الرواية الفلسطينية في المنفى

 [ مداخلة مؤتمر بيت لحم 2021الذي عقد في المركز الثقافي الروسي ]
في إمعان النظر في دال المنفى يبدو لي أنه دال متحرك في المكان والزمان ، فبعض ما كان منفى ما بين الأعوام 1948حتى 1967لم يعد ، بعد هزيمة حزيران ، منفى ، إذ وحدت الهزيمة الوطن كله ، وللمفارقة تحت الاحتلال .
ولكن هل يعني المنفى الإقامة خارج الوطن ، حتى لو تمت الإقامة بقرار طوعي اختاره الشخص ؟
ما يلفت هو أن نصف الفلسطينيين ظلوا يعيشون خارجها ولم يتمكنوا من العودة إليها ، فعاشوا المنفى بصوره المختلفة ؛ المنفى الموحش والقاسي والدموي أحيانا والمنفى الأقل قسوة ووحشية ودموية ، وظل أبرز كتاب الرواية الفلسطينية بين 1948و1967يقيمون في المنافي ، وأخص هنا غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وبعض الشعراء الذين كتبوا رواية واحدة ولم يكرروا التجربة ، مثل يوسف الخطيب ومحمد العدناني ، ومن قبلهم جمال الحسيني .
مع هزيمة العام 1967أخذ جيل جديد من الكتاب ، بخاصة كتاب القصة القصيرة ، يكتب الرواية ، وهنا أذكر رشاد أبو شاور ويحيى يخلف وأمين شنار ، والأخير شاعر وكتب رواية واحدة فقط . لقد ولد يخلف في سمخ وأبو شاور في زكرين وأجبرا على الرحيل عن قريتيهما بسبب حرب 1948.
بالتأكيد كان هناك كتاب روائيون آخرون كتبوا روايات عديدة مثل أحمد عمر شاهين ووليد أبو بكر وفضل شرورو وغيرهم ، ولم يعد من هؤلاء إلى فلسطين بعد اتفاق أوسلو إلا الثاني – أي وليد أبو بكر الذي كتب رواياته يوم كان يقيم في الكويت التي سافر إليها طوعا قبل هزيمة حزيران 1967وظل فيها دون أن يتمكن من العودة إليها بسبب احتلال قريته يعبد في الحرب فكتب رواياته حيث يقيم – أي في الكويت ، ولا أعرف له رواية كتبت بعد عودته – أي بعد العام 1993.
قسم من الجيل الذي عاش في المنفى وكتب الرواية بين 1993اختلف مكان إقامته بعد أوسلو ، فعاد إلى الوطن وواصل الكتابة وأصدر أكثر رواياته بعد عودته التي لم تكن إلى قريته التي ولد فيها . هنا أشير إلى يحيى يخلف الذي لم يكن قبل عودته أصدر سوى ثلاث روايات بعضها أقرب إلى القصة الطويلة ، وحين استقر في رام الله أصدر ما لا يقل عن ست روايات كلها تندرج تحت جنس الرواية ، ومن المؤكد أن عودته عودة إشكالية ، وإذا دققنا في الزمن الروائي لرواياته ، فبعضها يكتب عن تجربة المنفى والشتات ما بين 1967أو حتى 1993.
مثل يحيى يخلف بعض الروائيين العائدين الذين كتبوا رواية أو روايتين أقرب إلى القصة الطويلة ثم كتبوا رواية أو روايتين بعد عودتهم إلى أرض الوطن بسبب اتفاق أوسلو ، وهنا أذكر بالتحديد غسان زقطان وزكريا محمد ، وإن لم يكتب الثاني في المنفى أي رواية بخلاف ما أنجزه بعد عودته ، إذ كتب روايتين .
تختلف ليانة بدر عن يخلف في أنها في المنفى كتبت ثلاث روايات وعدت من كتاب المنفى ، وحين عادت لم تنجز سوى رواية واحدة وعمل قصصي تشكل قصصه معا مادة لرواية .( هنا يجب التركيز على أن عودتهم تمت إلى الضفة الغربية وقطاع غزة لا إلى مدنهم وقراهم الأولى ، ما جعل أحمد دحبور يستخدم باستمرار عبارة العودة الناقصة ، ويكتب في العام 2000قصيدة ” رائحة السفرجل ” ويقر فيها أنه ما زال في المنفى :
” أنت في المنفى وفي المنفى وفي المنفى وإن سميته وطنا ” )
الروايات التي كتبها هؤلاء في المنفى يمكن أن تدرس على أنها رواية فلسطينية تندرج تحت مسمى ” رواية المنفى ” بخلاف أكثر رواياتهم التي كتبوها بعد عودتهم حين استقروا في أرض الوطن ، إلا إذا اعتبروا أن عدم عودتهم إلى مكان ولادتهم ليست عودة وأنهم ما زالوا يقيمون في المنفى .
غير أن هناك روائيين آخرين كثرا ظلوا يقيمون خارج فلسطين ؛ رشاد أبو شاور وفاروق وادي وفضل شرورو ومحمد الأسعد وحنان باكير وحسن حميد وعدنان كنفاني وسامية عيسى وغيرهم …. .
إن الحديث أو الكتابة عن رواية المنفى الفلسطينية يجب أن يراعي ما سبق ، بل ويجب أن يراعي أيضا الخوض في سؤال الهوية لرواية المنفى وكتابها .
وأنا أكتب بعض الفقرات على صفحات التواصل الاجتماعي ( الفيس بوك ) ذكرت اسم الروائي إبراهيم نصرالله على أنه من كتاب المنفى ، فاستفسر مني الكاتب الأردني محمد داوودية إن كان نصرالله يعد حقا من كتاب المنفى ، فهو مواطن أردني يستمتع بكافة حقوق المواطنة الأردنية ، وخضت ، عبر الماسنجر ، حوارا وديا مع الكاتب وأشرت إلى أن الموضوع شائك وانني عالجته في كتابي ” فلسطينية الأدب والأديب : سؤال الهوية ” ( 2000) .
– هل ندرس روايات إبراهيم نصرالله على أنها روايات كاتب أردني بناء على مكان ولادته وإقامته وجواز سفره ، أم ندرسها بناء على أصول أسرته وإقامته في مخيم لاجئين هو مخيم الوحدات ، وأيضا بناء على أكثر موضوعات رواياته التي ركز فيها بوعي كامل واختيار تام على المأساة والملهاة الفلسطينية ؟
مثل ابراهيم نصرالله فاروق وادي ومحمد القيسي ومحمد القواسمة وجمال ناجي وليلى الأطرش وآخرين في الأردن ، ومثله من قبل جبرا ابراهيم جبرا في العراق ، وغسان كنفاني وسامية عيسى في لبنان ، وحسن حميد ومحمود شاهين وعدنان كنفاني وفضل شرورو وآخرين في سورية ، وأحمد عمر شاهين في مصر ، وأفنان القاسم وابراهيم الصوص في فرنسا والقائمة تطول .
لقد درست روايات كنفاني وجبرا وأفنان القاسم تحت مسمى ” الرواية الفلسطينية في المنفى ” لا تحت مسمى ” الرواية اللبنانية ” أو ” الرواية العراقية ” علما بأن أكثر شخصيات روايتي جبرا ” صيادون في شارع ضيق ” و ” السفينة ” عراقيون وبيئتهم العراق .
ليس الغرض من الخوض في هذا الموضوع الشائك التركيز على إقليمية بغيضة قدر ما هو دراسة نتاج أدباء أصولهم أو أصول آبائهم تنحدر من فلسطين التي أجبروا على مغادرتها والإقامة في بيئة جديدة طارئة ، حتى لو كانت بيئة عربية تعاملهم معاملة أبنائها الأصليين .
الحنين إلى المكان الأول أتى عليه في شعره أبو تمام ” وحنينه أبدا لأول منزل ” والإقامة في مخيم طاريء هي إقامة تشعر المرء بأنه طاريء ووافد وفي غير مكانه الأصلي ، وهذا لا شك سينعكس على كتابته وحياته أيضا .
هل الأصح لتفادي الإشكاليات الإقليمية هو الحديث عن الموضوع الفلسطيني في الرواية العربية خارج فلسطين ؟
هذا سيثير المرء سؤالا آخر مهما هو :
– من هم الكتاب الذين خاضوا في الموضوع الفلسطيني أكثر من غيرهم ولماذا لم يخض فيه كتاب آخرون كثر؟
السؤال نفسه كان أثاره معين بسيسو في كتابه ” نماذج من الرواية الإسرائيلية المعاصرة ” 1971، حين لاحظ أن أبرز الكتاب العرب مثل توفيق الحكيم و نجيب محفوظ و يوسف إدريس لم يكتبوا في الموضوع الفلسطيني ، فلم يذهب أي منهم إلى مخيمات اللاجئين في قطاع غزة ليعيش مع سكانها فترة ويكتب عن حياتهم فيها .
إن الكتاب الفلسطينيين الذين هجروا من وطنهم في العام 1948وأولادهم الذين ولدوا في المنافي هم أكثر من كتب في الموضوع ، وكادت كتابتهم تقتصر عليه . أقول ” وكادت ” لأن قسما منهم خاض في موضوعات أخرى اجتماعية وانسانية لا حضور للموضوع الفلسطيني فيها . لا يعني ما سبق أن كتابا عربا آخرين لم يكتبوا في الموضوع الفلسطيني ويجيدوا في الكتابة فيه إجادة كبيرة . هنا أذكر إلياس خوري ورواياته ” باب الشمس ” 1998و ” أولاد الغيتو : اسمي آدم ” 2016و ” أولاد الغيتو : نجمة البحر ” 2918، ولكن ما نسبة الكتاب العرب الذين كتبوا في الموضوع الفلسطيني إلى الكتاب الفلسطينيين الذين كتبوا فيه ؟
في الكتابة عن الرواية الفلسطينية في المنفى يجب الالتفات إلى ظواهر وقضايا كثيرة منها :
– التمييز بين روائي محترف وكاتب لم يحترف كتابة الرواية وإنما كتبها هواية أو كتبها إلى جانب كتابته جنسا أدبيا تخصص في كتابته .
