من إعداد فرات محسن صدر كتابٌ حديث عن الشاعر العراقي الراحل زهير الدجيلي، بعنوان( الإبهار في النص الغنائي). والكتاب مجموعة مقالات وانطباعات عن الشاعر، كُتبت في أوقات متباينة، أكثرها بعد وفاته، وبعضها الآخر أثناء حياته، كما تضمّن بعض المقابلات الصحفية معه إضافة إلى شهادات من قِبَلِ الكثير من رفاقه وزملائه ومجايليه، سواء الذين رافقوه في عمله الحزبي أو الصحفي أو المهني في مختلف جوانب حياته العريضة، تلك التي تقاسمتها السجون والشعر والفنون .
يبدأ مُعِدُ الكتاب فرات المحسن (شقيق الراحل) بمقدمة للكتاب يتناول فيها: البدايات الأولى لطفولة الدجيلي، والتي شكّلت شخصيته، وبنت الكثير من توجهاته الفكرية والأدبية، كما رسّخت فيه الحنين إلى الوطن، ثم ينتقل إلى المراحل الأولى من حياته ،حيث الشطرة مهدُ طفولة زهير، وموقعها الجغرافي وطبيعتها الزراعية والاجتماعية، وكيف قضى الراحل سنيّ المرحلة الابتدائية ، ثم ينتقل إلى وصف الناصرية من حيث التأسيس والطبيعة والعمق التاريخي،،باعتبار أن الشاعر الدجيلي قد انتقل إليها لمتابعة دراسته الثانوية.
وقد أشبع فراتُ المحسن الناصريةَ وصفا، باعتبارها المكان الذي عجنَ الراحل بسماته، تلك المدينة التي تقع على بعد خطوات عن مهد الحضارة السومرية، حيث زقورة أور والثور المجنح والعجلة الأولى، وولادة الحروف الأولى التي عرفتها البشرية، وكأن تاريخ أور وآثارها قد ألهمت الناصرية سحر الحروف وعمق المفاهيم والمعارف، والتي تجسدت من خلال الإبداع الشعري الذي يعبّر عن أدقّ العواطف التي تشع من الإنسان بواسطة الشعر والغناء، ثم يستعرض الكاتب بعض الأسماء من الذين تركوا بصماتهم في مختلف نواحي المعرفة، ومنهم الحبوبي الذي مازال تمثاله في أهم شوارع المدينة.
بعد ذلك يتناول فرات المحسن محطات من حياة الراحل زهير الجزائري ابتداءً من دراسته في الشطرة حتى وفاته في الكويت مرورا بمنعطفات ومسارات عاشها الفقيد بعمق مؤثرا ومتأثرا، حيث اعتنق الفكر الماركسي وذاق السجون والمعتقلات في العهد الملكي والعهود الجمهورية المتعاقبة، وكيف إنه ورفاقه قد بنوا جسورا من الثقة مع سجانيهم وذلك بالضرب على وتر الوطنية حتى هربوا معا في واحدة من ملامح نضالهم، وهذا يدل على إيمان هذا الرجل وإنسانيته، وقدرته على ضخ الحس الطبقي في ذهنية الناس، بما فيهم السجان، الذي جعلته الأنظمة آلة للقمع ونزعت عنه إنسانيته.
كما تحدث الكاتب عن تخلص زهير أكثر من مرة بأعجوبة من الموت في سجون الحكومات المتعاقبة، وقد استعرض الكاتب حياة أخيه الغنية بالنضال، والزاهدة بالحياة، والذي نذر نفسه منذ نعومة أظفاره في سبيل الوطن. ثم تحدث عن مواهبه وإبداعاته في مجال الأدب والشعر والمسرح ، واستعرض أعماله المسرحية المتميزة، وكذلك العدد غير قليل من الأفلام السينمائية والمسلسلات الكثيرة التي أغرقت الشاشة الفضية الصغيرة في سبعينات القرن وثمانينياته، ولاسيما مجموعة افتح يا سمسم. ومن خلال ذلك نستطيع القول بأن زهير الدجيلي ليس شاعرا أو أديبا فحسب وإنما مدرسة معرفية متكاملة.
أما عن السيرة المهنية لزهير الجزائري، فمن الصعب الإحاطة بكل جزئياتها، وقد أفرد فرات المحسن فصلا كاملا لهذه السيرة في مجالات العمل الصحفي واشتغاله بالمجلات والجرائد المختلفة، والعمل التلفزيوني الذي أنتج كمّا كبيرا من الأفلام والمسلسلات، سواء منها عن الأطفال أو الأسرة أو المشكلات الاجتماعية، كما استعرض أسماء الكتب التي ألفها ومنها أيام شارع الرشيد، وكتاب العقرب، ومؤلف آخر عن يهود العراق وغيرها من المؤلفات.
