10- إميل حبيبي… الجلوس على الخازوق
يعتبر إميل حبيبي واحدا من ثلاثة أدباء فلسطينيين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها، وهم غسان كنفاني ومحمود درويش وإميل حبيبي. ومن هنا يحق للقاريء أن يتساءل: هل يعقل الكتابة عن أدب مرحلة السلام دون الاتيان على ما كتبه.
أشير، ابتداء، الى أن إميل لم يكتب بعد عام 1990 نصوصا قصصية أو روائية، وجل ما أنجزه في باب الأدب، عدا افتتاحيات “مشارف” الثمانية الأولى، نصان أحدهما مسرحي عنوانه “أم الروبابيكا”. “هند الباقية في وادي النسناس” (مشارف، أيلول 1995، عدد2)، وثانيهما يدرج تحت باب السيرة الذاتية وهو “ذكريات: سراج الغولة أو لا تطفئوا هذه الشمعة” (مشارف، آيار 1997، عدد 16)، وليس هذان النصان بجديدين كليا. فالأول هو إعادة كتابة، بشكل جديد، لقصتين كتب إميل أولاهما، وهي “النورية”، قبل عام 1967، وكتب الثانية، وهي “أم الروبابيكا” بعد هزيمة حزيران، وأدرجها في مجموعة “سداسية الأيام الستة” القصصية. ويتشكل النص الثاني من مجموعة نصوص كتبها المؤلف في فترات مختلفة، ومن فقرات من أعماله الأدبية العديدة. لقد أنجز إميل عام 1988 نصا باللغة العبرية لينشر في مجلة اسرائيلية هي “بوليتكا”، وهو نص موجه للقاريء العبري أساسا، وعاد اليه في مرحلة السلام، ليوافق على نشره، بعد تعديل اجراه عليه، بالفرنسية، وذلك بناء على طلب دار النشر الفرنسية (آكت سود)، لتصدره مع نص آخر كتبه الكاتب الاسرائيلي (يورام كانيوك) في كتاب يري القاريء الفرنسي وجهتي النظر العربية واليهودية في عملية السلام الشرق أوسطي ومستقبلها. وقد عكف إميل، قبل وفاته، على نقله الى العربية. ويلاحظ أنه يضم اليه افتتاحية العدد السابع من “مشارف” (آذار 1996).
وتبدو دراسة حبيبي، مثل دراسة معظم أدباء المقاومة، وبخاصة البارزون منهم مثل درويش والقاسم، تبدو دراسة مربكة توصل الى نتائج مختلفة. ولعل ذلك يعود الى المنهج الذي يوظفه الدارس في دراسته. فهم اذا ما درسوا اعتمادا على المنهج الماركسي الذي يربط ما بين الموقع والموقف، وهذا ما قام به الناقد الفلسطيني المعروف فيصل دراج في كتابه “بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية” (1996)، – وقد تناول فيه حبيبي ودرويش وآخرين، – بدا هؤلاء الأدباء مخيبين للآمال، وذلك لمغايرة نهاياتهم بداياتهم، ولعدم ثباتهم على موقف واحد. وهم – أي الثلاثة- اذا ما درسوا وفق المنهج الجمالي ثمن نتاجهم، وبخاصة نتاج درويش الذي أضافت كل مجموعة من مجموعاته اللاحقة قصائد تفوق سابقاتها. وسيبدو الأمر، هنا، مختلفا في حالة إميل حبيبي، فاذا ما درس ناقد نصوصه الروائية، بناء على مفاهيم فني الرواية الغربية، غبنه واعتبرها – أي رواياته – روايات مجهضة، وهذا ما رآه الناقد صبحي شحروري الذي درس “خرافية سرايا بنت الغول” (انظر مجلة شمس، باقة الغربية، آذار 1993. ع 3)، واذا ما درسه ناقد روائي يرى أن الرواية العربية لا ينبغي ان تكون صورة طبق الأصل عن الرواية الأوروبية، ومن هذا المنطلق كان حبيبي يكتب، – ثمن نصوص حبيبي تثمينا عاليا.