هناك كتاب روائيون بدأوا يكتبون القصة القصيرة ثم تحولوا إلى كتابة الرواية ، وهناك شعراء كتبوا رواية أو اثنتين أو ثلاث روايات ، ولكنهم ظلوا يعدون أنفسهم شعراء ، وهناك شعراء احترفوا كتابة الرواية وعرفوا كتابا روائيين ، فهل نعد من كتب رواية أو روايتين أو ثلاث روايات كاتبا روائيا ؟
إن كثيرا مما كتبه هؤلاء يمكن أن يدرج تحت مسمى ” السيرة الروائية ” فهو أقرب إلى السيرة الذاتية التي صيغت بقالب روائي ، وهؤلاء بالتأكيد يختلفون عن كتاب القصة القصيرة الذين هجروها إلى الرواية أو كتبوها إلى جانب كتابة القصة القصيرة .
في النظر في قائمة أسماء روائيين كتبوا الرواية خارج فلسطين لاحظت أن هناك أكثر من عشرين من اثنين وأربعين لم يتجاوز عدد ما كتبوا من روايات ثلاثا ، وأن أكثرها لم يشكل تميزا في الشكل الروائي أو إضافة نوعية يمكن أن يشار إليها . إنها سرد عادي لتجربة ذاتية يمكن أن يقرأ القاريء مثله أو قريبا منه في روايات الروائيين المحترفين .
ملاحظات حول الموضوعات الروائية لرواية المنفى :
– شكلت حياة الفلسطينيين في البلدان العربية وما عاشوه ومروا به من أحداث ، مادة أكثر الروايات التي أنجزها الروائيون الفلسطينيون في المنافي . لقد كتبوا عن حياة اللجوء في المخيمات ووصفوا مشاعر الحنين التي انتابت اللاجئين بعيدا عن مدنهم وقراهم ، فاستحضروا فلسطين بمدنها وقراها وأهلها ، وكتبوا عن علاقات اللاجئين باحوانهم العرب وأنظمة الحكم ، سلبا وإيجابيا . كتبوا عن الحروب الأهلية وقسوة الحياة بعيدا عن المكان الأول ، وقد تجسد هذا في روايات كنفاني وجبرا وآخرين كثر كتبوا رواية واحدة فقط مثل حنان باكير صاحبة الرواية الوحيدة ” أجفان عكا ” ومثل رواية ليانة بدر ” عين المرآة ” ومثل رواية حزامى حبايب ” مخمل ” وروايتي سامية عيسى ” حليب التين ” و ” خلسة في كوبنهاجن ” ومثل رواية جمال أبو غيدا ” خابية الحنين ” وبعض روايات رشاد أبو شاور مثل ” العشاق ” و ” ليالي الحب والبوم ” ورواية ليلى الأطرش ” رغبات ذلك الخريف ” .
لكن الكتابة عن المنفى والإقامة فيه لم تكن الموضوع الوحيد الذي خاض روائيو المنفى فيه ، فقد كتب قسم منهم عن فلسطين نفسها ، كما في رواية رشاد أبو شاور ” وداعا يا زكرين ” وعن أماكن فيها ولدوا بعيدا عنها ولم يروها وعن أزمنة لم يكونوا شهودا عليها . كتب حسن حميد عن جسر بنات يعقوب وعن القدس ” جسر بنات يعقوب ” و ” مدينة الله ” ، وكتب إبراهيم نصرالله عن قرية أبيه واجداده وعن طبرية وعكا في زمن ظاهر العمر ” زمن الخيول البيضاء ” و ” قناديل ملك الجليل ” وكتب توفيق فياض عن فلسطين أيام الانتداب ” وادي الحوارث ” وحين تركت سحر خليفة فلسطين واقامت في الأردن كتبت عن عبد القادر الحسيني ” حبي الأول ” وعن انطون سعادة ” أرض وسماء ” ومن قبل كتب غسان كنفاني عن حيفا في زمني النكبة والهزيمة وعن ثورة 1936التي ولد زمن انطلاقتها .
تقاطعات رواية المنفى مع الرواية الفلسطينية داخل الأرض المحتلة ، جمال ناجي واميل حبيبي :
التقاطعات بين رواية المنفى ورواية الوطن يعثر عليها المرء في ” متشائل ” اميل حبيبي 1974ورواية غسان كنفاني ” عائد إلى حيفا ” 1969وهنا يتجسد في عودة اللاجئين بعد هزيمة حزيران لرؤية بيوتهم ، ويعثر عليها في ” المتشائل ” ورواية جمال ناجي ” غريب النهر ” فشتات العائلة الفلسطينية والتقاؤها بعد فترة زمنية طويلة موضوع حاضر في كلتيهما . حقا إن الشكل الروائي مختلف ولكن الموضوع متشابه . ( تراجع مقالتي في جريدة الأيام الفلسطينية ) .
الكتابة عن بيئة المخيم أيضا حاضرة حضورا كبيرا في رواية الوطن في غزة والضفة الغربية وفي رواية المنفى ، فالمخيم الفلسطيني موجود هنا وهناك منذ 1948. لا يعني ما سبق عدم وجود اختلاف ، فعالم المدينة والقرية الفلسطينية يحضر في رواية الوطن أكثر . إنه لا يحضر في عالم المنفى إلا من خلال الذاكرة . هناك روائيون كثر في مناطق الاحتلال الثاني كتبوا عن القرية الفلسطينية والحياة فيها وهذا ما لا نعثر عليه بالكثرة نفسها في رواية المنفى التي حضرت فيها بيئة المخيم أكثر . ماذا لو قارنا بين بيئة روايات أحمد حرب وصافي اسماعيل صافي وأحمد رفيق عوض مثلا ، وهم نشأوا نشأة قروية والبيئة الروائية في روايات حزامى حبايب وسامية عيسى ؟!
الموضوع الاجتماعي في رواية المنفى والسؤال إن كانت الرواية فلسطينية :
تساءل نازك ضمرة وهو يكتب عن رواية جمال ناجي ” عندما تشيخ الذئاب ” عن هوية الرواية ، وموضوعها يعالج قضايا اجتماعية ، تساءل إن كانت روايته تعد أدبا فلسطينيا .
تجري أحداث الرواية في عمان ولا تأتي على الموضوع الفلسطيني ويمكن أن تحدث الأحداث فيها في أية بيئة عربية ويعيش شخوص هذه البيئة العربية أو تلك ما عاشه شخوض رواية ناجي ، فليس هناك خصوصية فلسطينية لافتة فيها ، وليس الأمر عموما كذلك في روايته ” غريب النهر ” المشار إليها آنفا .
ما كتب عن روايتي جمال ناجي يمكن أن يكتب عن روايتي ليلى الأطرش ” أبناء الريح ” و ” رغبات ذلك الخريف ” فالأولى تعالج موضوعا اجتماعيا عاما يتكرر في بيئات عربية من المحيط إلى الخليج ، وتختلف الرواية الثانية التي تتبع فيها الروائية حياة عائلة فلسطينية اقتلعت في العام 1948من بيئتها وتشردت في المنافي العربية وتنقلت في العالم الواسع . موضوع الرواية الأولى موضوع ليس مقتصرا على الفلسطينيين وحدهم وليس له خصوصية ، بخلاف موضوع الرواية الثانية .
وينطبق ما كتب عن روايات ناجي والأطرش على روايات إبراهيم نصرالله على الرغم من أنه صاحب مشروع روائي لكتابة المأساة والملهاة الفلسطينية منذ زمن ظاهر العمر – أي في بدايات القرن الثامن عشر . بل وينطبق أيضا على الروائي رشاد أبو شاور في رواياته الأربعة الأخيرة التي كتبها في القرن الحادي والعشرين ، فروايتا ” وداعا يا زكرين ” و ” ليالي الحب والبوم ” تعالجان الموضوع الفلسطيني وتحتلف عنهما روايتا ” سأرى بعينيك يا حبيبي ” و ” ترويض النسر ” .
سؤال الهوية :
أرق سؤال الهوية الكتاب الفلسطينيين في فلسطين المحتلة وفي المنفى أيضا ، ولعله من أكثر الأسئلة إلحاحا ، لأنه مرتبط بحياة المنفى . وكنت توقفت أمامه في دراستي ” سؤال الهوية في الرواية العربية ” ، فكتبت عنه في رواية غسان كنفاني ” عائد إلى حيفا ” ورواية إميل حبيبي ” المتشائل ” . يلخص سليم البيك في روايته ” تذكرتان إلى صفورية ” إشكالية هوية الفلسطيني في المنفى على النحو الآتي :
” في دبي ينظر إلى يوسف على أنه سوري ، وفي سورية ينظر إليه على أنه فلسطيني ، وفي قسم الأدب الفرنسي يكون الطالب الفلسطيني ، وحين يستقر في باريس ويحصل على جواز سفر فرنسي يقرر زيارة قرية جده صفورية ، ويتخيل يوسف أنه سينظر إليه هناك على أنه الفرنسي الذي يزور إسرائيل ” .
كيف تعالج سامية عيسى في روايتها ” خلسة في كوبنهاجن ” سؤال الهوية ؟
ثمة أربع صفحات في الرواية أدرجت تحت عنوان ” أنا ضايع ” تناقش السؤال .
كانت منى تجري سؤالا مع اللاجيء الفلسطيني حسام من أجل بحثها عن معنى الهوية لدى اللاجئين في الشتات .
كان حسام لجأ من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان إلى الدنمارك وشعر في بدايات اللجوء بذل غير طبيعي لأنه لجأ ” الطريقة الوحيدة اللي خلتني أبقى إنو أولادي صار إلهم اسم هون لما صاروا ياخدو جوائز عالمية بالملاكمة ورفعوا اسم الدنمارك لفوق . صرت أحس إنو لازم يصيروا دانمركيين . مش مهم أنا شو حاسس حالي . المهم هني صاروا بحسوا حالهم بشر ” .
