استهلال
يعني مفهوم “الاستعمار البديل” أو “الاستعمار بالوكالة” استخدام القوى الاستعمارية لأطراف أو جماعات محلية (أو خارجية) لتحقيق أهدافها الاستعمارية من دون الحاجة إلى السيطرة المباشرة. ويقصد منه في حالة فلسطين الانتدابية دور بريطانيا في تمكين المشروع الصهيوني. فبصفتها قوة استعمارية؛ لم تكتف بريطانيا بإدارة فلسطين فقط، بل دعمت المشروع الصهيوني بطرق متعددة لإقامة “وطن قومي لليهود” وفقاً لما جاء في بنود صك الانتداب. ولم يقتصر الدعم على الجانب السياسي، بل امتد ليشمل أساليب السيطرة على الأرض، مثل تسهيل عمليات بيع الأراضي لليهود والموافقة على الهجرة اليهودية الواسعة، وتسهيل سير المشروع الصهيوني لتحقيق الأهداف الاستعمارية. فبديلاً عن الممارسة الاستعمارية التقليدية المباشرة، استخدمت بريطانيا الحركة الصهيونية لإدارة وتوجيه المشهد الاستعماري لتحقيق مصالحها، ليتحول الصهاينة -بالتالي- إلى شركاء فعليين لبريطانيا عبر مجتمع الييشوف اليهودي الاستيطاني لفرض واقع جديد يخدم المصالح الاستعمارية البريطانية؛ وكذلك مصلحة المشروع الصهيوني من خلال العمل المباشر على الأرض؛ وهذا ما سمح في تحويل الييشوف إلى قوة سياسية واجتماعية واقتصادية وعسكرية وكيلة، تقوم بمهام الاستعمار بشكل غير مباشر.
وبناء على هذا كان على الفلسطينيين مواجهة ليس بريطانيا (بصفتها قوة استعمارية) فقط، بل أيضاً المشروع الصهيوني (بصفته أداة استعمارية استراتيجية تنفيذية) لتحقيق أهداف بريطانيا. ومواجهة، بالتالي، نوع من الاستعمار المزدوج: استعمار بريطاني مباشر وآخر صهيوني غير مباشر.
وتكمن خصوصية استعمار فلسطين في أهمية الصراع على الأرض بصفتها رمز مركزي ومحور رئيس في النزاع القومي بين العرب والمستعمِرين الأوروبيين “اليهود”.
وتركز المقالة على أساليب الإدارة البريطانية (والصهيونية) والمحاولات البيروقراطية المتواصلة لتغيير أنظمة تسجيل الأراضي لتعزيز السيطرة على الأرض وتجزئة الملكية العقارية وتقويض المعيش اليومي للفلاح الفلسطيني واقتلاعه من أرضه، وبالتالي، تفكيك المجتمع التقليدي؛ وهي نتائج استمرت في تشكيل الصراع العربي الإسرائيلي حتى بعد قيام إسرائيل. وتقارن المقالة بين مفهوم الأرض المشاع والأرض المفروزة كجزء من تحليل الكاتب لطرق شراء الوكالة اليهودية للأرض ضمن إطار الاستعمار البديل. فالأرض المشاع كانت نظاماً تقليدياً قائماً على الملكية الجماعية للأرض، حيث كانت الأراضي تُزرع وتُدار بشكل جماعي، وهذا يعني أن الأرض لم تكن تخص أفراد بعينهم بشكل دائم، بل كان ينتقل استثمارها دورياً بين أفراد المجتمع بناءً على احتياجاتهم. أما الأرض المفروزة، كانت تشير إلى عملية تحويل الأرض المشاع لملكيات فردية قابلة للبيع والشراء. وكان هذا التحول جزءً من استراتيجية الاستعمار البديل التي اعتمدت على فرض سياسات تهدف إلى تفكيك نظام المشاع وتحويل الأراضي إلى ملكيات خاصة يمكن للمستثمرين والمستوطنين اليهود شراؤها بسهولة.
في المحصلة النهائية؛ لم يكن بمقدور مجتمع الييشوف الاستعماري إنشاء دولة خاصة به ما لم يتحول اليهود إلى أغلبية؛ وهذا ما حصل فعلاً في سياق الاستعمار البديل، فقد كانت جميع العمليات والسياسات المذكورة أعلاه تهدف إلى تغيير الطابع الديمغرافي لفلسطين بتقليص حجم الأراضي التي يمتلكها أو يعمل عليها الفلسطينيون، وزيادة ملكية المستوطنين اليهود للأراضي. وبالتالي، أدى هذا التحول إلى تشريد العديد من الفلسطينيين من أراضيهم وتقويض نظامهم الاجتماعي والاقتصادي التقليدي. وقد لعبت مفاهيم الأرض المشاع والأرض المفروزة دوراً محورياً في استراتيجية الاستعمار البديل التي اعتمدت على تغيير نظم الملكية الأرضية لتسهيل الاستيطان اليهودي في فلسطين.
…..
الاستعمار البديل لفلسطين: 1917-1939
سكوت أتران
ترجمة محمود الصباغ
نستعرض هنا مفهوم “الاستعمار البديل [أو الاستعمار بالوكالة] surrogate colonization” لفلسطين بين 1917 – 1939، ونعني به قيام سلطة أجنبية بمنح جماعة غير محلية لا تنتمي للسكان الأصليين حقوقاً في الأرض التي تحتلها تلك السلطة الأجنبية والتي يعيش عليها السكان الأصليون. ويستدعي هذا النمط من الاستعمار (والحديث هنا عن فلسطين) تداخل ثلاث أجندات متعارضة -لكنها تكمّل بعضها البعض بذات الوقت- تمثل ثلاث أطراف متمايزة ثقافياً: بريطانيا واليهود والعرب، وكل طرف له ممثل “داخلي”، وممثل “خارجي” (غالباً ما يفتقر هذا الأخير إلى خبرة عملية مستدامة حول طبيعة المعيش اليومي في فلسطين).
واستندت فكرة استعمار فلسطين بالوكالة إلى “توافق استراتيجي” يشمل الممثل الخارجي لكل طرف، أي -على التوالي- النخبة البريطانية الحاكمة وقيادة المنظمة الصهيونية العالمية والأسرة الهاشمية العربية.
وسوف يؤدي انهيار توافق أطراف “الممثل الخارجي” للاستعمار بالوكالة إلى وضع حدٍّ له، لكنه لم يقضِ تماماً على العملية الاستعمارية بحد ذاتها؛ بل أنتج جملة تناقضات متناحرة، لن يكون من السهل التوفيق بينها داخل التيارات الرئيسة لكل جهة أو جماعية داخلية تتبع الأطراف المعنية المذكورة، مما يستدعي النقاش، ببعض التركيز على مشكلة الأرض في فلسطين في ضوء تلك التناقضات التي تغلف أجندة الجماعة الداخلية لكل طرف، والتي حالت دون حدوث صدع بين الطرفين اليهودي والبريطاني حول الإجماع المطلوب؛ بما يكفي لمواصلة الييشوف عملية الاستيطان الصهيوني في فلسطين للاستحواذ على الأرض وتطوير بنية تحتية اقتصادية وثقافية وسياسية تحقق له الاكتفاء الذاتي بدرجة كبيرة.
كان من نتائج الحرب العالمية الأولى أن تغلغلت المفاهيم الأمريكية عن تقرير المصير إلى الخطاب الاستعماري البريطاني والفرنسي. واستُخدم خطاب [الرئيس] ويلسون، بطريقة أورويلية، لحل المعضلة التي تسببت بها الحرب العظمى بشأن إخفاق المهمة الحضارية لأوروبا. فنظر بعض الأوروبيين بنوع من الأسى إلى التراجيديا التي حلت بالتقدم التكنولوجي والمسيحية(1). ورأى فيها آخرون نهاية محتملة للحياة المدنية المتحضرة. مثلما نظرت، في عشرينيات القرن الماضي، غيرترود بيل، المستشرقة [البريطانية] المقيمة في العراق، إلى انتفاضات ما بعد الحرب ضد السيطرة الأوروبية على الشرق الأوسط: “تلك الشريحة من العامّة عديمة التفكير التي تشكل الغالبية العظمى من هذا العالم، تتبع -دون تمحيص- الثورة ضد النظام القائم المقبول… نحن على مشارف الانهيار الكامل للمجتمع- نهاية الإمبراطورية الرومانية… وثمة قليل يمكن الاعتماد عليه لإعادة بنائها. لقد ولّى من غير رجعة فضل الحضارة الأوروبية. وكثيراً ما أخبرني البعض عن شعورهم بالصدمة والمفاجأة لرؤية أوروبا تنزلق إلى الهمجية… وإلا ماذا يمكن أن نسمي الحرب؟ كيف يمكننا، نحن الذين أدرنا شؤوننا بشكل سيء، الزعم بتعليم الآخرين كيفية إدارة شؤونهم على نحو أفضل؟”(2)
لكن حسرة زعماء الإمبراطوريات ووكلائهم النشطين وأسفهم يتمثل في “الخطأ” الذي قصدوا إصلاحه. لأن طموحات القوى الأوروبية الجيوسياسية والاقتصادية العالمية استدعت إعادة تأهيل المهمة الأساسية التي بررت الحملة الاستعمارية ودوافعها للسيطرة على البشرية جمعاء. وقد وفر مذهب ويلسون الأداة المثالية لأنه أنعش، بالأحرى أحيا الزعم الأخلاقي السقيم للسيطرة والحكم باسم الحضارة، باقتران أفكار ومفاهيم التقدم التكنولوجي مع المثل الديمقراطية. وسيُطبق التقدم العلمي لأوروبا (وأمريكا) -من الآن فصاعداً- على نحو لا لبس فيه في تجارب الهندسة الاجتماعية والاقتصادية بهدف تحرير عمل وعقول الشعوب الأصلية. وهو ما بات يؤشر في النصف الأول من القرن الماضي -ضمن جهود بريطانيا الحضارية في أفريقيا- إلى بداهة “حق الشعوب الملوّنة بيع عملها في سوق حر وعادل”.
وجعل المبشرون هذا الأمر جزءً من حملة تسعى إلى توطيد قواعد الإمبريالية على أسس أخلاقية أكثر ثباتاً تبعاً لمبدأ “القوة تصنع الحق”. واكتسب الغزو والاستعمار الإمبرياليين أساساً ومبرراً منطقياً أكثر انسجاماً بتطبيق أفكار التنوير الليبرالية لإدارة وتوسيع الثورة الصناعية في أنحاء العالم، من خلال الاستعاضة عن “العمل الحر” بمفاهيم التبعية والعبودية.
وأصبحت إيديولوجية العمل الحر إلى جانب أفكار الديمقراطية عقب الحرب العظمى، وسيلة سيطرة وتحكم أكثر فعالية ودقة.
ومن شأن مساواة حرية العمل بحرية الفكر السماح للقوى الحاكمة بإنكار الصوت التمثيلي لمن ما زالوا يعيشون حالة التخلف الهمجي -بسبب التعصب والجهل والكسل والعجز العرقي وما إلى ذلك-. ولا يمكن اعتبار الشعوب الأصلية “مستعدة وجاهزة” لاستلام زمام نفسها بنفسها وتولي سياسات الحكم الذاتي إلا عندما يتم انتزاعها من علاقتها العضوية بالأرض والمجتمع، وإلى ذلك الحين، وبالنظر إلى حالة الانهيار التي كانت تعاني منها مجتمعاتهم السابقة وحاجتهم للبقاء في نطاق السوق “الحرة”، سيكون خضوعهم السياسي للمؤسسات الغربية أمر محتماً.
وتأسيساً على ذلك؛ صاغ أعضاء المجلس الأعلى لعصبة الأمم -بريطانيا وفرنسا وإيطاليا- نظام الانتدابات لهيكلة وترتيب منظومة الاستعمار الجديد والعقلية المصاحبة له؛ وطرق التفكير المرتبطة به الذي خلقته ظروف ما بعد الحرب. فنظرت هذه الصياغة إلى الإبقاء على خطاب ويلسون بشأن “توجيه” الشعوب الأصلية نحو “تقرير المصير” عند حدوده الدنيا فيما يتعلق بمناطق من أفريقيا المدرجة ضمن خطتي الانتداب “ب” و “ج”؛ والتي تحتوي على تجمعات كبيرة ومهمة من المستوطِنين الأوروبيين. غير أن الأمر اختلف بعض الشيء بالنسبة لخطط الانتداب في الشرق الأوسط؛ أي المناطق “أ” والتي تشمل كل من سوريا (بما في ذلك لبنان) وبلاد الرافدين (العراق) وفلسطين (التي كانت تضم في الأصل شرق الأردن الحالي). وهذه المناطق بمجملها كانت جزء من الأراضي العربية التابعة للإمبراطورية العثمانية السابقة؛ وتضم عدداً ضئيلًا نسبياً من المستوطِنين الأوروبيين، وبالتالي، يمكن “إدارتها” -بدلاً من استعمارها- نظراً لأهميتها الاستراتيجية القصوى. وبناء على ذلك، سوف يكون الغرض/ الهدف المعلن من الانتداب الفرنسي على سوريا، مثلما هو حال الانتداب البريطاني على العراق، تقديم “المشورة والمساعدة الإدارية” حتى يتسنى للشعوب المعنية، “المعترف بها بالفعل على أنها شعوب تنتمي إلى دولٍ مستقلة”، من “الوقوف على قدميها بمفردها فعلياً”.
ومن شأن الحكم “المستنير” أن يعود بالمنفعة على الشعوب الخاضعة، كما سيحمي الحضارة أيضاً ويروي، في ذات الوقت، شهوة وعطش أوروبا القديم للشرق: دون إغفال الرغبة التي دفعت [الفرنسيين] دائماً نحو بلدان الآلهة والألوان: الرغبة الدينية الحارّة والحماسة الشديدة للمشي فوق عشب الجليل حيث خطا المسيح… والرغبة السياسية النافذة في إقامة سد يحمي من غزوات آسيا المادية أو الفكرية التي لطالما بقيت في حالة تخمر واضطراب دائمين؛ وما انفكت تلك الرغبة البسيطة في النور والمغامرة والجمال والحياة المريحة والبسيطة الاقتراب مسرعة نحو الفوضى والاضطراب وعدم الاستقرار(3).
ومن هذا المنطلق، قد يستغرق الأمر بعض الوقت حتى يمتلك العرب من التصميم والقوة ما يكفي ليشغلوا مكان عصبة الأمم ويتولوا أمورهم بأنفسهم؛ لأنهم، كما كان يردد تي. إي. لورانس، يشبهون الأطفال عندما يُمنحون حريتهم: “سيتصرفون بشكل غير مستقر ويعانون من الانفعالات العاطفية الكبيرة والتقلبات المزاجية الحادة، ويفتقرون إلى قواعد الانضباط… غير قادرين على الاستقرار… فهم دائماً مهلهلين وسائبين مثل الماء”(4). ولكن يمكن تشجيعهم لتبني “الحكم الذاتي”، بالطريقة التي أوضحها، على سبيل المثال، في العام 1917 نائب الملك في الهند في رسالة إلى غيرترود بيل: “لا يهم حقاً الشكل الظاهري لمن نختارهم في بغداد؛ سواء كانوا من الرجال الأثرياء أو من ذوي اللحى الأطول؛ لأنهم سيخضعون جميعاً -بصرف النظر من هم- للحاكم البريطاني المقيم وعدد معين من المستشارين”(5).
تتوافق هذه المشاعر -من حيث المبدأ- مع مشاعر ثيودور هرتزل؛ مؤسس الحركة الصهيونية وماكس نورداو؛ خطيبها الأشهر. ولكن المهمة الحضارية في فلسطين قد تسير على نحو أفضل بتقسيم العمل، حيث توفر بريطانيا القوة/ السلطة وتوفر الصهيونية الحضارة/ الثقافة kultur: “سنحاول القيام في آسيا الصغرى؛ ما فعلته بريطانيا في الهند -وأعني بهذا عملنا الحضاري والثقافي وليس السيطرة والحكم بالقوة. نعتزم القدوم إلى فلسطين كمبعوثين ومبشرين للحضارة وللثقافة؛ فضلاً عن توسيع الحدود الأخلاقية لأوروبا حتى الفرات”(6).
وهكذا طُرحت فلسطين، في إطار النظام الانتدابي “أ” كمشكلة خاصة تشجع على خلق حلول جديدة؛ ونظراً لأهمية موقعها، من الناحية الاستراتيجية، بين آسيا وأفريقيا، وبين سوريا ومصر، وبين الطموحات الفرنسية والبريطانية، لم يكن من المتوقع -في النهاية- أن يُعهد بها إلى شعب ضعيف الولاء للمبادئ والزعامات، على النحو الذي أشار إليه لورانس، في وصفه طبيعة هذا الشعب بـ “عدم المسؤولية وقابلية التحرك في أي اتجاه دون تمييز للألوان”(7).
ولا يمكن في عالم تحول للتو ليصبح ديمقراطياً بصورة آمنة، استعمار فلسطين عن طريق مستوطنين قادمين من المتروبول. ولكن من المعقول، كبديل، قيام شعب آخر باستعمار الأرض لمصلحة الإمبراطورية: شعب يُفترض أنه من “عرق” سكان البلاد، غير مرغوب فيه في أوروبا ولكنه مشبع تماماً بالحضارة الأوروبية ومنغمس فيها؛ شعب يُنظر إليه على أنه مُضطهَد، ولكنه يتمتع بالنشاط الفكري والالتزام الثقافي لتأمين الأرض والسيطرة عليها؛ شعب مشهور بانضباطه العائلي الوثيق والتزامه بشبكة عالمية من التحالفات الاجتماعية والمالية، ولكن هذا لا يمنع من استيعابه واستغلاله من الناحية الاستراتيجية لمصلحة الإمبراطورية؛ شعب سيكون ممتناً للسلطة التي منحته وطناً، لكنه سيظل معتمداً عليها لمواصلة حمايته ضد الجيران المعادين المحتملين…كانت هذه هي المقدمات المنطقية التي وقفت وراء استعمار فلسطين بالوكالة.
وقد أصدر ونستون تشرشل؛ وزير المستعمرات، مرسوماً في العام 1921 حول كيفية تطبيق مبدأ الحكم “بموافقة المحكومين” على فلسطين، جاء فيه: “سنطوّر تدريجياً مؤسسات تمثيلية تقود إلى الحكم الذاتي الكامل”، لكن “أولادنا وأحفادهم لن يكونوا أحياء حين يتحقق هذا الأمر”(8)… وكان على العرب الانتظار قرناً أو نحو ذلك قبل أن تعتبر إنكلترا “تلك الجحافل البدائية سكان الصحراء” أقواماً متحضرة بما يكفي لتبرير استحقاقاتهم السياسية. ولكن بمشيئة الرب فقط، سيكون اليهود قد صاروا هم الأغلبية. وفي تشرين الثاني1917، أعلن وزير الخارجية آرثر بلفور دعم بريطانيا لإنشاء “وطن قومي لليهود في فلسطين… على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين”(9). وتضمنت المفاوضات مع بريطانيا مبرراً ثلاثياً لمنح فلسطين لليهود: الاستراتيجية الجيوسياسية، والمهمة الحضارية لـ “الإمبراطورية المستنيرة”، وما يمكن تسميته بشكل فضفاض “الدين”(10).
وأكّد [حاييم] وايزمان، ابتداءً، على القيمة الاستراتيجية لهذا الاستعمار البديل؛ فكتب في العام 1915: إذا لم ترغب بريطانيا العظمى في استيلاء أي طرف آخر، على فلسطين.. فسوف يتعين عليها مراقبتها والوقوف بوجه اختراق أي قوة أخرى لها. وينطوي هذا -بالتأكيد- على قدر كبير من المسؤولية يماثل مسؤولية الحماية البريطانية الفعلية على فلسطين، مع فارق وحيد أن المراقبة هنا بمنزلة وسيلة وقائية أقل فعّالية بكثير من تدابير إجراءات الحماية الفعلية. لذا؛ لطالما اعتقدتُ بإمكانية اعتماد المسار الأوسط… بمعنى؛ استيلاء اليهود على البلاد وتوليهم مقاليدها، بحيث يقع على عاتقهم أعباء التنظيم، لكنهم يعملون في ظل الحماية البريطانية المؤقتة خلال السنوات العشر أو الخمس عشرة القادمة”(11).