وسوف يختلف عن الناقدين الماركسي والجمالي الناقد اللغوي الذي يرى في اللغة العربية الكلاسيكية مثاله الأعلى، خلافا للناقد الواقعي، اذ سيعتبر الناقد الكلاسيكي نصوص إميل نصوصا متينة معتبرة، وسوف يثمنها، بناء على ذلك، تثمينا عاليا. ويختلف عنه الناقد الواقعي الذي سينظر اليها، للغتها، على أنها نصوص تغترب عن الواقع وتنتمي الى زمن مضى وانقضى.
وليس هناك من شك في أن نصوص إميل، وبخاصة “المتشائل” نصوص مربكة، وأن النتائج التي يخلص الدارس اليها ليست واحدة. إنها نصوص تصلح لأن تدرس وفق منهج الاثارة والاستجابة، النص والقاريء، أو نظرية الاستقبال، على الرغم من أن كاتبها في سنوات حياته الاخيرة أكثر من الحديث عنها، وأضاء ما خفي على النقاد من مقاصد ومرامي كان يهدف اليها في أثناء الكتابة. ومرامي إميل ومقاصده لم تكن دائما واحدة، وهذا ما يجعل من نظرية قراءة النص قراءة تعتمد على قصد المؤلف نظرية ليست دقيقة، وبخاصة حين يتحدث المؤلف عن نصوصه بعد سنوات طويلة من إصدارها. واذا كانت قراءة النص في زمنين مختلفين تؤدي الى نتيجتين ليستا متقاربتين بالضرورة، وذلك لاختلاف ثقافة الدارس وتطورها، فلماذا لا تختلف رؤية الكاتب لعمله حين ينظر اليه بعد عشرين عاما من كتابته.
لقد سئل إميل أكثر من سؤال عن أعماله، وأشار في أثناء الاجابة الى ما نصحه به النقاد الذين طلبوا منه ألا يقوم بدورهم، لأن ما يكتبه الكاتب والمبدع يصبح واقعا خارجا عن ارادته، وملكا للقاريء. ومع ذلك نجده يفسر أعماله، ويوضح كيف أنه اكتشف، بعد كتابتها، أشياء لم تخطر له على بال:
“ومع ذلك، وفي هذا الاطار، في هذه الحدود، سمحت لنفسي أن اكتشف هدفين من وراء شخصية سعيد أبي النحس المتشائل. (انظر: مشارف، حزيران 1996، عدد 9، ص 13) و “هنا ايضا” العديد من النقاد طلب مني ألا أجيب على هذا السؤال..لأن هذه مهمة الناقد كما يقولون، ومع ذلك مستفيدا من أجوبتي، فان لي مساهمة في هذا الجواب…” (نفسه، ص 18)
وكما ذكرت ابتداء، فإن قراءة النص اعتمادا على أقوال مؤلفة- ويثمن اصحاب منهج تفسير النصوص تفسيرا علميا هذا لأنهم يرون أن المعنى في بطن الشاعر، كما قال النقاد العرب- لا توصل دائما الى نتائج دقيقة يطمئن المرء اليها. فقد يفسر الكاتب نصوصه في زمن ما تفسيرا آخر غير الذي رمى ابتداء اليه، وهناك عوامل عديدة تؤدي الى ذلك منها تغير مواقف الكاتب السياسية وثراء ثقافته واتساعها…الخ. وهذا ما حدث مع اميل نفسه الذي كثيرا ما عاد، بعد خروجه من الحزب، الى نصوصه ليدعم موقفه الجديد، وليشير الى أنه كان تنبه الى هذا من قبل، ولكنه لم يقو، في حينه، على التعبير عنه مباشرة، فآثر كتابته في نص ادبي. وهذا ما بدا واضحا في افتتاحية العدد السابع من “مشارف” (آذار 1996) التي كتبها تحت عنوان “نحن ناس، أيها الناس”، وقد ادرجها ضمن نصه الأخير “سراج الغولة”.
الواقع الأسود فوق الأمنيات:
يذهب إميل في “سراج الغولة” الى الزعم أنه “واحد من أولئك الذين لا يستطيعون أن يروا من القمر الا وجهه المضيء” (مشارف، عدد 16، ص 22). ومن هنا أبرز صورة ايجابية للانسان اليهودي، وكتب عن صديقه القديم (أبراهام بن صور) الذي ساعده عام 1948، ودافع عنه وعن أمه يوم كان اليهود يطردون العرب الباقين من بيوتهم. وقد يكون (أبراهام) هذا هو المعلم يعقوب الذي ذكر في المتشائل، وقد برزت في هذه شخصيات يهودية عديدة (انظر مقالتي في مشارف، آذار 1996. عدد7).