ثم ينتقل الكتاب إلى طبيعة النقلة النوعية التي طرأت على الأغنية العراقية من حيث المضامين، فبعد أن كانت الأغاني تعتمد على الغزل السطحي والعواطف الشخصية، أضحت ذات مضامين أكثر عمقا، بحيث إن الحب يتحوّل إلى إشادة بإنسانية الإنسان، باعتباره قيمة حياتية كبرى، كما أن الحب يرتبط بالوطن والالتزام بقضاياه، وكان لزهير الدجيلي دورٌ كبير في ضخّ عالم الغناء العراقي بالكلمات والقصائد الجميلة والمؤثرة، والتي أصبحت أغاني جيل كامل، يمتزج فيها حب الوطن بحب الناس والحبيب، إنه العشق الأبدي في نبله وأصالته، فأصبحت الأغاني ذات رومانسية جميلة، حيث العشق للطبيعة ومظاهرها، وللأجواء والأزمنة والطيور، كما تتناول الأغنية نضالات الإنسان في مقاومته لأشكال العبودية، كما حاولت الأغنية أن تترجم هموم الناس البسطاء وطموحاتهم. كل هذا يأتي ضمن قصائد تشعّ بالإبداع وذات لغة شفافة ومعان عميقة، والذي زاد من جمالها وجودُ مجموعة من الملحنين الذين استطاعوا تطويع الألحان والموسيقى، لتنسجم مع رقة الأشعار في هارموني يعانق الذائقة العراقية التي تعشق الحزن والكلمة الموحية.
وقد استعرض فرات محسن قصائد الدجيلي، سواء منها المغنّاة مثل ياطيور الطايرة والبارحة وغيرها من شعر الراحل الذي أصبح على لسان الناس، يداوون بكلماته بعض جراحهم.
أما الكاتب والصحفي طالب عبد الأمير فقد كرّس بحثه عن أغاني الأطفال في أدب الدجيلي، وقد أقرّ بأن أدب الأطفال ليس هيّنا، لأنه يتطلب مهارات متعددة، ومنها ثقافة الكاتب وقدرته على تطويع لغته كي تكون مفهومة، إضافة إلى معرفته بالأسس التربوية، وقد توفرت هذه الشروط عند الدجيلي الذي يمتلك وعيا وثقافة تؤهله لهذه المهمة التي تُصبح أكثر عِسْراً حينما تصبح الأغنية لها علاقة بمسار وقصة المسلسل، وهذا يتطلب من الشاعر جهدا مضاعفا، حسب وجهة نظر طالب عبد الأمير.
كما تناول مسلسلات الأطفال التي نفذها الدجيلي لحساب مؤسسة البرامج المشتركة لدول الخليج، وقد كتب الدجيلي أكثر حلقاتها من حيث الفكرة والحوار ومقدمة الأغاني، ولم يكتف بذلك بل قام بتنفيذ مسلسل سنان لحساب التلفزيون العراقي في بداية الثمانينات، وكانت كلمات الأغاني، وفحوى القصص تدور حول قيم المحبة والوفاء والصدق في التعامل.
وحاول طالب عبد الأمير أن يتناول أغاني المسلسلات، ويلقي عليها أضواء التحليل والكشف، ويصل إلى عدة استنتاجات ومنها: إن قصص الأطفال التي قدمها الدجيلي تتميز بالبساطة والعمق في آن واحد، وتتناول الصراع بين الخير والشر، ومن خلال انتصار الخير، فقد قام بزرع القيم الإنسانية النبيلة في نفوس الأطفال، ولذا فقد تجاوزت تلك الأعمال قضية اللهو والمتعة، إلى بناء القيم التي ينبغي أن تتربى عليها الطفولة، إضافة إلى أن مضامينها تحمل الكثير من المعارف والمعلومات بلغة شعرية جميلة وبعبارات مفهومة، وقد استعرض طالب عبد الأمير الكثير من قصائد الشاعر، والتي استخدمت في المسلسلات الفنية الموجهة للأطفال.
الأديب نشأت المندوي، تحدث عن أغاني التي صنعها الراحل كانت ترافق المغتربين في رحلة الحنين، ويعبرعنها بتعبير أقرب إلى لغة الشعر:
” إنها مانشيتات لشاعر دافئ يعرف كيف يوقظ منصّات البخور في مشاحيف العرس “.
أما جاسم العاصي ففي معرض حديثه عن الراحل، فقد ربط موهبته بوالدته التي كانت تقول الشعر على السليقة والتي مهدت الطريق لأبنائها أن يحملوا جمرة الشعر ومعاناته.