كان من المقرر أن يقتفي الاستعمار بالوكالة خطوات “المبادئ الإمبريالية المستنيرة”(12)، والتي كانت تعني، من بين أشياء أخرى، النظر إلى الحضارة اليهودية كحالة مؤهلة على وجه الخصوص، أكثر من غيرها، لجلبها إلى الصحراء الثقافية لفلسطين: “إذا ما شجعت بريطانيا استيطاناً يهودياً هناك، بصفته جزء من التبعية البريطانية، يمكن، حينئذ، أن يكون لدينا ليس أقل من مليون يهودي في غضون عشرين أو ثلاثين عاماً، وربما أكثر؛ وسوف يعملون على تطوير البلاد وإعادة الحضارة إليها ويعملون حارساً فعالاً لتأمين قناة السويس”(13). ولكن سيكون من الخطأ الاستهانة أو التقليل من جاذبية النهضة اليهودية في الأرض المقدسة لجموع الزعماء البريطانيين المحافظين الإنجيليين البيوريتان البروتستانت.
وقد تمثّل الوعد الصهيوني بإحضار التاريخ -من جديد- إلى بلد كانت تملؤه “أسماء أماكن مألوفة لي أكثر من أسماء الأماكن على الجبهة الغربية” كما يقول رئيس الوزراء لويد جورج(14)… وكما يؤكد وايزمان “لقد كان أشخاص مثل بلفور، وتشرشل، ولويد جورج، شديدي التّديّن ويؤمنون بعمق بالكتاب المقدس… لذلك نمثّل لهم -نحن الصهاينة- إرثاً عظيماً يحظى باحترام عظيم عندهم”(15). وهذا لا يعني أنهم محبون لليهود بالضرورة، بل كانوا مولعين بالصهيونية فقط(16). Top of Form
ويقول وايزمان عقب لقائه فيصلاً بترتيب من لورنس- وكان فيصل يمثل آنذاك زعامة الثورة العربية ضد تركيا والمطالب والساعي لتثبيت العرش الهاشمي على سوريا: “كلما تطورت الحركة العربية التي يمثلها فيصل… قل الصراع بينها وبين الصهيونية… لذا؛ ستتخذ ما تسمى بالمسألة العربية في فلسطين طابعاً محلياً بحتاً، وفي الواقع لا يعتبر هذا عاملاً جدياً وخطيراً من جانب من يعرفون الوضع المحلي تماماً”(17).
وفي كانون الثاني1919، وقّع فيصل ووايزمان اتفاقية -تمهيداً لمؤتمر باريس للسلام- تضمن الحقوق الاقتصادية والسياسية للعرب واليهود في كل من “الدولة العربية وفلسطين” جاء فيها: “ستتخذ جميع الإجراءات والتدابير اللازمة… لتوطين المهاجرين اليهود على الأرض بعملية استيطان وثيقة الصلة والعمل على توطيد الزراعة المكثفة للأرض. وينبغي -في سياق هذه الإجراءات- حماية حقوق الفلاحين العرب والمزارعين المستأجرين، ومساعدتهم في تعزيز تطورهم الاقتصادي”(18).
وأكد فيصل للزعيم اليهودي الأمريكي فيليكس فرانكفورتر، (الذي نال مع قاضي المحكمة العليا لويس برانديز، موافقة ويلسون على وعد بلفور): “الحركة اليهودية هي حركة وطنية وليست إمبريالية استعمارية. وحركتنا هي حركة وطنية وليست إمبريالية استعمارية؛ وهناك متسع لنا في سوريا. أعتقد، في واقع الأمر، أنه لا يمكن لأي منا تحقيق سبل النجاح الحقيقي دون الآخر”(19). وبدا أنه صار في متناول اليد “توافق استراتيجي” بين الإمبراطورية البريطانية والمنظمة الصهيونية والأسرة الهاشمية.
ولكن داخل فلسطين، لم يكن أدنى ملمح من التوافق. فقد بدأ عدد من القادة العرب المحليين في إدارة ظهرهم للهاشميين؛ وهكذا، بينما أعرب مفتي القدس كامل الحسيني في العام 1918 عن “ثقته الكاملة في التعاون المفيد بين جميع الأطراف”(20). فقد بدا الأمر مختلفاً بعض الشيء مع بداية العام 1919 حين قال لمندوب صحافة نيويورك: لقد سئلت عمّا إذا كانت مملكة الحجاز ستلبي تطلعاتنا الوطنية. والجواب لا… مُطلقاً… لا؛ لن تلبي. فتلك مملكة لبدو شرق الأردن وليست لنا. هنا يوجد شعب مختلف، لنا وطننا الأصلي هو فلسطين(21). وواصلت بعض الشخصيات البارزة دعمها لفكرة الأمة العربية، مثل عوني عبد الهادي (زعيم إحدى العائلات المعروفة في منطقة نابلس وأحد مؤسسي “جمعية العربية الفتاة” القومية السرية في باريس قبل الحرب)؛ غير أن الجميع تقريباً عارضوا وعد بلفور، مثلما جاء على لسان الجمعية الإسلامية المسيحية للجنة كينغ كراين الأمريكية:” ليس لدينا علاقات مع الحجاز [والأمير فيصل]… ومن المستحيل بالنسبة لنا التوصل إلى تفاهم [مع الصهاينة] ولا حتى العيش معاً”(22).
لم تلق قيادة الحكومة البريطانية بالاً لمعارضة المجتمع العربي الفلسطيني لوعد بلفور: “لقد طلبتم مني… التنصل من وعد بلفور وأن أعترض على الهجرة… ليس في وسعي فعل ذلك، ولو كان باستطاعتي، فلن تكون هذه رغبتي… نعتقد أنه [وعد بلفور] سيكون جيداً للعالم ولليهود وللإمبراطورية البريطانية. كما نعتقد أيضاً أنه سيكون مفيداً للعرب الذين يعيشون في فلسطين”(23). غير أن الأمر ليس كذلك لأفراد السلطة الموجودين في البلاد(24). ففي نيسان 1918، أنشأ الجيش إدارة أراضي العدو المحتلة (OETA)؛ وبدأ بعض العاملين فيها الاعتقاد بأن وعد بلفور كان تكتيكاً مشروعاً في زمن الحرب، وبدأ الآن يفقد تأثيره وفعاليته وانتهت فائدته. ولكن حتى قبل الحرب، كان هناك عداء عربي ملحوظ للصهيونية، وتوقع الكثير في وزارة الخارجية والإدارة العسكرية أن زيادة تشجيع ودعم الاستيطان اليهودي في البلاد سيزيد في تأجيج مشاعر السكان الأصليين لدرجة تجعل البلاد غير قابلة للسيطرة تقريباً(25).
وكانت المعارضة العربية في أغلبها محض مسألة محلية ضيقة الأفق وذلك في بداية الاستيطان اليهودي الجديد في ثمانينيات القرن التاسع عشر. وشملت عمليات شراء الأراضي اليهودية بعض التعديات على مجتمع الفلاحين وأحياناً تشريد بعضهم. كما كتب أحد المستعمرين الأوائل: “كانت الأرض التي اشتريناها (لمستعمرة غيدرال تشكّل “النفس والروح” (נפש ורוח) لأهالي قرية [قطرا] [العربية]. لقد اقترض القرويون من المرابي الفرنسي بوليفار Polivar بمعدل فائدة مرتفع لدرجة أنهم أُجبروا في النهاية على بيع أراضيهم بسعر القرض. لم يشعر الفلاحون بالعبء الكامل لمصيبتهم طالما بقي بوليفار مالكاً للأرض لأنه كان يؤجرها لهم. ولكن الآن بعد معرفة الفلاحين أن إخواننا [اليهود] يعملون في الأرض بمفردهم، ولن يؤجروها… وجد أولئك الفلاحون أنفسهم عراة بلا مأوى ولا يعرفون كيف سيؤمنون قوت يومهم؟”(26).
سرعان ما أدت الإصلاحات العثمانية المتعلقة بالشؤون المالية والأراضي (في المرحلة الثانية من قوانين “التنظيمات” العثماني)، والتي دخلت حيز التنفيذ في فلسطين حوالي العام 1870، إلى فقدان الفلاحين ملكية الكثير من الأراضي التي كانوا يزرعونها(27). لكن الظروف الحياتية لم تتدهور كثيراً؛ فقد عوضت الإصلاحات تحسن الأمن المادي والفرص التي قدمتها الأسواق الزراعية الناشئة تكلفة دفع إيجار الأرض لمالكيها الغائبين(28). ثم جاء المستعمِرون اليهود الذين استبدلوا مدخراتهم الضئيلة بأعمال ثمينة في صهيون، وتركوا وراءهم تجارة مرهقة مغتربة في أوروبا الشرقية المليئة بالاضطرابات والمذابح ليعملوا في أرض إبراهيم وإسحاق لفائدتهم وليس لفائدة غيرهم: “لهذا السبب، وجد العديد من الفلاحين أنفسهم فجأة بلا أرض يحرثونها؛ مما أثر كثيراً على وجودهم وحرض على تفشي النزاعات التي وضعت إخواننا (العرب) ضدنا [في بتاح تكفا]”(29). وعبّر الكثير من هؤلاء المستعمِرين الأوائل عن دهشتهم الحقيقية عندما وجدوا أن أبناء إسماعيل، الابن المنسي لإبراهيم، لا يزالون يسكنون في أرض آبائهم. ونظر القليل منهم إلى العرب كأشقاء ضائعين منذ زمن طويل. بينما حلم آخرون بطردهم وإعادتهم إلى منفاهم الصحراوي. ويبدو أن الفلاحين العرب كانوا قلقين بالمثل.
وما إن حل العقد الأخير من القرن التاسع عشر حتى تضاعف -عملياً- عدد سكان الييشوف ليصل إلى 48 ألف نسمة بالإضافة إلى إنشاء تسع مستوطنات زراعية. وبدأ وجهاء وملاك الأراضي الفلسطينيون، الذين تعتمد مكانتهم وسلطتهم على الفلاحين، في إرسال وفود إلى القسطنطينية برئاسة مفتي القدس محمد طاهر الحسيني، وحظيت المعارضة الفلسطينية للصهيونية باهتمام إيجابي ودعم من الباب العالي. غير أن هذا لم يمنع من تضاعف عدد المستعمرات اليهودية، بحلول موعد انعقاد المؤتمر الصهيون الأول في العام 1897، بسبب فساد بعض المسؤولين الأتراك المحليين.
وبعد ثورة تركيا الفتاة (1908)، بدأ صعود القومية العربية ضمن الإطار الأوسع للقومية العثمانية في تحويل الصراع الاجتماعي والاقتصادي إلى صراع سياسي. ومع بداية الحرب العالمية الأولى، كانت المعارضة السياسية للصهيونية قد تغلغلت في العديد من قطاعات وشرائح المجتمع العربي في البلاد وبدأت العمل على تأكيد هوية وطنية فلسطينية محددة(30).
أعلن الجنرال أللنبي عند دخوله مدينة القدس وانتزاع فلسطين من الأتراك في كانون الأول 1917، انتهاء الحروب الصليبية؛ كما لو أنه تأثر بتصريحات وايزمان التوراتية عن فلسطين اليهودية(31). لكن الحذر دفعه لتأجيل تنفيذ وعد بلفور. وفي واقع الأمر، نشر رونالد ستورز، حاكم القدس العسكري، الإعلان المشترك الأنكلو-فرنسي، الذي وعد بالمساعدة والتشجيع على “إقامة حكومات وإدارات محلية في سوريا والعراق”(32). مما يوحي بأن إدارة أراضي العدو المحتلة OETA اعتبرت فلسطين جزءً من سوريا، حيث لم تكن الحكومة البريطانية تعتبرها كذلك(33). ولكن التوجه الأوروبي المتواصل في فلسطين نحو “تقرير المصير” كان ضرورياً للغاية في مواجهة مخاطر الحركة الصهيونية، بصورة أكبر مما هو عليه الحال في العراق أو سوريا حيث: “يتوقع السكان الأصليون طردهم النهائي من الأرض؛ وهم بحاجة إلى الحماية، بل إلى أكبر قدر من الحماية لمواجهة الغرباء القادمين إلى بلدهم”(34).
كان لدى كبار الضباط في الإدارة العسكرية (والمدنية فيما بعد) في فلسطين نظرة استشراقية ومعادية للصهيونية إلى حد كبير. وهذا لا يعني أن الصهيونية والاستشراق كانا متعارضين بالضرورة. فقد اعتقد لورنس، مثلاً، أن الصهيونية هي تتويج وخلاص الشرق: “التجربة اليهودية هي… جهد واعٍ من جانب أقل الشعوب أوروبا أوروبيةً، للتصدي لانجراف العصور، والعودة مرة أخرى إلى الشرق الذي أتوا منه… سيضمن نجاح مخططهم حتماً إلى رفع سوية المستوى المادي للسكان العرب الحاليين إل ما يقارب مستوى الصهاينة(35).
وهكذا يمكن للصهيونية أن تعيد لليهودي تراثه الشرقي الحقيقي، وتحرره من المجتمع المتدهور للمخططين الحضريين والمرابين الذي فرضته عليه الحياة الأوروبية المنعزلة. وسوف يكون اليهودي، بسبب إقامته في الغرب، في وضع يسمح له بإيصال إحساسه الغربي بالواجب والمسؤولية إلى الشرق، وهو ما يفتقر إليه العربي بصورة واضحة. ويمكن للعربي، بدوره، أن ينقل إلى اليهودي مشاعر حنين غير مقيدة ودوافع تعبير إبداعية.
لكن إعادة توطين اليهود في الشرق لن تكون محدودة بالمصلحة المحلية فقط؛ بل يمكن أن تتحول إلى نواة قوة عالمية جديدة “يجب أن تقف إلى حد كبير لتصب في مسار الجهد الصهيوني”.
كان ستورز هو الذي تدخل، بصفته السكرتير الشرقي في مصر في عهد كيتشنر، في المفاوضات الأولية لإقامة تحالف عسكري بين الحكومة البريطانية والهاشميين، وهو ما أدى في النهاية إلى اندلاع الثورة العربية، حيث أصبح لورانس أحد المخططين الاستراتيجيين الرئيسين في حرب العصابات التي كان يشنها المقاتلون العرب ضد القوات العثمانية. أما بالنسبة للصهيونية، فقد شارك ستورز إلى حد كبير آراء لورنس في تقديره لروحها، لكنه اعتبرها “أخفقت في تنفيذ مهمتها، لتأثرها الكبير في (الثقافة الروسية Kultur) ذات الطابع المتغطرس والمتعجرف” مما يجعل من الصعب عليها جلب فجر جديد للشرق. لو كان لـ “السفاردي.. اليهودي “النبيل” الذي هو “شرقي حقيقي أصيل” دوراً أكثر أهمية، لكان من الممكن تحقيق رؤية لورانس. لكن غرور اليهود الروس وغطرستهم تجلت في موقفهم تجاه جميع الشرقيين، بمن فيهم مواطنيهم اليهود الروس: في أرض إسرائيل الجديدة لم يتم احتقار (السفارديم) فحسب، بل تم تجاهلهم باعتبارهم شرقيين ضعفاء -على الأقل-. وكانت هذه الخلفية السفاردية هي ما سيجعلهم… وكلاء مثاليين للتعامل والتفاوض مع العرب(36).
وبالمجمل، كان ستورز معادياً للصهيونية لأنه رأى أن تجربتها التي تهيمن عليها روسيا معادية لمبادئ الشرق بشكل أساسي. فقد كان هدف الانتداب -بالنسبة له- الحفاظ على الوضع الراهن عبر “حكم بريطاني معتدل غير شخصي”(37). ورغم محاولته المستمرة لتنفيذ هذه السياسة قدر المستطاع، إلا أن جهوده ستتعرض لهجوم الصهاينة داخل فلسطين وخارجها بطريقة “بغيضة ومستفزة في بعض الأحيان وحتى ذات طبيعة تهديدية… [لكنني] لم أصبح بسببها معادياً للسامية إلى الأبد”(38).
أما عن العداء العربي الظاهري للاحتلال العسكري، فلم يكن أكثر من مجرد تعبير عن شعب حديث التحرر من العبودية وجد نفسه في مواجهة “تغييرات طفيفة ولكنها مزعجة”، مثل حقيقة أن “دفع الضرائب أو الامتثال للوائح والأنظمة الصحية الجديدة لم يعد من الممكن التهرب منها عن طريق النفوذ أو الرشوة [وردت في الأصل (بخشيش)- المترجم] “.
لم يشكك ستورز -مثله مثل معظم المسؤولين الإداريين في أماكن أخرى من الإمبراطورية البريطانية -في الافتراضات السياسية التي تقوم عليها مثل هذه الإجراءات القسرية. فلم ينظر على سبيل المثال إلى مقاومة “اللوائح الصحية” على أنها تحمل خطر العدوى الجسدية فحسب، بل تهديداً بانتقال عدوى العقلية المتمردة التخريبية المحتملة(39). وبالمثل، كانت محاولات السكان المحليين للتهرب من الإحصاء السكاني البريطاني تمثل، غالباً، جهوداً ذات دوافع “سياسية” مثل الجهود المبذولة لتنفيذه. فعلى الرغم من المعارضة العربية الواسعة لفكرة إنشاء “مجلس تشريعي” مقترح تتكون أغلبيته من أعضاء تعينهم الإدارة، فقد صدر أمر بإجراء تعداد عام لغرض إعداد سجل للناخبين. وحذرت الإدارة اللجنة التنفيذية العربية من أن عدم التعاون مع التعداد سينظر إليه كجريمة جنائية: “في حالة وجود عراقيل، ستقوم الحكومة على الفور باتخاذ إجراءات قانونية ضد من يعرقل تنفيذه ومن يحرض على هذا التعطيل”(40).
وكما هو الحال في أماكن أخرى في الإمبراطورية، كان الهدف الرئيس من التعداد هو تحديد الطبيعة العددية الإحصائية للسلع والأفراد لإنشاء الفئات التجارية والاجتماعية والتصنيفات التي يمكن من خلالها تنظيم شؤون المستعمَرة: ويتم بهذه الطريقة فهرسة المعيش الحي بهدف التدقيق والسيطرة عليها من قبل الفئات الأجنبية الحاكمة، وتثبيتها في فئات تحد من مرونة التكيف وقدرة الناس على التطور حسب رغبتهم في عالم سريع التغير.
لم يتطرق ستورز -بالطبع- إلى حقيقة أن “دفع الضرائب” يعني ضمنياً نظاماً مالياً كاملاً يستند إلى الحفاظ على الوضع الاقتصادي الراهن للفلاح من خلال إصلاحه وتحديد مكانه إدارياً. وأن مثل هذا التعيين الصارم لاقتصاد الفلاحين سوف يسهم إلى حد كبير في تدميره.
لم تكن فلسطين، بهكذا تدابير، تتبع فقط نمط تجربة مستعمرات بريطانيا الأخرى فحسب، بل مثّلت تلخيصاً للتجربة الاستعمارية للإمبراطورية برمتها. وأسهمت المسوحات الكتابية والجغرافية لصندوق استكشاف فلسطين قبل الحرب (التي لعب فيها كتشنر دوراً بارزاً في العام 1874 ولورانس في العام 1913)، مثلما أسهمت المسوحات الاستقصائية المماثلة في أماكن أخرى في إفريقيا وآسيا، في جمع التواريخ المحلية، وربط مجموعة من العادات بالسكان الأصليين وتعيين الحدود المكانية الثابتة لهم، وتحري ممارسات النظم السابقة تجاههم. وبمجرد تأكيد السيطرة على المنطقة، ستعمل التعدادات السكانية الدورية والإحصائيات على قوننة وتدوين المعلومات وتنظيمها لضمان معالجة أكثر فعالية للسكان المعنيين. لكن سياسة “تسوية أوضاع الأراضي” هي التي لخصت فكرياً التزاوج بين العقلانية والتنظيم [الإداري]، وأعادت التعيين المادي للشروط الوجودية للشعب وضبط أوضاعه.
وما إن بوشر بتنفيذ سياسة التسوية هذه في البنغال في ثمانينيات القرن الثامن عشر حتى أصبحت أحد أكثر الأنشطة التنظيمية شمولاً واستمراريةً في الإمبراطورية البريطانية(41). وفي فلسطين، تعاملت الإدارة ما يمثل قرن ونصف من الحكمة الاستعمارية المتراكمة في مسائل تسوية الأراضي وما يرافقها من مسوحات جغرافية وإحصائيات وتدابير صحية وبرامج اقتصادية و”تعليمية” سوف يتم تطبيقها مجتمعةً. ولم يتعرض أي بيان رسمي أو خطة سياسية حكومية للتشكيك بأهمية تسوية الأراضي، أو استخدامها كأساس للسيطرة الاقتصادية والمالية والاجتماعية وأخيراً، السياسية، رغم أنه قد تعمل الإدارة البريطانية على الإدانة الشديدة لـ “الغطرسة” الصهيونية، وتتبجح في الدفاع عن “احتياجات” الفلاحين(42).