حقا ان المتشائل تحفل بنماذج يهودية عديدة، كما تحفل ايضا باضفاء صفات اجمالية على اليهود الغربيين، الا أن نص “سراج الغولة” يقدم انسانا يهوديا يساعد العرب ولا يلجأ الى اضطهادهم وطردهم، وهذا ما بدا في المتشائل. والسؤال الذي يثيره الدارس هو: هل أبرز إميل هذه الصورة لليهودي، لأنه كتب نصا موجها للقاريء العبري، وكأنه يرمي من وراء ذلك الى نيل رضاه ابتداء، لينال، من ثم، جائزة الدولة العبرية للآداب، أم لأنه، بسبب التجربة والشيخوخة معا، آخذ ينظر الى الانسان في العدو، وهذا ما دعا اليه، بوضوح، في افتتاحية العدد السابع: “وصرت أعتقد ان المهمة الأساس، أمام مبدعي الأدب والشعر وبقية الفنون هي البحث عن هذه اللؤلؤة- الضعف الانساني- في أعماق البحور الانسانية. وهذا ما نسميه باسم “أنسنة العدو”…(ص 9).
وهنا يتذكر المرء دراسة فيصل دراج “إميل حبيبي: الوجه الضائع بين الاقنعة المتعددة” التي أوردها في كتابه “بؤس الثقافة” ليتساءل إن كان إميل يأخذ بمقولة “لكل مقام مقال” و “لكل قاريء خطاب”. حقا إن اميل لا ينكر، في معظم ما كتبه أنه من دعاة التعايش، وأنه يطلب من الأدباء والمبدعين أن يكتبوا بما يعزز هذا الاتجاه، الا ان الواقع الاسود فوق الأمنيات، وهو بذلك يلقي بظلاله على الجميع، ومن ضمنهم إميل نفسه.
كتب إميل افتتاحية العدد الثامن من “مشارف”، وهي آخر ما كتبه، ليعبر عن خيبته من الكاتب الاسرائيلي المعروف (يزهار سميلانسكي) صاحب روايتي “خربة خزعة” و “الأسير” اللتين نقلتا الى العربية، وقد ادان مؤلفهما فيهما المؤسسة العسكرية الاسرائيلية لما قامت هذه به في حروبها مع العرب، وبخاصة فيما يمس سلوكها مع القرويين العرب. وسبب خيبة إميل من (يزهار) أن الاخير كتب مقالين يناقضان تاريخه كله، فقد وصف العرب بأنهم “من آكلة لحوم البشر”، ودعا حكومته، بناء على ذلك، الى وقف التفاوض معهم. يكتب إميل: “لقد اصبت بخيبة أمل شديدة ذكرتني بخيبة الأمل التي أصابتني في ليلة التاسع والعشرين من تشرين الاول (اكتوبر) العام 1956 حين جاءني أحد معارفي اليهود من نشيطي حركة “مبام” وأبلغني بالفظائع التي ارتكبت في تلك الليلة نفسها أمام مداخل قرية كفر قاسم. حدثني عن الاطفال والنساء الحوامل الذين قتلوا بدم بارد. فلم اصدق ان يقوى آدميون على ارتكاب مذبحة بهذا المدى حتى ولو كانوا في ثياب الجندية وينفذون أوامر عسكرية. لم أكتف بعدم التصديق بل حسبت ان هذا التبليغ هو مجرد استفزاز مقصود به أن نضيع صوابنا. طردت زائري اليهودي من بيتي وأنا أصرخ: كذاب واستفزازي” (ص 8).
ويبدو ان تجربة إميل مع (أبراهام بن صور) هي التي جعلته لا يصدق ما قاله له الصديق اليهودي، ولو كانت له تجربة اخرى، مثل تجربة اهل دير ياسين، لصدق هذا، وان كان الواقع يعزز ان ما قام به الجنود في كفر قاسم ليس استثناء، فدولة اسرائيل كلها اقيمت على طرد شعب كامل من أرضه، بوسائل عديدة من الارهاب.