ويتابع الحديث عن الفرق بين حياته في لبنان وحياته في الدنمارك :
” كنت بحس بلبنان إني غريب وهون كمان بحس الشي نفسه مع إنهم ألطف ، وهلق بس أروح أزور لبنان بضلني قاعد بالمخيم . بس بصراحة بشتاق لكوبنهاجن ، وما بصدق ايمتى أرجع . وبس أرجع بحس أكثر إني غريب وبتضايق . أنا ضايع ” .
وتأتي الرواية على اليهود الذين بدأوا يفدون إلى الدنمارك منذ القرن السابع عشر وتكاثروا بعد المحرقة واندمجوا وقدموا الكثير للبلد التي حمتهم من بطش النازية ، وافتتحوا فيها اول مكتب للحركة الصهيونية في العالم في 1902 . وما زال يهود الدنمرك يواصلون نشاطهم في الحركة الصهيونية ” وما يتطلب منها حين تدعو الحاجة !”
والحكاية لها دلالاتها .
القدس في رواية المنفى :
من الموضوعات التي كتب فيها روائيو المنفى القدس .
لقد كتب كل من جبرا ابراهيم جبرا ونبيل خوري في 60و70 القرن 20 عن مدينة القدس وحياتهما فيها ، وعاد عيسى بلاطة في نهاية 90القرن 20ليكتب روايته ” عائد إلى القدس ” مصورا طفولته فيها وكاتبا في الوقت نفسه عن الفلسطيني في منافيه في الغرب .
في القرن الحادي والعشرين خصت سحر خليفة القدس برواية ” صورة وايقونة وعهد قديم ” وكانت كتابتها في رواياتها السابقة قليلا ما تأتي على القدس . ولكن اللافت هو أن يخص الروائي حسن حميد المولود في سورية القدس برواية كاملة دون أن يكون عاش في القدس أو زارها ، والرواية هي مدينة الله ” ولكنه كتب من منطلق أهمية المدينة وما تعنيه للفلسطينيين والعرب والمسلمين .
مثل حسن حميد الروائية ليلى الأطرش المولودة في بيت ساحور والمقيمة بعد حزيران 1967في الأردن وبعض الدول العربية التي عملت فيها إعلامية .
لقد زارت الأطرش القدس بعد 1967مرارا وخصتها برواية كاملة هي ” ترانيم الغواية ” .
الحروب الأهلية :
قارب روائيو المنفى ما مر به الفلسطينيون في أماكن الشتات التي أقاموا فيها ، فلم تكن علاقتهم بالأنظمة التي حكمت تلك الأماكن وببعض السكان علاقة حسنة ، فقد وقعت اصطدامات اتخذت شكل حروب أهلية ، كما حدث في الأردن في العامين 1970و1971 وكما حدث في لبنان في 1975 حتى 1990.
لقد خرج قسم من الفلسطينيين من هذين البلدين كما كما دمرت مخيمات أقاموا فيها بكاملها ، مثل مخيم تل الزعتر الذي خصته ليانة بدر برواية كاملة أرخت لسقوطه هي رواية ” عين المرآة ” ، أما ما جرى في الأردن فقد قورب بحذر تقريبا وعلى استحياء ، وهو ما نقرؤه على سبيل المثال في رواية حزامى حبايب ” مخمل ” ورواية جمال أبو غيدا ” خابية الحنين ” ، وقارب على فودة علاقة الفلسطيني بالمخابرات الأردنية في روايته ” الفلسطيني الطيب ” .
والملاحظ أيضا أن بعض الروائيين ممن يقيمون في بلد عربي معين أنهم ، حين كتبوا عن امتعاضهم من نظام الحكم في البلد الذي يقيمون فيه ، لجأوا إلى التلميح لا التصريح ، كما في رواية إبراهيم نصرالله ” عو ” وفي رواية رشاد أبو شاور ” ترويض النسر ” .
النقد الذاتي :
مارس بعض كتاب المنفى نقدا ذاتيا للثورة الفلسطينية وبعض رموزها انعكس بوضوح وصراحة في بعض أعمالهم ، ما دفع ناقدا مصريا لأن يكتب في الموضوع هو الناقد مصطفى عبد الغني .
من الروائيين الذين كتبوا في رواياتهم نقدا ذاتيا رشاد أبو شاور في روايته ” أيام الحب والموت “(؟) ويحيى يخلف في روايته ” نشيد الحياة ” وأفنان القاسم في روايته ” أربعون يوما في انتظار الرئيس ” ، ولكن هذا النقد كان صرخة عابرة ، وبعض من كتبوا رواية ارتفع فيها صوت نقدي ، مثل يحيى يخلف في ” نشيد الحياة ” سرعان ما خفت صوته فعاد ليكتب ممجدا الذين انتقدهم ، كما في روايته التوثيقية عن سقوط طائرة الرئيس الفلسطيني أبو عمار / ياسر عرفات .
يندرج تحت هذا العنوان ما كتبه بعض الكتاب عن تجارب بعض الفلسطينيين في الدول الاشتراكية ، حيث انتقدوا كسل بعض الطلاب الفلسطينيين الذين درسوا هناك واستغلوا انتماءهم للحزب وعلاقتهم بمسؤوليه في تلك الدول للحصول على الشهادة ، ويبدو هذا في رواية محمود اللبدي الساخرة ” دكتور … ونص ” .
الرواية – السيرة
كما كتبت سابقا فإن بعض الشعراء أو الكتاب كتبوا رواية واحدة كانت أقرب إلى السيرة الذاتية لفترة من حياتهم ، وأرى أنها يجب أن تدرس تحت جنس السيرة الذاتية لا تحت فن الرواية . من الشعراء مثلا علي فودة صاحب ” الفلسطيني الطيب ” وراشد عيسى صاحب ” مفتاح الباب المخلوع ” ومحمد القيسي في أعماله ومنها ” الحديقة السرية ” وغسان زقطان في ” عربة قديمة بستائر ” ، ومن الكتاب أيضا الروائية ليانة بدر في ” نجوم أريحا ” وليلى حوراني في ” بوح ” .
ملحق بروائيين من المنفى :
– إبراهيم السعافين [ كتبت عن ظلال القطمون ]
– إبراهيم نصرالله[ كتبت عن قناديل ملك الجليل ]
– إبراهيم الصوص
– أحمد أبو سليم ” [ كتبا عن كوانتوم “]
– أحمد عمر شاهين
– أفنان القاسم
– بشرى أبو شرار
– توفيق فياض [ كتبت عن وادي الحوارث ]
تيسير نظمي ” وقائع ليلة السحر في وادي رم “
– جمال أبو غيدا:[ كتبت عن روايتيه / خابية الحنين ]
– جمال ناجي[ كتبت عن الذئاب عندما تشيخ ورواية غريب النهر ]
– جهاد الرنتيسي Jehad Ranteesy [ كتبت عن رواياته الثلاثة ]
– حزامى حبايب [ كتبت عن أهل الهوى ومخمل ]
– حسن حميد[ كتبت عن مدينة الله]
– حسين المناصرة
– حميدة نعنع
– حنان باكير [ كتبت عن اجفان عكا ]
– خالد درويش [ الصغير .. ]
– دينا سليم حنحن .[ كتبت عن روايتها عن اللد ]
– راشد عيسى [ كتبت عن مفتاح الباب المخلوع ]
– رشاد أبو شاور [ كتبت عن رواياته الأربعة الأخيرة ٩
– سامية عيسى [ كتبت عن حليب والزيتون خلسة في كوبنهاجن ]
– سعد الدين شاهين
– سحر خليفة [ كتبت عن رواياتها في المنفى . حبي الأول . الجسر .]
– سلوى البنا
– سليم البيك [ كتبت عن تذكرتان من صفورية . ]
سمير إسحق
– سوزان أبو الهوى[ كتبت عن بينما ينام العالم ]
– شيراز عناب [ كوكب اسجارديا ]
– عبد اللطيف مهنا [ كتبت عن العوسج ]
– عدنان كنفاني
– علي فودة
– عيسى بلاطة .[ كتبت عن بعيدا عن القدس ]
– غسان زقطان [ كتبت عن عربة قديمة بستائر ]
– فاروق وادي [ كتبت عن سوداد . هاوية الغزالة ]
– فضل شرورو
– فيصل حوراني.[ كتبت عن حكاية حنين ]
– ليلى الأطرش [ كتبت عن روايتها كلها ]
– ليلى حوراني [ كتبت عن بوح ]
– محمد الأسعد [ كتبت عن أطفال الندى ]
– محمد عيد
– محمد القواسمة [ كتبت عن لعنة الفلسطيني ]
– محمد القيسي [ كتبت عن سيرة الابن ]
– محمود شاهين
– محمود اللبدي
– نازك ضمرة
– نوال حلاوة
– هناء عبيد
– وليد سيف
– يحيى الشعار
– يوسف الخطيب
ملاحظة : هذه الملاحظات ليست نهائية ، فهناك أسماء أخرى .
جهاد الرنتيسي (1–2)
آخر الروايات التي قرأتها هي رواية الكاتب الفلسطيني المقيم الآن في الأردن جهاد الرنتيسي وعنوانها ” شامة سوداء أسفل العنق ” وقد صدرت في القاهرة عن ” المرايا للثقافة والفنون ” في العام 2024 ، وهي جزء ثالث متمم ل ” بقايا رغوة ” الصادرة عن دار البيروني في العام 2021و ل ” خبايا الرماد ” الصادرة أيضا عن دار البيروني في العام 2023.
في الجزء الثالث يحكي السارد عن الفلسطيني جواد الديك الذي درس الفلسفة والعلوم السياسية في جامعة الكويت وكان ناشطا سياسيا له علاقة بحركة فتح التي انشقت عن نفسها في العام 1983، فرموز الانشقاق في الرواية تحضر بأسمائها الحقيقية ومنها أبو صالح وأبو موسى وبعض المفكرين الذين نظروا لها مثل إلياس شوفاني .