كانت معظم أراضي القرى الفلسطينية، في عشرينيات القرن الماضي، تتوزع وفقاً لنظام الملكية المشتركة؛ أي “المشاع”، وعملت السلطات إلى إزالة هذا النظام كشرط مسبق لتسجيل الأرض وتسوية وضعها: ومن المعلوم أن إعادة توزيع الأرض بصورة دورية كل عامين يعوق التقدم، لأنها تحول دون الاستفادة الفردية وتثبيط أي مبادرات شخصية، كما تحد من إنفاق الأموال وتعميم أساليب الزراعة… حيث تتوزع الملكية لقطع الأراضي المتفرقة التي يفصل بعضها عن بعض أراضٍ تعود ملكيتها لآخرين مما يشكل عائقاً كبيراً أمام تعيين الحدود بدقة؛ فيخلق صعوبات عدة لمعرفة أين ومتى تنتهي حدود كل حقل أو ملكية. وسوف يكون تجميع أو توحيد قطع الأرض هذه في ممتلكات متصلة فيما بينها دون انقطاع شرطاً للتنمية الاقتصادية التي تعود بالمنفعة على البلاد ككل(43).
وفي العام 1923، صاغت لجنة الأراضي المشاع خططاً لفرض تقسيم؛ أي فرز للأراضي غير المقسمة إلى قطع مفروزة ثابتة ودائمة.
وسوف يعود هذا الأمر على الإدارة بفوائد مالية معتبرة بسبب تجزئة الأرض والملكية الخاصة حيث: “تتمثل الأهداف الرئيسة لتسوية أوضاع الأراضي إلى تحديد وتسجيل حقوق الملكية الحالية؛ لتسهيل التعاملات وتقليل الدعاوى القضائية؛ وتوفير سجل دقيق لحيازة الأراضي بهدف توزيع عادل وفعال للضرائب العقارية “(44). وكان هذا التشريع بالنسبة للصهاينة، يعني تحويل الأرض المشاع إلى أرض مفروزة مما سيسمح لهم بشراء حصص الأراضي الموروثة في القرى ومن ثم إبعاد الفلاحين منها(45).
وفي سياق كهذا لا بد من تزامن المصالح السياسية البريطانية والصهيونية. وكما أوضح مدير الأراضي لاتحاد المزارعين اليهود، بمجرد حصول اليهود على حصة من الأرض المشاع، يمكنهم فرض التقسيم من خلال المحاكم: “إذا لم يتفق أصحاب الملكية المشتركة فيما بينهم على التقسيم، فإن طلب الفرز من أحد المالكين المشتركين كافٍ للمحكمة لإصدار قرار بشأن التقسيم”(46). بالإضافة إلى ذلك “كانت عمليات تسوية الأراضي المناسبة هي السبيل الوحيد لتوفير الأراضي لليهود دون تعقيدات سياسية”(47).
وبتقسيم الأرض على هذا النحو، أصبحت البنية الاقتصادية القروية أكثر عرضة للتفكك والانهيار. وسوف تتلاشى مختلف الشراكات الزراعية المشتركة وسيبدأ المزارعون الأفراد بالتخلي عن النظام الزراعي العام الذي كان ينظمه سابقاً شيوخ المجتمع القروي (الختيارية). ومع تفكك التنسيق الاقتصادي سيأتي تجزئة أشكال التنظيم الاجتماعي المتنوع المرتبطة بنظام المشاع.
ويمكن للفلاحين توقع حصول نزاعات بين أفراد الأسرة الواحدة بسبب تقسيم ميراث الأرض إلى حصص أصغر مبعثرة وعديمة القيمة من الناحية الزراعية؛ ونزاعات بين أصحاب الأراضي المتجاورة من مجموعات الأقارب المختلفة حول حدود القطع المتزايدة والمتشظية وغير المنتظمة والكثيرة بلا شك بسبب تجزئتها؛ وسوف تكون الفرق الفلاحية المختلفة المالكة لهذه القطع مقيدة بضرورة التعاون الزراعي فيما بينها مما سيدفع أكثر فأكثر نحو تفكك البنية القديمة لاقتصاد القرية بسبب تراجع الحاجة إلى التعاون الزراعي(48).
وفي ظل هذه الظروف، يمكن شراء أراضي القرية المتبقية في وقت قصير، وعلى نحو متكرر سيقوم وكلاء الصهاينة بشراء حصص وأسهم المشاع من المالكين الغائبين أو المزارعين المستقلين، مع منح القرويين عقد إيجار مؤقت للأرض. ونظراً لأن سعر الأرض المفرزة يساوي أربعة أو خمسة أضعاف سعر الأرض المشاع، فقد سمحت هذه الممارسة بشراء أسهم إضافية بتكلفة معتدلة نسبياً. كما أنها تجنبت المشاكل القانونية الطويلة والدعاوي القضائية المتعلقة بمطالبات حدودية مختلفة للعديد من الأفراد عندما يأتي وقت تسوية أراضي القرية.
وإذا ما تم شراء الأراضي بهذه الطريقة من مالكيها الغائبين، فإن العواقب السياسية لنزع ملكية الفلاحين وتهجيرهم يمكن أن تكون خفيفة أيضاً. وسيُطلب من المالكين العرب وليس اليهود -التخلص من المستأجرين قبل دفع ثمنها بشكل نهائي، وسيكون الأمر متروكاً لملاك الأراضي هؤلاء لبدء إجراءات التقسيم إزاء ما تبقى من الفلاحين المستقلين. ويمكن للمالكين العرب تجنب التبعات السياسية المتمثلة في بيع الأراضي لليهود عن طريق رهونات عقارية وهمية و”التخلف عن سدادها”. وعندها ستقوم الإدارة بعد ذلك بحجز الرهن [أي الأرض] وعرضه للبيع في مزاد علني لأعلى سعر مقدم.
لقد كان هذا أحد الأساليب والتكتيكات التي اتبعها الصندوق القومي اليهودي للاستحواذ على أراضٍ تعود ملكيتها لبعض أفراد عائلة عبد الهادي في قرية زرعين(49).
ورغم ذلك، حاول الفلاحون في كثير من الأحيان الحفاظ على الأرض كمشاع، وتجنبوا بشكل عام التسجيل لأطول مدة ممكنة. وعلى الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلتها دائرة السجل العقاري، في العام 1925، يبدو أن ثلاثة أرباع أرض فلسطين لم تكن مسجلة بعد(50). ولهذا كان قانون تسوية وضع الأراضي للعام 1928 يهدف بشكل واضح إلى إلغاء المشاع من خلال التقسيم القسري والتسجيل. ولكن هذا الإجراء لم يحقق النجاح المطلوب في البداية بسبب الصعوبات في إقناع القرويين بالانضمام إلى اتفاق إلزامي حول تقسيم دائم للحصص وتحديد المساحات(51). وبحلول العام 1930، كانت حوالي نصف أراضي فلسطين فقط لا تزال مشاعاً(52)، وبالكاد بقي ربعها بعد عقد من الزمن(53).
كان يأمل الفلاحون، في بعض الأحيان، التجنب الجماعي لعدم انتقال إرثهم المهدد إلى أيدي الآخرين عبر “تجميد” الأرض المشاع بحد ذاتها (بما يعرف باسم فرز براني). ففي قرية عسفيا، على سبيل المثال، عندما بيعت حصص المشاع، قام المالك الجديد بوضع اسم المالك السابق وموقع الأسهم التي كان يزرعها في ذلك الوقت في سند نقل الملكية غير الرسمي (الحجة الشرعية). وكان يعني إعادة التوزيع اللاحقة لقطع المشاع، عن طريق القرعة، تعيين أي قطعة محددة لمزارعين مختلفين بمرور الوقت. ويمكن للفلاحين، فيما بعد، منع المساهمين الخارجيين من المطالبة بأي قطعة معينة من خلال تعليق نظام التوزيع الدوري؛ لأن المزارع الذي لم يتم تحديد اسمه في سند الملكية الأصلي له الأسبقية في حق تملك قطعة الأرض هذه إذا استمر في زراعتها على مدار عشر سنوات(54). وطالما بقيت مؤسسة القرية متماسكة، فسوف يشكل أسلوب المشاع النظام الزراعي المفضل ليس فقط لزراعة الحبوب على نطاق واسع، بل سيكون الوسيلة الرئيسية لمنظومة القرية لمنع عمليات البيع من قبل المساهمين الأفراد(55). وبناءً على ذلك، كلما زادت قوة التكامل الاجتماعي لمجتمع الفلاحين، زاد احتمال مقاومتهم لتسوية أوضاع الأراضي.
فعلى سبيل المثال استمر سكان قرية أم الفحم في شمال السامرة طوال زمن الانتداب في زراعة 25 ألف دونم من أراضي المشاع في خربة اللجون في سهل مرج ابن عامر، على الرغم من أن تسوية أراضي السهل كان لها أولوية عالية للإدارة وللصندوق القومي اليهودي، إلا أن التكامل الاجتماعي لأربع للمجموعات القبلية الرئيسة (الحمايل) الأربعة شكل نظاماً فعالاً من الضوابط والتوازنات للتحكم في الاحتياجات المتباينة للعائلات داخل كل مجموعة والمصالح المتنافسة بين المجموعات ككل. ومنع هذا النظام الفعال من الضبط الأعضاء الضعفاء اقتصادياً من بيع أراضيهم لليهود أو لملاك الأراضي العرب الغائبين. كما منع الأعضاء الأقوياء اقتصادياً من فرض التقسيم للسماح لأصحاب الأراضي الأفراد بخيار تغيير النظام الزراعي ورفع قيمة الأراضي(56).
أما بالنسبة للسلطات، كان نظام المشاع “شراً لا بد منه”. لم يكن من الوارد وجود سياسة استعمارية رشيدة دون تسوية وضع الأراضي، ولا يمكن تحقيق ذلك بوجود نظام المشاع: “إدخال فكرة الأرض الجماعية المزروعة… تتعارض مع قانون الأراضي، وتقوض، في الواقع، المبادئ التي يقوم عليها(57). وكان من البديهي، في جميع التقارير الرسمية عن الحالة الزراعية في فلسطين، أن: “أحد الشروط المسبقة الأساسية للتنمية هو تقسيم الأرض [بمعنى فرزها]”(58).
كانت النتيجة الطبيعية لهذه البديهة أن: “أي تقسيم للأرض تقريباً، مهما كان سيئاً من الناحية الرسمية، يعتبر أفضل من عدم التقسيم على الإطلاق”(59). إلى جانب ذلك، كانت آلية التقسيم والتسوية قد نجحت في مصر والبنجاب، وأظهرت التقارير إمكانية نجاحها في فلسطين أيضاً(60). ومع ذلك، أصر الفلاحون بعناد على أساليبهم الاقتصادية الخبيثة والبالية: “يبدو واضحاً أن العرب، في مناطق معينة، يعتبرون نظام [المشاع] -هذا الذي يدمر كل تنمية- حلاً لمنع التصرف في الأرض وضمانة لعدم بيعها للأغراب”(61): تخيل قرية إنكليزية يضطر فيها كل مزارع إلى نقل ملكية أراضيه وعقاراته إلى أحد الجيران في كل عام.. ويستلم -في المقابل- مزرعة أحد الجيران، لو تخيلت ذلك يمكنك -إذن-أن تفهم حجم العقبات التي يمكن أن تعترض التقدم في التنمية الزراعية في فلسطين(62)..
لم يخطر ببال “الخبراء” أبداً أن مثل هذا السيناريو كان غريباً مثل المحاولة القسرية لتحويل الفلاحين الفلسطينيين إلى أجراء مياومين. ومع ذلك، كان هذا بالضبط ما تهدف السياسة البريطانية إلى القيام به عند كل مناسبة ومنعطف، حيث “عدت مبادئ القانون الإنجليزي [فيما يتعلق بالممتلكات الزراعية] قابلة للتطبيق في فلسطين مع بعض التبسيط”(63)
كانت النتيجة كارثية على الفلاحين الفلسطينيين؛ مثل السيناريو المتخيل للمزارع الإنجليزي الذي اضطر فجأة إلى زراعة بستانه بنظام المشاع.
في الواقع، ظهرت معظم “الشرور” المرتبطة بالمشاع فقط مع نظام الأرض المفروزة، عندما أُجبر الفلاحون فجأة على التعايش مع نتائج إعادة التوزيع الأخيرة كما لو كانوا عالقين في لحظة اعتباطية من لعبة “الكراسي الموسيقية”. فمع التقسيم، كان النظام الاجتماعي والاقتصادي المصاحب لنظام المشاع عرضة للانهيار، وترك الفلاحون في حوزتهم قطع أراضي مجزأة وغير قابلة للإدارة مما أسهم في تقويض التعاون الاقتصادي والتخطيط طويل الأجل. وهكذا، أرجع “مسح القرى الخمس” الشهير المعروض في النشرة الشهرية العامة للإحصاءات الحالية للإدارة(64)، عملياً جميع العلل المرتبطة بالتخلص من نظام المشاع إلى أصوله.
باستخدام نظام تورينس* Torrens، اتبعت عملية تسجيل العقارية للأراضي البريطانية النموذج السويسري، مما أدى إلى تشتت دائم للحصص الفردية في الأرض المشاع على كتل مالية مختلفة. ولسوء الحظ، أصبحت هذه “الفرضية” للآثار السلبية للمشاع من صلب معظم الروايات اللاحقة لنظام الأراضي في فلسطين(65).
تأسست في العام 1921، السلطة التنفيذية الصهيونية في فلسطين. وكان حاييم وايزمان هو من يحدد، من مقر الحركة الصهيونية العالمية في لندن، السياسة ويرسل ممثليه التنفيذيين (كيش، وساكر، وإيدر) إلى فلسطين للعمل بها؛ وحددت سياسات وايزمان – كما أخبر وزير الخارجية الأمريكية في مؤتمر باريس للسلام في شباط 1919: إنشاء إدارة تنبثق من الظروف الطبيعية للبلاد على أمل تحول فلسطين إلى دولة يهودية، من خلال الهجرة اليهودية، مثلما هي إنكلترة إنكليزية -مع ضمان حماية مصالح غير اليهود… واستندت سياسة وايزمان إلى النجاح اللافت الذي حققه الفرنسيون في ذلك الوقت في تونس(66).
ولكن بينما سعى الحكم الاستعماري الفرنسي المباشر إلى استغلال عمل الفلاح بدلاً من إزاحته أو استبداله(67)، لم يكن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني بحاجة للعمالة العربية، ولم يشعر بفائدتها -على الأقل من حيث المبدأ- بينما يجب علينا بالتأكيد منع أي شيء مثل طرد الفلاحين بالجملة، علينا في الوقت ذاته ألا نفعل ما من شأنه، بأي حال من الأحوال تعزيز قبضتهم على أرض إسرائيل ארץ ישראל.بل، على العكس، لا بد من إيجاد وسائل كفيلة بتقليص تدريجي لأعداد سكان الريف… ربما… في إطار تبني سياسة ودية اتجاه الجزيرة العربية الجديدة… لتوطين… مستأجري الفلاحين التابعين للأفندية(68). وعلى الرغم من أن المجموعات المختلفة الممثلة في السلطة التنفيذية الصهيونية في فلسطين -بما في ذلك الحركة العمالية اليهودية (ذات الأصل الأوروبي الشرقي)- اتفقت من حيث المبدأ، إلا أنها اختلفت حول الوسائل(69).
ومع الوقت، كان حزب العمل قد رفض الفكرة الماركسية الأصولية المتمثلة بعدم التعاون مع القيادة الصهيونية (والتي تنتمي في جوهرها إلى الطبقة الوسطى في أوروبا الغربية)، لكنه رأى في المنظمات العمالية والمستوطنات محركاً يقود المشروع الصهيوني.
وبالتركيز على البنية التحتية الاجتماعية والاقتصادية للييشوف، لم يكن لدى حزب العمل بعد الميل السياسي أو ما يكفي من الإمكانات لتحدي صلاحيات السلطة التنفيذية في لندن، مثل الحصول على رأس مال استثماري أجنبي والتفاوض مع الإمبراطورية البريطانية(70).
واستندت فكرة الحزب لعملية بناء الأمة إلى مبدأين مترابطين: “احتلال العمل” כיבוש העבודה و “احتلال الأرض” כיבוש האקרקעות. ويعني الأول إقصاء أي عامل عربي من جميع المؤسسات والمشاريع الصهيونية، بينما يهدف الثاني إلى خصخصة وشراء ونقل الأراضي العربية من الحيازة العربية لمصلحة “الإرث الجماعي غير القابل للتصرف للشعب اليهودي”.
وأي شخص يعارض هذه المبادئ يعد عدواً وطنياً وطبقياً: “فقط الشخص المعادي للسامية سيرى في نضالنا من أجل الحق [الحصري] في العمل في مستوطنتنا ضاراً بالعامل العربي”(71): يجب أن نصل بمستوطناتنا إلى حالة مشابهة لتلك الموجودة في إنكلترا: فلدى صاحب العمل الإنكليزي أيضاً إمكانية جلب عمالة رخيصة من الهند أو الصين، لكن العامل الإنكليزي وعامة الناس لن يسمحوا له بالقيام بذلك.. المزارع العربية والمزارع اليهودية أقرب إلى بعضهما البعض من الهند وإنكلترا، وبالتالي فإن مسألة العمل هي أكثر صعوبة وخطورة، لكننا في الأساس نواجه الوضع ذاته(72). ولا يحول هذا الرأي دون “التضامن” مع الفلاحين والعمال العرب، أو حتى مع تطلعاتهم الوطنية. وهذا يعني ضمناً وجوب تخلي العرب عن حقوقهم في فلسطين والبحث عن تحقيق إشباع اقتصادي ووطني حيث “تتطور الحركة العربية الحقيقية في مكة ودمشق”(73).
وهكذا، في حين قد يرحب حزب العمل بالقومية العربية خارج البلاد، لا يمكنه التسامح مع القومية الفلسطينية. فبالنسبة لعرب فلسطين، إذا تركوا لمصيرهم، فهم غير قادرين -بطبيعتهم- على بناء البلاد لأن قادتهم كانوا طفيليين وأتباعهم بدائيين: “الاستقلال الذاتي القومي الذي نطالب به لأنفسنا، نطالب به أيضاً للعرب، ولكننا لا نعترف بحقهم في حكم البلاد لدرجة أنهم لم يبنوها بأنفسهم وما زالت تنتظر [أي البلد] من يفلحها ويزرعها”(74). وقد أعرب ليفي شكولنيك (إشكول) عن ذات التوجه -وإن بلغة أخرى- في أعقاب أعمال الشغب التي وقعت في العام 1921: “يمتلك الأفندي تأثيراً على القرويين أكثر مما تمتلكه “الحركة الوطنية”(75).
وفي آب 1929، اجتاحت البلاد أعمال شغب عربية، بسبب مظاهرة احتجاجية على جبل الهيكل في القدس قامت بها حركة “بيتار”، وهي حركة شبابية قومية يهودية متطرفة معادية للشيوعية. كانت “بيتار” تحتج على “الاستفزاز” العربي بالتضييق على المصلين اليهود عند حائط المبكى(76).ومن المفارقات أن “المضايقات”، التي شملت تنصيب مؤذنين مسلمين و “احتفالات ذِكْر موسيقية ” بالقرب من الحائط [الغربي] (حائط البراق)، كانت في حد ذاتها احتجاجاً على “غطرسة” اليهود البلاشفة الذين سعوا “إلى الاستيلاء تدريجياً على الأقصى [ثالث الأماكن المقدسة عند المسلمين] تحت ذريعة أنه الهيكل، من خلال البدء بالجدار الغربي”(77). وبعد أحداث الشغب تلك بدأت السياسة البريطانية تتجه نحو التهدئة لاسترضاء العرب ومطالبهم.
واضطر وايزمان، الذي صاغ إجماعاً استراتيجياً مع بريطانيا، إلى ترك منصبه في صيف العام 1931 في المؤتمر الصهيوني السابع عشر. ودخل حزب العمل في صراع مع التصحيحيين للسيطرة على المؤتمر؛ وحصل حزب العمل الموحد، ماباي، على 29% من الأصوات وحزب جابوتينسكي التصحيحي اليميني على 25 %. ودخل الصهاينة الأمريكيون، رفقة الصهاينة الدينيين (المزراحيم)، في مفاوضات مع جابوتينسكي. لكنه خسر الدعم الأميركي ومحاولته السيطرة على قيادة الحركة الصهيونية. ويرجع ذلك جزئياً إلى المطالب المتصلبة لقيادة التحالف وتنفيذ برنامج قومي متشدد من شأنه التصعيد واستفزاز العرب وإثارة قلق البريطانيين.
