيف تكتب بطريقة مواربة، تتعجب من هؤلاء الكتاب الذين يعيشون في سوريا ويكتبون كتباً، معظمهم يبتعدون عن السياسة وعن انتقاد فروع الأمن والاستبداد، هل هي هشة أو ضعيفة حتى لا تستعيد قدرتها على الكتابة! هل دمروا روحها في كتابة التعهد في جهاز الأمن السياسي! ألا يجب أن تقاوم وتجد بدائل لحالة الإحباط التي تعيشها، هل تقبل أن تنتهي حياتها مشلولة الإرادة والإبداع والحرية! ألم يقل لها صديقها الذي سجن عشر سنوات من عمر العشرين وحتى الثلاثين بأنه كان يقرأ في السجن ستة عشرة ساعة كل يوم وبأنه لا يستطيع أن يعيش الحياة إلا بشغف، لماذا لا تتعلم منه كيف يعيش الحياة بشغف هو الذي دفنوا زهرة شبابه في السجن ولم يجن أو يحبط رغم أن أمه أصابها العمى من شدة بكائها عليه وعلى أخيه السجين أيضاً، تستحضر وجهه دوماً وتستعيد كلماته عساها تقويها وتخرجها من حالة العطالة هذه، لكن ثمة حالة من اللاجدوى، عقلها مرضوض لم يفق من الصدمة بعد، ربما هذه الصدمة من القوة والعنف كونها هيجت كل ما عاشته من ذل وخوف طوال حياتها كأنها أيقظت الذل الذي كان مُخدراً وغافياً والخوف لحد الذعر من هذا العيش وهي تشعر أنها في قبضة الأمن كما لو أنها كمشة من تراب يقبضون عليها ويمكن أن يذرونها في أي اتجاه يريدون، لا معنى لحياتها إن لم تكتب، تفضل الموت على العيش بقية حياتها عاجزة عن الكتابة. تحسد من يكتبون كتابة حقيقية وليست كتابة مجرد ثرثرة لا تقارب الواقع.
يوم في اللاذقية.