الأديب داوود سلمان الشويلي قدم دراسة أيضا عن الأغنية السبعينية وعن مبدعيها في مجالات الغناء والتلحين، وقد توّقف كثيرا على أغنية يا طيور الطايرة، والتي اعتبرها بصمة مضيئة للدجيلي ولعصره. أما الأستاذ رياض النعماني فقد قام بإلقاء إضاءة على الصور والتشبيهات والاستعارات البلاغية عند الشاعر، والتي يستمدها من أخيلته ممزوجة بالواقع، الصورة عند الدجيلي ماهي إلا نتاج لشبكة معقدة من خيوط متشابكة، منها ما هو عاطفي ومنها ما هو متعلق بالوطن والأرض والإنسان، لذا تأتي كلوحة متكاملة مزدحمة بالألوان.
الأستاذ جاسم المطير يعود بالذاكرة من نگرة السلمان في العهد الملكي، حيث الحزن الذي تملّكه حينما أطلقوا سراح زهير الدجيلي، الذي سيترك فراغا لديه، وهما مترافقان في السجن، ثم يغوص بعيدا حيث بدايات علاقته بالدجيلي في مدينة الناصرية، حيث يصف طيبة الناس فيها، ثم العلاقات الرفاقية والعمل الحزبي والاختفاء عن أعين الشرطة السرية والعلنية.
ثم يستطرد المطيري في ذكر المعتقلات والأحكام التي تعرض لها الدجيلي، ومغامرة الهروب مع السجانين والقبض عليهم، وكيف ألقي القبض عليه وحكم في العهد الملكي، ولكنه بقي سجينا حتى في العهد الجمهورية، حتى أخرجهم عبد الكريم قاسم بعد أربعة أشهر من الثورة.
ثم يتحدث عن مرحلة نضال أخرى للراحل حيث اضطلع بالعمل مع الفلاحين، حتى تم القبض عليه وحُكم بأربع سنوات، وحينما حدث انقلاب ١٩٦٣ كان الدجيلي في السجن أيضا. وقد نجا بأعجوبة من الحرس القومي الذي يبحث عنه، لأنه من قائمة المطلوبين، وحينما أطيح بالبعثيين من جديد، نُقل إلى نگرة السلمان وقد انيطت به وبرفيقه جاسم المطير مهمة توثيق جرائم حزب البعث بحق الكثير من المناضلين الذين تمت تصفيتهم، وطبيعة التعذيب الذي تعرض لهم.
ثمة شهادات أخرى عن الدجيلي سواء أثناء حياته أو بعد وفاته من أدباء وشعراء وفنانين ورفاق درب، وكلها تثني على مواقفه وسيرة حياته، ومنهم صباح عطوان وحامد الشطري وكاظم غيلان وسعدون جابر ومفيد الجزائري وسلام مسافر وجمال العتابي وفلاح مشعل، كما ضم الكتاب المحاورة الصحفية المطوّلة التي أجراها كمال يلدو مع الراحل وفيها الكثير المحطات والمنعطفات في إبداعه الشعري، وطبيعة الظروف التي صاغت قصائده، كما نكتشف الكثير من جوانب حياته من وجهة نظره. وهناك حوار آخر أجراه الفضلي وسارة السلموني، وتدور حول آراء الدجيلي في الأغاني، وظروف كتابته لرائعته ( يا طيور الطايرة)
إضافة إلى ذلك فالكتاب يضمّ أغلب القصائد التي أبدعها الشاعر، وأصبحت كالأناشيد التي يرددها الناس، لأنها حافلة بالحب والحنين إلى الوطن.
ويبدو أن الأستاذ فرات المحسن قد بذل جهدا لإنجاز هذا الكتاب من خلال البحث عن أغلب ما كُتب عن الراحل، وذلك من خلال مجموعة كبيرة من المقالات لكتاب وصحفيين وسياسيين، والذين استطاعوا أن يقدموا لنا صورة عن هذا الأديب والفنان والصحفي زهير الدجيلي، الذي ترك بصمات عميقة على عصره، هذا الإنسان الذي نذر نفسه في سبيل الوطن، والذي ضحى بشبابه ولاقى الأمرين، والذي ترك للأجيال تراثا غنائيا في مضامينه وتأثيراته.
وما (كتاب الإبهار في الشعر الغنائي) إلا محاولة لرد بعض الجميل لهذا الإنسان الذي يستحق منّا كل تقدير. كما يمكن القول بأن هذا الكتاب يشكل بحد ذاته محاولة جادة لأرشفة إنجازات مبدعي الفن الحقيقيين، الذين استطاعوا أن يقدموا للأجيال كل هذا الإرث الثقافي، ولكنهم تألموا وتعذبوا ولاقوا الكثير من المواقف الصعبة كي يصنعوا كل هذا الجمال.