تمثل السبب الآخر في قوة حزب العمل الموحد، وسجله في الإنجازات العملية في الييشوف، وقدرته على التوصل إلى حل وسط مع العناصر “البرجوازية” في التيار الصهيوني العام التي كانت لا تزال موالية لوايزمان(78). ومن هذا المنطلق، كان حزب العمل على وشك السيطرة على أجندة الييشوف السياسية والاقتصادية والعسكرية بالكامل. بيد أنه كان هناك عنصراً أخيراً مطلوباً لضمان هيمنته على جميع قطاعات الحركة الصهيونية تقريباً، وسيسعى إلى استقطاب المعارضة القومية للتوافق مع العرب والوصول إلى تسوية. وفعل ذلك بأخذ فكرة الصراع الطبقي داخل الييشوف؛ وهي الفكرة العزيزة على بن غوريون، لكنها كانت غريبة على شركائه داخل الائتلاف الحزبي العمالي، وتحولت الفكرة إلى مبدأ صراع طبقي بين الصهيونية والقومية الفلسطينية(79). وهذا يعني ضمناً اعتماد عقيدة جابوتينسكي المتمثلة في تطبيق فكرة “الجدار الحديدي” הקיר הברזל لتقويض الانتماء القومي العربي والحد، بالأحرى منع تأثيره أو توسعه(80).
ومن عام 1920 إلى عام 1925، كانت فلسطين تحت “الإدارة المدنية” لهربرت صموئيل. ورغم أنه كان يصف حاله بـ “الصهيوني المعتدل”، إلا أنه رأى نفسه يواصل تطبيق “الحكم المعتدل وغير الشخصي” التي دعا إليها سلفه ستورز: “كانت الإدارة نشطة في تعزيز رفاهية العرب كما لو لم يكن هناك تعقيدات صهيونية أو رفض للتعاون؛ وكانت الإدارة متحمسة في هذا الصدد مثل أي إدارة بريطانية في آسيا أو أفريقيا”(81). وعزا انعدام تعاون العرب إلى الخوف من أن “يجدون أنفسهم خاضعين أو حتى مجبرين على الخروج مطرودين من البلاد” رغم حقيقة أن “نسبة كبيرة منهم لا تهتم بالشؤون العامة”(82).
لكن تحقيق هايكرافت في أعمال الشغب التي وقعت في أيار1921 كشف أن السخط العربي: “ربما ينبع من عادة [الصهاينة المسؤولين] المتمثلة في اعتبار فلسطين “أرضاً خاوية ومهجورة”، يسكنها عدد قليل من السكان دونما تقاليد وطنية، تسمح بإطلاق تجارب سياسة دون إثارة معارضة محلية”. وكان رد الفعل العربي على مثل هذا “الهيجان” متوقعاً، حيث إن “الناس أكثر انشغالاً بالسياسة مما هو عليه حال سكان بلدة ريفية إنكليزية صغيرة، ومناقشة الشأن السياسي عندهم بمنزلة مهنة فكرية رئيسة، إن لم يكن شاغلهم الوحيد”(83).
وكان من المفترض أن تكون سنوات 1925-1928 الأكثر هدوءً خلال الانتداب. وشهد العام 1925 زيادة كبيرة نسبياً في الهجرة اليهودية، وكانت عمليات شراء الأراضي أكثر بكثير مما كانت عليه في أي عام آخر من سنوات الانتداب(84). وتمت عمليات شراء الأراضي هذه بشكل أساسي مع عائلة سرسق الأرثوذكسية اليونانية المقيمة في بيروت والإسكندرية، فسمحت فعلياً للييشوف بالسيطرة على الوادي الداخلي الكبير (إسدريلون، يزرعيل [مرج ابن عامر]). كما تم الحصول أيضاً على جزء من وادي عارة الضيق، الذي يربط الوادي بالسهل الساحلي (شارون، فلستيا)، من عائلة عبد الهادي، إحدى العائلات المهمة في فلسطين(85)؛ وسرعان ما بدأت المفاوضات لشراء وادي الحوارث (عيمق حيفر Emeq Hefer)، الذي يمتد على طول الطريق الساحلي بين يافا وحيفا، مع ورثة عائلة طيان المارونية في بيروت ويافا.
ومن شأن هذه الاستحواذات مجتمعة منح الاستيطان الصهيوني سيطرة اقتصادية على الطريق البحري القديم Via Maris التي تربط سوريا بمصر، وستقسم استراتيجياً الشرق العربي عن غربه والشمال العربي عن جنوبه(86).
ولكن تحقيق وتأثير هذه السياسة الاقتصادية والاستراتيجية سيتأخر بضع سنوات مع غرق الحالة الاقتصادية اليهودية في موجة ركود. وبحلول العام 1927، كانت نسبة الهجرة تعادل نسبة النزوح، وانخفضت مبيعات الأراضي إلى ما يزيد قليلاً عن عُشر ما كانت عليه قبل عامين فقط حيث حال انهيار قيمة الزلوتي البولندي دون ضخ المزيد من رأس المال المستورد من قبل المهاجرين (الجالية البولندية بشكل رئيسي). وأدى الكساد الناجم عن ذلك إلى جانب الجفاف الشديد وزلزال العام 1927، إلى عرقلة جهود الاستيعاب الاقتصادي للقادمين الجدد، مما جعل المستوطنات القائمة غير مستقرة ومهددة بمخاطر جمة وإجبارها على التوقف عن توسيع أنشطتها، بل وتقليصها(87).
وفي تموز 1928، أنهى اللورد بلومر مدة ولايته خلفاً لصموئيل في منصب المندوب السامي لفلسطين. وفي الزمن الفاصل بين رحيل بلومر ووصول السير جون تشانسيلور المفوض السامي الجديد في كانون الأول1928، أدار البلاد إتش. سي. لوك؛ الذي أصبح فيما بعد السكرتير الأول والمستشار الرئيس للمندوب السامي الجديد. وكان لوك قد عمل مساعداً لحاكم القدس وشارك العديد من تصورات معلمه، بما في ذلك عدم ارتياحه لإعلان بلفور والرغبة في زيادة تمثيل العرب(88).
وفي حزيران 1929، سقطت حكومة المحافظين وتولت حكومة حزب العمال السلطة والذي لم يكن له دور في صياغة إعلان بلفور. وعارض وزير المستعمرات، اللورد باسفيلد (سيدني ويب)، بشكل خاص توسيع الاستيطان اليهودي. ومع الوقت، كان الاقتصاد اليهودي على وشك الانتعاش المستدام؛ وتزامناً مع استعداد حزب العمل لتحقيق الهيمنة على اقتصاد الييشوف وصياغة السياسة الصهيونية العالمية، سيكون قادراً في القريب العاجل على شن هجوم سياسي مضاد فعال. ورداً على أعمال الشغب التي وقعت في آب من ذلك العام، كلف باسفيلد السير والتر شو برئاسة لجنة للتحقيق في أسباب الأحداث.
وفي آذار 1930، أوصت اللجنة بتعليق شراء اليهود للأراضي وتحديد حصص الهجرة اليهودية الأخيرة. وأثناء زيارة قام بها وفد من اللجنة التنفيذية العربية الفلسطينية في لندن، أوضح مكتب وزير المستعمرات عزمه على تبديد مخاوف الرأي العام العربي. ولكن كانت هناك حاجة إلى المزيد من “الحقائق” لتبرير أي تحول واضح في السياسة.
ورغم اعتراضات الوفد على تحقيق رسمي آخر(89) ، عين باسفيلد السير جون هوب سيمبسون لدراسة قضايا الهجرة والاستيطان. ويبدو، تم توجيه سيمبسون للعمل بالتشاور مع المفوض السامي وتوجيه استنتاجاته وفقاً للسياسات التي وضعت بالفعل في رسالة إلى من تشانسيلور إلى باسفيلد(90). وبناءً على ذلك، استنتج هوب سيمبسون أن “القدرة الاستيعابية” الاقتصادية لفلسطين قد بلغت حدها الفعلي في المستقبل المنظور، وأن أي هجرة إضافية أو بيع للأراضي من المرجح أن يؤدي فقط إلى نزع ملكية الفلاحين وتشريدهم وسخطهم: “في الواقع، متوسط ما يستحوذ عليه الفلاح من أراضٍ حالياً غير كافٍ للحفاظ على مستوى معيشي لائق بأي شكل من الأشكال”(91).
في تشرين الأول 1930، أدرج باسفيلد هذه النتائج في تقرير خاص عُرف باسم الكتاب الأبيض دون أي ذكر لوعد بلفور ووافق على المطالب العربية بفرض قيود على الهجرة اليهودية وتعليق شراء الأراضي: “لن يُسمح بنقل الأراضي إلا ضمن حدود لا تتعارض مع خطط الحكومة للتطوير التدريجي للزراعة العربية”(92).
ويتفق هذا التحول الجديد في السياسة البريطانية على ما يبدو مع سياسة الأراضي الصهيونية في أحد جوانبهما الأساسية؛ أي إلغاء نظام المشاع: “ما يقرب من نصف أراضي القرى العربية هي أراضي مشاع وهناك إجماع على أن هذا النظام يمثل عقبة كبيرة أمام تنمية البلاد”(93). وبدا في هذه المرحلة أن حكومة جلالته والإدارة المدنية قد توصلتا أخيراً إلى اتفاق للتخلي عن وعد بلفور والتمهيد لإقامة حكم ذاتي عربي على ذات المنوال الذي تم تصوره للعراق (الذي مُنح الاستقلال في العام1932 وانضم إلى عصبة الأمم).
وغني عن القول إن المنظمة الصهيونية العالمية وأنصارها من الليبراليين والمحافظين أدانوا بشدة هذا التراجع السياسي الواضح. ولكن ما هدد بإحداث انشقاقات في دعم حزب العمال البريطاني وبالتالي، إسقاط حكومة الأقلية بقيادة رامزي ماكدونالد؛ كانت نداءات حزب العمل اليهودي لنظيره البريطاني، إلى جانب أهمية الصوت اليهودي الليبرالي والعمالي وتفوقه على الرأي العربي النسبي لعدم أهمية هذا الأخير.
وطلب دوف هوس؛ ممثل الاتحاد العمالي اليهودي (الهستدروت) في إنكلترة، من إرنست بيفين؛ الزعيم النقابي البريطاني، التدخل. وبحسب بن غوريون وهوس، فإن بيفين فعل ذلك بحزم وبقدر ما يستطيع(94). “لكن ماكدونالد لم يكن معادياً للصهيونية قط، ففي خطاب له أمام الهستدروت في زيارة سابقة لفلسطين، كرر تشجيعه -بالإضافة إلى تحذيره- لقيادات كل من المحافظين والليبراليين: “إذا أخفيتم الأوراق الكبيرة في البداية ولعبتم بالأوراق الصغيرة، فأنا على يقين من أن لديكم آمال بالفوز في اللعبة”(95)، في حين أعرب وايزمان -الحذر بطبعه- عن أسفه لأن سياسته الموالية لبريطانيا “فقدت مصداقيتها سياسياً”، إلا أنه طمأن ماكدونالد قائلاً: “نود التوضيح للعرب إننا لا نهدف إٕلى ترسيخ أنفسنا في فلسطين على حسابهم”(96) رغم أن مصلحتهم ستكون بترحليهم إلى شرق الأردن(97).
قرأ ماكدونالد في مجلس العموم رسالة “توضيح” موجهة إلى وايزمان، ظهر فيها التراجع فعلياً عن الكتاب الأبيض لمصلحة ما أسماه العرب “الكتاب الأسود”. وأكدت الرسالة على وعد بلفور من جديد وجاء فيها إن الكتاب الأبيض لم يكن يعني فعلياً حظر استحواذ اليهود على أراضٍ إضافية”(98).
أدى مضمون الكتاب الأسود إلى تشويه سمعة الفصيل “المعتدل” من اللجنة التنفيذية العربية (موسى كاظم الحسيني، راغب النشاشيبي، عوني عبد الهادي)، كما فعل الكتاب الأبيض مع وايزمان وأنصاره. وأدى تغيير الحكومة المحلية المزدوج إلى تقويض السياسات الصهيونية والفلسطينية العربية التي كانت تهدف أساساً إلى كسب الدعم البريطاني لقضاياهم الوطنية. ولكن على عكس العناصر الأكثر راديكالية في الحركة الوطنية العربية، والتي أسقطت في النهاية اللجنة التنفيذية العربية، تمكن حزب العمل اليهودي من إعادة تشكيل السلطة التنفيذية الصهيونية الفلسطينية على أساس أكثر أمانًا بصفته الحزب الذي يقود اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية. وكانت قوته السياسية متجذرة بالدرجة الأولى في الإنجازات العملية لحزب العمل اليهودي في فلسطين، على الرغم من أن العلاقات مع حزب العمل البريطاني قدّمت دعماً ثانوياً حاسماً في وقت حرج. ونتيجة لذلك، كان لا يزال الاستعمار البديل يسير على الطريق الصحيح. ولكن الآن كان التوافق الاستراتيجي بين بريطانيا والحركة الصهيونية يدور حول الاتفاق بين حزب العمال البريطاني وحزب العمل اليهودي.
كانت الحجج التي قدمها حزب العمل اليهودي في النداء الموجّه إلى حزب العمل البريطاني وضد تقارير “شو وهوب-سيمبسون” تستند إلى افتراضات مشابهة لتلك التي يتبناها “الإمبرياليون المستنيرون” الذين عارضوا الحكومة التمثيلية للعرب: أي أن أياً من الرغبات المعيشية التي عبر عنها الفلاحون لم تكن جديرة بالاهتمام، “الفلاحون أميون -مع استثناءات قليلة جداً- وسوف يكونون تحت تأثير القلة القليلة المتعلمة من الأثرياء والأفندية ووكلائهم”(99).
لم يكن لدى الجماهير العربية أي نظام سياسي أو اقتصاد أو ثقافة تستحق الحديث عنها: “إن نسيج الحياة الاجتماعية العربية في فلسطين ليس نسيج أمة صناعية حديثة وإنما نسيج مجتمع شرقي متخلف وشبه إقطاعي… ويهيمن الملاك أصحاب العقارات والأراضي على المستأجرين ليس اقتصادياً فحسب، بل أيضاً روحياً واجتماعياً وسياسياً”. وبالتالي، لن يكون الفلاحين قادرين حتى على تمثيل أنفسهم؛ فهم لا يتمتعون بتمثيل بالمعنى الحقيقي للكلمة… في المؤسسات الوطنية… وهكذا يبقى السكان العرب كما هم دون تعبير حقيقي، ومصالحهم الحياتية غير مسموعة عملياً”(100)
وكانت الشهادة المقدمة إلى اللجان الملكية نيابة عن السكان العرب لا قيمة لها لأنها قدمت من قبل الأفندية مصاصي الدماء-أعداء الطبقة- الذين ليس لديهم أدنى اهتمام أو حق أو قدرة على نقل رغبات الشعب بدقة: “الفئة الوحيدة التي استشارتها الحكومة بشأن المسائل المتعلقة بالسكان العرب، تنتمي جميعها إلى تلك الشريحة من المجتمع التي تعارض بشدة أي تقدم اجتماعي وأي تحسن في وضع العامل”.
وكانت الاضطرابات تعزى حصراً إلى “مكائد زمرة الأفندية” الذين يسعون لتأبيد سلطتهم بإثارة “الغرائز المتعصبة للجماهير العربية الجاهلة”. وبالتالي، يجب على حزب العمل البريطاني أن يرى الحقيقة الصهيونية التي “أجبر كل مقيم وساكن [في فلسطين] على الاعتراف بها”، أي الثروة والتقدم والسلام و “تطوير العلاقات المشتركة بين جميع القطاعات والشرائح السكانية”. مع وجود حزب العمل “الذي يقف الآن على رأس الإمبراطورية البريطانية”، هناك ” أمل في تصور مسألة السلام في فلسطين بالطريقة الصحيحة”(101).
وبحلول الوقت الذي كتب فيه هذا النداء، كان حزب العمل اليهودي قد تخلص من أوهامه الجدلية حول التضامن الطبقي بين اليهود والعرب. ولكن إذا أخفق الواقع في التوافق مع الإيديولوجية، فذلك لأن الواقع لم يكن يفي بوعده التاريخي. أثبتت هذه النظرة الهيغلية للتاريخ الاجتماعي أنها تنسجم مع تفكير حزب العمال البريطاني في أوائل الثلاثينيات بذات الدرجة التي كانت مقنعة للاشتراكيين الصهاينة أنفسهم. وفي الواقع كان ثمة هناك توافقاً عاماً بين معظم الأحزاب والمنظمات المنضوية تحت لواء الأممية الاشتراكية على تبني أنماط من التفكير الغائي teleological thinking الذي برر الاستعمار الجديد إلى حد ما. فمثلما كان ماركس يعتقد أن فلاحي حوض المتوسط “مجرد لصوص ماشية”، ومثلما رفض إنغلز تمرد [الأمير] عبد القادر [الجزائري] ضد الفرنسيين في الجزائر ووصفه بأنه “نضالاً يائساً” لمن هم “في حالة مجتمع بربري”(102)، لم يعتقد أي من حزب العمل اليهودي، أو حزب العمال البريطاني، أو حزب العمل الفرنسي أن العرب قادرون على القيام بيقظة حقيقية بأنفسهم ومن صنعهم(103). كان “الشرق الثابت” الذي يغط في النوم منذ زمن بعيد بحاجة إلى تحفيز للعمل وتوجيه نحو طريق التقدم. وحيث إنه غير قادر على تمثيل نفسه، فلا بد من بدلاء يتحدثون باسمه، أي أولئك المنخرطون أكثر في “قوى إنتاج أكثر تقدماً”.
وبحلول العام 1930 كان الأمل قد تلاشى في التعاون السلمي مع العرب بشروط صهيونية، وزعم حزب العمل اليهودي أن العرب لا يزالون يستفيدون مادياً من الصهيونية. إذ إن تقييد الهجرة واستيطان الأرض من شأنه حرمان الفلاحين العرب من طعم الحرية الحقيقية لأول مرة: كان الجزء الأكبر من الأراضي المستخدمة حتى الآن لأغراض الاستيطان اليهودي في حوزة الأفندية الذين إما تركوها كمراعي لعدد قليل من قطعان الأغنام، بسبب نقص الإرادة أو القدرة المالية لتطويرها، أو أجروها للفلاحين… وبالنسبة لهؤلاء المستأجرين… كانت التعويضات التي تدفعها الوكالات الاستعمارية اليهودية غالباً ما تعني الفرصة الأولى لتحرير أنفسهم من نير أرباب ثلاثة: المالك، والمرابي والمسؤول التنفيذي، ومكان إقامة على أرضهم المكتسبة حديثاً… بمساعدة استثمارات أثقل(104).
تأمل في “الحرية” التي منحت للعرب في وادي الحوارث بهذه الطريقة.
منذ بداية الانتداب، كان هناك زحف يهودي ملحوظ في السهل الساحلي، ولا سيما حول مستوطنة الخضيرة ذات الأهمية الاستراتيجية الواقعة بين يافا وحيفا. كانت المنطقة إحدى البقع الرئيسة الساخنة في “اضطرابات” أيار 1921، وتم فرض غرامات جماعية على عرب وادي الحوارث لدورهم في “الإخلال بالسلام العام والغارات غير المبررة والنهب”(105)؛ لكنهم كانوا يخشون الصهيونية.
وفي تشرين الأول 1928، تم ترتيب عملية بيع بين الصندوق القومي اليهودي وورثة مالك الأرض الغائب في وادي الحوارث، وتم تقديم إخطارات الإخلاء(106). واعترفت الوكالة اليهودية بـ 84 “مستأجراً قانونياً”. ولكن عرض التعويض في البداية على بعضهم فقط، حيث “تلقى بعض الأشخاص تعويضاً فيما يتعلق بأقاربهم”(107) (13 March 1932, Shertok to Webb, CZA S25/7620). وفسرت فكرة التعويض في ذلك الوقت كما يلي: “بما أن المستأجرين الـ 84 الذين تلقوا إخطاراتنا وفقاً للقانون هم المستأجرون الرئيسيون ويشملون جميع المخاتير ومثيري الشغب البارزين الذين رفعوا دعاوى ضدنا، فإن طردهم سيؤدي إلى مغادرة الآخرين جميعهم للأرض”(108).