أم الروبابيكا: زاروني والا ما زاروني:
وتبقى “أم الروبابيكا” التي نقحها اميل في 25/8/1995، النص الأدبي الوحيد الذي بين أيدينا للكاتب، ويمكن دراسته ضمن ادب مرحلة السلام. و “أم الروبابيكا” مسرحية لممثلة واحدة اقتبسها عن قصتين قصيرتين: كتب واحدة منهما قبل عام 1967، وهي قصة “النورية”، وكتب الثانية اثر هزيمة حزيران 1967، واسمها “أم الروبابيكا”، وقد صدر هذه باغنية فيروزية هي: “بالايمان.. راجعون
للأوطان.. راجعون
راجعون، راجعون
راجعون”.
والنص، كما تغنيه فيروز، يعبر عن إصرار الفلسطينيين على العودة الى ديارهم، ولم يردده الناس تردادا يعبر عن سخرية ليعطي بذلك معنى مغايرا الا في لحظات الاقرار بالهزيمة والشعور بأن العودة غير واردة اطلاقا. واذا كان النص في قصة حبيبي قابل للتفسيرين-، اي الجاد والساخر- فان الكاتب في نصه المسرحي يأخذ بتأويل واحد له، هو السخرية لا أكثر ولا أقل، فبعد ان تغني أم الروبابيكا المقطع تعقب عليه:
“بالايمان… راجعون
عيش يا كديش، تيجيك الحشيش
بكرة بالمشمش ” (مشارف، 97)
وهكذا يعبر مردد النص عن يأسه من امكانية الرجوع، وهذا ما يبدو واضحا في نهايته. فأم الروبابيكا التي يتركها زوجها واولادها، وتظل في حيفا وحيدة معزولة حتى من عرب حيفا، تيأس من امكانية زيارة اهلها لها، وتخاطب الجمهور:
“يا حبايبي..
بس سلموا لي عليه
سلموا لي عليه
وقولوا له:
هند الغالية
ترعى عز وتقعد غز
مثل جبالنا العالية
زاروني والا ما زاروني
انا قاعدة
وهاي قاعدة ” (مشارف، 122)
وكان اميل قد أدرك منذ عام 1974، يوم انتهى من كتابة المتشائل ان الفلسطينيين جالسون، ارادوا ام لم يريدوا، على خازوق هو كل ما تبقى لهم، واذا ما قورن خازوق اهل الداخل بخازوق الغربة بدا اكثر احتمالا. يرد في المقطع العاشر من الجزء الثالث من المتشائل النص التالي:
“وكانوا يأتونني وحدانا
فأتاني صديقي القديم، يعقوب. وكان حزينا. فصحت به: الخازوق يا صديق
العمر! قال: كلنا نقعد عليه! قلت: ولكنني لا أراكم ! قال: ولا نحن نرى أحدا. كل وخازوقه وحيد. وهذا هو خازوقنا المشترك. ومضى”
ويأتيه الرجل الكبير، ويطلب منه أن يرضى بما هو عليه، ويأتيه الشاب الذي يبيع الجرائد ويطلب منه ان ينزل معه الى الشارع، وتأتيه يعاد وتشده الىالغربة والرحيل، فيرفض…الخ، ولما يأتي الشيوعي بائع الجرائد بفأس ليهوى على قاعدة الخازوق حتى ينقذ المتشائل يصيح هذا به حتى يكف “وتشبثت بخازوقي” (انظر: السداسية والمتشائل، 1985، حيفا، ط7 ص 194 و 195).
ويكرر اميل في نصه الاخير “سراج الغولة” هذا. يقول: “لعلكم تذكرون أنني لم اجد من موئل لسعيد أبي النحس المتشائل، في وطنه، سوى رأس خازوق. ولم يدر في خلدي، في ذلك الزمن السحيق، ان الخازوق هو مكان عال يصلح منه الاشراف على آفاق قرن جديد وألف جديدة من السنين، بل لم يدر في خلدي ان لا يجد شعبي مكانا في وطنه، بعد هذا العمر الطويل، سوى رأس خازوق”.
