في عالمنا العربي نادراً ما يدرس الطالب الدراسة الجامعية التي يُحب ، فمجموع علاماته في البكالوريا ( الشهادة الثانوية ) هي التي تحدد دراسته ،وعادة من يدرسون بكالوريا علمي ( أهم المواد الفيزياء والرياضيات والكيمياء ) يكونون متفوقين على من يختارون دراسة البكالوريا الأدبي ( تاريخ ، جغرافيا ، فلسفة ) . كنت متفوقة في الدراسة وحققت مجموعاً عالياً في فحص البكالوريا يخولني دخول كلية الطب ، معظم الطلاب الذين حققوا مجموعاً عالياً في البكالوريا دخلوا كلية الطب . أحببت دراسة الطب كثيراً ثم تخصصت في أمراض العين وجراحتها في مشفى المواساة في دمشق ( دراسات عليا ) .
أتساءل الآن بعد مرور أكثر من ربع قرن على ممارستي طب العيون والكتابة معاً : لماذا لم يكن اختياري أن أدرس الأدب أو الفلسفة خاصة أن ميولي الأدبية كانت واضحة منذ طفولتي إذ كتبت أول قصة قصيرة بعمر 12 سنة وقرأها والدي وهو أستاذ اللغة العربية وأعجبته ، كما أن أمي أستاذة فلسفة كانت متفوقة في دراستها وأطروحتها في ذلك الزمن ( منذ أكثر من نصف قرن ) كانت – الحرية من كيركيغارد إلى بيرغسون – وقد قرأت كل الكتب التي درستها في الفلسفة .
في الواقع عذبني هذا السؤال : ألم يكن الأفضل لي ككاتبة أن أدرس الفلسفة أو الأدب العربي أو حتى الأدب الإنكليزي أو الفرنسي ؟ لكن أعترف بكل فرح وفخر أنني كنت محظوظة ككاتبة إذ درست الطب البشري ، ولا يُمكنني أن أحكي عن بداياتي ككاتبة إلا وأذكر الطفلة شيرين ، كنت في سنتي الأخيرة في اختصاص طب العيون في مشفى المواساة ( مشفى المواساة أهم المشافي في سوريا ويستقبل المرضى من كل المدن والقرى ) دخلت شيرين الطفلة من حلب الشهباء عمرها تسع سنوات سمراء نحيلة ابتسامتها ساحرة ، دخلت قسم الأمراض العينية بسرطان في عينها اليمنى وكانت بصحبة جدتها لأن أمها وضعت مولوداً ولا تزال في طور النفاس ، نشأت علاقة حميمة بيني وبين شيرين ، كنت كل صباح أحس بفرح غامر وهي تركض طوال الرواق الرمادي الطويل لجناح أمراض العين وتلقي بنفسها بين ذراعي ، كان علي أن أحضرها نفسياً أننا سنستأصل العين المصابة بالسرطان ، وأحضرت لها قلماً يضم عدة أقلام بألوان مختلفة ، كانت تحب الرسم ، وأعطتني تذكاراً إسوارة من معدن رخيص تلبسها – لا زلت أحتفظ بإسوارة شيرين – نجحت في طمأنة شيرين أن العملية بسيطة وأن هذه الدملة يجب استئصالها ثم سنضع عيناً زجاجية لا يمكن لأحد أم يحزر أنها عين زجاجية ، كنت أشعر أنني أتهاوى وأسقط في بئر عميق أثناء العملية ، وخرجت شيرين من العمليات وضماد كبير على وجهها الطفولي وكانت هادئة في سريرها وفي غرفة أشبه بمهجع يضم عشرة أسرة تحتلها نساء عجائز دائمات الشكوى . شيرين كانت صامته لكنني كنت أغير لها كل يوم ضماد عينها التي ,احكي لها قصصاً مُبهجة وأحضر لها البونبون الذي تحبه المحشو شوكولا ، عاد الأمل والفرح لروح شيرين ، لكن قسوة القدر بل وحشية قسوته اكتشفنا سرطاناً في عين شيرين الأخرى وخضعت لعملية استئصال عينها الأخرى . ما أريد قوله أنني تماهيت كلياً مع مأساة طفلة أحسستها قطعة من روحي هي شيرين ، أذكر ذلك اليوم الخريفي المُغبر في دمشق حين دخلت غرفتي في سكن الأطباء وكتبت دفعة واحدة أكثر من عشر صفحات والقلم يرتعش في يدي من شدة الانفعال ، أرسلت الأوراق إلى أبي في اللاذقية ، اتصل بي بعد يومين وقال : كتبت قصة رائعة ووضعت لها عنواناً ( بكاء بلاد دموع ) وتم نشرها في جريدة الوحدة في اللاذقية . نبهني أبي أنني أمتلك موهبة الكتابة ، لكن دراسة الطب كانت تستحوذ على كل وقتي .