لكن معظم رجال القبائل رفضوا الإخلاء، زاعمين ملكيتهم للأرض.
تعزى تقديرات الإدارة الأولية لعدد السكان بنحو 1200 نسمة(109) ويدل هذا على سذاجة المسؤولين فيما يتعلق “بما هو معروف بشكل عام في فلسطين -أنه في هذه الأثناء تم جلب غرباء إلى منطقة وادي الحوارث”(110). وقد عولج موضوع رجال القبائل “بتساهل كبير بمناقشة دفع التعويضات لهم” وكانوا سيذهبون بسلام لولا “المحرض المعروف” عبد الله سمارة (مالك الأراضي المحلي وحليف المفتي)(111). ومع بدء الإدارة النظر في المزاعم، أعلن ممثلو الصهاينة “زيف تصريحات المدعين… في كل مرحلة”. واعتبروا أن التعويض المقدم أكثر سخاءً مما ينبغي نظراً لأن القائمة الأصلية للمدعين البالغ عددهم ثمانين شخصاً مأخوذة من “سجلات المخاتير… كانت في حد ذاتها مبالغاً فيها”. أما بالنسبة للمطالبين الإضافيين: “هناك أشخاص لم يزرعوا أي أرض قط في وادي الحوارث، وغير معروفين لنا، ولم يرد ذكرهم على الإطلاق في السجلات المقدمة من المخاتير”(112). حتى أنهم لم يكونوا معروفين “للسيد طيّان نفسه الذي قام لسنوات عديدة بزراعة أراضي وادي الحوارث”(113).
لكن الوكالة اليهودية كانت بالتأكيد على دراية تامة بأن آل طيان لم “يزرعوا” الأرض بالشراكة مع مستأجريهم، ولم يكلفوا أنفسهم عناء تحصيل الإيجار(114). كما كانت على علم أيضاً بأن العديد من رجال القبائل لم يكونوا يعلموا امتلاك آل طيّان الأرض التي يعملون فيها(115). فقد سجل هؤلاء -بعد صدور قوانين الأراضي العثمانية- ممتلكاتهم باسم أميرهم وعائلته المقيمة في بيروت؛ ثم باع هذا الأمير وعائلته بدورهم الحقوق التي أوكلت إليهم إلى أنطوان طيّان في العام 1870(116).
بعد مقابلة جميع المدعين تقريباً، عبّر المسؤول عن القضية “عن إعجابه الإيجابي بأدلة العرب، وذلك بما يخالف توقعاته تماماً”؛ كما أبدى إعجابه بحقيقة أن “سمارة قدم أدلته بشكل عادل”. وقد وجد في النهاية أن الصفقة برمتها “قانونية تماماً”. وافقت الإدارة على نقل رجال القبائل وممتلكاتهم إلى بيسان، على بعد حوالي 50 ميلاً، حيث عرض الصندوق القومي اليهودي في وقت سابق وضع 5000 دونم من الأراضي الصالحة للري تحت تصرفهم بعقد إيجار لمدة ثلاث سنوات مقابل خمس الإنتاج، لكن العرب رفضوا هذه المقترحات؛ رغم قبول الوكالة اليهودية تأخير الإخلاء حتى نهاية جني المحصول(117)، إلا أن الإدارة لم تقم بذلك تأسيساً على أن الوضع بحاجة إلى تسوية، وبالتالي “من الضروري الوصول إلى قرار نهائي”(118).
قبل وقت قصير من الإخلاء الفعلي للسكان في العام 1933، أعد المسؤولون البريطانيون قوائم مفصلة تضم 336 عائلة مستأجرة مستهدفة للترحيل، بما في ذلك أنواع المحاصيل والحيوانات المرتبطة بكل اسم في القوائم(118). وفي النهاية، دُفع تعويض إجمالي قدره 6154 جنيه فلسطيني إلى نحو 1500-2000 شخص. وقدرت الإدارة أن كل أسرة مستأجرة تحتاج إلى حوالي 130 دونماً للعيش باستخدام تقنيات الزراعة المألوفة لديهم لزراعة الحبوب. ولكن حتى لو تم توزيع التعويض بشكل عادل، فالأموال الممنوحة كانت ستسمح بشراء ما معدله أكثر من المتوسط بقليل عن دونم واحد (ربع فدان) من الأرض المشاع للشخص الواحد (بمعدل سعر جاري يبلغ حوالي 2.5 جنيه فلسطيني للدونم الواحد)، على افتراض أن حصص المشاع ستباع للأجانب في المقام الأول. وقد تكفي الأموال لشراء ربع دونم أو أقل في المناطق التي تم تقسيمها بالفعل من خلال تسوية الأراضي: “مع الإشارة إلى مزيد من [إعادة توطين عرب وادي الحوارث]… يجب إبلاغكم أن أسعار الأراضي في قرية أم خالد [حيث اشترى اليهود الأراضي سابقاً] تتزايد بسرعة وأن قيمة الدونم هناك تبلغ في الوقت الحالي بين 10 إلى15 جنيه فلسطيني، ومن الصعب، بالأحرى من غير الممكن الحصول على أي أرض في خربة بيت ليد لأن جميع أراضي الخربة هي أرض مشاع ولا يمكن شراؤها(119).
صحيح أن رجال القبائل كان بإمكانهم الانتقال إلى بيسان. ولكن حتى لو تمكن المزارعون السابقون من إتقان آليات وطرق عمل وسائل الري في وقت قصير بما يكفي للبقاء على قيد الحياة من خلال “تعلم فعل المزيد بموارد أقل”، كما دعت السياسة الصهيونية تجاه الزراعة العربية(120)، فلن يكون هناك مكان لقطعانهم أو مستقبلهم: “حتى لو أمكن العثور على مكان مناسب للرعاة وبعض الأراضي الأخرى المتاحة للمزارعين ، فمن المحتمل أن تفقد القبيلة هويتها بكونها قبيلة وتصبح جماعة أو مجتمعاً مشتتاً(121).
وعلى مدى أربع سنوات رفض معظم عرب وادي الحوارث الترحيل. وفي نهاية المطاف، نجحوا في فرض محنتهم على الأجندة السياسية للقيادة الوطنية. ولمدة وجيزة -ولكنها كانت كافية للتأثير بشكل كبير على السياسة البريطانية واليهودية والعربية- كانت قضية وادي الحوارث سبباً في الصراع الثلاثي(122). ودافع عوني عبد الهادي، الذي أصبح الآن رئيساً لحزب الاستقلال القومي، عن المستأجرين في المراحل الأخيرة من التقاضي ضد الوكالة اليهودية والإدارة. وكان قد مثل في السابق، أثناء خدمته في الهيئة العربية، ورثة آل طيّان وتواطأ في مخططهم مع الصندوق القومي اليهودي لطرح وادي الحوارث في مزاد علني حتى لا يتمكن المستأجرون من ممارسة الحق المسبق في الشراء الأول الذي رافق مبيعات الأراضي العادية. على الرغم من أن شركة تطوير أرض فلسطين Palestine Land Development Company قد وافقت على سعر شراء قدره 136000 جنيه إسترليني(123)، تم ترتيب رهن عقاري وهمي. بعد التخلف عن السداد، وحبس الرهن من قبل محكمة نابلس، “اشترى” الصندوق القومي اليهودي الأرض في مزاد علني مقابل 41000 جنيه إسترليني، لكنه في الواقع دفع فعلياً السعر المتفق عليه مسبقاً لورثة آل طيّان.
وعندما أعلن أنصار المفتي في العام 1933 القضية في الصحافة العربية، تأثرت مكانة عوني عبد الهادي بشكل كبير(124)
تم طرد أفراد القبيلة من القسم الجنوبي من الوادي في حزيران 1933 والقسم الشمالي في تشرين الثاني: “أزيلت خيامهم من وادي الحوارث ووضعت، بأمر من ضابط التنفيذ، على طريق عام تشكل أحد حدود وادي الحوارث”(126). رفض الكثير منهم المغادرة. وحاول البعض الانضمام إلى المظاهرات في طولكرم بمناسبة الذكرى السنوية لوعد بلفور ولكن أجبرهم سلاح الجو الملكي البريطاني على العودة(127). وقد نفق نصف عدد الحيوانات المتبقية في غضون أشهر؛ وهددت المجاعة أفراد القبيلة المتبقين(128).
Top of Form
Bottom of Form
وقدم أفراد قبيلة القسم الشمالي التماساً إلى المندوب السامي يطلبون فيه من سموه: “أن يصدر أمراً لبناء قرية لنا بالقرب من” ضريح شيخ “نكن له الكثير من التبجيل والاحترام”. كما تم طلب قرض “لتمكيننا من تحسين أوضاعنا الاقتصادية والزراعية”(129)؛ وأوصى ضابط المنطقة العربية في طولكرم بالسماح لهم بالاستقرار بالقرب من الضريح “لأن تغيير السكن من خيمة إلى منزل، يعكس التهذيب والتحسين في شخصية البدوي وصقل طباعه”. لكنه رفض فكرة القرض. واقترح بدلاً من ذلك، “مشاركتهم في أعمال الخدمات العامة مثل أعمال الطرق وما إلى ذلك… فهذا أفضل لهم بكثير لأنه سيعلمهم مبدأ كسب رزقهم من عرق جبينهم[كذا في الأصل]”(130).
وكان مساعد مفوض المنطقة في لواء نابلس قد طرح فكرة وضع من تبقى من أهل وادي الحوارث المعدمين للعمل في أشغال الطرق؛ وهي الفكرة التي أثارها بنفسه قبل بضعة أشهر: “من المشكوك فيه ما إذا كان هناك العديد من العرب النشطين بما فيه الكفاية للتقدم للعمل على هذا الطريق [الساحلي يافا – حيفا] ولكن إذا رفضوا عرض العمل فسيكون من المستحيل عليهم الادعاء بأنهم معدمون تماما”(131).
وفي وقت لاحق اشتكى أيضاً من رفضهم الاستجابة للضغوطات التي مورست عليهم للعمل في تجفيف المستنقعات الموبوءة بالملاريا: “مفضلين على ما يبدو الظروف الأسهل المتوفرة في الخضيرة [مستوطنة يهودية]” حيث تمكن بعضهم من العثور على عمل(132). واتفق مع الضابط المسؤول في المنطقة على أن “القروض الزراعية أو أي مساعدة نقدية” ستكون هدراً “لنفقات دافعي الضرائب”.
ولكن نظراً لأن عرب وادي الحوارث كانوا بطبيعتهم غير قادرين على العمل المنتج، فلا ينبغي تشجيعهم على البقاء في منطقة عاشوا فيها لأكثر قرن على الأقل وربما عدة قرون(133): “لو تُرك هؤلاء البدو البسطاء ودون مساعدة، فلن يكونوا قادرين قط على زراعة المنطقة المستصلحة بأي نظام مكثف أو تشغيل نظام الري… لا أرى سبباً يدعو الحكومة إلى بناء منازل لهم… ولدي شعور قوي للغاية بأنه لا ينبغي القيام بأي شيء لتشجيع توطينهم واستقرارهم الدائم في هذه المنطقة. ومع الأخذ في الاعتبار ضرورة توفير احتياجاتهم في الوقت الراهن، فقد لوحظ وجود ميل بينهم إلى الانتقال بعيداً. المنطقة محاطة بالمستوطنات اليهودية وسوف يشكل -كما أرى- هذا الجيب البدوي البدائي شبه الزنجي… مصدر إزعاج ولا يفيد سوى في عرقلة التطور الصحيح لمنطقة ذات قيمة كبيرة(134)
كما رأى [آرثر] ووكوب -خليفة تشانسيلور-، أنه إذا تم استصلاح الأرض، فلن يتفرقوا واضعو اليد هؤلاء(135)، ولكن الكثير منهم لم يتحركوا من أماكنهم. وبعد سنوات، عرض عليهم على مضض مدير تسوية الأراضي، الذي كان غاضباً من هذا المثال من كسل العرب وإزعاجهم، عقد إيجار قصير الأجل لبعض أراضي الدولة التي كانوا يستقرون فيها بشكل غير قانوني: “ليس لدي أي تعاطف مع عرب وادي الحوارث الذين يعيشون على سخاء الحكومة ولا يفعلون شيئاً سوى خلق وإثارة الصعوبات. ومع ذلك، فإن ما يقلقني هو تسوية الوضع”(136).
في العام 1947، فكرت الإدارة في إمكانية السماح بمدرسة أطفال وادي الحوارث(137). ومع ذلك، حالت الأحداث دون تحقيق هذا العمل الأخير من السخاء البريطاني. وبعد تصويت الأمم المتحدة لمصلحة تقسيم فلسطين، بادر مختار القسم الشمالي للقبيلة إلى الدعوة للسلام في مجلس عميق حافر الإقليمي اليهودي التابع لليشوف(138). ولكن في آذار1948 هاجمت جماعة الهاغاناه التابعة لحزب العمل بقايا القبيلة و”نصحتهم” بالمغادرة؛ وبعد ذلك و”بمساعدة المستوطنات اليهودية المحلية، دمرت البيوت والأكواخ بشكل منهجي في… وادي الحوارث… مما جعل عودتهم غير ممكنة”(139)( Morris 1987:53, 119 ).
كما يلخص كينيث شتاين القصة: “لا شك أن الإدارة دللت عرب وادي الحوارث”(140). وعلى أية حال لم يكن “الدخل من هذه الأراضي كافياً بسبب الطرق البدائية للزراعة التي يستخدمها عدد قليل من السكان إن وجدوا” (141). وبالتأكيد، “على الرغم من الصعوبات التي عانى منها عدد قليل من الأفراد، فقد استفاد العرب الفلسطينيون من الناحية الاقتصادية استفادة كبيرة من التنمية الزراعية والصناعية لليشوف”(142).
ومنذ منتصف العشرينيات وحتى أوائل الثلاثينيات، كانت سوق الحبوب تعيش حالة ركود شديد. وسرعان ما أدرك صنّاع السياسات الصهيونية الفائدة من هذه الميزة: سيكون من مصلحتنا إبقاء أبواب الحبوب الأجنبية مفتوحة… ومن مصلحتنا أيضاً أن تفرض الحكومة ضرائب باهظة على الأرض الشاغرة. ولا يمكن للفلاح تحسين وضعه إلا إذا كانت الحكومة ستنشأ مصرفاً زراعياً قوياً، وهو أمر يصعب توقعه(143). ومن ثم يمكن بسهولة اختيار مواضع محددة من الأراضي بهدف مضاعفة المستوطنة اليهودية لتصل إلى “1,400,000 دونم”: “على الرغم من أن هذه المشتريات لن تعطينا أكثر من عُشر البلاد، إلا أنها ستعزز موقفنا القومي الاستراتيجي إلى درجة تكاد تكون منيعة”.
وافقت وزارة المستعمرات على أن القروض المقدمة للعرب بهدف “تحسين كل رقعة صغيرة من أراضيهم ستكون مضيعة للمال”(144). ومن المفترض أن الفلاح سيستخدم القرض إما لمواصلة نظام المشاع الضار أو لإنهائه؛ ولكن إذا انتهى منه، فسوف تكون الحيازات المتفرقة الناتجة عن ذلك عديمة القيمة كضمان. كانت هناك إغراءات لكبار الملاك لبيع الأراضي الزائدة غير التنافسية سراً بأسعار مرتفعة، وهي الأسعار التي ساعدت معارضتهم للصهيونية على توليدها(145).
قلص هذا الأمر من فعاليتهم السياسية، وبدأ الفلاحون في تولي زمام الأمور بأنفسهم بشكل أكبر في التعامل مع المظالم. فشهدت بداية الثلاثينيات حركة وطنية عربية تراجعت فيها سمعة قادتها إلى حد ما وتعرضوا لانتقادات شديدة، لكن الجماهير كانت لا تزال تفتقر إلى التنظيم لفرض أنفسهم. وتمكن الييشوف من تعزيز إطاره القومي المؤسسي بفضل القوى العاملة وثروة اللاجئين الألمان؛ قبل أن تتمكن الثورة العربية مؤقتاً من تصحيح التناقضات في الحركة.
ومن العام 1933 حتى العام 1936، تضاعف عدد سكان الييشوف إلى 370 ألف نسمة، وبلغت “مساحة الأرض المملوكة لهم الآن في فلسطين نحو 1،427،450 دونما”(146).
وفي العام 1937، قامت لجنة ملكية بالتحقيق في أسباب الثورة العربية العامة التي بدأت في العام السابق. ودعت لجنة “بيل” إلى تقسيم البلاد، وأوصت بترحيل العرب من المنطقة اليهودية المقترحة، حيث لا يزال العرب يشكلون فيها أغلبية. وكانت اللجنة العربية العليا قد أجمعت على رفض التقسيم، لكن مواقفها انقسمت حول ما إذا كانت ستحارب البريطانيين أم تتفاوض معهم. وكثيراً ما كان المتحدثون البارزون، -المفتي وراغب نشاشيبي وعوني عبد الهادي- على خلافات عميقة فيما بينهم. وعلاوة على ذلك، على الرغم من أن قضية الأرض بعد العام 1929 بدأت تحل محل الهجرة في طليعة الأجندة القومية العربية، إلا أن “القادة” الوطنيون أخفقوا في وقف فقدان الأراضي لمصلحة اليهود. في الواقع، اتهموا بعضهم البعض بالمساعدة في هذه العملية (باستخدام المعلومات التي قدمتها بسخاء الإدارة السياسية للوكالة اليهودية)(147).
رفض حزب جابوتينسكي التصحيحي، وهو السلف القومي لحزب الليكود الإسرائيلي، التقسيم صراحة، مدعياً الملكية اليهودية على كل فلسطين. وكان حزب العمل متردداً، ولكن (باستثناء اليسار الراديكالي) كان ضد أي شيء أقل من السيادة الكاملة في جزء على الأقل من فلسطين.
وإدراكاً للميزة الاستراتيجية لليشوف، جادل مهندسها الداخلي، وصانع السياسات الصهيونية، دافيد بن غوريون، بإن التقسيم لا یمنع السعي النهائي إلی “إسرائيل الكبرى”(148):عندما نحصل على ألفٍ أو عشرة آلاف دونم نشعر بالسعادة ولا نشعر أننا أخفقنا في الحصول على كامل البلاد… ستخدم الدولة اليهودية [في جزء من فلسطين] جهودنا التاريخية لاسترداد البلاد بكاملها… سننظم قوة دفاع متطورة -جيشاً نخبوياً… واحداً من أفضل الجيوش في العالم. وأنا واثق أننا لن نُمنع من الاستقرار في أجزاء أخرى من البلاد، إما باتفاق متبادل مع جيراننا العرب أو غير ذلك؛ بطرق أخرى(149). وأكد للهيئة التنفيذية للوكالة اليهودية عن تفاؤله بتقلص الأقلية العربية (yelekh vi yigatein) في الدولة اليهودية إما عن طريق” الترحيل الطوعي” لحوالي 350 ألفا من “المستأجرين العرب والعمال والمزارعين من الدولة اليهودية إلى الدول العربية المجاورة”، أو بوساطة “القبضة الحديدية”(150)
صحيح أن اليهود كان بحوزتهم أقل من 10% من إجمالي مساحة الأرض في فلسطين، وأقل من خُمس أراضيها الصالحة للزراعة؛ إلا أن تواصل الييشوف الجغرافي في أراضي المشاع السابقة في السهول الخصبة في فلسطين، والحيازة الفعلية للساحل، كان مفتاح مستقبل البلاد الاقتصادي بينما كان حيز الييشوف يقسم استراتيجياً المناطق التي يسيطر عليها العرب. وعلاوة على ذلك، وفرت الثورة العربية حافزاً وفرصة لليهود لاكتساب القوة العسكرية، بموافقة وتساهل بريطاني ودعم فعال من حين لآخر. وقد تضخمت القوة العسكرية الرئيسة للييشوف، والهاغانا، من 2000 قبل الثورة إلى 25،000 بنهاية العام 1937. ومع انتهاء الثورة في العام 1939، تم وضع إطار لجيش نظامي مع هيئة أركان عامة؛ وأقيمت أكثر من 40 مستوطنة “برج وسور” ( حوماه و مغدال Homah u Migdal) للدفاع عن محيط الييشوف وتوفير قاعدة أمامية لمزيد من التوسع لدولة يهودية محتملة في المستقبل(151)
اتفق قادة حزب العمل اليهودي والقادة القوميون اليهود على أنه سيتعين على العرب التخلي عن أي طموح للسيادة السياسية في فلسطين اليهودية، وإن كان هذا لا يرضيهم؛ أو لا تعجبهم هذه الفكرة، فيمكنهم -كما يقترح جابوتينسكي- الذهاب إلى العراق(152)؛ في الواقع، “لا ينبغي لنا اعتبار مغادرة 900 ألف شخص مصدر قلق أو فزع لنا(153). وهذه الفكرة “الرؤيوية” لترحيل معظم السكان المحليين تقارب عدد اللاجئين المقدر قدومهم في أعقاب قيام إسرائيل (900 ألف في المصادر العربية؛ و750 ألف في مصادر الصليب الأحمر، و600 ألف -منهم 350 ألف لا يزالون يعيشون على الأرض- وفقاً لوزارة الخارجية الإسرائيلية)(154)
في التحليل النهائي، تلاقت المواقف الهادفة لحزب لعمل مع الإمبريالية “المستنيرة” في نقطة حاسمة: فالعرب، مثل الأطفال، غير قادرين على تعيين/ تعريف أنفسهم. وكان هذا يعني من الناحية العملية افتقارهم إلى أي إحساس بالمبادرة، ومن البديهي -إذن- حاجتهم إلى “وصي”؛ لذلك قد يحتقر المسؤولون المحليون المشروع الصهيوني أيضاً، لكنهم لا يستطيعون السجال حول حقيقة الإنجازات اليهودية الواضحة جداً سواء في التعليم الحديث أو الاقتصاد أو الإدارة الاجتماعية. وعلى النقيض من ذلك ظهر العرب بصفتهم سكاناً متخلفين؛ ومن المرجح أن يظلوا كذلك لبعض الوقت. وفي أحسن الأحوال، يمكن للإدارة أن تأمل في إنقاذ جوهر “الطابع الشرقي” المتآكل للعمل من جديد على استعادة “مستوى طابع الذوق والحرفية الذي كان قد قدمه العالم العربي لأوروبا في القرن الثالث عشر”؛ ولكن لا يمكن توقع الكثير حيث إن قدرة العرب على المعرفة التقنية الحديثة “ثابتة تحددها طبيعتهم”؛ يمكن الوصول إليها ولكن لا يمكن زيادتها عن طريق التعليم”(155).
