تلاميذ على دروب المعرفة، ليرتقوا بالحياة. الحياة التي لا تتّسع للإنسان المأسور.. بالحرية الداخلية وحدها يتجلّى معنى الحب، وتتجسّد قدسيته… بها فقط ينتقل الأسير من الظلمة إلى النور… والحب نور..
والليل مهما اشتدّت حلكته وطالت، فإنّ لحظة يقظة حقيقية كفيلة بتبديدها.. لحظة تعمّدنا بها النشوة، ويتلاشى في حضرتها كلّ شيء، هي لحظة تصير حالنا فيها إلى خفّة الغيوم العابرة وخلودها في آن… فنبضنا العميق، والإحساس اللحظي بالوجود هو منبت الكينونة… تلك الّتي هي وجودنا ومعناه، وكلٌّ الاتّصال و السكون فيه.. هي إدراكنا ووعينا ولا عبور بدونها.. و في الحيوات المنبثقة منها دروب جلجلة، وإن كانت معبّدة… فبدون أنين الألم، ورنّاته لا نصل الخلاص، ولا نحطّ الرحال على مرافئ السلام النفسي والفرح الكوني.
في الأنا ودروب السلام الداخلي، إكليل شوك على طول الطريق، وعلينا أن نعرف ذلك…فالأنا بدون هذا الوعي المتجذر، هي الهلاك و لا خلاص.
وحدها ملامسة جوهر الله في عمق النفس، هي بوابة شروق الروح وقارورة عبقها… بها يتجلى الصمت ببهجة كاملة، وبإدراك غير منقوص… عارياً بحضوره… لا زيف ولا أقنعة، كأنّه الحقيقة لحظة تولد
عند حضور قوة يقين اللحظة المدركة الآنية، يتم إيقاظ الشبق الدفين المكنون، ذلك الذي يكلل بواطن النفس وثناياها، بالمسرة والعشق النوراني الصافي، فلا كائن إلا ما يكون، ولا أفق إلا ما وراء ذلك الأفق، الشبق الذي هو أعلى درجات الحب، لأنه الرغبة في ذاتها والنشوة في ذاتها.
فنشوة الروح و صفاء النفس راهبات مصليات في معبد الفرح الكوني، ينشرن بخوره في كل أركانه، الفرح الذي لا يرتبط بالسعادة أو التعاسة، الربح أو الخسارة، ولا أي مسمى من مسميات الأنا الزائفة …
بل التخلي عن تلك الأنا، والتحلي بالصمت، والتجلي بالحب.
محبة الذات هي محبة الآخر
عدم مقاومة الذات يعني الاستسلام للسلام، والقبول التام للحظة الآنية، لا زيادة ولا نقصان، اللحظة التي نستشعر فينا جريان الطاقة، إن كان عبر بوابة التأمل لتصفية الذهن بلا تصورات وأحكام مسبقة، أو الإنصات الكلي لجوهر الوعي الباطني، فالمصالحة مع النفس ليست الغاية المنشودة ، إنما الاتحاد الرباني الكلي معها، وقبولها بسرمديتها الأزلية، أي تجلي وإشراق الروح الخالدة…
إذاً أخيراً وليس آخراً، كينونة الفرح تشع بإيقاظ الوعي الباطني، المرتبط بكائنية اللحظة الحاضرة في قبول النفس كما هي، و بكل ما فيها من مشاعر وأحاسيس، خبرات وتجارب، ووعي الذات والتوحد معها في الحب اللامشروط، لأن تقبل الذات هو أول خطوة لتقبل الآخر، فالكل كائن في ذاته ومنها.
فالحب اللامشروط، هو البصيرة لرؤية الجوهر الإنساني والروحاني فينا.
لنعبر من البوابة الضيقة إلى عالم الفراغ الأعظم، الذي نتحد معه وننبثق منه، متوِّجين حيواتنا بسمو ذلك الفرح الكوني، والحضور الواعي الكامن فيه.
صديقنا ابن عربي يقول:
شمس الهوى في النفوس لاحت فأشرقت عندها القلوب
الحب أشهى إلي مما يقوله العارف اللبيب
يا حب مولاي لا تولى عني فالعيش لا يطيب
لا أنس يصفو للقلب إلا إذا تجلى له الحبيب
كما تقول أقدم قصائد الحب في التاريخ، والتي تعود لأربعة آلاف سنة مضت، والتي وجدت في أحد الألواح البابلية:
ابحث عني إلى أن تجدني
أنا في البرية وقد انتهيت من اقتلاع الأشواك
والآن سأزرع كرمة عنب
وقد غمرت النَّار المستعرة في داخلي بالماء
فأحبّني كما تحبُّ حملانك الصغيرة
واعتنِ بي كما تعتني بقطيع ماشيتك
وابحثْ عنِّي إلى أنْ تجِدني.