ولأن جواد الديك درس في الكويت في ثمانينيات القرن العشرين فإنه تعرف إلى رموز ثقافية مصرية كانت هناك في حينه وكان لها حضور مميز في الحركة الثقافية وابرزهم فؤاد زكريا ، فيذكر بعض كتبهم وترجماتهم ، كما يأتي على رموز فنية وأدبية عالمية أبرزها الممثلة العالمية ( فانيسيا ريديغريف ) التي زارت الكويت وتعاطفت مع القضية الفلسطينية ، ويأتي أيضا على الفيلسوف ( برتراند رسل ) والكاتبين المسرحيين ( آرثر ميللر ) و ( تنيسي وليامز ) .
تحفل الرواية بأسماء يعرفها القاريء المثقف وقد يجد القاريء العادي لفن الرواية فيها عبئا عليه لفهمه الرواية ، ما يجعلنا نقول مطمئنين إن جهاد الرنتيسي يكتب لقاريء مثقف مسيس بالدرجة الأولى وفلسطيني أولا ، فالكتابة عن انشقاق حركة فتح وانعكاسه على الفلسطينيين الناشطين سياسيا في الكويت يصعب إدراكه واستيعابه على من لا يلم بتلك الفترة ، بخاصة أن الكاتب لا يضيء تلك الشخوص بما يعطي القاريء فكرة عنها . إنها مكتملة وواضحة لدى المؤلف والذين شاركوا في الانشقاق وتابعوه ، ولكنها ليست كذلك لدى القاريء .
ما من شك في أن الكاتب يمتلك قدرة كبيرة على السرد وأنه ملم بعالمه الذي يكتب عنه إلماما واسعا ، ولهذا يتنقل بين الأمكنة التي عاش فيها وعرفها ، وهذا يتطلب من القاريء قدرة على التركيز . لقد ذكرني أسلوب الكاتب برواية غالب هلسا ” البكاء على الأطلال ” حيث يركز الكاتب على التفاصيل الدقيقة لشخصيته في حركاتها .
يتطلب قراءة الجزء الثالث ” شامة سوداء أسفل العنق ” أن يكون قارئها قرأ الجزأين الأول والثاني ، فالشخصيات نفسها تحضر في الأجزاء الثلاثة ، وأن يكون أيضا ذا ذاكرة حديدية أو أن يعود إلى ملاحظاته على الأجزاء الأولى .
غير مرة تساءلت إن كان هناك أدب فصيلي في الأدب الفلسطيني ؟
الشيوعيون مجدوا في كتاباتهم الحزب ، والقوميون انطلقوا من رؤى قومية ، ثم عرفنا أدباء انتموا لفصائل بعينها وبدا انحيازهم لها لافتا في نصوصهم .
هل كتب روائي فلسطيني رواية عن الانشقاق في حركة فتح ؟
في العام ١٩٨٣ كتب يحيى يخلف روايته ” نشيد الحياة ” وفيها إرهاصات للانشقاق ، ولكنه لم يكتب عن رموزه كما هو الحال لدى الرنتيسي .
هل ترك الانشقاق أثرا على الرواية ؟ هل مجد الكاتب جهة وذم أخرى ؟ كيف بدت صورة الطرفين في الرواية ؟
في ” شامة سوداء أسفل العنق ” تقرأ عن قيادات تخونها زوجاتها ، فالقيادات مشغولة والنساء شبقات . يحضر أبو الخيزران في رواية غسان كنفاني ” رجال في الشمس ” ( 1963) ويشبهه أبو عامر الذي تقيم زوجته علاقة جنسية شبقة مع جواد الديك الذي يبدو في الرواية ، وهو الميال لحركة الانشقاق ، شبقا وزير نساء . تطعمه أم عامر وتصب له الويسكي ، بل وترسل له المال أيضا . مثل أم عامر زوجة ضابط كبير يقيم أهلها في بيروت وتشعر بالندم بعد زواجها ، فتقيم علاقة مع جواد وتنجب منه طفلهما غيث .
هل كتب جهاد الرنتيسي عن الجانب المسكوت عنه ؟
هل ستثير رواياته ضجة مثل تلك الضجة التي أثارتها رواية سامية عيسى ” حليب التين “؟ وماذا ستقول عنها الروائية مايا أبو الحيات التي كتبت رواية ” لا أحد يعرف زمرة دمه ” التي حكت عن أب في الثورة تقيم زوجته اللبنانية علاقة مع لبناني ، أب ثوري استغل الثورة لخدمة مصالحه ؟
كما عرفت فإن هناك جزءا رابعا سيصدر لاحقا ، ويبدو أن جانبا كبيرا من الرواية ليس ببعيد عن حياة الكاتب أو شخصيات كان مقربا منها .
إن قرئت الرواية مع حياة كاتبها ، وهذا يحتاج إلى برهنة وتقص وأدلة ، فهو ليس سهلا والمجازفة فيه خطيرة ، فقد نتذكر ما كتبه الكاتب سليم بركات عن محمود درويش والسر الذي أفشاه الأخير له .
أعتقد أن الرواية ستشهد جدلا أدبيا سياسيا معا ؛ ففي جانبها الأدبي تبدو صعبة القراءة وتحتاج إلى تركيز ، وفي جانبها السياسي تقارب أحد المحرمات ( تابو ) ، بل وأيضا تقارب تابو الجنس وانفتاح العلاقات و. …؟
– اختلاط الأزمنة والأمكنة : هل يربك القاريء ؟
أصدر الكاتب جهاد الرنتيسي المقيم الآن في عمان ، والعائد من الكويت البلد الذي عاش فيه شبابه ونشط فيه سياسيا ، أصدر في العامين الأخيرين روايتين أقرب إلى النوفيلا حجما هما ” بقايا رغوة ” 2021و ” خبايا الرماد ” 2023، فلا تزيد أي منهما عن المائة والثلاثين صفحة من الحجم المتوسط .
الروايتان يتحرك الشخوص فيهما بين الكويت وعمان ودمشق وبيروت ، وهؤلاء الشخوص قسم منهم حقيقيون معروفون للفلسطينيين بعامة وفلسطينيي الكويت بخاصة ، إذ عاش بعضهم في الكويت منذ ستينيات القرن العشرين وأسهم في تأسيس حركة فتح وكان ناشطا فيها وقاتل في صفوفها ثم انشق عنها في العام 1983أو بقي فيها . وقد تثير الروايتان لأبناء حركة فتح أسئلة عديدة ، وقد ينقسمون إزاءها ، بخاصة أبناء فتح ممن أقاموا في الكويت .
وتتطلب قراءة الروايتين قدرا كبيرا من التركيز ؛ لأن السرد فيهما لا يسير بخط أفقي : بداية – وسط – نهاية ، وإنما يتكيء على تكسير الزمن والتنقل فيه من حاضر إلى ماض فعودة إلى حاضر فماض فحاضر ، ثم الانتقال من مكان إلى ثان فثالث والعودة إلى المكان ومغادرته إلى مكان آخر . ببساطة تتطلب القراءة قدرا كبيرا من التركيز ، ما يذكر برواية غسان كنفاني ” ما تبقى لكم ” 1966التي طرحت على كاتبها سؤال :
– لمن يكتب الكاتب ؟ لمن أكتب أنا ؟ هل أكتب ليقال انني كاتب كبير أم أكتب من أجل قضية ؟ والكتابة من أجل قضية تتطلب التواصل مع الجماهير لا الكتابة للنخبة فقط .
هل سيعيدنا جهاد الرنتيسي إلى الجدل الذي أثير بعد صدور رواية كنفاني ؟
مرة كتبت متسائلا إن كان الأدباء الفلسطينيون الذين أقاموا في الكويت كتبوا عن تجربة الفلسطينيين هناك ، فالفلسطينيون موجودون في الكويت منذ خمسينيات القرن العشرين ، وصارت لمن أقام فيها منهم وطنه الثاني وكانت حياتهم فيها في الجانبين؛ السياسي والثقافي ، ثرية غنية.
عاش غسان كنفاني في الكويت واستوحى من حياة الفلسطينيين فيها بعض أعماله ، وعاش فيها أيضا الفنان ناجي العلي والناقد وليد أبو بكر والكاتب محمد الأسعد والروائي زياد عبد الفتاح والقاص محمود الريماوي والقاص تيسير نظمي والروائية حزامة حبايب والشعراء سميح محسن وحلمي الزواتي وعيسى بشارة وآخرون كثر .
وأنا أقرأ الروايتين قلت إن بعض الشخوص فيهما لا تبدو للقاريء مكتملة ، ولهذا فلن تعيش في ذهنه . إنها تبدو مكتملة للكاتب أو لفلسطينيي الكويت ممن عاشوا التجربة ليس أكثر .
ثمة أسئلة عديدة تثيرها الروايتان منها العلاقات الأسرية لبعض رموز حركة فتح ، ومنها ما يتعلق بحياة المقاتل وعلاقاته النسوية . هل يسيء الحب الحسي إليه ؟
ماذا تبقى من حياة الفلسطينيين في الكويت ؟ ماذا تبقى من تجربتهم هناك ؟ ماذا تبقى من علاقاتهم ببعضهم ؟ هل يجب فتح أوراقهم وأوراق القيادة الفلسطينية التي أسست في الكويت حركة فتح ؟ ما خباياهم وماذا ظهر منها وماذا يريد الكاتب أن يظهر وأن يقول ؟
أسئلة ربما تجد أجوبة لدى القراء من أبناء حركة فتح !