لا يعني ذلك أن المستشرقين مثل ستورز فضلوا “صخب” الصهيونية الجديدة [لعله يقصد الحياة اليهودية الجديدة في فلسطين -المترجم] على الملذات الشرقية المعقدة(156). لكن المهمة الإمبريالية، مثلها مثل المهمة الاشتراكية، تتطلب تقدم قوى الحداثة الغربية. وزعم الصهاينة -بحق- أن الإدارة كانت تعرقل التقدم لمصلحة الوضع الراهن. وقد تعاملت مع هذا التناقض بالسماح، على مضض، للاستيطان اليهودي بالنمو في الحجم والقوة، بينما كانت تحاول “حماية” السكان الأصليين من عواقب هذه “المضاعفات الصهيونية”.
وفي ظل ظروف الاستعمار “العادية”، من الممكن أن يسمح هذا الموقف بظهور فلسطين العربية واستقلالها في نهاية المطاف. ولكن في سياق الاستعمار البديل، أدى تبني الإدارة “المعتدل وغير الشخصي” إلى خنق فعلي لأي أمل في التطور الوطني. ولم يكن للفلاحين صوت في الإدارة، باستثناء عدد قليل من ضباط المنطقة العربية الذين لم يكونوا موضع ثقة من كلا الجانبين. فالمطالبة المتكررة بالتعليم التقني والمعونات الاقتصادية، وتوفير شكل حكومة تمثيلية، لم تلق آذان صاغية.
تم إحباطهم إما من التكيف الإبداعي مع التغيير أو الشروع فيه. وبدلاً من ذلك، اضطروا للعيش وفقاً للمجتمع “التقليدي” كما تصوره البريطانيون. لم يكن العرف بالنسبة للإدارة، شبكة علاقات كثيفة غير رسمية تربط حياة الناس الحقيقية ببعضها البعض، بل كان خليطاً نادراً وجامداً من الأفكار والمفاهيم البيروقراطية المتعلقة بصورة تعسفية بحياة الفلاحين. وما لم يمكن بالإمكان تحويله إلى شكل بيروقراطي، كان -بحكم الأمر الواقع- غير شرعي. وهكذا كان على الفلاح أن يكيف نفسه بأفضل صورة ممكنة ضمن حياة اقتصادية واجتماعية وسياسية متصدعة على نحو متزايد، والتي كانت انقطاعاتها الرئيسة قريبة بما يكفي من الخطوط “التقليدية” التي حددتها الإدارة لتعميقها مما أعمى نظر الإدارة عن مدى نطاق الإحباط والاستياء العربي. وعندما انفجرت الأزمة أخيراً في العام 1936، لم يكن البريطانيون مستعدين لها؛ ولجأوا بصورة أكثر حسماً وعلى نحو مصيري إلى الاستيطان اليهودي للمساعدة في إحكام السيطرة على البلاد.
وفيما يتعلق بالأرض -الرمز المركزي في الصراع القومي بين اليهود والعرب في فلسطين- حطّم البريطانيون جهودهم للحفاظ على الوضع الراهن. ومن أجل الحفاظ على النظام الزراعي الفلاحي بطرق بيروقراطية، كان يتعين عليهم تغييره بما يكفي لجعله مكشوفاً أمام الرقابة الإدارية والمالية.
كان التغيير الذي حدث هائلاً. وشجع البريطانيون، من خلال فرض تسوية أوضاع الأرض، على تفتيت وتجريد ملكية وحيازة الأراضي؛ بالإضافة إلى تصاعد السخط والتفكك والاضطراب الاجتماعي. وسيضطر هؤلاء “الفلاحون المتبقون” إلى العمل، على نحو متزايد، في المدن، في حين سيستمرون في العيش في القرى لعدم قدرتهم على تحمل تكاليف معيشة حياة المدن، لم يكن الفلاح الفلسطيني شبه البروليتاري بروليتارياً كاملاً ولا قروياً كاملاً ولا حضرياً كاملاً، بل كان على وشك أن يصبح “شريك الهوا”.
واعتقد العديد من المسؤولين البريطانيين والمخططين الصهيونيين أن مثل هذه الفئة الاجتماعية من السكان بلا جذور وبالتالي، هي أكثر قابلية للضبط ولإدارة، ويمكن وينبغي ترحيل أفرادها من فلسطين، إما عن طيب خاطر أو بالإكراه(157) وعلى أقل تقدير، يمكن التعامل مع مجاميع المزارعين المستأجرين والرعاة المتمردين السابقين عبر “سلسلة من عمليات الإخلاء والتعديات، تتخللها إجراءات بموجب قانون (منع) الجريمة، إلى أن يتلاشوا كعمال في المدن أو رعاة على أراضي بعض القرى المغفلة”(158).
ولكن، لم يكن الفلاحون قادرين على قبول فقدان الأرض التي يعملون فيها بسهولة كما لو أنهم يفقدون عائلتهم أو شرفهم (إفلح أرضك واستر عرضك )؛ وكانوا يذكرون بين الحين والآخر لأولئك الذين حاولوا استبدالهم بأن “من يزرع الريح يحصد العواصف”.
…
الهوامش
*يقصد بنظام تورينس (Torrens system) نظام تسجيل الأراضي الذي عمل على تطويره السياسي والمستشار المالي الأسترالي السير روبرت ريتشارد تورينس (Sir Robert Richard Torrens) في منتصف القرن التاسع عشر(1858)؛ واعتمد فيه على التسجيل الرسمي والمركزي للملكية العقارية للأراضي بما يعد إثباتاً قانونياً على ملكية الأرض؛ ومرجعاً أساسياً لأي نزاع حول الملكية ويسهل عمليات البيع والشراء فضلاً عن توفير معلومات وافية ومحدثة حول الوضع القانوني للأرض بالمقارنة مع النظم التقليدية المتبعة في تسجيل ملكية الأراضي؛ والتي تعتمد على سلاسل طويلة من الوثائق وحجج الملكية. وكما هو وارد في نص المقالة؛ أدى تطبيق نظام تورينس إلى “تفتيت” حيازات الأرض المشاع وتوزيعها على “كتل مالية” مختلفة، مما أسهم في تغيير البنية الاقتصادية والاجتماعية المتعلقة بالأراضي دون أدنى اعتبار لمصلحة الفلاح الفلسطيني. وسوف يؤمن نظام تورينس الكفاءة الإدارية المناسبة للسلطات الاستعمارية لتنظيم وتوثيق ملكية الأراضي وتتبع مسارات الملكية مما يسهل جباية الضرائب وفرض السيطرة الإدارية والقانونية على السكان المحليين وتنظيم ملكية الأراضي بطرق تسهل إدارة الموارد والتحكم فيها بما يحقق الأهداف الإدارية والسياسية والاقتصادية [المترجم].
- 1. Adas 1988
- Bell 1930:404
- Bordeaux 1926,1:2
- Lawrence, T.1935.42
- In O’Brien 1988:137
- Nordau 1962,11:113
- Lawrence, T.1935.42
- Klieman 1970: 272
- كتب بلفور في آب 1919 مذكرة جاء فيها: “نحن لا نقترح، بشأن فلسطين، حتى مجرد التشاور ولو شكلياً مع السكان الحاليين [حول مصير البلاد]… إن [الحركة] الصهيونية، سواء كانت صائبة أم خاطئة، جيدة أم سيئة، [هي حركة] متجذرة في إرثنا القديم واحتياجاتنا الحالية وآمالنا المستقبلية، وهي ذات أهمية لنا أكثر بكثير مما هي عليه رغبات وتحيزات وأحكام 700 ألف عربي يسكنون الآن الأرض القديمة “(للمزيد انظر، Sykes 1973:5). وهذا ما أيده لويد جورج وتشرشل. وكان تشرشل قد أجاب رداً على سؤال هوراس رومبولد أمام لجنة بيل حول ما إذا كان من “الظلم القاسي” معاناة “السكان الأصليون” من غزو “عرق أجنبي” فقال:
أ) اليهود كانوا هناك أولاً
ب) “جحافل المسلمين” إنما هم غرباء عن البلد، وقد دمروها إذ “حيثما يحل العرب تتحول الأرض، غالباً إلى صحراء قاحلة”
ج) سيكون من الظلم الشديد ترك الأرض المقدسة قاحلة جرداء بينما يسعى الصهاينة لزراعتها بالبرتقال (للمزيد انظر، March 1937, in Gilbert 1973:421-26 12 (
- 12 April 1916, N. Sokolow, “England as the Protective Power,” FO 371/2817/63314).
- Weizmann1949,1:177
- Ibid.182
- Ibid.149
- Ibid.152
- Ibid.157
- رأى تشرشل الصهيونية في مواجهة البلشفية في “الصراع من أجل روح الشعب اليهودي” (وردت في 8 February 1920, illustrated Sunday Herald). وفي الواقع لم تكن “روح” اليهود مثار قلقه، بل القادة اليهود في الجيوش البلشفية الحمراء المظفرة، مثل تروتسكي، الذين كانوا يتوجهون بخطاباتهم إلى حشود السكان اليهود في أوروبا الوسطى وآسيا الوسطى طالبين منهم الانضمام إلى الهجوم على أوروبا وآسيا الصغرى. وفقاً لأسكويث Asquith (رئيس الوزراء في العام 1916)، عندما لفت هربرت صموئيل انتباهه إلى الفكرة الصهيونية (أصبح صموئيل لاحقاً أول مندوب سامي في فلسطين)، “من المدهش بما يكفي القول إن المؤيد الوحيد الآخر لهذا الاقتراح هو لويد جورج الذي، لا حاجة للقول عنه، عدم اهتمامه إطلاقاً باليهود أو ماضيهم أو مستقبلهم، لكنه يعتقد أنه سيكون من المهين السماح بترك الأماكن المقدسة لتصبح بحوزة فرنسا “اللاأدرية الملحدة” (Antonius 1938:264). أما بالنسبة لبلفور، فقد كانت حكومته في العام 1904 هي التي قدمت مشروع قانون الأجانب لوقف الهجرة من أوروبا الشرقية التي كانت تعصف فيها المذابح. وأصر بلفور على أن مشروع القانون كان “مختلفاً تماماً عن المسألة اليهودية” (للمزيد انظر،2 May 1905, Hansard Parliamentary Debates, v. 145, col. 795). على الرغم من “الأضرار المؤكدة التي وقعت على البلاد نتيجة هجرة كانت يهودية إلى حد كبير” (10 July 1905, col. 155). وتبدو دفوعات وايزمان عن مشروع قانون الأجانب جوفاء وتحمل الكثير من الابتذال حين يقول: “لا يمكن النظر إلى هذا على أنه معاداة للسامية بالمعنى العادي أو الشائع أو المبتذل للكلمة؛ بل يبدو كنتيجة اجتماعية واقتصادية عالمية للهجرة اليهودية، ولا يمكننا التخلص منها”( Weizmann1919,1:90). وفي أمريكا، اعتبر هنري كابوت لودج، بطل الصهيونية في الكونغرس، سيطرة المحمديين على فلسطين “وصمة عار كبيرة على وجه الحضارة” (7 May 1922, Congressional Record, vol. 52, pt. 5, 5376). وفي العام 1943، اتخذ فرانكلين روزفلت أحد أكثر القرارات الأمريكية حسماً بشأن فلسطين عندما حث البريطانيين على قبول نحو 100 ألف لاجئ يهودي، وهم نفس الأشخاص الذين مُنعوا من دخول الولايات المتحدة.Top of Form
17.
July 1918, Weizmann to Balfour, CZA Z4/1605517
- Documents 1945:20
- March 1919, Documents 1945:203
- 9 May 1918, Palestine News; cf. June 1918, Hussein to Feisal, FO 371/3403/126864
- 3 March 1919, in Klieman 1970:23
- 18 June 1919, CZA L4/794
- March 1921, Churchill to Palestinian Deputation, Klieman 1970:270
- Wasserstein 1978
- 6 December 1918, Clayton to Curzon, FO 371/3386/213403… ومثل الكثير من قادة الجيش، لم يكن اللورد كورزون، خليفة بلفور في وزارة الخارجية، أكثر حرصاً على انتقال فلسطين إلى أيدي “اليهود البائسين” القادمين من أوروبا الوسطى من أولئك الذين “من يسمون بعرب” البلاد (Ingrams 1972: 92). لكن مسؤولية فلسطين انتقلت من يده إلى يد تشرشل وزير المستعمرات في العام1921، الذي نقل بدوره صلاحيات الدفاع عنها إلى وزارة الطيران (in Bowie 1957:211). قد يكون من الأفضل تسليط الضوء على عواقب ما أسماه كورزون “الاتفاق غير النزيه بين لويد جورج وتشرشل” الذي برز في الاجتماع الذي جمعهما مع وايزمان وبلفور ولويد جورج وتشرشل (22 July 1921, Notes of Conversation Held at Mr. Balfour’s, CZA Z4/16055)
– لويد جورج وبلفور: [قال كلاهما إنهما كانا يعنيان دائما بإعلان [بلفور] دولة يهودية في نهاية المطاف.]
-وايزمان: [مواصلاً طرح الموقف الصهيوني، ووقف الهجرة، وعدم منح التنازلات اللازمة للتنمية، وانعدام الأمن للسكان اليهود] “نحن نقوم بتهريب السلاح ولا يمكنني السماح بذلك” [وكذلك وصول المستعمرين].
-تشرشل: (مقاطعا) “لن نمانع في ذلك ، لكن لا نتحدث عنه.”
-وايزمان: “أود أن تتم الموافقة عليه. هل هذا متفق عليه؟” [وافقوا جميعا على ذلك].
-تشرشل: [اعتبر الوضع الرسمي للإدارة والمشكلة الصعبة التي نشأت بسبب وعد بلفور الذي عارضه العرب، وتسعة أعشار المسؤولين البريطانيين على الفور، وبعض اليهود في فلسطين. وقال إنها بلد فقير لا يمكن تفريغ المهاجرين المعدمين فيها .]
-وايزمان: [رفض ذلك وتحدث عن “مشروع الحكومة التمثيلية”!
-تشرشل: [استشهد بالعراق وشرق الأردن]
-وايزمان: “لن تقنعني بأن الحكم الذاتي قد أعطي لهذين البلدين لأنك تعتقد أنه صحيح ، لقد تم منحه فقط لأنه يجب عليك فعل ذلك” [وافقوا جميعاً]. إذا فعلت الشيء ذاته مع فلسطين، فهذا يعني التخلي عن فلسطين، وهذا ما أريد أن أعرفه”.
-لويد جورج لتشرشل: “يجب عليك عدم منح حكومة تمثيلية لفلسطين”.
- November 1885, Muyal to Pinsker, in Druyanov 1919,1:670-7115
- Schumacher 1889; Post 1891
- Scholch 1984; Gilbar 1986; cf. Oliphant 1887
- 4 April 1886, Hirsch to Pinsker, in Druyanov 1919,1:746-54, 761-65
- Mandel 1976: 213-14
- Weizmann 1949,1:231
- 19 November 1918, Storrs to GHQ-OETA, FO 371/3386/ 213403
- Adelson 1975: 268
- 16 August 1919, OETA Chief Administrator to Chief Political Officer, FO 371/4171/124482
- Documents 1945:37
- Lawrence of Arabia 1940:87. كان لورانس، الذي أصبح مستشار تشرشل للشرق الأوسط، ينتمي مع ستورز إلى مجموعة خاصة من المستشرقين المنخرطين في السياسة الإمبريالية للحرب العالمية: “أطلقنا على أنفسنا اسم عصابة “المتدخلين المتطفلين” لأننا كنا نعتزم اقتحام وتغيير السياسة الخارجية الإنجليزية التقليدية، وبناء شعب جديد في الشرق” (Lawrence 1935:58-59). اعتبر لورانس ستورز “أولنا… أذكى رجل إنكليزي في الشرق الأدنى… الرجل العظيم بيننا… درس لكل رجل إنكليزي على قيد الحياة حول كيفية التعامل مع الشرقيين المتشككين وغير المستعدين لقبول التغيير”. رد ستورز على هذا الجميل بإطراء مماثل حين وصف “لورنس العرب” بـ “الانبثاق الخجول والشجاع والعبقري والذي يصعب فهمه… إنه لورانس العرب” (Storrs 1940:37) . كانت “العصابة”، كما يصفها سعيد (1978:224): “مرتبطة ببعضها البعض بمفاهيم متناقضة وأوجه تشابه شخصية: فردية كبيرة وتعاطف وتماهي تلقائي مع الشرق، وشغف شخصي متجذر نحو الشرق ممزوج بغرابة منغرسة في شخصياتهم ورفضهم النهائي لهذا الشرق “.