“ولكن حتى ولو كانت هذه هي صورة الواقع الحقيقية، فاننا نفضل رأس خازوق فوق تراب الوطن على رحاب الغربة كلها، فقد وجدناها، كلها، حرابا وفراشها أشبه بفراش فقير هندي: رؤوس مسامير أو خوازيق صغيرة وكبيرة علىقدر المقام”. (مشارف، ص 12)
وكان إميل قد أورد هذا الكلام في افتتاحية العدد الاول من مجلة مشارف (1995)، ليعزز نهجه في دعمه لمسيرة السلام.
2008
11-إميل حبيبي… ثالثة ورابعة : إشكالية الفهم … إشكالية الترجمة
مرت في هذا الشهر ذكرى وفاة إميل حبيبي فحضر في ذهني غير مرة ، وأسهمت كتاباتي في الفيس بوك ،وتذكيره لي بها ، في الاستحضار ، ففي أيار من أعوام سابقة كنت خربشت طالبا من المهتمين بالكاتب والملمين بالعبرية أن يعلموني كيف ترجم انطون شماس عبارة إميل في ” المتشائل ” :” كنت أحسبك حمارا فإذا أنت أحمر ” ، ولما لم يجبني أحد كتبت إلى الشاعرة سهام داوود أطلب منها المساعدة فلم تتوان في تقديمها ، وأنفقت وقتا تبحث فيه حتى عثرت على المطلوب وأرسلته إلي .
كان شماس ، حسب فهم سهام مع أنها قالت إن هناك دقة في الكتابة قد تخفى على من عبريته ” على قده ” ، كان ترجم العبارة كالآتي ” كنت أحسبك حمارا فإذا أنت أشد حمرنة ” ، وهي تختلف عن الترجمة الإنجليزية ” فإذا أنت شيوعي ” والترجمة الألمانية التي جمعت بين الترجمتين ؛ ترجمة شماس وترجمة سلمى الخضراءالجيوسي . ( حول ذلك أنظر كتابي ” في مرآة الآخر : استقبال الأدب الفلسطيني في ألمانية ” : إميل حبيبي ، صعوبة الترجمة 2000 ) .
تتنافى ترجمة انطون ، حسب الفهم السابق ، وروح شخصية بطل الرواية الذي يتغابى ويتظاهر بالجهل ، وتتنافى وقواعد شروط اشتقاق اسم التفضيل في علم الصرف العربي التي منها قابلية الاسم للتفاوت . وهناك فرق بين الغبي والمتغابي والمريض والمتمارض والذكي والمتذاكي والفصيح والمتفاصح والجاهل والمتظاهر بالجهل والأبله والمتباله ، وقد أعادني ذلك إلى سلسلة مقالات أنجزتها في الترجمة يخص جزء منها ” المتشائل ” والعبارة المذكورة . ولما فضلت أن أعرف من قراء عرب آخرين يعرفون العبرية معنى عبارة ” أدوم حمور ” التي استخدمها شماس فقد سألت آخرين ، فقال لي قسم مثل المحامي حسن عبادي ، إن المقصود هو ” أشد حمرنة ” – أي أحمر من حمار ، وقال آخرون ، مثل سهيل كيوان و د . نبيل طنوس و د.فياض هيبي ، إن المقصود هو ” أحمر صعب خطير ” . وإن كان المعنى الثاني ما فهمه شماس وقصده فلم يخطيء الترجمة ، وزاد الطين بلة أن كلمة ” حمور ” بالعبرية تعني حمار وتعني خطير وصعب ، حسب وضع النقطة فيها وهو ما شرحه لي د . طنوس . وهكذا لا يختلف القاريء العبري للعبارة عن القاريء العربي . هناك قراءتان ؛ الأولى أحمر من حمار أو أكبر حمار ، والثانية أحمر صعب أو احمر/ شيوعي لئيم ، ولا يلتفت إلى القراءة الثانية إلا قلة متخصصة ، في حين يذهب ذهن الكثرة إلى القراءة الأولى .