ولكن بقي سؤال أخير هو :
– هل هناك أدب فصيل / فصيلي / فصائلي في الأدب الفلسطيني ؟ ومن كتبه ؟
سامية عيسى : ” خلسة في كوبنهاجن ” . ضياع الفلسطيني وقسوة حياة المنفى
” خلسة في كوبنهاجن ” ( 2014) هي الرواية الثانية للفلسطينية سامية عيسى ، وتعد الجزء الثاني لروايتها ” حليب التين ” ، بل وتدخل معها في علاقة تناص ، فلا يمكن قراءتها دون قراءة الجزء الأول ، إذ تواصل الكاتبة متابعة حياة عائلة فلسطينية من مخيم ” أوزو ” للاجئين الفلسطينيين منذ 70 القرن 20، هذا إذا غضضنا الطرف عن أصول العائلة قبل الهجرة في 1948، وتتبع مسار حياتها في الكون الشاسع ، فتذهب بنا إلى الدانمارك حيث استقرت العائلة أخيرا هناك واجتمع شملها بعد شتات .
ترصد الكاتبة حياة الأسرة وتثير العديد من الأسئلة ومنها سؤال الهوية فيما يخص الفلسطيني ، وتعرج على يهود الدانمارك الذين يحملون الجنسية التي حصل عليها الفلسطينيون وآخرون .
في الدانمارك يلتقي الفلسطينيون واليهود ويتعايشون بصفتهم دانمركيين دون أن ينسوا انتماءاتهم السابقة ، والطريف في الأمر أن يتبنى يهودي فلسطينيا فقد ذاكرته في حادث . هكذا يغدو الفلسطيني يهوديا يزور إسرائيل (؟) ويعمل في مؤسساتها العلمية ، ثم يلتقي من جديد في الدانمارك بعائلته الفلسطينية من خلال أحد اليهود .
صار اليهود للفلسطينيين الجرح والبلسم معا ، تماما مثل سم الأفعى ، وتماما كما ردوا شمل بعض العائلات الفلسطينية بعد النكبة والهزيمة ، فأصدروا ، في فترة ، هويات إسرائيلية لفلسطينيي الضفة ممن تزوج من فتاة تحمل الهوية الإسرائيلية ، وتماما أيضا كما يعالجوننا في مشافيهم ويسهلون لنا زيارة مدننا المحتلة في 1948، وكما يسمحون لعشرات آلاف العمال من الضفة الغربية بالعمل في المصانع الإسرائيلية برواتب سخية يفتحر بها وبصاحب العمل العمال ، ولا أعرف إن كانت سامية عيسى تريد القول إن مستقبل الحياة في فلسطين لن يختلف عما هو عليه الحال في الدانمارك حيث يتعايش البشر معا في دولة لكل مواطنيها .
وعلى العكس من ” حليب التين ” التي خلت تقريبا من أي شخصية يهودية ، فإن ” خلسة في كوبنهاجن ” تحفل بشخصيات يهودية لها ماضيها المؤلم والمحزن بسبب ” الهولوكست ” .
كلا الطرفين الفلسطيني واليهودي يعاني من ماضيه ويعاني في حاضره ، وإن كانت معاناة الفلسطيني في الحاضر أضعاف أضعاف معاناة اليهودي .
هل سيحل الحصول على الجنسية الدنماركية مشاكل الفلسطينيين ؟
في صفحات قليلة تحت عنوان ” أنا ضايع ” نقرأ عن ضياع جيل المهاجرين الفلسطينيين إلى الدانمارك ، ممن هاجروا ، من لبنان ،في 80 القرن 20 ، وحصلوا على الجنسية ، ومع ذلك فإنهم ظلوا موزعين على عالمين ؛ الماضي والحاضر ، علما بأن حياتهم في الحاضر أفضل بكثير وألطف وأبحبح من حياتهم في الماضي .
هل صار الفلسطينيون في الدانمارك دانمركيين أم أنهم ظلوا فلسطينيين ؟ وهل يمكن لشجرة التين الفلسطينية التي زرعت في كوبنهاجن أن تثمر ؟
ما من شك في أن لهذا دلالة رمزية واضحة .
تسأل منى إحدى شخصيات الرواية حسام اللاجيء إلى الدانمرك عن معنى الهوية لدى اللاجئين في الشتات ، فيقارن بين حياته في لبنان وحياته في الدانمارك :
” بس هون بالدانمارك . في مركز اللجوء . كنت أنتظر ساعات بالبرد . ذل غير طبيعي . ندمت لأني إجيت لهون . الطريقة الوحيدة اللي خلتني أبقى إنو ولادي صار إلهم اسم هون لما صاروا ياخدو جوائز عالمية بالملاكمة ورفعوا اسم الدانمارك لفوق . صرت أحس إنو لازم يصيروا دانمركيين . مش مهم أنا شو حاسس حالي . المهم صاروا يحسوا حالهم بشر ” .
كان حسام في لبنان ينتمي لأحد التنظيمات ، فيحمل البارودة ويحصل آخر الشهر على مخصص ، وفي الدانمارك لم يعطوه بندقية فقد أعطوه جنسية ومخصصا شهريا وصار يتفرج على التلفزيون فقط ” كنت بحس بلبنان إني غريب وهون كمان بحس الشيء نفسه مع إنهم ألطف ، وهلق بس أروح أزور لبنان بضلني قاعد بالمخيم . بس بصراحة بشتاق لكوبنهاجن ، وما بصدق إيمتي أرجع ، وبس أرجع بحس أكثر إني غريب وبتضايق . أنا ضايع ” .
ماذا سيكون مآل الأطفال الذين سينجبهم اللاجئون الفلسطينيون في الدانمارك ؟ هل سينسون وطنهم فلسطين وسيصبحون دانمركيين تماما ويحلون بذلك مشكلة الهوية والانتماء ويتحررون من عبء الماضي ؟
تكتب سامية عيسى عن اليهود الذين هاجروا إلى الدانمرك في القرن 18، وحصلوا على جنسيتها دون أن ينسوا أنهم يهود ، بل إنهم انتموا إلى الحركة الصهيونية وعملوا على مساعدة دولة إسرائيل حين اقتضى الأمر المساعدة ، واليهود بسبب رعبهم من ( الهولوكست ) يؤمنون بضرورة وجود وطن قومي لليهود يلجأ إليه يهود الشتات إن تعرضوا للملاحقة والاضطهاد .
هل تفترض سامية عيسى هذا الافتراض أيضا بخصوص الفلسطينيين ؟
أعتقد أن ” خلسة في كوبنهاجن ” من أهم الروايات الفلسطينية التي كتبت في المنفى في معالجتها موضوع الشتات الفلسطيني . إنها من أوائل الروايات الفلسطينية والعربية التي استخدمت دال ( غيتو ) للكتابة عن التجمعات الفلسطينية في الشتات . حقا إن الشاعر راشد حسين كتب قصيدة عنوانها ” الحب والغيتو ” ( 1966) ورأى أن مدينة يافا آلت بعد نكبة ١٩٤٨ إلى غيتو ، إلا أنني لا أعرف كاتبا فلسطينيا وظف هذا الدال في نص روائي إلا إذا كتب عن غيتو اليهود في أوروبا .
طبعا يجب ألا ننسى كتابات سميرة عزام وغسان كنفاني . لقد تابعت سامية ما بدأه الكاتبان المذكوران في تتبع حياة لاجئي لبنان وقسوتها وتطوراتها بعدهما . كما لو أن روايتيها تكملة لأعمالهما في هذا الجانب ، وتحديدا قصة ” فلسطيني ” لسميرة ورواية ” أم سعد ” لغسان . طبعا علينا ألا ننسى رواية الكاتب اللبناني إلياس خوري ” باب الشمس ” ( 1998) التي عدها الشاعر أحمد دحبور ” ملحمة الفلسطينيين في لبنان ” كتبها صاحبها نيابة عنا جميعا “( الحياة الجديدة 21/ 10 / 1998) .
وأنا أقرأ رواية لاحقة لخوري هي ” أولاد الغيتو ، اسمي آدم “( 2016) ربطت بينها وبين ” خلسة في كوبنهاجن ” وتساءلت إن كانت ” خلسة.. ” من قراءاته ، ولما سألته أجابني بأنه بدأ بقراءتها ولم يكملها . إن قاريء الروايتين سبجد تقاطعات بينهما على الرغم من أن الزمن الروائي لكلتيهما مختلف ، خلافا للزمن الكتابي المتقارب .
يمتد الزمن الروائي لرواية ” أولاد الغيتو.. ” من 1948إلى بدايات القرن 21، أما الزمن الروائي ل ” خلسة.. ” يعود إلى ما بعد 1987، ويكتب الياس عن غيتو اللد ، فيما تكتب سامية عن غيتو للفلسطينيين في ( كوبنهاجن ) ، وإن كتب لاحقا في الجزء الثاني من روايته ” اولاد الغيتو ، نجمة البحر “( 2018) عن غيتو وارسو وتتبع حياة يهود ناجين .
الغيتو وقسوة الحياة فيه حاضر في الروايتين ، وإن انتهى غيتو وارسو وغيتو اللد وابتدأ غيتو الفلسطينيين – تجاوزا – في كوبنهاجن . طبعا مع فارق الحياة في غيتو وارسو وغيتو كوبنهاجن .
لقد غدونا نقرا في الرواية العربية والفلسطينية عن غيتو فلسطيني ، والموضوع يحتاج إلى مساءلة وامعان نظر .
***
ليلى الأطرش:
«أبناء الريح»
تعيد رواية الروائية ليلى الأطرش “أبناء الريح” 2012الذاكرة إلى نصوص أدبية عالمية وعربية سابقة، فهي تعالج فكرة قديمة قدم النصوص الأدبية التي وصلت إلينا، وأعني هنا الأساطير.
تذكرنا الرواية بأسطورة (أوديب) وبقصة سيدنا موسى الذي التقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً.
وتذكرنا للأسطورة والقصة الدينية لا يعني أن الرواية تتطابق معهما تطابقاً كلياً، فالتشابه جزئي لا يتعدى فكرة الطفل اللقيط الذي يتربى بعيداً عن والديه.
وتذكرنا أيضاً بنصوص أدبية حديثة أتيت عليها بإيجاز وأنا أكتب تحت عنوان “الطفل اللقيط.. وسؤال الهوية في الرواية العربية “(الأيام الفلسطينية 9/25/ 2016 وكتابي “أسئلة الرواية العربية” 2018).