- المرجع السابق ص 96
- المرجع السابق ص 84 -85؛ راجع أيضاً رسالة وايزمان إلى بلفور 20 أيار 1918، التي ينتقد فيها سياسة الوضع الراهن لمكتب إدارة أراضي العدو المحتلة OETA التي تعرقل الاستيطان اليهودي؛ وكذلك رسالة وايزمان إلى كبير المسؤولين السياسيين في 16 آذار 1920، التي يطلب فيها حرمان الفلاحين من الحصول على قروض زراعية من أجل الحفاظ على الوضع الراهن، CZA Z4 / 16055
- على سبيل المثال: 10 March 1945, DC Samaria to DC Jerusalem, Recommendation that Public Health Ordinance violations come under the Criminal Code; 8 Sept. 1933, DO Safad to ADC Galilee, Note on “Village Improvements” ” تشير إلى أن المعارضين لـ “اقتراحات” الإدارة “سيتم التعامل معهم وفقاً لذلك” ، ISA 27-2629 / G337. “
- 17 Oct. 1922, Chief Secretary to Musa Kazim el-Husseini, CZA S25/ 4634
- (Cohn 1988)
- بموجب أحكام قانون المساحة والحصر للعام 1920، يتم تنبيه أصحاب الممتلكات… بالاستعداد لحضور الجلسات في الأوقات والأماكن التي سيتم تعيينها لاحقاً من قبل مسؤول المساحة، للإشارة إلى المساحين على الأرض إلى حدود ممتلكاتهم، وأن يقدموا كواشينهم [سندات الملكية العقارية]، وأي مراجع إلى وثائق ومستندات سجل الأراضي بحوزتهم إلى السجل العقاري، وتقديم أي مساعدة أخرى في استطاعتهم… وتنص المادة 7 من المرسوم على أن أي شخص يتجاهل هذه التعليمات … سيكون عرضة للمحاكمة والسجن (21 November 1922, Cadastral Survey Notice, Gaza District, CZA 525/4634)
- Government Report 1920:250-251
- December 1945, General Monthly Bulletin of Current Statistics, ISA 017/3/30
- 9 Nov. 1931, Marguiles to JA, Die Pachterfrage in Palastina, in Stein 1984:240-241
- 2 December 1923, Doukhan to Smilansky, CZA KKL5/1878
- 19 March 1924, “Note on an Interview with Mr. Stubbs-Director of Lands,” CZA KKL5/1878
- Atran 1985
- Stein 1984:7076; on Settlement ISA 22-3568/23; 25 October 1945, JNF Haifa, CZA KKL5/15030
- 17 March 1925, Palestine Zionist Executive to Anglo-Palestine Company, CZA Z4/771 /II; December 1925, “Report on the Land System of Palestine by Sir Ernest Dowson,” ISA 22-3571 /1
- Government Report 1930b:31
- Government Report 1930e:45
- Vaschitz 1947:46
- Atran 1986
- 1910-1912, Erwerbaussichten fur neue Einwanderer in der Landwirtschaft in Palestina, حول صعوبة الحصول على الأراضي من القرى المملوكة للمشاع، انظر،, CZA L1 /70; 1 Sept. 1922, Abdullah Samara to Arab Executive, وحول سياسة تشجيع الشركاء في المشاع على منع بيع الحصص الفردية، انظر،, ISA 65/1059/338-P
- Atran 1987
- Goadby and Doukhan 1935:207
- Government Report 1931:13
- المرجع السابق
- 7 December 1923, Dowson to Clayton, “Notes on Land-Tax, Cadastral Survey, and Land Settlement in Palestine,” CO 733/60/59971; Government Report 1930c
- Government Report 1937:219
- Government Report 1931:11
- 1927, “Report of the Committee to Advise in the Protection of Agricultural Tenants,” ISA 22-3542/ G612
- 1945-46, ISA 017/3/30
- Avneri 1980:193–94; cf. Granott 1952: ch. 8. لا تزال الكثير من الآراء في الوسط الأكاديمي تعتمد بشكل غير نقدي على إجماع تعريف “السلطات الإدارية”: “تم وصف نظام أراضي المشاع من قبل كل سلطة إدارية رئيسة على الأرض في فلسطين بأنه العامل الأكثر ضعفاً الذي يؤثر على تحسن الأحوال الاقتصادية للفلاحين الفلسطينيين” (Stein 1984: 14). ومع ذلك، لم يفصّل أي مؤرخ أو أنثروبولوجي كيفية عمل نظام المشاع في فلسطين على وجه التحديد منذ نشأته، ناهيك عن كيفية إنتاج كل الشرور المنسوبة إليه (Patai 1949, Rosenfeld 1964, Baer 1966). في الواقع، وفي تجاهل غريب للمشاع، يقع بعض الباحثين الجادين في سلسلة من الأخطاء الفادحة والترويج لبعض الأكاذيب: “في سوريا بشكل عام، لم يتغلغل نظام المشاع في المناطق الجبلية أو على الأقل تعرض للاندثار هناك في العصر العثماني. وهذا صحيح أيضاً في فلسطين (Scholch,1986: 142). كما أنه صحيح أيضاً وعلى عكس الجزء الأكبر من الأراضي السهلية، فإن التلال الجبلية الواسعة التي لا تناسب زراعة الحبوب لم تكن تحتفظ بنظام المشاع في جزء كبير منها. في الواقع، المناطق الوحيدة في فلسطين التاريخية التي استمر فيها المشاع بعد الانتداب البريطاني وما زالت قائمة حتى اليوم تقع بالضبط في المناطق الجبلية، سواء بين الفلاحين (على سبيل المثال، عنزة في تلال السامرة، وسعير في جبل الخليل) أو بين العرب شبه البدو (على سبيل المثال، عرب الكعابنة وعرب الرماضين بين الجبال الواقعة جنوب الخليل والبحر الميت)
- Weizmann 1949,1:2441
- Poncet 1962
- November 1918, L. Kohn, “Proposals for the Preparation of a Memorandum (to the British Government) on the Land Question in Palestine,” CZA Z4/1260/II
- 21 May 1925, Protocols of the Palestine Zionist Executive, CZA Library
- Cohen 1987
- Ben Gurion 1955:96–97
- fall 1929, “Avodah ivrit o mi’urevet bi-moshavot
- 17 July 1918, Weizmann to Balfour, CZA L3/310
- Ben Gurion in Gorny 1987:140
- June 1921, Legislative Council, Labor Archives, Tel Aviv, 102-IV. في الواقع، استمرت مثل هذه الأفكار في الرواج داخل الدوائر الصهيونية والإسرائيلية الرسمية؛ فحتى أواخر العام 1969، كان بإمكان غولدا مئير، خليفة إشكول كرئيسة لحزب العمل ورئيسة وزراء إسرائيل، إنكار احتمالية وجود قومية فلسطينية، فتقول في تصرح لها لصحيفة صنداي تايمز اللندنية يوم 15 حزيران 1969 : “لم يكن الأمر كما لو كان هناك شعب فلسطيني في فلسطين يعتبر نفسه شعباً فلسطينياً… هم لم يكونوا موجودين أصلاً”
- Government Report 1930a:73-78
- 11 October 1928, Hajj Amin el-Husseini, Mufti of Jerusalem, al-/ami’a al-Arabiyya; 3 December 1929, Minutes of Shaw Commission, CZA Library أصبح الحاج أمين مفتي، بمساعدة [هربرت] صموئيل في أيار 1921، بعد وفاة أخيه غير الشقيق كامل. نشأ [الحاج أمين] ضمن أجواء وتقاليد التعاون مع القوى الإمبريالية (كان والده مفتياً في العهد التركي). سعى [الحاج أمين] إلى عقد تسوية مع بريطانيا، ولكن ليس مع الصهيونية. وعندما دفعته العناصر الشعبية الراديكالية للحركة القومية للاختيار بين فقدان الدعم الجماهيري والثورة العربية، اختار الأخيرة مما اضطره للفرار إلى سوريا. وأصبح من أبرز المدافعين عن الهوية الوطنية الفلسطينية العروبية، التي سعى لتحويلها إلى محرك للصحوة الإسلامية في العالم العربي. أجبره الفرنسيون على مغادرة سوريا، وطاردته فرقة اغتيال من الإرغون في العراق بموافقة تشرشل ولجأ في النهاية إلى ألمانيا النازية ( للمزيد انظر في Mattar 1988). على الرغم من تشويه سمعته في التأريخ الصهيوني باعتباره معادياً صلباً للسامية، إلا أن هناك أدلة ضئيلة تشير إلى تشجيعه استخدام العنف ضد اليهود قبل الثورة [العربية الكبرى] ( راجع Government Report 1930a:82).
- Horowitz and Lissak 1978
- كان الشرط الذي وضعه حاييم أرلوسوروف، منظر حزب هبوعيل عتسعير (حزب العامل الفتي)، للانضمام إلى حزب بن غوريون الأكبر “أحدوت هعفودا” (حزب اتحاد العمل) في ائتلاف هو التنصل من مبدأ الصراع الطبقي بين اليهود (راجع بهذا الشأن “Milhemet hama’amadot bi-Mitsiut Eretz Yisraelit” in Arlosoroff 1958) لم تعد الصهيونية العمالية وسيلة أساسية لتحقيق مجتمع يهودي لا طبقي. بل كان المفترض أن تلعب الطبقة العاملة دوراً قيادياً، لكن ليس حصرياً بأي حال من الأحوال، في إنشاء دولة يهودية. وفي العام 1929، جعل بن غوريون هذا التوجه محور السياسة العمالية المعدلة التي كانت تهدف إلى “تحويل الطبقة العاملة إلى أمة عاملة” عام عوفيد(עם עובד). تمت دعوة العناصر غير الصهيونية للانضمام إلى وكالة يهودية موسعة وغير إيديولوجية، والتي ستقوم لجنتها التنفيذية بالحديث والتصرف مستقبلاً نيابة عن الييشوف ككل.
- كان جابوتنسكي يعتقد -مثل ماتزيني- أنه: “قبل أن نقوم بالانضمام إلى الدول التي تشكل البشرية، يجب أن نكون موجودين كأمة” (Mazzini 1907: 55). واستحضر مدح موسوليني باعتباره “الرجل الذي يفهم حقاً” كيفية تشكيل أمة يهودية (Sachar 1976:187)، أي من خلال بنائها بصفتها “جدار حديدي” (AI Qir ha-Barzel in Jabotinsky 1959:251-266). ولأنه شعر أن الثقافة الغربية قد تغلغلت في الوعي الفلسطيني، فقد كان الوحيد تقريباً بين القادة الصهاينة الذين اعتقدوا أن “هناك حركة وطنية” وليس مجرد “غوغاء، بل أمة حية”: “الجيل العربي الشاب يحب وطنه، وهل هناك شك في وجود جيل عربي نقي يحلم بأحلام رائعة؟” (Ma Rotzim ha-Tzionim me ha-Rivisionistim? in 1959:283-302). وهذا يعني ضرورة قمع المشاعر الوطنية الفلسطينية بشكل أكبر.
كان الذراع العسكري لحزبه، إرغون، يعمل على مبدأ الانتقام غير المتناسب ضد أي تهديد محسوس للطموحات الصهيونية (أولا من قبل العرب وبعد ذلك، في عهد وريثه، مناحيم بيغن، من قبل البريطانيين أيضاً). على الرغم من تهميش جابوتنسكي في ثلاثينيات القرن العشرين من قبل التيار الصهيوني الرئيسي، إلا أنه غالباً ما تم تبني موقفه بشأن القضايا الرئيسة في نهاية المطاف. ولننظر، على سبيل المثال، إلى البند التالي: “وعد إسحاق شامير، رئيس وزراء إسرائيل، بأن “القبضة الحديدية” وحدها من ستقف في وجه أي محاولة لإقامة دولة فلسطينية” (11 August 1988, International Herald Tribune)
- Government Report 1925:44. جدير بالذكر الإشارة إلى ما قاله توماس هودجكين، الذي شغل لمدة وجيزة منصب المفوض الحكومي في حيفا وكسكرتير ووكوب الخاص: “إن فلسطين عملياً -مثل الأراضي الأخرى الخاضعة للانتداب- هي لجميع الأغراض العملية مستعمرة تابعة للتاج (باستثناء الناحية الجمركية)” (July 1936, in Hodgkin 1986:192). لكنه كان لديه وجهة نظر مختلفة: “الإمبريالية الغربية بشكل عام، والإمبريالية البريطانية بشكل خاص… وتدمير الاقتصاد الزراعي القائم؛ ونقل ملكية الأرض إلى المستعمرين المهاجرين؛ والبلترة ونمو البطالة؛ وظهور الأحياء الفقيرة؛ وفرض جهاز بيروقراطي قمعي وغريب؛ وإثارة النزاعات والصراعات الطائفية (بذريعة أسطورة “الحفاظ على التوازن بين الطوائف”)؛ وعقد صفقات مع المتعاونين وسجن الثوار أو نفيهم أو قتلهم” (Hodgkin 1982). يذكر أن هودجكين طُرد من البلاد في العام 1936 بسبب ميوله الشيوعية وتعاطفه مع العرب
- Government Report 1925:45
- Government Report 1921:12, 57
- 31 March 1938, Gurevich, JA Statistician to JA Political Dept., CZA S25/6563
- CZA KKL5/3108/Wadi ‘Ara files
- من خلال الاستحواذ على منطقة وادي الحوارث الكبيرة وغيرها، الكبيرة والصغيرة على حد سواء، نجحت الشركة إلى حد كبير في توحيد المناطق المعزولة التي في حوزة اليهود في هذا الجوار ووضع الأساس لإنشاء منطقة استيطان يهودي مكثف، على غرار وادي مرج ابن عامر، الذي كرست الشركة أنشطتها في السنوات السابقة (PLDC Report for 1929, CZA Z4/3444/1II) .تم إبرام اتفاقيات الشراء لأجزاء من هذين المسارين تقريباً عشية الحرب العالمية الأولى، ولكن كان لا بد من إعادة التفاوض عليها بشق الأنفس بعد الحرب (22 July 1914, Ruppin to JNF, CZA KKL5/1717).
- Government Report 1928
- Luke 1956,11:15
- 12 May 1930, Statement of the Arab Delegation on Failure of Negotiations, CZA S25/3478
- Porath 1977:28
- Government Report 1930b:64
- Government Report 1930d:23
93.Government Report 1930d:24
- Sykes 1973:275. “ومن المفارقات أن بيفن هو الذي أصبح، بصفته وزيراً للخارجية في حكومة أتلي العمالية بعد الحرب، العدو الرئيسي للصهيونية (see Louis 1985:383-396).
- in Gorny 1983:38; cf. 22 July 1921, Notes on a Conversation at Mr. Balfour’s House, with Lloyd George, Churchill and Weizmann, CZA Z4/16055
- 4 Nov. 1930, Weizmann to MacDonald’s son; 2 Feb. 1930, Weizmann to MacDonald, in Weizmann 1978, XV
- 5 Dec. 1930, Meeting with Cabinet Committee, Weizmann Archives; cf. 23 March 1930, Ruppin “Jewish Land Purchase”, CZA 525/4207; Arlosoroff in Labour Monthly, MayJune 1930; Granovsky 1931:31
- 13 February 1931, Parliamentary Debates
- 1 June 1921, Zionist Executive to CO, CZA Z4/10655
- Histadrut Memorandum submitted to Palestine Commission of Inquiry, December 1929, Documents 1930
- Histadrut Memorandum on the August Disturbances, submitted to the British Labour Party and the Socialist International, in Documents 1930
- Turner 1978:5
- Marseilles 1988
- Documents 1930
- Nov. 1921, Governor Jaffa District, ISA 22-3372/Wadi Hawareth
- Contrat de Vente entre Tayan et Hankin, CZA KKLS/3110; 30 Nov. 1929, Nablus District Court, CZA S25/7620
- 13 March 1932, Shertok to Webb, CZA S25/7620
- 1 Dec. 1929, “Meeting with Mr. Webb,” CZA Z4/3444/III
- Government Report 1930a:119
- Stein 1939:101
- 12 March 1929, Hankin to PLDC, CZA Z4/3444/IIl
- 29 Jan 1932, Hankin to JNF, CZA S25/7620
- 18 Feb. 1932, Arlosoroff to Webb
- Ashbal 1969:83
- Ruppin 1947,11: 126
- 16 Feb. 1932, DO Tulkarm, ISA 22-3372/Wadi Hawareth
- 24 April 1932, Horowitz to Arlosoroff, “Notes of an Interview with Mr. Justice Webb,” 24.4.1932
- تضمنت القائمة 125 اسم في القسم الشمالي 27 March 1933, ADC Samaria to Dept. of Development و 126 اسم في القسم الجنوبي 9 Dec. 1935, A/DC Samaria to Chief Sec
- 31 July 1933, DO Tulkarm to Development Dept
- Granovsky 1931: 25-26
- Government Report 1930a:119
- Adler 1988
- 21 Aug. 1929, JNF to Hankin, CZA KKL5/31 10
- Porath 1977:127; cf. 21 July 1933, CID Report, FO 371/16926/E-4461. انتخب عوني [عبد الهادي] في 15 كانون الثاني 1930 عضواً في وفد اللجنة التنفيذية العربية الذي كانت مهمته الضغط على مكتب المستعمرات لتغيير سياسة الانتداب. ورغم أن شركة تطوير أرض فلسطين كانت تعمل على مبدأ أن دور الوسطاء العرب “يجب أن يبقى سرياً تماماً (9 September 1928, Hmnkin to PLDC, CZA KKL5/3110 Wadi Hawareth). إلا أن زيارة الوفد العربي دفعت إلى إعادة التقويم: “أرى أنه سيكون من المستحسن القيام بمحاولة لتشويه سمعة عوني عبد الهادي في أعين الجمهور في إنكلترا… أعرف بالطبع أن شركة تطوير أرض فلسطين عارضت بشدة فضح عوني عبد الهادي أمام [لجنة شول Shawl، بحجة أننا إذا كشفنا هؤلاء الأفندية الذين عملوا كوسطاء في شراء الأراضي، فقد نجد صعوبة في حملهم على مساعدتنا في شراء الأراضي في المستقبل؛ ولكن… سيظهر آخرون غيره للعب الدور طالما أن هناك مال لهم مقابل هذا العمل” (22 January 1930, Tolkowsky to Kisch, CZA S25/3478). واتخذ قرار بالامتناع عن الكشف “إلا وعند الضرورة من أجل “عدم إعطاء الوفد إعلاناً مجانياً لا مبرر له” (26 January 1930, Kisch to Tolkowsky).
عندما انهارت المفاوضات بين الوفد ووزارة المستعمرات، تم تأجيل قرار كشف عوني مؤقتاً. ولكن في شباط 1932، رفع عوني عبد الهادي قضية ضد الصندوق القومي اليهودي. وشهد شخص عربي لمصلحة الصندوق القومي اليهودي بتورط عوني عبد الهادي في بيع وادي الحوارث في محكمة نابلس المركزية (Avneri 1980: 120). حاولت الإدارة أيضاً إظهار أن “عوني بك عبد الهادي تلقى 2700 جنيه فلسطيني من اليهود للسماح بطرح أراضي وادي الحوارث للبيع بالمزاد العلني من قبل المحاكم” ، لكنها “لم تتمكن من إثبات” ذلك (7 January 1933, Andrews to Husseini, 1933; 12 January 1933, Husseini to Andrews, ISA 22-3372/Wadi Hawarith). ووفقاً لأهارون بن شيمش، محامي الصندوق القومي اليهودي في قضية وادي الحوارث، تم دفع أموال لعوني عبد الهادي من قبل هانكين، الذي تولى عملية شراء الصندوق القومي اليهودي (Avneri 1980: 120). ومهما كان دور عوني عبد الهادي في قضية وادي الحوارث، يبدو واضحا أنه بحلول العام 1930 شعر بعمق أن “الاستحواذ المتواصل على الأراضي التي يحتلها العرب هو بالنسبة لي مسألة حياة أو موت” (22 January 1930, Conversion between Haim Kalvarisky and Awni Abd el-Hadi, CZA 525/3051) وبصفته سكرتيراً لحزب الاستقلال، قال إن: “لا يمكن أن يكون هناك مصالحة بين اليهود الذين يرغبون في فلسطين كدولة يهودية… في فلسطين … منذ آلاف السنين، كان العرب موجودين. لقد عاشوا بشكل فقير، هذا صحيح، لكنهم عاشوا على كل حال… نحن لسنا ضد اليهود لأنهم يهود. يجب ألا يمنعنا رزقكم من الحياة” (8 August1935, Interview with Awni) . وكما أثبتت الأحداث، لم تكن مخاوفه غير مبررة. وفي لقاء مع ممثلي الوكالة اليهودية في جنيف خلال الثورة العربية، تساءل: “كيف يمكننا أن نؤمن بالسلام في وقت يعتقد فيه ترحيل العرب من بلادهم بالقوة؟”. لم يكن الجواب الذي قدمه له المسؤولون الصهاينة مطمئناً: “كمحام يجب أن تعرف أنه في كل مكان في العالم يوجد قانون مصادرة ونزع ملكية [المنفعة للمصلحة العامة]، وفي الوقت الذي تكون فيه مصلحة الجميع مهمة، لا يمكن النظر في رغبة وإرادة الفرد” (30 August 1937, Thon to Shertok on Conversation with Awni; 27 August 1930, Agronski to Weizmann, Ben Gurion, Shertok and Goldmann). وكتب عوني عبد الهادي إلى الهيئة العربية العليا وهو في حالة يأس من أي تسوية مع بريطانيا أو الصهيونية، أن “طلقة رصاصة أو قنبلة لها تأثير أكبر من الوفود إلى جنيف أو لندن 30 August 1937, Intelligence Report, CZA S25/3571). بعد أن عانى لاحقاً من الانهيار، استمر في التحريض ضد التقسيم (Egyptian Gazette, 6 January 1938) ومن أجل الوحدة ضمن الهيئة العربية العليا (عرض جزءً من ثروته الشخصية على راغب النشاشيبي لتوحيد الصفوف مع الحاج أمين22 December 1938, Intelligence Report, CZA 525/10098) كما قاد الصراع ضد الانتهاكات الصهيونية للوائح وأنظمة نقل الأراضي لعام 1940 (CO 722/435/75072/9). وعلى الرغم من محاولات تقويض دوره في الحركة القومية العربية، فقد اعتبره القادة الصهاينة عموماً الخصم الأكثر جدية والأقل جدارة من بين جميع قادة الحركة الوطنية الفلسطينية “على الرغم من أنه، بالطبع، [كان؟] منخرطاً في تجارة الأراضي مما تمثل من نقط ضعف له (20 March 1930, Kisch to Weizmann, CZA S25/3478)
- 9 Dec. 1935, A/DC Samaria to Chief Sec.; 29 May 1933, DC Haifa to DO Tulkarm, ISA 22-3372/Wadi Hawareth
- 15 Nov.1933, CID Report, FO 371/17878
- 28 Jan. 1934, ADC Samaria to DC Haifa, ISA 22-3372/Wadi Hawareth
- 25 May 1934, Mukhtar of Wadi Hawareth Shemali to HC
- 29 June 1934, DO Tulkarm to DC Nablus
- 23 April 1934, Acting ADC Samaria to DC Haifa
- 17 July 1934, to DO Tulkarm
- Oppenheim 1943
- 23 July 1934, to DC Haifa, ISA 22/3372/Wadi Hawareth
- 26 January 1934, HC to Colonial Secretary, CO 733/251/3729
- 19 September 1941, Bennett to A/DC Samaria, ISA Wadi Hawareth. لم يكن متاحاً إبرام عقد إيجار طويل الأجل للقبيلة لأن هذه الأخيرة لم تستوفِ شروط الاعتراف الرسمي بها. ومن الناحية القانونية، لا يمكن توقيع عقد الإيجار هذا إلا عبر كيان قانوني؛ أي “شخص اعتباري” يمثل القبيلة؛ ومع ذلك، لم يكن المختار ولا أي شخص آخر في القبيلة مؤهلاً بموجب أحكام مرسوم إدارة القرى (16 August 1943, Palestine Gazette, No. 1286) لكي يستوفي الشروط للحصول على “امتياز” الاعتراف: “المعيار الوحيد الذي يمكن قبوله… هو ما إذا كانت القرية ذاتها متقدمة بما فيه الكفاية للاستفادة الكاملة من المرسوم وما إذا كان سلوكها في الماضي جيداً بما يكفي لتبرير المساعدة التي يجب على الحكومة تقديمها بالضرورة إلى مجلس القرية الجديد (10 November 1945, A/DC Samaria to ADC Tulkarm, ISA 22-3372/Wadi Hawareth). ولكن حتى لو أظهر عرب وادي الحوارث “سلوكاً جيداً”، وهو ما لم يفعلوه بسبب احتجاجهم على فقدان أراضيهم، فقد كان هناك عائق أخير(10 November 1945, A/DC Samaria to ADC Tulkarm, ISA 22-3372/Wadi Hawareth): “كما تعلمون ليس لديهم أرض خاصة بهم، وبالتالي لا شعوره لديهم بالأمان أو الاستقرار الدائم” الأمر الذي يستدعي اعتبار مستوطنتهم “قرية” حقيقية (13 November 1945, ADC Tulkarm to Samaria) وبناء على ذلك، لم يكن للقبيلة أي وجود قانوني وبالتالي لا يمكن لأفرادها إبرام اتفاقية طويل الأجل مع الإدارة. وقد رفض مخاتير القطاعين الشمالي والجنوبي التفكير في عقد إيجار قصير الأجل لأنهم شعروا أن ذلك سيكون بمنزلة التخلي أو التنازل عن المطالبة بأراضيهم السابقة، والتي ما زالوا يعتقدون أنهم طردوا منها ظلماً. ثم قررت الإدارة طلب إيجار رمزي قدره 5 جنيهات سنوياً، لأن ذلك “سيمنحنا عقد إيجار ضمني”.