حين بدأت بممارسة الطب خاصة في مشفى حكومي ( حيث هو عينة من قاع المدينة أو عينة من المجتمع السوري الفقير ) كنت أفحص المرضى وأحكي معهم مُطولاً ، كل مريض ومريضة كنت أتحدث إليهم وأعرف ظروف حياتهم ، هؤلاء المرضى كانوا يدخلون إلى معملي الداخلي ويخرجون قصصاً ، لا أنسى الطفل المُعوق بعمر سنتين كان مُصاباً بضمور دماغ بسبب أن الحاضنات الثلاث في المشفى كانت معطلة ، كان يحتاج للأوكسجين ، أمه صبية فقيرة أحضرته إلى المشفى بسبب وجود نقطة حمراء صغيرة في عينه ، كانت ثيابه تفوح برائحة الصابون الذكية ، قالت لي أن كل الأسرة بما فيهم والده يتمنون لو يموت لكنها تحبه جداً وتشتري له ثياب العيد وتحضر له طعاماً يحبه من الحليب والسميد وماء الزهر والسكر ، كنت أمارس الطب بقلبي بأحاسيسي وكن أخزن تفاصيل أعرف أنني سأحتاجها حين سأكتب عن أحبتي المرضى . حين خرجت تلك الأم من عيادتي بدت قامتها الممشوقة وهي تحضن طفلها بين ذراعيها أشبه بصليب ، في مساء اليوم نفسه كتبت قصة ( الحب صليب ) وبعد أيام كتبت من وحي الطفل المُعوق وأمه قصة بعنوان ( يكفي أن يُحبك قلب واحد لتعيش ) وهو عنوان مجموعة قصصية تُدرس في فلسطين ، وأصبحت تلك العبارة عنوان جمعية المعوقين في دمشق . عشرات القصص القصيرة كتبتها بسبب عملي كطبيبة ، كنت أمارس الطب بعين وإحساس كاتبة ، لم يكن أبداً المريض حالة مرضية علي فحصها وإعطاؤها العلاج اللازم ، كان كل مريض إنساناً يهمني أن أعرفه وأعرف ظروفه وأتعاطف معه وأكتب عنه ، الطب كان منجماً للقصص الإنسانية . وأحب أن أشير إلى نقطة هامة جداً أن دراسة الطب جعلتني موضوعية ، أي كنت أمارس الكتابة بموضوعية طبيب ، ويؤسفني أن أقول أنني قرأت الكثير من الروايات العربية كان فيها أخطاء طبية مُروعة ، لأن الكاتب (ة ) كان يتخيل المرض كما يشتهي وكما يرغب دون أن يكلف نفسه بالسؤال العلمي حول الحالة التي يكتب عنها ، أحد الكتاب وصف أن أمه وهي تلد كانت تهزها رعشات جنسية قوية !!! كلام لا أساس له من الحقيقة العلمية ، وثمة أمثلة كثيرة لا مجال لذكرها هنا . كتبت أيضاً روايتين من وحي عملي كطبية . روايتي : نسر بجناح وحيد ( الدار العربية للعلوم ) تحكي عن أزمة المتخرجين حديثاً من الجامعة أو المعاهد ذلك أنني درست ثلاث سنوات في المعهد الطبي في اللاذقية ، كم كان هؤلاء الطلاب ( شبان وشابات ) بحالة حزن ويأس لأن الدولة غير مسؤوله عن توظيفهم ، كذلك ضحالة راتب الطبيب ( ضحالة راتب كل السوريين ) ، روايتي الثانية من وحي عملي كطبية هي رواية ( هوى ) أحكي فيها عن الفساد الطبي وفساد القضاء وهي رواية توثيقية للفساد المروع الذي كان يحصل في المشفى الحكومي من لجان الشراء وطرق نصبها إلى سرقة أجهزة طبية وأدوات جراحية ، هذه الرواية ( هوى ) اعتمدها التفتيش المركزي حين كان يحقق بالسرقات وحين وصلت سرقات مدراء الصحة الثلاثة الذين تعاقبوا على إدارة المشفى الحكومي لمليارات الدولارات ، لكن لم يتم إلا سجن أحدهم ، مدير الصحة الذي بقي في منصبه 22 عاماً سرق المليارات واشترى مزرعة كان يأمر الأذنة في المشفى أن يعملا خدماً في مزرعته ، للأسف لم يُعاقب رغم أن التفتيش المركزي بقي يحقق لأشهر في سرقاته ، لكنه سافر إلى عاصمة أوروبية ثلاث سنوات عاد بعدها معززاً مُكرماً إلى اللاذقية . رواية ( هوى ) تحولت إلى فيلم سينمائي من قبل المؤسسة العامة للسينما من إخراج واحة الراهب وبطولة سلاف فواخرجي لكنه لم يُعرض أبداً في سوريا . بل عُرض في دول كثيرة . غريب هدر المال العام في سوريا ، فيلم هوى كلف ملايين الملايين ولم يُعرض !! ومثله أفلام ومسلسلات كثيرة .
أخيراً أحب أن أقول أنني محظوظة إذ درست الطب ، وأن أنجح زواج هو بين الطب والكتابة ، وكثير من الأطباء كانوا كتاباً أيضاً . أشعر بالامتنان العميق لكل هؤلاء المُتعبين والمرضى الذين اهدوني قصصهم وجعلوا إنسانيتي تتبلور . ربع قرن من العمل الطبي والكتابة خلقت مني كاتبة تتحسس بعمق مشاعر الناس آلامهم وأحلامهم ، وأيضاً علمني الطب أن أكون موضوعية ودقيقة في كتاباتي كي لا أشطح خلف خيالات خاطئة ومخجلة .