ولأن قسماً من أحداث الرواية يدور في دور رعاية الأيتام/ الأطفال فإنها تذكرنا أيضاً بقصيدة حافظ إبراهيم التي مطلعها:
“شبحاً أرى أم ذاك طيف خيال/
لا بل فتاة بالعراء حيالي”.
وفي قسم من الرواية، ونحن نقرأ قصة الابن المتبنى وعلاقته بأبويه المتبنيين، نستحضر قصصاً كثيرة: قصة سيدنا سليمان مع الأم التي أنجبت والأم التي ربت، ورواية غسان كنفاني “عائد إلى حيفا” وسؤال رابطة الدم فيها.
إن سؤال رابطة الدم يشكل حضوراً مباشراً في رواية ليلى، وبقصد متعمد على ما يبدو.
وكما يرفض خلدون/ دوف في رواية كنفاني العودة مع والديه البيولوجيين الفلسطينيين ويؤثر البقاء مع والديه اليهوديين اللذين ربياه، لا يتعرف الطفل عادل، في رواية ليلى، إلى أبيه حين يجمعهما المشرف النفسي في مكان دون أن يخبرهما بصلة الدم بينهما (66 – 69).
وهذا ما حدث في أسطورة (أوديب)، فالدم لم يمنع الابن من قتل أبيه والزواج من أمه حين التقى بهما فلم يدله الدم على أنهما والداه اللذان بذراه.
ولا يعني استحضار النصوص أن الروائية تنسخ أفكار الآخرين، فمصير شخصياتها يتوازى تارة مع شخصيات القصص ويتعارض معها طوراً ويتقاطع معها ثالثة.
والرواية التي تتشكل من سبعة أقسام كل قسم حمل رقماً وصدر بمقولة مقتبسة (سفر التكوين، من أمثال النبي سليمان، أسطورة عالمية، المسيح بن مريم، من سورة آل عمران، نشيد الإنشاد، من سورة الضحى)؛ مقولة ذات دلالة لها صلة بما أدرج تحتها، الرواية لا يسردها سارد واحد، إذا غضضنا النظر عن الحوار الخارجي الذي شكّل معلماً من معالمها.
يسرد سفيان أكثر الفصول، ويسرد تيسير ابن عم أبيه فصلاً هو الثالث، ويقرأ سفيان في الفصلين الخامس والسادس بعض كتابات نادرة من عائلته في دار الرعاية، فتغدو هذه مؤلفة ضمنية جزئياً، ويترك لبعض الشخصيات أن تروي قصتها.
ويبدو الواقع الاجتماعي في الرواية واقعاً أسود حتى ليمكن القول إن الرواية تندرج تحت مسمّى “الأدب المظلم”، أدب الواقعية النقدية المتشائمة، وهو ما عرفته الرواية الأوروبية في القرن التاسع عشر ومثالها “بؤساء” (فكتور هوجو) و”مدام بوفاري” (فلوبير).
وعرفته الرواية العربية في بداياتها ومنها روايات نجيب محفوظ التي تنتمي إلى المرحلة الاجتماعية، مثل “القاهرة الجديدة” – هذا إذا غضضنا النظر عن كتابات المنفلوطي.
عالم من البؤس والفقر والتشرد والفساد والانحراف. أطفال كانوا ضحية المجتمع وانحراف أفراده الذين انساقوا وراء شهواتهم ورغباتهم، فخلفوا وراء ذلك مآسي اجتماعية كثيرة.
نعم تنتمي الرواية إلى الواقعية النقدية الغربية المتشائمة على الرغم من أن سفيان الذي يبحث عن إخوته في دار رعاية الأطفال يحاول أن يوفق بين رأسين محطمين من إخوته في الدار هما ماهر ونادرة، وعلى الرغم من أن سفيان نفسه لم ينته الأمر به إلى الانتحار أو الضياع، فقد درس الطب وتزوج وكون عائلة وصار ثرياً.
ويبقى أن ينظر المرء في مآل شخصيات أخرى في الرواية مثل فراس ومثل والدة سفيان ووالده والثمن الذي دفعه هو شخصياً.
إن بعض ما كتبته نادرة التي عاشت في دار الرعاية ينتهي أيضاً نهاية مأساوية. خذ ما كتبته عن ياسمين مثلاً “أفتح النافذة كل يوم وأنتظر. لا يأتي” (155).
وعالم دار الرعاية المفترض أن يكون أرحم من العالم الذي جاء منه الأطفال لا يختلف كثيراً.
في دور الرعاية يستغل بعض المسؤولين والمسؤولات الأطفال جنسياً ويقمعونهم أيضاً.
وقد تعترض الروائية على ما ذهبت إليه وتقول: لا، فهناك تجربة سفيان نفسه وهناك اقتراحه على ماهر بالتعرف إلى نادرة، وفوق هذا هناك مدلول الآية القرآنية التي صدرت بها المقطع السابع الأخير (ألم يجدك يتيما فآوى).
إن دال الآية يستحضر تجربة النبي محمد (ص) وهي تجربة انتهت بالطفل اليتيم نهاية يشهد المسلمون وبعض غير المسلمين لها بالنجاح. وقد تضيف الكاتبة قائلة: إن تجربة الرسول هي النص الغائب المتمم الذي تركته لذكاء القارئ، وإن تجربة ماهر يمكن أن تنجح فأين هو التشاؤم والواقع الأسود؟
عموما إن أكثر صفحات الرواية يصور العالم فيها عالماً كابوسياً مرعباً، ويبقى هذا اجتهاداً.
وأنا أقرأ الرواية تساءلت بعض تساؤلات (برونتير) فيما يخص موضوع الرواية وما يخص مكانتها في نتاج ليلى الأطرش نفسها.
ماذا لو قارن القارئ بين لغة ساردي هذه الرواية ولغة ساردي رواية “مرافئ الوهم “2005 ؟ إن ساردي الروايتين مختلفون علما وثقافة ومع ذلك فإن بنية الجملة لديهم واحدة، وأظنها لغة ليلى نفسها التي ربما غاب عن ذهنها أنها تتعامل مع شخصيات مختلفة أو أنها أسلبت لغة شخوصها، وهذا شيء آخر.
وماذا لو تتبع القارئ حركة الزمن في الروايتين؟ وماذا لو تتبع تعدد الساردين فيهما؟ وماذا لو نظر في عدد أقسام كل رواية منهما؟
غالبا ما استشهد بما فعله (ميخائيل ريفاتيري) في أثناء دراسته قصيدة (بودلير) “القطط” وقصيدة ثانية له ليلاحظ أن القصيدتين تعكسان البنية نفسها، وهو ما فعله أيضاً كمال أبو ديب حين درس ثلاث قصائد لأبي نواس ولاحظ أنها تعكس البنية نفسها. هل أشتط حين أقول إن رواية “أبناء الريح “تعكس البنية نفسها لرواية “مرافئ الوهم” .
سليم البيك :
وروايته «تذكرتان إلى صفورية “
ينتمي سليم البيك صاحب رواية «تذكرتان إلى صفورية»، 2017، إلى الجيل الروائي الفلسطيني الجديد الذي ولد في المنفى. وتعد روايته -مثل روايات فلسطينية عديدة أخرى كتبت في المنفى- استمراراً لكتابات الرعيل الأول من روائيي المنفى الذين عبروا عن تجاربهم وتجارب شعبهم، مثل غسان كنفاني وجبرا ابراهيم جبرا، وفيما بعد رشاد أبو شاور ويحيى يخلف وأحمد عمر شاهين ومحمد الأسعد وابراهيم نصر الله وليلى الأطرش وآخرين.
ولد سليم البيك لأبوين فلسطينيين من مخيمات سوريا -ومثله بطل روايته يوسف الذي ولد في دولة الإمارات، وتعلم في مدارسها، ثم أكمل دراسته في جامعة دمشق حيث درس الأدب الفرنسي، وعاد إلى دبي ليغدو موظفاً في شركة تأمين لم يستمر عمله فيها طويلاً، فقد اختلف مع إحدى الزبائن، لتقرر الشركة، في وقت لاحق، إنهاء عمله.
في أثناء قراءة الرواية يتذكر القارئ روايات عديدة لكتاب عرب معروفين؛ فلسطينيين وغير فلسطينيين.
يتذكر القارئ روايات مثل «موسم الهجرة إلى الشمال»، 1966، للطيب صالح، و«رجال في الشمس»، 1963، لغسان كنفاني.
حين يقرأ المرء عن حياة يوسف في باريس يتذكر مصطفى سعيد في لندن وعلاقته بالمرأة، مع اختلاف بين التجربتين بالتأكيد، على الرغم من أن كلتا الشخصيتين كانتا محكومتين بمعاناة بلديهما من الاستعمار، ودفعتا ثمناً له، يمكن القول إنه كان أفدح بما لا يقاس في حالة يوسف الفلسطيني.
ولكن المرء مع تقدم قراءته ينسى «موسم الهجرة إلى الشمال» ليوازي بين تجربة يوسف وتجربة شخصيات رواية «رجال في الشمس» التي يستحضرها يوسف لأنه مر بتجربة مشابهة لتجربة إحدى شخصياتها، وهي شخصية أسعد .
كان أسعد نشيطاً سياسياً فلوحق من النظام الأردني واضطر إلى مغادرة البلاد إلى الكويت، وشارك يوسف في أحداث سورية التي اندلعت في 2011 وعرف أنه مطلوب، فغادر مخيم اليرموك.
وكما اختبأ رجال كنفاني في الخزان ليعبروا الحدود إلى الكويت، اختبأ يوسف في بطن الشاحنة ليقطع حدود بعض البلدان إلى هولندا التي يستقر فيها عمه المقاتل السابق في الجبهة الشعبية، وفي فرنسا يقرر يوسف أن يقيم فيها لأنه يتقن لغتها، ويتعرف إلى الفرنسية ”ليا“ التي تصبح وطناً له.