كنت مرة توقفت أمام مقال غسان كنفاني في كتاب ” فارس فارس ” عن المترجمين العرب ” القدس بين 3 مصائب: الاحتلال والتأليف والترجمة ” وفيه أتى على مصيبة المترجمين العرب الذين ترجموا ” جريكو ” إلى ” جرش ” و ” النقب ” إلى ” النجف ” ، وكنت اقتبست من روايات حبيبي نفسه تحديه أن يترجم له شماس بعض العبارات العربية إلى العبرية ، فكتبت تحت عنوان ” إميل حبيبي وصعوبة الترجمة ” وأوردت تحدي حبيبي لشماس في ” خرافية سرايا بنت الغول ” :
” أجبته ما عدا إلا هذا الذي بدا . وما لم يبد ما عدا ولن يعود . وأتحدى انطون شماس أن يترجم هذا الطباق والجناس إلى لغة قريبة أو بعيدة وعلى رأسها لغة أكلوني البراغيث التي تغندرت بها لغتنا الصحفية ” ( حبيبي ، سرايا ، ص 151 ) .
ليس سبب الكتابة السابقة الرغبة في التكرار أبدا ، ففي العام الماضي قدمت عرضا لكتاب بشير أبو منة الذي ترجمه من الإنجليزية إلى العربية مصعب حتايلي وتوقفت أمام فقرة لم يفهمها المؤلف فهما صحيحا ، فنقلها إلى الإنجليزية بناء على فهمه الخاطيء ، لا حسب المعنى الذي تقوله الرواية . هذا كله ذكرني بعبارة ناقد عن ” المتشائل ” وصعوبة ترجمتها إلى اللغات الأخرى ، ذيلت بها منشورات صلاح الدين في القدس طبعتها في 1974 ونص العبارة :
” إذا ما ترجم هذا الكتاب إلى لغة أخرى ( لو كان من الممكن أن تستوعبه لغة أخرى ) كان تحديا صعبا أمام الدعاية الإسرائيلية ” .
في هامش 30 من كتاب أبو منة ، في الفصل الخاص بحبيبي ( ص 194 من الترجمة العربية ) تبدو عدم دقة المؤلف في فهم فقرة من الفقرات ترد في الرواية في رسالة ( الدرس الأول في اللغة العبرية ) . يقول المؤلف فيها :
” ترى إشارة إلى قمع وكبت فلسطينيي الـ 48 في تلاعب إميل حبيبي باسم عمة سعيد في بداية الرواية ؛ فاسم عمته هو محصية ، لكن الجنود اليهود يلفظون اسمها مخصية ، فبعد تشريد سنة 1948 وضمن جهود الدولة الإسرائيلية لمنع عودة اللاجئين ، قامت إسرائيل بإحصاء للسكان الفلسطينيين ، وكأن حبيبي يلمح إلى أن من تم إحصاؤه تم إخصاؤه . ” وليس لسعيد عمة اسمها محصية ولا مخصية . سعيد هنا يزور أم سعد التي كانت تعمل في الكنيسة فلم تعرفه وظنت أنه من المخابرات الإسرائيلية يظنها متسللة ، فأرادت أن تثبت له أنها ليست كذلك وأنها محصية ولديها شهادة بذلك ، وكان هو يخاطبها بلفظ ” يا خالة ” .
مرة كتبت عما فعله الكاتب سلمان ناطور حين ترجم مقالة عن العبرية ورد فيها فقرة من ” المتشائل ” ولم يعد المترجم إلى الرواية لينقل منها النص بلغته الأصلية . لقد ترجم المترجم . لقد قرأت ترجمة لا تمت للمتشائل لغة وأسلوبا بصلة . إنها ترجمة الترجمة وفيها يغدو النص عالما آخر مختلفا وقد شغلني هذا غير مرة .
لكي نفهم ” المتشائل ” لا بد من أن نقرأ ما ورد في الشعر العربي :
” ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي ”
وما قاله المعري :
” ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا تجاهلت حتى قيل إني جاهل
فواعجبا كم يدعي الفضل ناقص وواعجبا كم يظهر النقص فاضل ” .
كان أبو الفضل الاسكندري في المقامات يتعامى وما هو بأعمى ويتظاهر بالحمق وما هو بأحمق، ولا أتردد لحظة في القول إن سعيد المتشائل خرج من معطف التراث .
17-05-2022