- 19 April 1947, ADC Tulkarm to DC Samaria
- 12 December 1947, Labor Archives, 235-IV/2093
- Morris 1987:53, 119
- Stein 1984:162
- Porath 1976:19
- Haim 1983:71
- 7 March 1924, N. Tischby, “Land Purchase in Erez Israel,” CZA KKL5/1878
- 30 November 1932, Colonial Secretary to Weizmann, CO 733/223/97248
- انظر مثلاً في Firestone 1975 بخصوص خسارة نظمي عبد الهادي في قرية زرعين، وانظر كذلك في CZA KKL5/4639 حول المبيعات اليهودية لاحقاً 18 July 1933, PLDC to JNF
- 5 May 1936 JA Political Dept. to Mary Humphrey, CZA S25-6563
- يتضح الانقسام في قضية تسوية أوضاع الأراضي في السياسة الوطنية الفلسطينية من تقرير استخباراتي صهيوني عن أحد الاجتماعات النادرة للهيئة التنفيذية العربية التي سبقت حلها رسمياً في العام 1934: كان المتحدث الأول جمال الحسيني الذي وصف الهدف من التجمع… فيما يتعلق بمسائل الهجرة اليهودية وبيع الأراضي. تحدث بعده… أحمد شقيري، عضو حزب الاستقلال، وكان قد بلغ التبرم عنده حده الأقصى… ملمحاً إلى أعضاء المعارضة [حزب راغب النشاشيبي] بأنهم وسطاء وقوادون (سرسرية). كان هناك احتجاج في القاعة من قبل أنصار المعارضة [الذين] طالبوه بالتراجع وسحب كلامه. كما شعر رجال المفتي بالإهانة من كلماته وبدأوا يهتفون “المفتي هو الشعب والشعب هو المفتي”… وازداد حماس مندوبي الفلاحين وهتفوا “قوادون” و”سماسرة سرسريون” و”عملاء الحكومة” و”بائعو الأراضي” وما إلى ذلك. شعرت الشرطة بالخوف وأرسلت خمسة عشر شرطيا آخر [كانوا] في سيارة على أهبة الاستعداد (Report on AE Meeting, 30 March 1933, D. Tidhar, CZA S25/30131). ومع مرور الوقت، بدا أن الوضع سيزداد سوءً: يتركز التحريض، الشفهي والكتابي، بشكل أساسي على بيع الأراضي. ويبدو أن القادة العرب قد توصلوا إلى استنتاج مفاده لا جدوى من محاربة الهجرة مادام العرب سيبيعون أراضيهم، ولذلك قرروا توجيه كل طاقاتهم ضد بيع الأراضي. وبحسب أحد المصادر، فإن جمال الحسيني وإميل الغوري ومنيف الحسيني سيعتزمون نشر كتاب أسود بأسماء السماسرة الذين يتاجرون ببيع الأراضي لليهود. سيحتوي الكتاب على أسماء وصور السماسرة وقوائم الأراضي التي باعوها لليهود.
ووفقاً لمصادر أخرى للمعلومات، أنشئت مؤخراً منظمات إرهابية لشن حرب ضد السماسرة. وكعمل أول عمل لهذه المنظمات يمكن ذكر مقتل السمسار صالح عيسى حمدان في قرية قالونيا. ومن بين الذين اعتقلوا بتهمة قتله اثنان من حزب المفتي [ November 20-5 1934, Review of Arab Camp, CZA 525/3472] .على الرغم من عدم وجود أثر لمثل هذا “الكتاب الأسود” العربي، إلا أن هناك أدلة على تحضيره(November 13 1934, Intelligence Report, CZA 525/3542). أعدت الإدارة السياسية للوكالة اليهودية قوائم بسماسرة الأراضي العرب المشاركين في الحركة الوطنية، وأحيلت هذه المعلومات على ما يبدو إلى الأطراف المعنية عند الضرورة (see files in CZA 525/3472). وتجدر الإشارة إلى أن العديد من القضايا المتعلقة ببيع الأراضي لليهود لا تزال ذات صلة بالأحداث الجارية، كما يشير هذا العنوان الأخير: “مقتل تاجر أراضي” (May 14 1989, Jerusalem Post)
- Ben Gurion 1968:211
- 5 August 1937
- 7-12 June 1938, Protocols of /A Executive, CZA Library; cf. CZA S25/42
- Orren 1978; cf. files in CZA S2512955
- Schechtman 1961,11:325
- Jabotinsky 1940, in Moledet (Bulletin of the Homeland Party for Arab Transfer], No. 3, December 1988
- June 1949, ISA FM 2444/19
- HC Chancellor, Director of Education Farrell, in Miller 1985:110-12
- Storrs 1937:397
- cf. 3 September 1943, High Commissioner Mac Michael, ISA 22-3511/SD8
- 7November 1940, DC Samaria to Chief Secretary, ISA 22-3511/SD8. استمر هذا المسار في إسرائيل (Rosenfeld 1964; Lustick 1980) ).ومنذ العام 1967، أصبحت عمليات التلاعب بالأراضي والعمالة والقانون أقل تحفظاً وأكثر وضوحاً في استعمار واستغلال وحكم الأراضي المحتلة (قطاع غزة والضفة الغربية) (Aruri 1984). وهكذا، بحلول العام 1985 (وهو العام الأخير الذي تتوافر عنه أرقام كاملة)، تم “إعلان” أكثر من ثلث الضفة الغربية أراضي دولة مفتوحة للاستيطان اليهودي، واعتبر أقل من نصف قطاع غزة “ملكا” لمالكين عرب (Benvenisti and Khayat 1988: 61, 113). وكان باستطاعة العمال غير المهرة من الأراضي المحتلة (الذين يعملون في إسرائيل نهاراً ولكن يتعين عليهم العودة إلى منازلهم ليلاً) توقع جني أتعاب عمل يوم واحد يعادل ما يكسبه العمال الإسرائيليون غير المهرة في ثلاث أو أربع ساعات (Statistical Abstract for Israel 1988:377, 732). وأخيراً، لا يسمح للفلسطينيين في الأراضي المحتلة بإنشاء تمثيل حكومي محلي أو مستوى البلاد ككل. بل تقوم هناك “إدارة مدنية”، تشبه سلطات الانتداب البريطاني، تتمتع بصلاحية فرض الأحكام العرفية لضمان سيادة “النظام القانوني” المفروض على “الإرهاب” المحلي.
…..
فيما يلي يعض المختصرات المستخدمة في المقالة
Central Zionist Archives, Jerusalem (CZA) الأرشيف الصهيوني المركزي، القدس
Israel State Archives, Jerusalem (ISA) أرشيف دولة إسرائيل، القدس
Jewish Agency for Palestine (JA) الوكالة اليهودية في فلسطين
Palestine Land Development Company (PLDC) شركة تطوير أرض فلسطين
Jewish National Fund (UNF) الصندوق القومي اليهودي
Foreign Office Records, London (FO) سجلات وزارة الخارجية ، لندن
Colonial Office Records, London (CO) سجلات وزارة المستعمرات ، لندن
High Commissioner for Palestine (HC) المندوب السامي في فلسطين
District Commissioner (DC) مفوض المنطقة
Assistant DC (ADC) مساعد مفوض المنطقة
Acting DC (A/DC) القائم بأعمال مفوض المنطقة
District Officer (DO) مسؤول المنطقة
….
العنوان الأصلي THE SURROGATE COLONIZATION OF PALESTINE, 1917-1939
المصادر
REFERENCES
-Adas, M. 1988 The Great War and the Decline of the Civilizing Mission. Paper presented to Wenner-Gren Symposium, Tensions of Empire. 5-13 November 1988. Mijas, Spain. Adelson, R.
1975 Mark Sykes: Portrait of an Amateur. London: Cape.
-Adler, R.1988 The Tenants of Wadi Hawarith: Another View of the Land Question in Palestine. International Journal of Middle East Studies 20:197-220.
-Antonius, G.1938 The Arab Awakening. London: Hamish Hamilton.
-Arlosoroff, C.1958 Mivhar Ktavim u Firkei Haim. Tel Aviv: Am Oved.
-Aruri, N., ed.1984 Occupation: Israel Over Palestine. London: Zed Books.
-Ashbal, A.1969 Shishim Shanot Hakhsharat ha-Yishuv. Jerusalem: PLDC.
-Atran, S.1985 Dmmembrement social et remembrement agraire clans un village palestinien. L’Homme 25:111135.
1986 Hamula Organisation and Masha’a Tenure in Palestine. Man 21:271-295.
1987 Le masha’a et (a question fonciere en Palestine, 1858-1948. Annales ESC, Novembre-D6cembre 1987, num6ro 6:1361–1389.
-Avneri, A.1980 Ha-Hityashvut ha-Yehudit vi Ta’anat ha-Nishul, 1878-1948. Tel Aviv: Hakibbutz Hami’uhad.
-Baer, G.1966 Population and Society in the Arab East. New York: Praeger.
-Bell, G.1930 The Letters of Gertrude Bell. London: Ernest Benn.
-Ben Gurion, D.1955 Mi-Ma’amad le-Am. Tel Aviv: Achdut.
1968 Mikhtavim el Paula vi ha-Yiladim. Tel Aviv: Am Oved.
-Benvenisti, M. and S. Khayat 1988 The West Bank and Gaza Atlas. Jerusalem: The West Bank Data Project.
-Bordeaux, H.1926 Voyageurs d’Orient. Paris: Plon.
-Bowle, J.1957 Viscount Samuel: A Biography. London: Gollancz.
-Cohen, M.1987 Zion and State. Oxford: Basil Blackwell.
-Cohn, B.1988 The Anthropology of a Colonial State and its Forms of Knowledge. Paper presented to WennerGren symposium, Tensions of Empire. 5-13 November 1988. Mijas, Spain.
Documents
-1930 Documents on Jewish Labour Policy in Palestine. Tel Aviv: Achdut.
-1945 Documents Relating to the Palestine Problem. London: Jewish Agency.
-Druyanov, A.1919 Kitavim le-Toldot Hibbat Tsion vi Yishuv. Odessa: Omanut.
-Firestone, Y.1975 Crop-sharing Economics in Mandatory Palestine. Middle East Studies 2:3-22, pp. 175-195.
-Gilbar, G.1986 The Growing Economic Involvement of Palestine with the West. In -Palestine in the Late Ottoman Period. D. Kushner, ed. pp. 188-210. Jerusalem: Yad lzhak Ben-Zvi.
-Gilbert, M.1973 Sir Horace Rumbold. London: Heinemann.
-Goadby, F. and M. Doukhan 1935 The Land Law of Palestine. Tel Aviv: Shoshany’s Printing Company.
-Gorny, Y. 1983 The British Labour Movement and Zionist 1917-1948. London: Frank Cass.
1987 Zionism and the Arabs 1882-1948. Oxford: Clarendon.
Government Reports
-1920 A Handbook of Syria (Including Palestine). London: HMSO.
-1921 Palestine Disturbances in May 1921. London: HMSO.
-1925 Palestine: Report of the High Commissioner on the Administration of Palestine 1920-1925.London: HMSO.
-1928 Report to the Council of the League of Nations on the Administration of -Palestine and Transjordan for the Year 1927. London: HMSO.
-1930a Palestine Commission on the Disturbances of August 1929. London: HMSO.
-1930b Palestine: Report on Immigration, Land, Settlement and Development. London: HMSO.
-1930c Report by Mr. C. F. Strickland of the Indian Civil Service on the Possibility of Introducing a System of Agricultural Cooperation in Palestine. Jerusalem: Government Printing Office.
-1930d Palestine: Statement of Policy by His Majesty’s Government in the United Kingdom, October 1930. London: HMSO.
-1930e Report on the Economic Conditions of Agriculturalists in Palestine. Jerusalem: Government Printing Office.
-1931 First Report on Agricultural Development and Land Settlement in Palestine by Louis French. Jerusalem: Government Printing Office.
-1937 Palestine Royal Commission Report [Peel Commission]. London: HMSO.
-Granott [Granovskyl, A.1952 The Land System in Palestine. London: Eyre and Spottiswood.
-Granovsky, A.1931 Land and the Jewish Reconstruction in Palestine. Jerusalem: Mischar.
-Haim, Y.1983 Abandonment of Illusions: Zionist Political Attitudes Toward Palestinian Arab Nationalism 1936-1939. Boulder, CO: Westview.
-Hodgkin, T.1982 Antonius, Palestine and the 1930s. Gazelle Review of Literature on the Middle East 10:1-33. 1986 Letters from Palestine 1932-1936. London: Quartet.
-Horowitz, D. and M. Lissak 1978 Origins of the Israeli Polity. Chicago: University of Chicago.
-Ingrams, D. 1972 Seeds of Conflict: Palestine Papers. London: John Murray.
-Jabotinsky, Z. 1940 The Jewish War Front. London: George Allen and Unwin. 1959 —-Ketavim. Jerusalem: Eri Jabotinsky.
-Klieman, A. 1970 Foundations of British Policy in the Arab World- The Cairo Conference of 1921. Baltimore: The Johns Hopkins Press.
-Lawrence, T. 1935 Seven Pillars of Wisdom. Garden City, NY: Doubleday, Doran and Co.
-Louis, R. 1985 The British Empire in the Middle East 1945-1951. Oxford: Clarendon.
-Luke, H. 1956 Cities and Men: An Autobiography. London: Bles.
-Lustick, I. 1980 Arabs in the Jewish State. Austin: University of Texas.
-Mandel, N. 1976 The Arabs and Zionism before World War I. Berkeley: University of California.
-Marseille, J. 1988 “Gauche,” ..Droite” et fait colonial en France, des annees 1880 aux annees 1960. Paper presented to Wenner-Gren symposium, Tensions of Empire. 5-13 November 1988. Mijas, Spain.
-Mazzini, G. 1907 The Duties of Man. New York: The Modern Library.
-Mattar, P. 1988 Al-Hajj Al-Husayni and the Palestine National Movement. New York: Columbia University.
-Miller, I. 1985 Government and Society in Rural Palestine, 1920-1948. Austin: University of Texas.
-Morris, B. 1987 The Birth of the Palestinian Refugee Problem, 1947-1949. Cambridge: Cambridge University.
-Nordau, M. 1962 Ketavim Tsioniyim. Jerusalem: Hasifriya Hatsionit.
-O’Brien, C. 1988 The Siege: The Story of Israel and Zionism. London: Paladin.
-Oliphant, L. 1887 Haifa, or Life in Modern Palestine. Edinburgh: Blackwood.
-Orren, E. 1978 Hityashvut bi-Shnot Ma’avaq, 1936-1947. Jerusalem: Yad Izhak Ben-Zvi.
-Patai, R. 1949 Musha’a Tenure and Cooperation in Palestine. American Anthropologist 51:436-445.
-Poncet, J. 1962 La colonisation et (‘agriculture en Tunisie depuis 1881. The Hague: Mouton.
-Porath, Y.1976 The Land Problem in Mandatory Palestine. Jerusalem Quarterly 1:18-27.
1977 The Palestine Arab National Movement 1929-1939. London: Frank Cass.
-Post, G.1891 Essays on the Sects and Nationalities of Syria and Palestine. Palestine Exploration Fund Quarterly Statement, pp. 99-147.
-Rosenfeld, H.1964 From Peasantry to Wage Labor to Residual Peasantry: The Transformation of An Arab Village. In Process and Pattern in Culture: Essays in Honour of Julian Steward. R. Manners, ed. Chicago: Aldine.
-Ruppin, A.1947 Pirkei Hayay. Tel Aviv: Am Oved.
-Sachar, H.1976 A History of Israel. New York: Knopf.
-Said, E. 1978 Orientalism. New York: Pantheon.
-Schechtman, J. 1961 Fighter and Prophet: The Vladimir Jabotinsky Story. New York: Thomas Yoseloff.
-Scholch, A. 1984 Le developpement economique de la Palestine 1856-1882. Revue d’études palestiniennes 10:93-114.
1986 Was There a Feudal System in Ottoman Lebanon and Palestine? In Palestine in the Late Ottoman Period. D. Kushner, ed. pp. 130-145. Jerusalem: Yad Izhak Ben-Zvi.
-Schumacher, G. 1889 Der arabische Pflug. Zeitschrift des Deutschen Palestina-Vereins 12:157-166.
-Stein, L. 1930 Memorandum on the “Report of the Commission on the Palestine Disturbances of August 1929.” London: Jewish Agency.
-Stein, K. 1984 The Land Question in Palestine 1917-1939. Chapel Hill: University of North Carolina.
-Storrs, R.1937 Orientations. London: Nicholson and Watson.
1940 Lawrence of Arabia, Palestine and Zionism. London: Penguin.
-Sykes, C.1973 Crossroads to Israel 1917-1948. Bloomington: Indiana University.
-Turner, B.1978 Marx and the End of Orientalism. London: George Allen and Unwin.
-Vaschitz, J.1947 Ha-Aravim bi-Eretz Yisrael. Merhavia: Sifriyat Poalim.