في 1979 اختلف محمود درويش مع قيادة المنظمة وغادر بيروت إلى باريس وكتب قصيدته “رحلة المتنبي إلى مصر“ وصارت قصيدته وطنه، وتصبح ”ليا“ وطن يوسف.
في المنفى يؤرق يوسف سؤال الهوية، وهو سؤال أثير مبكراً، منذ رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا»، 1969، ورواية إميل حبيبي «الوقائع الغريبة … »، 1974، وسوف يستمر السؤال بالحضور وسيحضر في رواية سامية عيسى «خلسة في كوبنهاجن»، 2013، وفي رواية سليم البيك، وفي الأخيرة سيثار كما لم يثر في أية رواية من قبل.
“من أي بلد أنت ؟”و”من أي أصل أنت؟” وثمة معان ومغاز للصيغتين.
في دبي ينظر إلى يوسف على أنه سوري، وفي سورية ينظر إليه على أنه فلسطيني، وفي قسم الأدب الفرنسي يكون الطالب الفلسطيني، وحين يستقر في باريس ويحصل على جواز سفر فرنسي يقرر زيارة قرية جده صفورية، ويتخيل يوسف أنه سينظر إليه هناك على أنه الفرنسي الذي يزور إسرائيل .
والرواية تقول بخصوص سؤال الهوية أكثر مما اختزلته في أسطر.
وكما هُجّر جد يوسف من قريته صفورية وقاده القطار إلى دمشق يهاجر يوسف ويعاني الويلات ويركب بعد 63 عاماً قطاراً آخر.
شتات العائلة يتواصل ويتخذ شكلا أوسع، فالعائلة التي أقامت في 1948 مع عائلات من منطقتها المهجرة منها تتفرق وتسيح في هذه الدنيا، وهكذا تتسع رقعة المنفى.
والرواية مثل روايات عديدة أولى لكتاب عديدين غدوا معروفين. إنها رواية سيرية يقص فيها سليم البيك عن تجربة لاجئ فلسطيني تشابهت تجربته مع تجربته. ويستطيع المرء أن يعقد موازنة بين سليم ويوسف، بين المؤلف وبطله ليرى مقدار التشابه بينهما، بل ويمكن القول إن الرواية التي كتبت بالضمير الثالث/الهو هي رواية يلتقي فيها المؤلف والسارد وبطله الذي يقص عنه، فليس هناك ما يحدد ملامح خاصة للسارد تقول إنه مختلف تماماً عن المؤلف أو عن بطله، وهذا لاحظناه لدى إميل حبيبي في «خرافية سرايا بنت الغول»، 1990، بل ولاحظناه في رواية عبد الرحمن منيف الأولى التي لم ينشرها في حياته «أم النذور».
ثمة جانب آخر يلفت نظر قارئ رواية «تذكرتان إلى صفورية» هو أنها تأتي على حياة الفلسطينيين في أوروبا، فجزء من أحداثها يجري في فرنسا، وهذا يفتح الباب لمناقشة واقع الفلسطينيين في أوروبا في الرواية الفلسطينية.
ومع أن الكتابة عن الذات تبدو غير مستحبة إلا أنني أشير إلى روايتي «تداعيات ضمير المخاطب»، 1993، وإلى روايات لاحقة لسامية عيسى وتوفيق عزام أبو السعود وعيسى القواسمي وآخرين، على الرغم من أن المقاربات مختلفة.
إن الثنائية الأساسية في الرواية هي ثنائية المنفى/الوطن، وهي الثنائية التي تتحكم في حياة يوسف/سليم (كلاهما لاجئ ولد في المنفى وعاش أهله في مخيمات سوريا وعمل في الإمارات ودرس في جامعة سورية وهاجر إلى فرنسا واستقر فيها ومغرم بالسينما بشكل لافت، وكلاهما قريب من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وهمه فلسطين والعودة إليها…إلخ) وتحضر ثنائية ثانية حضوراً لافتاً هي ثنائية الشرق/الغرب، فسليم المهاجر إلى فرنسا يقارن في مواطن كثيرة بين الحياة في الشرق والحياة في الغرب: الطعام والعلاقات الاجتماعية والجنسية ولون الأعلام ودلالاتها في مخيم اليرموك وتشابه الألوان واختلاف دلالاتها في فرنسا، وهنا يتحدث عن العلاقات الجنسية المثلية في الغرب بانفتاح إلى حد لم نقرؤه في روايات عربية سابقة عالجت هذا الموضوع وأتت عليه.
وأستطيع شخصياً أن أوازن بين روايتي «تداعيات ضمير المخاطب» ورواية سليم، فما عبرت عنه بالإيحاء عبر عنه بلغة مباشرة وبدوال لا تلمح وإنما تصرح، وهذا ما قد لا يروق لبعض القراء. إنه يترك بطله يستخدم مفردات يستخدمها في الواقع كثيرون، لكن استخدامها في النصوص الأدبية موضع حذر من كتاب كثر، مع أن الشعر العربي ليس خلواً منها منذ زمن شعراء النقائض حتى مظفر النواب.
وأعتقد أن «تذكرتان إلى صفورية» قد تثير، حين تقرأ على نطاق أوسع، جدلاً مثل الجدل الذي أثارته رواية سامية عيسى «حليب التين».
وعموماً فإن الرواية مشوقة وتثير أسئلة مهمة، وهي نموذج للجيل الثالث من أدباء المنفى تتابع رحلة الشتات وتصور عذابات الفلسطينيين الذين ولدوا في المنافي ولا يعرفون إلى أين هم ذاهبون. إنها في هذا الجانب تقف إلى جانب رواية سامية عيسى «خلسة في كوبنهاجن ” .
جمال ناجي: عندما تشيخ الذئاب سؤال المكان والهُوية و… التلقي
لم أقرأ للروائي جمال ناجي أعماله كلها، ويعود السبب إلى عوامل عديدة أهمها: أن أعماله تصدر في الأردن وفي العالم العربي، وسرعان ما يتلقاها النقاد بالقراءة والدرس والتحليل، فلا يبقون الكثير لمن تأخر في الحصول على رواياته ومجموعاته القصصية وقراءتها، وأنني شخصياً مشغول بأدب فلسطين المحتلة، لأنه لا يحظى بما يحظى به أدب الفلسطينيين في المنافي، وجمال يعد واحداً منهم، وإن أثار بعض قارئي نصوصه سؤال الهُوية فيما يخصه ويخص أدبه، وهذا جانب سأتوقف إزاءه، ولو بإيجاز، ثم إن الكاتب، أي كاتب، في زمننا هذا، حيث الإنتاج الأدبي غزير ووفير، مضطرٌ لاختيار عمل أو عملين لهذا الكاتب أو ذاك لقراءتهما، وستكون أعمال الكاتب الكاملة من خيار دارسه المتخصص بنتاجه، فعلى عاتق هذا تقع مسؤولية متابعة نتاج كاتب واحد وملاحقته وتبيان التطورات التي ألمت بنتاجه فنيا وموضوعياً ـ أعني ما يخص الموضوع.
أذكر أنني قرأت رواية جمال ناجي الأولى «الطريق إلى بلحارث» يوم كنت أقيم في الأردن لدراسة الماجستير، وفي أثناء ترددي على رابطة الكتاب الأردنيين، وفيها تعرفت إلى جمال والتقيت به لقاءً عابراً، ومن يومها، حتى اليوم، لم ألتق به، لكنني كنت أعرف أخباره الأدبية من خلال قراءة مراجعات لها، فيما يصلنا من صحف، على قلة ما يصلنا في فلسطين المحتلة، ولم تحظ أعمال جمال الرواية والقصصية بعناية دور النشر الفلسطينية إلاّ مؤخراً، وتحديداً منذ أدرجت روايته المذكورة ضمن القائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية، فقد أعيدت طباعتها والتفت إليها بعض المهتمين بالأدب، ونوقشت في ندوة اليوم السابع التي تعقد في القدس مرة كل أسبوع (ينظر نص الندوة في الحوار المتمدن، 13/2/2010) كما أعيدت طباعة إحدى مجموعاته القصصية، ولا أعرف إن كان الكاتب زار فلسطين بعد أوسلو، ولو كان زارها لربما التقيت به.
ولا أنسى موضوع روايته الأولى «الطريق إلى بلحارث»، وأذكر أنني قرأتها بمتعة، وقد ذكرتني برواية أخرى وجدت صدى في الأدب الفلسطيني، هي رواية يحيى يخلف «نجران تحت الصفر»، فقد تشابه موضوع الروايتين، وإن اختلفت المعالجة، ويعود هذا على الزمن الروائي لكلتا الروايتين، فالأولى تأتي على 60 ق20، حيث كان المد القومي قوياً وظاهراً، وكانت ثمة حرب مشتعلة في الجزيرة العربية، والثانية تأتي على 70 ق20، حيث أخفق المشروع القومي. هاتان الروايتان ستكونان فاتحتين لروايات فلسطينية وعربية تخوض في الموضوع نفسه: إبراهيم نصر الله في «براري الحمى» وراشد عيسى في «مفتاح الباب المخلوع»، ولا أنسى روايات لهاني الراهب السوري الذي عبر عن تجربته في الكويت، ومحمد المنسي في إحدى رواياته التي قاربت المكان السعودي، والقائمة بدأت تطول.
وكانت الروايات التي خاضت في تجربة مكانية طارئة على الكاتب موضع دراسات أو موضع عناوين فرعية في دراسات، مثل دراسة أحمد ابو مطر «الرواية في الأدب الفلسطيني» (1980) ونزيه أبو نضال في «علامات على طريق الرواية في الأردن» (1996)، وهناك من عالج هذه الروايات منفردة، ملتفتاً إلى أزمة بطلها، مثل ابراهيم خليل في كتابه «الرواية في الأردن في ربع قرن 1968 ـ 1993» فقد كتب عن البطل الإشكال في «الطريق إلى بلحارث» ، وعالج الموضوع متسلحاً بأدوات الناقد الماركسي.
حظيت روايات جمال ناجي، عموماً، بعناية النقاد، بخاصة في الأردن، وكتبوا عنها الكثير، ومنذ رشحت «عندما تشيخ الذئاب» لجائزة بوكر اتسعت دائرة تناول أعمال الكاتب وشرحها ونقدها، بل واتسع مكان نشرها، هذا إذا غضضنا النظر عن النشر الإلكتروني الذي جعلها بمتناول يد من يجيدون التكنولوجيا، ومع اتساع تناولها ونشرها أثار بعض دارسي نتاج الكاتب سؤال هُويته: أهو أديب فلسطيني أم أديب أردني، علماً بأن هذا السؤال الآن ما عاد كما كان من قبل، في 60 و70 و80 ق20، وهو سؤال يثير سؤالاً آخر، ولعله آثاره لدي شخصياً، فهل ترك سؤال نازك ضمرة، وهو يراجع رواية «عندما تشيخ الذئاب» (الحوار المتمدن في 13/2/2010) أثره على جمال ناجي، فدفعه لكتابة روايته الأخيرة: «غريب النهر» (2012) التي باشرت بقراءتها، منذ يومين، وقالت لي بعض مراجعاتها إنه يقارب الموضوع الفلسطيني فيها، كما لم يقارب في أعمال سابقة للكاتب (مخلفات الزوابع الأخيرة، عندما تشيخ الذئاب، وإلى حد ما الطريق إلى بلحارث، علماً بأن شخصيتها الرئيسة من مخيم)؟
توقف نازك ضمرة وهو يراجع «عندما تشيخ الذئاب» أمام كتابة جمالعن عمان، ولاحظ الاختلاف بينه وبين ابراهيم نصر الله في مقاربة الموضوع الفلسطيني وتساءل: «هل يمكن أن نعتبر رواية (عندما تشيخ الذئاب أدباً فلسطينياً؟» وأضاف: «ومع إعجابي بأسلوب كتابته، لكن يبرز إلى الذهن تساؤلات إن كانت كتابته هذه الرواية تعكس أدباً فلسطينياً؟ وربما كانت له أجندته الخاصة وما زال وعينه على نزعة علمانية وعالمية وعولمية. فمن قراءتنا لشخصيات روائية والتصاقها بعمان تجعله أقرب إلى أن يكون عمانياً من الدرجة الأولى أكثر من كونه لاجئاً فلسطينياً يرشح الألم الفلسطيني ولو أحياناً عبر أدبه، كما يفعل إبراهيم نصر الله في كل فقرة أو رواية أو قصيدة يكتبها مثلاً، سواء مباشرة أو رمزاً».
هل تساؤل نازك ضمرة في محله؟ وهل هو محق في هذا؟ ولا أريد أن أجيب بالإيجاب أو بالنفي قدر ما يهمني شخصياً كتابة الكاتب عن مكان لا يعرفه. فهل كان جمال ناجي سيكون موفقاً لو كتب عن يافا وحيفا أو القدس، وهي مدن لم يقم فيها ولم يزرها، خلافاً لعمان التي عرفها منذ العام 1967، منذ نزح إليها بسبب حرب حزيران 1967؟
في كتابه «فن القصة» يعالج محمد يوسف نجم هذه القضية ويرى أن على الروائي أن يترك الكتابة عن أماكن لا يعرفها، وأن يكتب عن الأماكن التي ألفها، وهذا يذكرني بروايتين «الزلزال» للطاهر وطار و»مدينة الله» لحسن حميد، عدا تجربة نجيب محفوظ الكتابية، وهي معروفة لمن قرأ أعماله، فلم يكتب إلاّ عن القاهرة وأحيائها، وثمة رواية واحدة خرجت عن مألوف مكانه، هي رواية «ميرامار» التي كتب فيها عن الإسكندرية التي تردد عليها، وآمل ألاّ تكون الذاكرة خانتني.
في «الزلزال» يكتب الطاهر وطار عن مدينة قسنطينة التي لم يُقم فيها، ولكنه زارها ودرس أماكنها، وحين كتب عن المدينة وصف شوارعها ومطاعمها وجسرها، ولكنه لم يصف بيوتها من الداخل، ويعود السبب في هذا إلى أنه، كما يقول، لم يدخل بيوتها. وفي «مدينة الله» يكتب حسن حميد عن القدس التي لم يزرها، يكتب عن أماكن يعرفها ويقيم فيها ويتشرب مناخاتها، وهذا ما لاحظته في ثلاث روايات قرأت اثنتين منها وباشرت بقراءة الثالثة وهي «الطريق إلى بلحارث» (السعودية/ القنفذة) و»عندما تشيخ الذئاب» (جبل الجوفة وعمان الغربية) و»غريب النهر» (الشونة) وأماكن أخرى).
في مقاربة أخرى لكاتب آخر هو أحمد حسن المعيني يقر صاحبها بأن نص «عندما تشيخ الذئاب» نص ممتع، وأن أفضل ما أنجزه جمال ناجي هو إتقانه لتطور الشخصيات وانتقالها من البراءة إلى الانحراف الكامن فيها الذي كان ينتظر شيئاً ما ليخرج، وهذا الإتقان في الحقيقة يحتاج إلى روائي ماهر. (ملحق شرفات في جريدة عمان بتاريخ 17/2/2010، والمادة مدرجة على الشبكة العنكبوتية) ومع مديح المعيني للنص جمالياً إلاّ أنه يرى في النماذج التي أظهرها الروائي، وهي المتدين المنافق والسياسي الفاسد والمتدين المتطرف والزوجة الصغيرة اللعوب كلها صور استهلكتها المسلسلات العربية مؤخراً.
في كتاب «مدخل إلى مناهج النقد الأدبي» (عالم المعرفة، الكويت، أيار 1997) مقاربة موجزة لعقدة أوديب وهاملت وتشابه فكرتهما، وقد يحيل هذا إلى مقولات بنيوية حول الأنساق الثابتة التي تذكرنا بقول الشاعر العربي «ما أرانا نقول إلاّ معاداً مكروراً». حقاً إن النماذج التي ظهرت في رواية «عندما تشيخ الذئاب» هي صور أبرزتها المسلسلات العربية، بل يمكن القول إن هذه النمائج برزت في روايات عربية عديدة اتكأت المسلسلات العربية على بعضها، مثل رواية «شيكاغو» لعلاء الأسواني، إلاّ أن ما يجدر ذكره هو أن هذه النماذج موجودة، بالفعل، هنا وهناك، في الأردن وفي مصر وفي الجزائر وفي المغرب، بل وما يجعل المرء يغض الطرف عن شيء مثل هذا، هو القدرة الفائقة في الوصف في الرواية، وصف بيئة الشخصيات، ووصف المكان الذي نشأت فيه، وهكذا منح جمال ناجي روايته قدراً كبيراً من الخصوصية، واللافت للنظر، لمن يقرأ نماذج من الرواية الأردنية المعاصرة، أنه يلحظ التغيرات والتطورات في روايات أخرى، ما يعني أن الواقع يفرض نفسه على الروائي، وهذا لا يهرب هنا من واقعه إلى الكتب التاريخية ليتكئ عليه في بناء عمله الروائي، وإنما يعبر عن واقعه، آملاً أن يسهم، ولو قليلاً، في مجابهته ومعالجته، وستكون المعالجة أكثر جدوى وفائدة لو أخرجت الرواية عملاً تلفازياً أو سينمائياً، وهنا يتذكر المرء رواية ليلى الأطرش «رغبات ذلك الخريف». ثمة تحولات بارزة لافتة شهدتها عمان في الثلاثين سنة الأخيرة، وها هي الرواية تظهرها وتتوقف أمامها.
ربما كان من الشخصيات اللافتة في رواية «عندما تشيخ الذئاب» شخصية اليساري الذي تخلّى عن يساريته ومعارضته للسلطة وغدا جزءاً منها، بل إنه تخلّى عن أهله وحيّه وغدا إنساناً آخر. هذا النموذج يكاد يبدو لافتاً في الرواية العربية المعاصرة، ولا عجب أنه يظهر في روايات عديدة تنتمي إلى أقطار عربية من المشرق والمغرب، وكانت له، أصلاً، بذوره المبكرة في أعمال قصصية قصيرة. وربما تذكر المرء بعض روايات نجيب محفوظ، وبعض قصص الطاهر وطار «اشتراكي حتى الموت»، بل وقصة قصيرة مبكرة للكاتب الفلسطيني نجاتي صدقي «الشيوعي المليونير». وأما في أدبنا الفلسطيني، داخل فلسطين، فتعد رواية عياد يحيى «رام الله الشقراء» نموذجاً جيداً يُستشهد به.
في رواية «عندما تشيخ الذئاب» يتجسد هذا النموذج في شخصية جبران. كان هذا اعتقل، من قبل، لأنه كان مناضلاً ماركسياً دافع عن قضية المحرومين وعن الطبقة الكادحة، ثم غدا شيوعياً مليونيراً يمارس حياة برجوازية ومثله زوجته، ويدافع عن سلوكه بأنه لم يتخل عن مبادئه، وإنما اتخذ نضاله شكلاً آخر.
ما يروق لي فيما قرأته من نصوص جمال ناجي الروائية أنه يمنح من الواقع ويعبر عما يعيش ويرى، ولا يتكئ في كتابة الرواية على ما يقرأ في الكتب، وهذا رأي، مجرد رأي، وأنه فوق ما سبق يعرف المكان الذي يكتب عنه جيداً.
[ لفت الروائي سمير اسحق إلى رواياته التي لم أشر إليها . هذه الدراسة والمداخلات ليست أكاديمية وأتمنى أن يرفدها آخرون بمداخلات أخرى تكمل ما فيها من نقص ]

عن د.عادل الاسطه

شاهد أيضاً

جدل الصمت، الحضور الخفي وانكسار الإيمان

استهلال في فيلم Silence   (2016) لا يكتفي مارتن سكورسيزي بسرد معاناة الرهبان المسيحيين في اليابان …